فصل: باب الإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَوَاتِ وَفَرْضِ الصَّلَوَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب الإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَوَاتِ وَفَرْضِ الصَّلَوَاتِ:

هَذَا بَاب طَوِيل وَأَنَا أَذْكُر إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مَقَاصِده مُخْتَصَرَة مِنْ الْأَلْفَاظ وَالْمَعَانِي عَلَى تَرْتِيبهَا.
وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فِي الْإِسْرَاء جُمَلًا حَسَنَة نَفِيسَة فَقَالَ: اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الْإِسْرَاء بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ جَمِيع ذَلِكَ فِي الْمَنَام. وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر النَّاس، وَمُعْظَم السَّلَف، وَعَامَّة الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْآثَار تَدُلّ عَلَيْهِ لِمَنْ طَالَعَهَا وَبَحَثَ عَنْهَا. وَلَا يُعْدَل عَنْ ظَاهِرهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا اِسْتِحَالَة فِي حَمْلهَا عَلَيْهِ فَيَحْتَاج إِلَى تَأْوِيل.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة شَرِيك فِي هَذَا الْحَدِيث فِي الْكِتَاب أَوْهَام أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ نَبَّهَ مُسْلِم عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَقَدِمَ وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ مِنْهَا قَوْله: (وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ) وَهُوَ غَلَط لَمْ يُوَافَق عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِسْرَاء أَقَلّ مَا قِيلَ فيه أَنَّهُ كَانَ بَعْد مَبْعَثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَقَالَ الْحَرْبِيّ: كَانَ لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْر رَبِيع الْآخِر قَبْل الْهِجْرَة بِسَنَةٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: كَانَ ذَلِكَ بَعْد مَبْعَثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ.
وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق: أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَام بِمَكَّة وَالْقَبَائِل. وَأَشْبَهَ هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْل الزُّهْرِيّ وَابْن إِسْحَاق إِذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا صَلَّتْ مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد فَرْض الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَلَا خِلَاف أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ قَبْل الْهِجْرَة بِمُدَّةٍ قِيلَ: بِثُلَّاتِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِخَمْسٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ فَرْض الصَّلَاة كَانَ لَيْلَة الْإِسْرَاء. فَكَيْف يَكُون هَذَا قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ.
234- قَوْلُ مُسْلِمٍ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، و(فَرُّوخُ) عَجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، و(الْبُنَانِيُّ) بِضَمِّ الْبَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى بُنَانَةَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ» هُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْبُرَاقُ اسْمُ الدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ: هِيَ دَابَّةٌ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَرْكَبُونَهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ مِنْ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فيها يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ.
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: اشْتِقَاقُ الْبُرَاقِ مِنْ الْبَرْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي لِسُرْعَتِهِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ صَفَائِهِ وَتَلَأْلُئِهِ وَبَرِيقِهِ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ أَبْيَضَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ ذَا لَوْنَيْنِ يُقَالُ شَاةٌ بَرْقَاءُ إِذَا كَانَ فِي خِلَالِ صُوفِهَا الْأَبْيَضِ طَاقَاتٌ سُودٌ.
قَالَ: وَوُصِفَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ أَبْيَضُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ نَوْعِ الشَّاةِ الْبَرْقَاءِ وَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِي الْبِيضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي تَرْبَطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ» أَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَفيه لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ غَايَةَ الشُّهْرَةِ إِحْدَاهُمَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ.
قَالَ الْوَاحِدِيّ: أَمَّا مَنْ شَدَّدَهُ فَمَعْنَاهُ الْمُطَهَّرُ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّفَهُ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ مَكَانًا فَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا كَانَ كَقَوْله تَعَالَى: {إِلَيْهُ مَرْجِعُكُمْ} وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَصَادِرِ وَإِنْ كَانَ مَكَانًا فَمَعْنَاهُ بَيْتُ الْمَكَانِ: الَّذِي جُعِلَ فيه الطَّهَارَةُ، أَوْ بَيْتُ مَكَانِ الطَّهَارَةِ، وَتَطْهِيرُهُ إِخْلَاؤُهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَإِبْعَادُهُ مِنْهَا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَيْ الْمَكَانُ الَّذِي يُطَهَّرُ فيه مِنْ الذُّنُوبِ وَيُقَالُ فيه أَيْضًا إِيلْيَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (الْحَلْقَةُ) فَبِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَتْحَ اللَّامِ أَيْضًا.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَكَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ (حَلَقَةٌ) بِالْفَتْحِ وَجَمْعُهَا حَلَقٌ وَحَلَقَاتٌ.
وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْإِسْكَانِ فَجَمْعُهَا حَلَقٌ وَحِلَقٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَقَةُ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ» فَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ (بِهِ) بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ أَعَادَهُ عَلَى مَعْنَى الْحَلَقَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْمُرَادُ حَلَقَةُ بَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي رَبْطِ الْبُرَاقِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْأُمُورِ وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ» هَذَا اللَّفْظُ وَقَعَ مُخْتَصَرًا هُنَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّ الْإِنَاءَيْنِ شِئْتَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأُلْهِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِيَارَ اللَّبَنِ.
وَقَوْلُهُ: «اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ» فَسَّرُوا الْفِطْرَةَ هُنَا بِالْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اخْتَرْتَ عَلَامَةَ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ. وَجُعِلَ اللَّبَنُ عَلَامَةً لِكَوْنِهِ سَهْلًا طَيِّبًا طَاهِرًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ سَلِيمَ الْعَاقِبَةِ.
وَأَمَّا الْخَمْرُ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَجَالِبَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الشَّرِّ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ» أَمَّا قَوْلُهُ: «عَرَجَ» فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ أَيْ صَعِدَ وَقَوْلُهُ: «جِبْرِيلُ» فيه بَيَانُ الْأَدَبِ فِيمَنْ اسْتَأْذَنَ بِدَقِّ الْبَابِ وَنَحْوِهِ فَقِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: زَيْدٌ مَثَلًا إِذَا كَانَ اسْمُهُ زَيْدًا وَلَا يَقُولُ: أَنَا فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فيه.
وَأَمَّا قَوْلُ بَوَّابِ السَّمَاءِ: (وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟) فَمُرَادُهُ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْإِسْرُاِء وَصُعُودِ السَّمَوَاتِ؟ وَلَيْسَ مُرَادُهُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَة فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي مَعْنَاهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَدْ ذَكَرَ خِلَافًا أَوْ أَشَارَ إِلَى خِلَافٍ فِي أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ أَوْ عَمَّا ذَكَرْتُهُ.
قَالَ الْقَاضِي وَفِي هَذَا أَنَّ لِلسَّمَاءِ أَبْوَابًا حَقِيقَةً وَحَفَظَةً مُوَكَّلِينَ بِهَا وَفيه إِثْبَاتُ الِاسْتِئْذَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: «فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا» وَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَاقِي الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ نَحْوَهُ فيه اسْتِحْبَابُ لِقَاءِ أَهْلِ الْفَضْلِ بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ وَالْكَلَامِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي.
وَفيه جَوَازُ مَدْحِ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الْإِعْجَابُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ» قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ: هُمَا ابْنَا عَمٍّ، وَلَا يُقَالُ ابْنَا خَالٍ. وَيُقَالُ: ابْنَا خَالَةٍ، وَلَا يُقَالُ: ابْنَا عَمَّةٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَادِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَتَحْوِيلِ الظَّهْرِ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى» هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ (السِّدْرَةُ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ بَعْدَ هَذَا سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا وَمَا يَصْعَدُ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ» هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُلَّةٍ وَالْقُلَّةُ جَرَّةٌ عَظِيمَةٌ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي» مَعْنَاهُ رَجَعْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي نَاجَيْتُهُ مِنْهُ أَوَّلًا فَنَاجَيْتُهُ فيه ثَانِيًا.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» مَعْنَاهُ بَيْنَ مَوْضِعِ مُنَاجَاةِ رَبِّي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ: (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَاسَرْجِسِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ) أَبُو أَحْمَدَ هَذَا هُوَ الْجُلُودِيّ رَاوِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ عَلَا لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ بِرَجُلٍ فَإِنَّهُ رَاَهُ أَوَّلًا عَنْ ابْنِ سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ الْمَاسَرْجِسِيّ عَنْ شَيْبَانَ وَاسْمُ الْمَاسَرْجِسِيّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيّ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ مَاسَرْجَس. وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى آخِرِهِ تَقَعُ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ فِي الْحَاشِيَةِ وَفِي أَكْثَرِهَا فِي نَفْسِ الْكِتَابِ وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ. فَمَنْ جَعَلَهَا فِي الْحَاشِيَةِ فَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ مُسْلِمٍ وَلَا مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي نَفْسِهِ إِنَّمَا هِيَ فَائِدَةٌ فَشَأْنُهَا أَنْ تُكْتَبَ فِي الْحَاشِيَةِ وَمَنْ أَدْخَلَهَا مِنْ الْكِتَابِ فَلِكَوْنِ الْكِتَابِ مَنْقُولًا عَنْ عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ عَنْ شَيْخِهِ الْجُلُودِيّ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجُلُودِيّ فَنَقَلَهَا عَبْدُ الْغَافِرِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ لِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْخُوذِ عَنْ الْجُلُودِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فيه لَبْسٌ وَلَا إِيهَامٌ أَنَّهَا مِنْ أَصْلِ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
235- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي ثُمَّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَم ثُمَّ أُنْزِلْت» مَعْنَى (شُرِحَ) شُقَّ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أُنْزِلْت» هُوَ بِإِسْكَانِ اللَّام وَضَمّ التَّاء هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول وَالنُّسَخ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ جَمِيع الرِّوَايَات وَفِي مَعْنَاهُ خَفَاء وَاخْتِلَاف قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الضَّبْعِيُّ: هَذَا وَهْم مِنْ الرُّوَاة. وَصَوَابه تُرِكْت فَتَصَحَّفَ.
قَالَ الْقَاضِي: فَسَأَلْت عَنْهُ اِبْن سَرَّاج فَقَالَ (أُنْزِلْت) فِي اللُّغَة بِمَعْنَى (تُرِكْت) صَحِيح، وَلَيْسَ فيه تَصْحِيف.
قَالَ الْقَاضِي: وَظَهَرَ لِي أَنَّهُ صَحِيح بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوف فِي أُنْزِلْت فَهُوَ ضِدّ رُفِعْت لِأَنَّهُ قَالَ: اِنْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَم، ثُمَّ أُنْزِلْت أَيْ ثُمَّ صُرِفْت إِلَى مَوْضِعِي الَّذِي حُمِلْت مِنْهُ.
قَالَ: وَلَمْ أَزَلِ أَبْحَث عَنْهُ حَتَّى وَقَعْت عَلَى الْجَلَاء فيه مِنْ رِوَايَة الْحَافِظ أَبِي بَكْر الْبُرْقَانِيّ، وَأَنَّهُ طَرَف حَدِيث وَتَمَامه: «ثُمَّ أُنْزِلْت عَلَى طَسْت مِنْ ذَهَب مَمْلُوءَة حِكْمَة وَإِيمَانًا». هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه وَمُقْتَضَى رِوَايَة الْبُرْقَانِيّ أَنْ يُضْبَط (أُنْزِلْت) بِفَتْحِ اللَّام وَإِسْكَان التَّاء وَكَذَلِكَ ضَبَطْنَاهُ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ الْحُمَيْدِيّ وَحَكَى الْحُمَيْدِيّ هَذِهِ الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة عَنْ رِوَايَة الْبُرْقَانِيّ وَزَادَ عَلَيْهَا وَقَالَ: أَخْرَجَهَا الْبُرْقَانِيّ بِإِسْنَادِ مُسْلِم، وَأَشَارَ الْحُمَيْدِيّ إِلَى أَنَّ رِوَايَة مُسْلِم نَاقِصَة وَأَنَّ تَمَامه مَا زَادَهُ الْبُرْقَانِيُّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
236- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْت مِنْ ذَهَب بِمَاءِ زَمْزَم ثُمَّ لَأَمَهُ» أَمَّا (الطَّسْت) فَبِفَتْحِ الطَّاء لُغَة وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهِيَ إِنَاء مَعْرُوف وَهِيَ مُؤَنَّثَة قَالَ: وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض كَسْر الطَّاء لُغَة وَالْمَشْهُور الْفَتْح كَمَا ذَكَرْنَا وَيُقَال فيها: (طَسّ) بِتَشْدِيدِ السِّين وَحَذْف التَّاء، و(طَسَّة) أَيْضًا وَجَمْعهَا طِسَاس وَطُسُوس وَطِسَّات.
وَأَمَّا (لَأَمَهُ) فَبِفَتْحِ اللَّام وَبَعْدَهَا هَمْزَة عَلَى وَزْن ضَرَبَهُ وَفيه لُغَة أُخْرَى (لَاءَمَهُ) بِالْمَدِّ عَلَى وَزْن (آذَنَهُ) وَمَعْنَاهُ جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضه إِلَى بَعْض وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوهِم جَوَاز اِسْتِعْمَال إِنَاء الذَّهَب لَنَا فَإِنَّ هَذَا فِعْل الْمَلَائِكَة وَاسْتِعْمَالهمْ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُون حُكْمهمْ حُكْمنَا، وَلِأَنَّهُ كَانَ أَوَّل الْأَمْر قَبْلَ تَحْرِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَانِي الذَّهَب وَالْفِضَّة.
قَوْله: (يَعْنِي ظِئْره) هِيَ بِكَسْرِ الظَّاء الْمُعْجَمَة بَعْدهَا هَمْزَة سَاكِنَة وَهِيَ الْمُرْضِعَة وَيُقَال أَيْضًا لِزَوْجِ الْمُرْضِعَة ظِئْر.
قَوْله: (فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَع اللَّوْن) هُوَ بِالْقَافِ الْمَفْتُوحَة أَيْ مُتَغَيِّر اللَّوْن قَالَ أَهْل اللُّغَة: اِمْتَقَعَ لَوْنه فَهُوَ مُمْتَقِع وَانْتَقَعَ فَهُوَ مُنْتَقِع اِبْتَقَعَ بِالْبَاءِ فَهُوَ مُبْتَقِع فيه ثَلَاث لُغَات وَالْقَاف مَفْتُوحَة فيهنَّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره: وَالْمِيم أَفْصَحُهُنَّ. وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيّ اللُّغَات الثَّلَاث عَنْ الْكِسَائِيّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ تَغَيَّرَ مِنْ حُزْن أَوْ فَزَع.
وَقَالَ الْمَازِنِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ فِي تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث: يُقَال: اِنْتَقَعَ لَوْنه وابْتَقَع وَامْتَقَعَ وَاسْتَقَع وَالْتَمَى وَانْتَسَفَ وَانْتَشَفَ بِالسِّينِ وَالشِّين وَالْتَمَعَ وَالْتَمَغَ بِالْعَيْنِ وَالْغَيْن وَابْتَسَرَ وَالْتَهَمَ.
قَوْله: (كُنْت أَرَى أَثَر الْمِخْيَط فِي صَدْره) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الْخَاء وَفَتْح الْيَاء وَهِيَ الْإِبْرَة وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز نَظَر الرَّجُل إِلَى صَدْر الرَّجُل وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه وَكَذَا يَجُوز أَنْ يَنْظُر إِلَى مَا فَوْقَ سُرَّته وَتَحْت رُكْبَته إِلَّا أَنْ يَنْظُر بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ يَحْرُم النَّظَر بِشَهْوَةٍ إِلَى كُلّ آدَمِيّ إِلَّا الزَّوْج لِزَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَته وَكَذَا هُمَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُون الْمَنْظُور إِلَيْهِ أَمْرَد حَسَن الصُّورَة فَإِنَّهُ يَحْرُم النَّظَر إِلَيْهِ إِلَى وَجْهه وَسَائِر بَدَنه سَوَاء كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَكُون لِحَاجَةِ الْبَيْع وَالشِّرَاء وَالتَّطَبُّب وَالتَّعْلِيم وَنَحْوهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة شَرِيك: (وَهُوَ نَائِم)، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «بَيْنَا أَنَا عِنْد الْبَيْت بَيْن النَّائِم وَالْيَقْظَان»، فَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَجْعَلهَا رُؤْيَا نَوْم وَلَا حُجَّة فيه إِذْ قَدْ يَكُون ذَلِكَ حَالَة أَوَّل وُصُول الْمَلَك إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى كَوْنه نَائِمًا فِي الْقِصَّة كُلّهَا. هَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي رِوَايَة شَرِيك. وَأَنَّ أَهْل الْعِلْم أَنْكَرُوهَا قَدْ قَالَهُ غَيْره.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه رِوَايَة شَرِيك هَذِهِ عَنْ أَنَس فِي كِتَاب التَّوْحِيد مِنْ صَحِيحه، وَأَتَى بِالْحَدِيثِ مُطَوَّلًا.
قَالَ الْحَافِظ عَبْد الْحَقّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابه الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ بَعْد ذِكْر هَذِهِ الرِّوَايَة: هَذَا الْحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ مِنْ رِوَايَة شَرِيك بْن أَبِي نَمِر عَنْ أَنَس، وَقَدْ زَادَ فيه زِيَادَة مَجْهُولَة وَأَتَى فيه بِأَلْفَاظٍ غَيْر مَعْرُوفَة.
وَقَدْ رَوَى حَدِيث الْإِسْرَاء جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَئِمَّة الْمَشْهُورِينَ كَابْنِ شِهَاب وَثَابِت الْبُنَانِيّ وَقَتَادَةَ يَعْنِي عَنْ أَنَس فَلَمْ يَأْتِ أَحَد مِنْهُمْ بِمَا أَتَى بِهِ شَرِيك. وَشَرِيك لَيْسَ بِالْحَافِظِ عِنْد أَهْل الْحَدِيث.
قَالَ: وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَبْل هَذَا هِيَ الْمُعَوَّل عَلَيْهَا. هَذَا كَلَام الْحَافِظ عَبْد الْحَقّ رَحِمَهُ اللَّه.
237- قَوْله: (حَدَّثَنَا هَارُونُ الْأَيْلِيّ وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَة التُّجِيبِيّ) قَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطه مَرَّات وَالتُّجِيبِيّ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْحهَا وَأَوْضَحْنَا أَصْله وَضَبْطه فِي الْمُقَدِّمَة.
قَوْله: «جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَب مُمْتَلِئ حِكْمَة وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي» قَدْ قَدَّمْنَا لُغَات الطَّسْت وَأَنَّهَا مُؤَنَّثَة فَجَاءَ مُمْتَلِئ عَلَى مَعْنَاهَا وَهُوَ الْإِنَاء وَأَفْرَغَهَا عَلَى لَفْظهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان الْإِيمَان فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان، وَبَيَان الْحِكْمَة فِي حَدِيث: «الْحِكْمَة يَمَانِيَة» وَالضَّمِير فِي أَفْرَغَهَا يَعُود عَلَى الطَّسْت كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَحَكَى صَاحِب التَّحْرِير أَنَّهُ يَعُود عَلَى الْحِكْمَة. وَهَذَا الْقَوْل وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْه فَالْأَظْهَر مَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّ عَوْده عَلَى الطَّسْت يَكُون تَصْرِيحًا بِإِفْرَاغِ الْإِيمَان وَالْحِكْمَة. وَعَلَى قَوْله يَكُون إِفْرَاغ الْإِيمَان مَسْكُوتًا عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا جَعْل الْإِيمَان وَالْحِكْمَة فِي إِنَاء وَإِفْرَاغهمَا مَعَ أَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ وَهَذِهِ صِفَة الْأَجْسَام فَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ الطَّسْت كَانَ فيها شَيْء يَحْصُل بِهِ كَمَال الْإِيمَان وَالْحِكْمَة وَزِيَادَتهمَا فَسُمِّيَ إِيمَانًا وَحِكْمَة لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُمَا وَهَذَا مِنْ أَحْسَن الْمَجَاز. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَجُل عَنْ يَمِينه أَسْوِدَة» فَسَّرَ الْأَسْوِدَة فِي الْحَدِيث بِأَنَّهَا نَسَم بَنِيهِ.
أَمَّا (الْأَسْوِدَة) فَجَمْع سَوَاد كَقَذَالِ وَأَقْذِلَة، وَسَنَام وَأَسْنِمَة، وَزَمَان وَأَزْمِنَة، وَتُجْمَع الْأَسْوِدَة عَلَى أَسْوَاد.
وَقَالَ أَهْل اللُّغَة: السَّوَاد الشَّخْص.
وَقِيلَ: السَّوَاد الْجَمَاعَات.
وَأَمَّا (النَّسَم) فَبِفَتْحِ النُّون وَالسِّين وَالْوَاحِدَة نَسَمَة قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره هِيَ نَفْس الْإِنْسَان وَالْمُرَاد أَرْوَاح بَنِي آدَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ آدَم وَنَسَم بَنِيهِ مِنْ أَهْل الْجَنَّة وَالنَّار، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَرْوَاح الْكُفَّار فِي سِجِّين قِيلَ فِي الْأَرْض السَّابِعَة، وَقِيلَ تَحْتهَا، وَقِيلَ فِي سِجْن. وَأَنَّ أَرْوَاح الْمُؤْمِنِينَ مُنَعَّمَة فِي الْجَنَّة فَيَحْتَمِل أَنَّهَا تُعْرَض عَلَى آدَم أَوْقَاتًا فَوَافَقَ وَقْت عَرْضهَا مُرُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَحْتَمِل أَنَّ كَوْنهمْ فِي النَّار وَالْجَنَّة إِنَّمَا هُوَ فِي أَوْقَات دُونَ أَوْقَات بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُؤْمِن: «عُرِضَ مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهُ هَذَا مَنْزِلك حَتَّى يَبْعَثك اللَّه إِلَيْهِ». وَيَحْتَمِل أَنَّ الْجَنَّة كَانَتْ فِي جِهَة يَمِين آدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّار فِي جِهَة شِمَاله وَكِلَاهُمَا حَيْثُ شَاءَ اللَّه وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَظَرَ قِبَل يَمِينه ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَل شِمَاله بَكَى» فيه شَفَقَة الْوَالِد عَلَى وَلَده وَسُرُوره بِحُسْنِ حَاله وَحُزْنه وَبُكَاؤُهُ لِسُوءِ حَاله.
قَوْله فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «وَجَدَ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاء السَّادِسَة» وَتَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّهُ فِي السَّابِعَة فَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاء مَرَّتَيْنِ فَلَا إِشْكَال فيه، وَيَكُون فِي كُلّ مَرَّة وَجَدَهُ فِي سَمَاء وَإِحْدَاهُمَا مَوْضِع اِسْتِقْرَاره وَوَطَنه وَالْأُخْرَى كَانَ فيها غَيْر مُسْتَوْطَن. وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاء مَرَّة وَاحِدَة فَلَعَلَّهُ وَجَدَهُ فِي السَّادِسَة ثُمَّ اِرْتَقَى إِبْرَاهِيم أَيْضًا إِلَى السَّابِعَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِدْرِيس صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِح وَالْأَخ الصَّالِح» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مُخَالِف لِمَا يَقُولهُ أَهْل النَّسَب وَالتَّارِيخ مِنْ أَنَّ إِدْرِيس أَب مِنْ آبَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّهُ جَدّ أَعْلَى لِنُوحٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ نُوحًا هُوَ اِبْن لَامِك بْن متوشلخ بْن خنوخ. وَهُوَ عِنْدهمْ إِدْرِيس بْن بُرْدَة بْن مهلاييل بْن قَيْنَان بْن أَنُوش بْن شيث بْن آدَم عَلَيْهِ السَّلَام. وَلَا خِلَاف عِنْدهمْ فِي عَدَد هَذِهِ الْأَسْمَاء وَسَرْدهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي ضَبْط بَعْضهَا وَصُورَة لَفْظه. وَجَاءَ جَوَاب الْآبَاء هُنَا إِبْرَاهِيم وَآدَم مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِح.
وَقَالَ إِدْرِيس: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِح كَمَا قَالَ مُوسَى وَعِيسَى وَهَارُون وَيُوسُف وَيَحْيَى وَلَيْسُوا بِآبَاءٍ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ عَنْ إِدْرِيس إِنَّهُ إِلْيَاس وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجَدٍّ لِنُوحٍ فَإِنَّ إِلْيَاس مِنْ ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِنَّهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ أَوَّل الْمُرْسَلِينَ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة هَذَا كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَمْنَع كَوْن إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام أَبًا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ قَوْله الْأَخ الصَّالِح يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهُ تَلَطُّفًا وَتَأَدُّبًا وَهُوَ أَخ وَإِنْ كَانَ اِبْنًا فَالْأَنْبِيَاء إِخْوَة وَالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (أَنَّ اِبْن عَبَّاس وَأَبَا حَبَّة الْأَنْصَارِيّ يَقُولَانِ) أَبُو حَبَّة بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هُنَا وَفِي ضَبْطه وَاسْمه اِخْتِلَاف فَالْأَصَحّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ (حَبَّة) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة كَمَا ذَكَرْنَا وَقِيلَ (حَيَّة) بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحْت وَقِيلَ (حَنَّة) بِالنُّونِ وَهَذَا قَوْل الْوَاقِدِيِّ وَرَوَى عَنْ اِبْن شِهَاب وَالزُّهْرِيّ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اِسْم أَبِي حَبَّة فَقِيلَ: عَامِر.
وَقِيلَ: مَالِك.
وَقِيلَ: ثَابِت. وَهُوَ بَدْرِيّ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْم أُحُد.
وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن بْن الْأَثِير الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي ضَبْطه وَالِاخْتِلَاف فِي اِسْمه فِي كِتَابه مَعْرِفَة الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَبَيَّنَهَا بَيَانًا شَافِيًا رَحِمَهُ اللَّه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى ظَهَرْت لِمُسْتَوَى أَسْمَع فيه صَرِيف الْأَقْلَام» مَعْنَى ظَهَرْت عَلَوْت وَالْمُسْتَوَى بِفَتْحِ الْوَاو.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ الْمِصْعَد، وَقِيلَ: الْمَكَان الْمُسْتَوِي و(صَرِيف الْأَقْلَام) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَة تَصْوِيتهَا حَال الْكِتَابَة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ صَوْت مَا تَكْتُبهُ الْمَلَائِكَة مِنْ أَقْضِيَة اللَّه تَعَالَى وَوَحْيه، وَمَا يَنْسَخُونَهُ مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى. مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَب وَيُرْفَع لِمَا أَرَادَهُ مِنْ أَمْره وَتَدْبِيره.
قَالَ الْقَاضِي فِي هَذَا حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل السُّنَّة فِي الْإِيمَان بِصِحَّةِ كِتَابَة الْوَحْي وَالْمَقَادِير فِي كَتْب اللَّه تَعَالَى مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَمَا شَاءَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى يَعْلَم كَيْفِيَّتهَا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَات مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِره لَكِنْ كَيْفِيَّة ذَلِكَ وَصُورَته وَجِنْسه مِمَّا لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَته وَرُسُله، وَمَا يَتَأَوَّل هَذَا وَيُحِيلهُ عَنْ ظَاهِره إِلَّا ضَعِيف النَّظَر وَالْإِيمَان إِذَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَة الْمُطَهَّرَة. وَدَلَائِل الْعُقُول لَا تُحِيلهُ، وَاَللَّه تَعَالَى يَفْعَل مَا يَشَاء، وَيَحْكُمُ كَمَا يُرِيد، حِكْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى وَإِظْهَارًا لِمَا يَشَاء مِنْ غَيْبه لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَته وَسَائِر خَلْقه، وَإِلَّا فَهُوَ غَنِيّ عَنْ الْكَتْب وَالِاسْتِذْكَار سُبْحَانه وَتَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: وَفِي عُلُوّ مَنْزِلَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتِفَاعه فَوْق مَنَازِل سَائِر الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَبُلُوغه حَيْثُ بَلَغَ مِنْ مَلَكُوت السَّمَوَات دَلِيل عَلَى عُلُوّ دَرَجَته وَإِبَانَة فَضْله وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّار خَبَرًا فِي الْإِسْرَاء عَنْ عَلِيّ كَرَّمَ اللَّه وَجْهه وَذَكَرَ مَسِير جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْبُرَاق حَتَّى أَتَى الْحِجَاب وَذَكَرَ كَلِمَة وَقَالَ خَرَجَ مَلَك مِنْ وَرَاء الْحِجَاب فَقَالَ جِبْرِيل: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إِنَّ هَذَا الْمَلَك مَا رَأَيْته مُنْذُ خُلِقْت وَإِنِّي أَقْرَب الْخَلْق مَكَانًا. وَفِي حَدِيث آخَر فَارَقَنِي جِبْرِيل وَانْقَطَعَتْ عَنِّي الْأَصْوَات هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفَرَضَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاة إِلَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَاجَعْت رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرهَا وَبَعْده فَرَاجَعْت رَبِّي فَقَالَ: هِيَ خَمْس وَهِيَ خَمْسُونَ» وَهَذَا الْمَذْكُور هُنَا لَا يُخَالِف الرِّوَايَة الْمُتَقَدِّمَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا إِلَى آخِره فَالْمُرَاد بِحَطِّ الشَّطْر هُنَا أَنَّهُ حَطَّ فِي مَرَّات بِمُرَاجَعَاتٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: الْمُرَاد بِالشَّطْرِ هُنَا الْجُزْء وَهُوَ الْخَمْس، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ النِّصْف. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَل، وَلَكِنْ لَا ضَرُورَة إِلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيث الثَّانِي مُخْتَصَر لَمْ يَذْكُر فيه كَرَّات الْمُرَاجَعَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى جَوَاز نَسْخ الشَّيْء قَبْل فِعْله. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ اِنْطَلَقَ بِي حَتَّى نَأْتِي سِدْرَة الْمُنْتَهَى» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول حَتَّى (نَأْتِي) بِالنُّونِ فِي أَوَّله. وَفِي بَعْض الْأُصُول حَتَّى (أُتِيَ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّة فَإِذَا فيها جَنَابِذ اللُّؤْلُؤ» أَمَّا (الْجَنَابِذ) فَبِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَة وَبَعْدَهَا نُون مَفْتُوحَة ثُمَّ أَلِف ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ ذَال مُعْجَمَة وَهِيَ الْقِبَاب وَاحِدَتهَا جَنْبَذَة وَوَقَعَ فِي كِتَاب الْأَنْبِيَاء مِنْ صَحِيح الْبُخَارِيّ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي أَوَّل كِتَاب الصَّلَاة مِنْهُ (حَبَائِل) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة وَآخِره لَام.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: هُوَ تَصْحِيف. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (اللُّؤْلُؤ) فَمَعْرُوف وَفيه أَرْبَعَة أَوْجُه بِهَمْزَتَيْنِ وَبِحَذْفِهِمَا وَبِإِثْبَاتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَة وَعَكْسه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْجَنَّة وَالنَّار مَخْلُوقَتَانِ وَأَنَّ الْجَنَّة فِي السَّمَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
238- وَقَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عَدِيّ عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَعَلَّهُ قَالَ عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة) قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ هَكَذَا هُوَ هَذَا الْحَدِيث فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ وَأَبِي الْعَبَّاس الرَّازِيِّ عَنْ أَبِي أَحْمَد الْجُلُودِيّ وَعِنْد غَيْره عَنْ أَبِي أَحْمَد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس اِبْن مَالِك عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة بِغَيْرِ شَكٍّ قَالَ أَبُو الْحَسَن الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة غَيْر قَتَادَةَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: «فَلَمَّا جَاوَزْته بَكَى فَنُودِيَ مَا يُبْكِيك قَالَ رَبّ: هَذَا غُلَام بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُل مِنْ أُمَّته الْجَنَّة أَكْثَر مِمَّا يَدْخُل مِنْ أُمَّتِي» مَعْنَى هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَزِنَ عَلَى قَوْمه لِقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَة عَدَدهمْ فَكَانَ بُكَاؤُهُ حُزْنًا عَلَيْهِمْ وَغِبْطَة لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَثْرَة أَتْبَاعه وَالْغِبْطَة فِي الْخَيْر مَحْبُوبَة. وَمَعْنَى الْغِبْطَة أَنَّهُ وَدَّ أَنْ يَكُون مِنْ أُمَّته الْمُؤْمِنِينَ مِثْل هَذِهِ الْأُمَّة لَا أَنَّهُ وَدَّ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعًا لَهُ وَلَيْسَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلهمْ. وَالْمَقْصُود أَنَّهُ إِنَّمَا بَكَى حُزْنًا عَلَى قَوْمه وَعَلَى فَوَات الْفَضْل الْعَظِيم وَالثَّوَاب الْجَزِيل بِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ الطَّاعَة فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْر وَعَمِلَ النَّاس بِهِ كَانَ لَهُ مِثْل أُجُورهمْ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمِثْل هَذَا يُبْكَى عَلَيْهِ، وَيُحْزَن عَلَى فَوَاته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله وَحَدَّثَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَة أَنْهَار يَخْرُج مِنْ أَصْلهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَان بَاطِنَانِ فَقُلْت يَا جِبْرِيل مَا هَذِهِ الْأَنْهَار؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّة وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيل وَالْفُرَات» هَكَذَا هُوَ فِي أُصُول صَحِيح مُسْلِم يَخْرُج مِنْ أَصْلهَا وَالْمُرَاد مِنْ أَصْل سِدْرَة الْمُنْتَهَى كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَغَيْره قَالَ مُقَاتِل: الْبَاطِنَانِ هُمَا السَّلْسَبِيل وَالْكَوْثَر.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَصْل سِدْرَة الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْض لِخُرُوجِ النِّيل وَالْفُرَات مِنْ أَصْلهَا. قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَنْهَار تَخْرُج مِنْ أَصْلهَا ثُمَّ تَسِير حَيْثُ أَرَادَ اللَّه تَعَالَى حَتَّى تَخْرُج مِنْ الْأَرْض وَتَسِير فيها وَهَذَا لَا يَمْنَعهُ عَقْل وَلَا شَرْع وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث فَوَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفُرَات بِالتَّاءِ الْمَمْدُودَة فِي الْخَطّ فِي حَالَتِي الْوَصْل وَالْوَقْف وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مَشْهُورًا فَنَبَّهْت عَلَيْهِ لِكَوْنِ كَثِير مِنْ النَّاس يَقُولُونَهُ بِالْهَاءِ وَهُوَ خَطَأ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «هَذَا الْبَيْت الْمَعْمُور يَدْخُلهُ كُلّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْف مَلَك إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِر مَا عَلَيْهِمْ» قَالَ صَاحِب مَطَالِع الْأَنْوَار رَوَيْنَاهُ (آخِر مَا عَلَيْهِمْ) بِرَفْعِ الرَّاء وَنَصْبهَا فَالنَّصْب عَلَى الظَّرْف وَالرَّفْع عَلَى تَقْدِير ذَلِكَ آخِر مَا عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُوله.
قَالَ: وَالرَّفْع أَوْجَه وَفِي هَذَا أَعْظَم دَلِيل عَلَى كَثْرَة الْمَلَائِكَة صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيت بِإِنَاءَيْنِ أَحَدهمَا خَمْر وَالْآخَر لَبَن فَعُرِضَا عَلَيَّ فَاخْتَرْت اللَّبَن فَقِيلَ: أَصَبْت أَصَابَ اللَّه بِك أُمَّتك عَلَى الْفِطْرَة» قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْبَاب الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل وَاَلَّذِي يُزَاد هُنَا مَعْنَى أَصَبْت أَيْ أَصَبْت الْفِطْرَة كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدِّمَة وَتَقَدَّمَ بَيَان الْفِطْرَة وَمَعْنَى: «أَصَابَ اللَّه بِك» أَيْ أَرَادَ بِك الْفِطْرَة وَالْخَيْر وَالْفَضْل وَقَدْ جَاءَ (أَصَابَ) بِمَعْنَى أَرَادَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} أَيْ حَيْثُ أَرَادَ اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْل اللُّغَة كَذَا نَقَل الْوَاحِدِيّ اِتِّفَاق أَهْل اللُّغَة عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْله: «أُمَّتك عَلَى الْفِطْرَة» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَتْبَاع لَك وَقَدْ أَصَبْت الْفِطْرَة فَهُمْ يَكُونُونَ عَلَيْهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَشُقَّ مِنْ النَّحْر إِلَى مَرَاقّ الْبَطْن» هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَتَشْدِيد الْقَاف وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنْ الْبَطْن وَرَقَّ مِنْ جِلْده قَالَ الْجَوْهَرِيّ: لَا وَاحِد لَهَا.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: وَاحِدهَا مَرَق.
239- قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَابْن بَشَّار قَالَ اِبْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْعَالِيَة يَقُول حَدَّثَنِي اِبْن عَمّ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَعْنِي اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا). هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ وَشُعْبَة وَإِنْ كَانَ وَاسِطِيًّا فَقَدْ اِنْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَة وَاسْتَوْطَنَهَا وَابْن عَبَّاس أَيْضًا سَكَنَهَا وَاسْم أَبِي الْعَالِيَة (رُفَيْعٌ) بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْح الْفَاء اِبْن مِهْرَانَ الرِّيَاحِيُّ بِكَسْرِ الرَّاء وَبِالْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْت. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُوسَى آدَم طُوَال كَأَنَّهُ مِنْ رِجَال شَنُوءَة وَقَالَ: عِيسَى جَعْد مَرْبُوع» أَمَّا (طُوَال) فَبِضَمِّ الطَّاء وَتَخْفِيف الْوَاو وَمَعْنَاهُ طَوِيل وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَأَمَّا (شَنُوءَة) فَشِين مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون ثُمَّ وَاوٌ، ثُمَّ هَمْزَة ثُمَّ هَاء وَهِيَ قَبِيلَة مَعْرُوفَة.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة فِي أَدَب الْكَاتِب: سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلك رَجُل فيه شَنُوءَة أَيْ تَقَزُّز قَالَ: وَيُقَال: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَشَانَئُوا وَتَبَاعَدُوا وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: الشَّنُوءَة التَّقَزُّز وَهُوَ التَّبَاعُد مِنْ الْأَدْنَاس وَمِنْهُ أَزْد شَنُوءَة وَهُمْ حَيّ مِنْ الْيَمَن يُنْسَب إِلَيْهِمْ (شَنْئِيّ) قَالَ: قَالَ اِبْن السِّكِّيت: رُبَّمَا قَالُوا: (أَزْد شَنُوَّة) بِالتَّشْدِيدِ غَيْر مَهْمُوز وَيُنْسَب إِلَيْهَا (شَنَوِيّ).
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرْبُوع» فَقَالَ أَهْل اللُّغَة هُوَ الرَّجُل بَيْن الرَّجُلَيْنِ فِي الْقَامَة لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِن وَلَا بِالْقَصِيرِ الْحَقِير وَفيه لُغَات ذَكَرَهُنَّ صَاحِب الْمُحْكَم وَغَيْره مَرْبُوع وَمُرْتَبِع مُرْتَبَع بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْرهَا وَرُبْع وَرَبْعَة وَرَبَعَة الْأَخِيرَة بِفَتْحِ الْبَاء وَالْمَرْأَة رَبَعَة وَرَبْعَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ (جَعْد) وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات فِي صِفَته (سَبْط الرَّأْس) فَقَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِالْجَعْدِ هُنَا جُعُودَة الْجِسْم وَهُوَ اِجْتِمَاعه وَاكْتِنَازه وَلَيْسَ الْمُرَاد جُعُودَة الشَّعْر.
وَأَمَّا الْجَعْد فِي صِفَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير فيه مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ اِكْتِنَاز الْجِسْم وَالثَّانِي جُعُودَة الشَّعْر قَالَ: وَالْأَوَّل أَصَحّ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة فِي الصَّحِيح أَنَّهُ رَجْل الشَّعْر هَذَا كَلَام صَاحِب التَّحْرِير. وَالْمَعْنَيَانِ فيه جَائِزَانِ وَتَكُون جُعُودَة الشَّعْر عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي لَيْسَتْ جُعُودَة الْقَطَط بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ بَيْن الْقَطَط وَالسَّبِط. وَاَللَّه أَعْلَم. وَالسَّبِط بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَيَجُوز إِسْكَان الْبَاء مَعَ كَسْر السِّين وَفَتْحهَا عَلَى التَّخْفِيف كَمَا فِي كَتِف وَبَابه قَالَ أَهْل اللُّغَة: الشَّعْر السَّبِط هُوَ الْمُسْتَرْسِل لَيْسَ فيه تَكَسُّر وَيُقَال فِي الْفِعْل مِنْهُ سَبِطَ شَعْره بِكَسْرِ الْبَاء يَسْبَط بِفَتْحِهَا سَبَطًا بِفَتْحِهَا أَيْضًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
240- قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَرْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْن عِمْرَان» هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول وَسَقَطَتْ لَفْظَة (مَرَرْت) مُعْظَمهَا، ولابد مِنْهَا. فَإِنْ حُذِفَتْ كَانَتْ مُرَادَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِن النَّار» هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء وَمَالِكًا بِالنَّصْبِ وَمَعْنَاهُ أُرِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث وَرَأَيْت مَالِكًا وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول (مَالِك) بِالرَّفْعِ وَهَذَا قَدْ يُنْكَر، وَيُقَال: هَذَا لَحْن لَا يَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة وَلَكِنْ عَنْهُ جَوَاب حَسَن وَهُوَ أَنَّ لَفْظَة مَالِك مَنْصُوبَة وَلَكِنْ أُسْقِطَتْ الْأَلِف فِي الْكِتَابَة وَهَذَا يَفْعَلهُ الْمُحَدِّثُونَ كَثِيرًا فَيَكْتُبُونَ سَمِعْت أَنَس بِغَيْرِ أَلِف وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ وَكَذَلِكَ مَالِك كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِف وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ. فَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَحْسَن مَا يُقَال فيه وَفيه فَوَائِدُ يُتَنَبَّه بِهَا عَلَى غَيْره وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِن النَّار وَالدَّجَّال فِي آيَات أَرَاهُنَّ اللَّه إِيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ} قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرهَا أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَقِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام) هَذَا الِاسْتِشْهَاد بِقَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَة} هُوَ مِنْ اِسْتِدْلَال بَعْض الرُّوَاة.
وَأَمَّا تَفْسِير قَتَادَةَ فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَة مِنْهُمْ مُجَاهِد وَالْكَلْبِيّ وَالسُّدِّيُّ، وَعَلَى مَذْهَبهمْ مَعْنَاهُ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِك مُوسَى. وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَاب الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَاهَا فَلَا تَكُنْ فِي شَكّ مِنْ لِقَاء مُوسَى الْكِتَاب وَهَذَا مَذْهَب اِبْن عَبَّاس وَمُقَاتِل وَالزَّجَّاج وَغَيْرهمْ. وَاَللَّه تَعَالَى.
241- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حَنْبَل وَسُرَيْج بْن يُونُس) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَالْجِيم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَابِطًا مِنْ الثَّنِيَّة وَلَهُ جُؤَار إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالتَّلْبِيَةِ» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يُونُس بْن مَتَّى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْته وَهُوَ يُلَبِّي» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَكْثَر الرِّوَايَات فِي وَصْفهمْ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَة أَبِي الْعَالِيَة عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة اِبْن الْمُسَيَّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ فيها ذِكْر التَّلْبِيَة.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَحُجُّونَ وَيُلَبُّونَ وَهُمْ أَمْوَات وَهُمْ فِي الدَّار الْآخِرَة وَلَيْسَتْ دَار عَمَل فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَشَايِخِ وَفِيمَا ظَهَرَ لَنَا عَنْ هَذَا أَجْوِبَة: أَحَدهَا أَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ هُمْ أَفْضَل مِنْهُمْ وَالشُّهَدَاء أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ فَلَا يَبْعُد أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث الْآخَر وَأَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى بِمَا اِسْتَطَاعُوا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ تُوُفُّوا فَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَار الْعَمَل حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ مُدَّتهَا وَتَعَقَّبَتْهَا الْآخِرَة الَّتِي هِيَ دَار الْجَزَاء اِنْقَطَعَ الْعَمَل.
الْوَجْه الثَّانِي أَنَّ عَمَل الْآخِرَة ذِكْر وَدُعَاء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فيها سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فيها سَلَام}.
الْوَجْه الثَّالِث أَنْ تَكُون هَذِهِ رُؤْيَة مَنَام فِي غَيْر لَيْلَة الْإِسْرَاء أَوْ فِي بَعْض لَيْلَة الْإِسْرَاء كَمَا قَالَ فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «بَيْنَا أَنَا نَائِم رَأَيْتنِي أَطُوف الْكَعْبَة» وَذَكَرَ الْحَدِيث فِي قِصَّة عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْوَجْه الرَّابِع أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَحْوَالهمْ الَّتِي كَانَتْ فِي حَيَاتهمْ وَمَثَلُوا لَهُ فِي حَال حَيَاتهمْ كَيْف كَانُوا وَكَيْف حَجّهمْ وَتَلْبِيَتهمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى مُوسَى»، و«كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى عِيسَى»، و«كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى يُونُس» عَلَيْهِمْ السَّلَام.
الْوَجْه الْخَامِس أَنْ يَكُون أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرهمْ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ رُؤْيَة عَيْن. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَهُ جُؤَار» بِضَمِّ الْجِيم وَبِالْهَمْزِ وَهُوَ رَفْع الصَّوْت. قَوْله: (ثَنِيَّة هَرْشَى) هِيَ بِفَتْحِ الْهَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة مَقْصُورَة الْأَلِف وَهُوَ جَبَل عَلَى طَرِيق الشَّام وَالْمَدِينَة قَرِيب مِنْ الْجُحْفَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى نَاقَة حَمْرَاء جَعْدَة عَلَيْهِ جُبَّة مِنْ صُوف خِطَام نَاقَته خُلْبَة» قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْنِي لِيفًا. أَمَّا (الْجَعْدَة) فَهِيَ مُكْتَنِزَة اللَّحْم كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَأَمَّا (الْخِطَام) بِكَسْرِ الْخَاء فَهُوَ الْحَبْل الَّذِي يُقَاد بِهِ الْبَعِير يُجْعَل عَلَى خَطْمه وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَاضِحًا فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان.
وَأَمَّا (الْخُلْبَة) فَبِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة بَيْنَهُمَا لَام فيها لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الضَّمّ وَالْإِسْكَان حَكَاهُمَا اِبْن السِّكِّيت وَالْجَوْهَرِيّ وَآخَرُونَ. وَكَذَلِكَ الْخُلْب وَالْخِلْب وَهُوَ اللِّيف كَمَا فَسَّرَهُ هُشَيْمٌ وَاَللَّه أَعْلَم.
242- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى مُوسَى وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ» أَمَّا الْأُصْبُع فَفيها عَشْر لُغَات كَسْر الْهَمْزَة وَفَتْحهَا وَضَمّهَا مَعَ فَتْح الْبَاء وَكَسْرهَا وَضَمّهَا وَالْعَاشِرَة أُصْبُوع عَلَى مِثَال عُصْفُور. وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب وَضْع الْأُصْبُع فِي الْأُذُن عِنْد رَفْع الصَّوْت بِالْأَذَانِ وَنَحْوه مِمَّا يُسْتَحَبّ لَهُ رَفْع الصَّوْت. وَهَذَا الِاسْتِنْبَاط وَالِاسْتِحْبَاب يَجِيء عَلَى مَذْهَب مَنْ يَقُول مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: إِنَّ شَرْع مَنْ قَبْلنَا شَرْع لَنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَقَالَ أَيّ ثَنِيَّة هَذِهِ؟ قَالُوا: هَرْشَى أَوْ لِفْت» هَكَذَا ضَبَطْنَاهَا (لِفْت) بِكَسْرِ اللَّام وَإِسْكَان الْفَاء وَبَعْدهَا تَاء مُثَنَّاة مِنْ فَوْق. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَصَاحِب الْمَطَالِع فيها ثَلَاثَة أَوْجُه: أَحَدهَا مَا ذَكَرْته، وَالثَّانِي فَتْح اللَّام مَعَ إِسْكَان الْفَاء، وَالثَّالِث فَتْح اللَّام وَالْفَاء جَمِيعًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِطَام نَاقَته لِيف خُلْبَة» رَوَى بِتَنْوِينِ (لِيف)، وَرَوَى بِإِضَافَتِهِ إِلَى خُلْبَة. فَمَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خُلْبَة بَدَلًا أَوْ عَطْف بَيَان.
243- قَوْله: عَنْ مُجَاهِد قَالَ: كُنَّا عِنْد اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، فَذَكَرُوا الدَّجَّال، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوب بَيْن عَيْنَيْهِ كَافِر قَالَ: فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَمْ أَسْمَعهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: «أَمَّا إِبْرَاهِيم فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبكُمْ» كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَهُوَ صَحِيح. وَقَوْله: فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوب أَيْ قَالَ قَائِل مِنْ الْحَاضِرِينَ. وَوَقَعَ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِعَبْدِ الْحَقّ فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة مُسْلِم: «فَذَكَرُوا الدَّجَّال فَقَالُوا: إِنَّهُ مَكْتُوب بَيْن عَيْنَيْهِ» هَكَذَا رَوَاهُ: (فَقَالُوا) وَفِي رِوَايَة الْحُمَيْدِيِّ عَنْ الصَّحِيحَيْنِ: «وَذَكَرُوا الدَّجَّال بَيْن عَيْنَيْهِ كَافِر» فَحَذَفَ لَفْظَة (قَالَ وَقَالُوا). وَهَذَا كُلّه يُصَحِّح مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْله: (فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَمْ أَسْمَعهُ) يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَيْهِ إِذَا اِنْحَدَرَ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول كُلّهَا (إِذَا) بِالْأَلِفِ بَعْد الذَّال وَهُوَ صَحِيح.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ أَنْكَرَ إِثْبَات الْأَلِف، وَغَلَّطَ رَاوِيه. وَغَلَّطَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: هَذَا جَهْل مِنْ هَذَا الْقَائِل وَتَعَسُّف وَجَسَارَة عَلَى التَّوَهُّم لِغَيْرِ ضَرُورَة وَعَدَم فَهُمْ بِمَعَانِي الْكَلَام إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِذَا وَإِذْ هُنَا لِأَنَّهُ وَصْف حَاله حِينَ اِنْحِدَاره فِيمَا مَضَى.
244- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ضَرْب مِنْ الرِّجَال» هُوَ بِإِسْكَانِ الرَّاء.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُوَ الرَّجُل بَيْن الرَّجُلَيْنِ فِي كَثْرَة اللَّحْم وَقِلَّته.
قَالَ الْقَاضِي: لَكِنْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ فيه مِنْ بَعْض الرِّوَايَات (مُضْطَرِب) وَهُوَ الطَّوِيل غَيْر الشَّدِيد وَهُوَ ضِدّ جَعْد اللَّحْم مُكْتَنِزه وَلَكِنْ يَحْتَمِل أَنَّ الرِّوَايَة الْأُولَى أَصَحّ يَعْنِي رِوَايَة ضَرْب لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (حَسِبْته قَالَ: مُضْطَرِب) فَقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة لِلشَّكِّ وَمُخَالَفَة الْأُخْرَى الَّتِي لَا شَكّ فيها فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، (جَسِيم سَبِط) وَهَذَا يَرْجِع إِلَى الطَّوِيل وَلَا يَتَأَوَّل جَسِيم بِمَعْنَى سَمِين لِأَنَّهُ ضِدّ ضَرْب، وَهَذَا إِنَّمَا جَاءَ فِي صِفَة الدَّجَّال. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ تَضْعِيف رِوَايَة مُضْطَرِب وَأَنَّهَا مُخَالِفَة لِرِوَايَةِ ضَرْب لَا يُوَافَق عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا مُخَالَفَة بَيْنهمَا فَقَدْ قَالَ أَهْل اللُّغَة: الضَّرْب هُوَ الرَّجُل الْخَفِيف اللَّحْم كَذَا قَالَهُ اِبْن السِّكِّيت فِي الْإِصْلَاح وَصَاحِب الْمُجْمَل وَالزُّبَيْدِيّ وَالْجَوْهَرِيّ وَآخَرُونَ لَا يُحْصَوْنَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (دَحْيَة بْن خَلِيفَة) هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
245- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجِل الرَّأْس» هُوَ بِكَسْرِ الْجِيم أَيْ رَجِل الشَّعْر، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى بَيَان تَرْجِيل الشَّعْر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَة عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَبْعَة أَحْمَر كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاس يَعْنِي حَمَّامًا» أَمَّا (الرَّبْعَة) فَبِإِسْكَانِ الْبَاء وَيَجُوز فَتْحهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بَيَان اللُّغَات فيه وَبَيَان مَعْنَاهُ.
وَأَمَّا (الدِّيمَاس) فَبِكَسْرِ الدَّال وَإِسْكَان الْيَاء وَالسِّين فِي آخِره مُهْمَلَة وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي بِالْحَمَّامِ وَالْمَعْرُوف عِنْد أَهْل اللُّغَة أَنَّ الدِّيمَاس هُوَ السِّرْب وَهُوَ أَيْضًا الْكِنّ قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيث: قَالَ بَعْضهمْ: الدِّيمَاس هُنَا هُوَ الْكِنّ أَيْ كَأَنَّهُ مُخَدَّر لَمْ يَرَ شَمْسًا قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: الْمُرَاد بِهِ السِّرْب وَمِنْهُ دَمَسْته إِذَا دَفَنْته.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه فِي هَذَا الْحَدِيث قَوْله (خَرَجَ مِنْ دِيمَاس) يَعْنِي فِي نَضَارَته وَكَثْرَة مَاء وَجْهه كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كِنّ لِأَنَّهُ قَالَ فِي وَصْفه كَأَنَّ رَأْسه يَقْطُر مَاء. وَذَكَرَ صَاحِب الْمَطَالِع الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فيه فَقَالَ: الدِّيمَاس قِيلَ هُوَ السِّرْب، وَقِيلَ الْكِنّ، وَقِيلَ الْحَمَّام، هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِالدِّيمَاسِ.
وَأَمَّا الْحَمَّام فَمَعْرُوف وَهُوَ مُذَكَّر بِاتِّفَاقِ أَهْل اللُّغَة.
وَقَدْ نَقَلَ الزُّهْرِيّ فِي تَهْذِيب اللُّغَة تَذْكِيره عَنْ الْعَرَب. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا وَصْف عِيسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامه فِي هَذِهِ الرِّوَايَة وَهِيَ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِأَنَّهُ أَحْمَر وَوَصَفَهُ فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَعْدَهَا بِأَنَّهُ آدَم، وَالْآدَم الْأَسْمَر.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ أَنْكَرَ رِوَايَة أَحْمَر وَحَلَفَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ يَعْنِي وَأَنَّهُ اِشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي فَيَجُوز أَنْ يُتَأَوَّل الْأَحْمَر عَلَى الْأَدَم، وَلَا يَكُون الْمُرَاد حَقِيقَة الْأُدْمَة وَالْحُمْرَة بَلْ مَا قَارَبَهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.