فصل: باب بَيَانِ أَنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا وَأَنَّهُ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب رَفْعِ الأَمَانَةِ وَالإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْقُلُوبِ وَعَرْضِ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ:

206- فيه قَوْل حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْت أَحَدهمَا وَأَنَا أَنْتَظِر الْآخَر إِلَى آخِره) وَفيه حَدِيث حُذَيْفَة الْآخَر فِي عَرْض الْفِتَن وَأَنَا أَذْكُر شَرْح لَفْظهمَا وَمَعْنَاهُمَا عَلَى تَرْتِيبهمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
فَأَمَّا الْحَدِيث الْأَوَّل فَقَالَ مُسْلِم: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَوَكِيع قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ زَيْد بْن وَهْب عَنْ حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ. وَحُذَيْفَة مَدَنِيّ كُوفِيّ وَقَوْله: عَنْ الْأَعْمَش عَنْ زَيْد، وَالْأَعْمَش مُدَلِّس وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُدَلِّس لَا يُحْتَجّ بِرِوَايَتِهِ إِذَا قَالَ: (عَنْ). وَجَوَابه مَا قَدَّمْنَاهُ مَرَّات فِي الْفُصُول وَغَيْرهَا أَنَّهُ ثَبَتَ سَمَاع الْأَعْمَش هَذَا الْحَدِيث مِنْ زَيْد مِنْ جِهَة أُخْرَى فَلَمْ يَضُرّهُ بَعْد هَذَا قَوْله فيه (عَنْ) وَأَمَّا قَوْل حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ فَمَعْنَاهُ: حَدَّثَنَا حَدِيثَيْنِ فِي الْأَمَانَة، وَإِلَّا فَرِوَايَات حُذَيْفَة كَثِيرَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: وَعَنَى بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ: قَوْله: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَة نَزَلَتْ فِي جَذْر قُلُوب الرِّجَال، وَبِالثَّانِي قَوْله: ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (أَنَّ الْأَمَانَة نَزَلَتْ فِي جَذْر قُلُوب الرِّجَال) أَمَّا (الْجَذْر) فَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْرهَا لُغَتَانِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فيهمَا وَهُوَ الْأَصْل قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَذْهَب الْأَصْمَعِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث فَتْح الْجِيم وَأَبُو عَمْرو يَكْسِرهَا.
وَأَمَّا الْأَمَانَة فَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِهَا التَّكْلِيف الَّذِي كَلَّفَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عِبَاده وَالْعَهْد الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ رَحِمَهُ اللَّه فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هِيَ الْفَرَائِض الَّتِي اِفْتَرَضَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد.
وَقَالَ الْحَسَن: هُوَ الدِّين، وَالدِّين كُلّه أَمَانَة.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: الْأَمَانَة مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ.
وَقَالَ مُقَاتِل: الْأَمَانَة الطَّاعَة.
قَالَ الْوَاحِدِيّ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ: فَالْأَمَانَة فِي قَوْل جَمِيعهمْ الطَّاعَة وَالْفَرَائِض الَّتِي يَتَعَلَّق بِأَدَائِهَا الثَّوَاب وَبِتَضْيِيعِهَا الْعِقَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير: الْأَمَانَة فِي الْحَدِيث هِيَ الْأَمَانَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة} وَهِيَ عَيْن الْإِيمَان فَإِذَا اِسْتَمْكَنَتْ الْأَمَانَة مِنْ قَلْب الْعَبْد قَامَ حِينَئِذٍ بِأَدَاءِ التَّكَالِيف، وَاغْتَنَمَ مَا يَرِد عَلَيْهِ مِنْهَا وَجَدَّ فِي إِقَامَتهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَظَلّ أَثَرهَا مِثْل الْوَكْت» فَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَإِسْكَان الْكَاف وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق وَهُوَ الْأَثَر الْيَسِير كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، وَقَالَ غَيْره: هُوَ سَوَاد يَسِير، وَقِيلَ: هُوَ لَوْن يَحْدُث مُخَالِفٌ لِلَّوْنِ الَّذِي كَانَ قَبْله.
وَأَمَّا (الْمَجْل) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْجِيم وَفَتْحهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا صَاحِب التَّحْرِير وَالْمَشْهُور الْإِسْكَان يُقَال مِنْهُ: مَجِلَتْ يَده بِكَسْرِ الْجِيم تَمْجَل بِفَتْحِهَا مَجَلًا بِفَتْحِهَا أَيْضًا وَمَجَلَتْ بِفَتْحِ الْجِيم تَمْجُل بِضَمِّهَا مَجْلًا بِإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَأَمْجَلَهَا غَيْرهَا قَالَ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب: الْمَجْل هُوَ التَّنَفُّط الَّذِي يَصِير فِي الْيَد مِنْ الْعَمَل بِفَأْسٍ أَوْ نَحْوهَا وَيَصِير كَالْقُبَّةِ فيه مَاء قَلِيل.
وَأَمَّا قَوْله: (كَجَمْرٍ دَحْرَجْته عَلَى رِجْلك فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فيه شَيْء) فَالْجَمْر وَالدَّحْرَجَة مَعْرُوفَانِ وَنَفِطَ بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْفَاء وَيُقَال تَنَفَّطَ بِمَعْنَاهُ وَمُنْتَبِرًا مُرْتَفِعًا. وَأَصْل هَذِهِ اللَّفْظَة الِارْتِفَاع، وَمِنْهُ الْمِنْبَر لِارْتِفَاعِهِ، وَارْتِفَاع الْخَطِيب عَلَيْهِ. وَقَوْله: نَفِطَ وَلَمْ يَقُلْ نَفِطَتْ مَعَ أَنَّ الرِّجْل مُؤَنَّثَة إِمَّا أَنْ يَكُون ذَكَّرَ نَفِطَ اِتِّبَاعًا لِلَّفْظِ الرِّجْل، وَإِمَّا أَنْ يَكُون إِتْبَاعًا لِمَعْنَى الرِّجْل وَهُوَ الْعُضْو.
وَأَمَّا قَوْله: (ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ) فَهَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَهُوَ ظَاهِر وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول (ثُمَّ أَخَذَ حَصَاة فَدَحْرَجَهُ) بِإِفْرَادِ لَفْظ الْحَصَاة وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا وَيَكُون مَعْنَاهُ دَحْرَجَ ذَلِكَ الْمَأْخُوذ أَوْ الشَّيْء وَهُوَ الْحَصَاة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْأَمَانَة تَزُول عَنْ الْقُلُوب شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا زَالَ أَوَّل جُزْء مِنْهَا زَالَ نُورهَا وَخَلَفَتْهُ ظُلْمَة كَالْوَكْتِ وَهُوَ اِعْتِرَاض لَوْن مُخَالِف لِلَّوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِذَا زَالَ شَيْء آخَر صَارَ كَالْمَجْلِ وَهُوَ أَثَر مُحْكَم لَا يَكَاد يَزُول إِلَّا بَعْدَ مُدَّة وَهَذِهِ الظُّلْمَة فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَال ذَلِكَ النُّور بَعْدَ وُقُوعه فِي الْقَلْب وَخُرُوجه بَعْدَ اِسْتِقْرَاره فيه وَاعْتِقَاب الظُّلْمَة إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجهُ عَلَى رِجْله حَتَّى يُؤَثِّر فيها ثُمَّ يَزُول الْجَمْر وَيَبْقَى التَّنَفُّط وَأَخْذه الْحَصَاة وَدَحْرَجَتِهِ إِيَّاهَا أَرَادَ بِهَا زِيَادَة الْبَيَان وَإِيضَاح الْمَذْكُور. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَان وَمَا أُبَالِي أَيّكُمْ بَايَعْت لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينه، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيه، وَأَمَّا الْيَوْم فَمَا كُنْت لِأُبَايِعَ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا) فَمَعْنَى الْمُبَايَعَة هُنَا الْبَيْع وَالشِّرَاء الْمَعْرُوفَانِ. وَمُرَاده أَنِّي كُنْت أَعْلَم أَنَّ الْأَمَانَة لَمْ تَرْتَفِع، وَأَنَّ فِي النَّاس وَفَاء بِالْعُهُودِ، فَكُنْت أُقْدِمُ عَلَى مُبَايَعَة مَنْ اِتَّفَقَ غَيْر بَاحِث عَنْ حَاله وُثُوقًا بِالنَّاسِ وَأَمَانَتهمْ؛ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَدِينه وَأَمَانَته تَمْنَعهُ مِنْ الْخِيَانَة وَتَحْمِلهُ عَلَى أَدَاء الْأَمَانَة، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَسَاعِيه وَهُوَ الْوَالِي عَلَيْهِ كَانَ أَيْضًا يَقُوم بِالْأَمَانَةِ فِي وِلَايَته فَيَسْتَخْرِج حَقِّي مِنْهُ، وَأَمَّا الْيَوْم فَقَدْ ذَهَبَتْ الْأَمَانَة فَمَا بَقِيَ لِي وُثُوق بِمَنْ أُبَايِعهُ، وَلَا بِالسَّاعِي فِي أَدَائِهِمَا الْأَمَانَة، (فَمَا أُبَايِع إِلَّا فُلَانًا) وَفُلَانًا يَعْنِي أَفْرَادًا مِنْ النَّاس أَعْرِفهُمْ وَأَثِق بِهِمْ.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير، وَالْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُمَا اللَّه: وَحَمَلَ بَعْض الْعُلَمَاء الْمُبَايَعَة هُنَا عَلَى بَيْعَة الْخِلَافَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمُعَاقَدَة وَالتَّحَالُف فِي أُمُور الدِّين.
قَالَا: وَهَذَا خَطَأ مِنْ قَائِله وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَوَاضِع تُبْطِل قَوْله. مِنْهَا قَوْله: (وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا) وَمَعْلُوم أَنَّ النَّصْرَانِيّ وَالْيَهُودِيّ لَا يُعَاقَد عَلَى شَيْء مِنْ أُمُور الدِّين. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب بَيَانِ أَنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا وَأَنَّهُ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ:

207- الْحَدِيث فِي عَرْض الْفِتَن فَفِي إِسْنَاده (سُلَيْمَان بْن حَيَّان) بِالْمُثَنَّاةِ و(رِبْعِيّ) بِكَسْرِ الرَّاء وَهُوَ اِبْن حِرَاش بِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة.
وَقَوْله: (فِتْنَة الرَّجُل فِي أَهْله وَجَاره تُكَفِّرهَا الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالصَّدَقَة) قَالَ أَهْل اللُّغَة: أَصْل الْفِتْنَة فِي كَلَام الْعَرَب الِابْتِلَاء وَالِامْتِحَان وَالِاخْتِبَار.
قَالَ الْقَاضِي: ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْف الْكَلَام لِكُلِّ أَمْر كَشَفَهُ الِاخْتِبَار عَنْ سُوء.
قَالَ أَبُو زَيْد. فُتِنَ الرَّجُل يُفْتَن فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَة، وَتَحَوَّلَ مِنْ حَال حَسَنَة إِلَى سَيِّئَة. وَفِتْنَة الرَّجُل فِي أَهْله، وَمَاله، وَوَلَده ضُرُوب مِنْ فَرْط مَحَبَّته لَهُمْ، وَشُحّه عَلَيْهِمْ، وَشُغْله بِهِمْ عَنْ كَثِير مِنْ الْخَيْر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالكُمْ وَأَوْلَادكُمْ فِتْنَة} أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَم مِنْ الْقِيَام بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبهمْ وَتَعْلِيمهمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُول عَنْ رَعِيَّته وَكَذَلِكَ فِتْنَة الرَّجُل فِي جَاره مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلّهَا فِتَن تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَة، وَمِنْهَا ذُنُوب يُرْجَى تَكْفِيرهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَات يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات}.
وَقَوْله: «الَّتِي تَمُوج كَمَا يَمُوج الْبَحْر» أَيْ تَضْرِب وَيَدْفَع بَعْضهَا بَعْضًا. وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْر لِشِدَّةِ عِظَمِهَا، وَكَثْرَة شُيُوعهَا.
وَقَوْله: (فَأَسْكَتَ الْقَوْم) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة الْمَفْتُوحَة.
قَالَ جُمْهُور أَهْل اللُّغَة سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: سَكَتَ صَمَتَ، وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ. وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْم لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْع مِنْ الْفِتْنَة، وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْع الْأَوَّل.
وَقَوْله: (لِلَّهِ أَبُوك) كَلِمَة مَدْح تَعْتَاد الْعَرَب الثَّنَاء بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَة إِلَى الْعَظِيم تَشْرِيف، وَلِهَذَا يُقَال بَيْت اللَّه.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: فَإِذَا وُجِدَ مِنْ الْوَلَد مَا يُحْمَد قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوك حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِك.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَض الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب كَالْحَصِيرِ عُودًا» هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطه عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه أَظْهَرهَا وَأَشْهَرهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْن وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة أَيْضًا، وَالثَّالِث بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَلَمْ يَذْكُر صَاحِب التَّحْرِير غَيْر الْأَوَّل.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاض فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُه الثَّلَاثَة عَنْ أَئِمَّتهمْ، وَاخْتَارَ الْأَوَّل أَيْضًا.
قَالَ: وَاخْتَارَ شَيْخنَا أَبُو الْحُسَيْن بْن سَرَّاج فَتْح الْعَيْن وَالدَّال الْمُهْمَلَة.
قَالَ: وَمَعْنَى (تُعْرَض) أَنَّهَا تُلْصَق بِعَرْضِ الْقُلُوب أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَق الْحَصِير بِجَنْبِ النَّائِم، وَيُؤَثِّر فيه شِدَّة اِلْتِصَاقهَا بِهِ.
قَالَ: وَمَعْنَى: «عُودًا عُودًا» أَيْ تُعَاد وَتُكَرَّر شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
قَالَ اِبْن سَرَّاج: وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فَمَعْنَاهُ سُؤَال الِاسْتِعَاذَة مِنْهَا كَمَا يُقَال غُفْرًا غُفْرًا، وَغُفْرَانك أَيْ نَسْأَلك أَنْ تُعِيذنَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ تَغْفِر لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان: مَعْنَاهُ تَظْهَر عَلَى الْقُلُوب أَيْ تَظْهَر لَهَا فِتْنَة بَعْد أُخْرَى. وَقَوْله: «كَالْحَصِيرِ» أَيْ كَمَا يُنْسَج الْحَصِير عُودًا عُودًا وَشَظِيَّة بَعْد أُخْرَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّح رِوَايَة ضَمّ الْعَيْن وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَر وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرَضَ الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَان الْحَصِير عَلَى صَانِعهَا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيث عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق لَفْظه وَصِحَّة تَشْبِيهه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيّ قَلْب أُشْرِبَهَا نُكِتَ فيه نُكْتَة سَوْدَاء، وَأَيّ قَلْب أَنْكَرَهَا نُكِتَ فيه نُكْتَة بَيْضَاء» مَعْنَى (أُشْرِبَهَا) دَخَلَتْ فيه دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلّ الشَّرَاب. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل} أَيْ حُبّ الْعِجْل، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: ثَوْب مُشْرَب بِحُمْرَةٍ: أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَة مُخَالَطَة لَا اِنْفِكَاك لَهَا. وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَة نُقِطَ نُقْطَة وَهِيَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فِي آخِره.
قَالَ: اِبْن دُرَيْدٍ وَغَيْره: كُلّ نُقْطَة فِي شَيْء بِخِلَافِ لَوْنه فَهُوَ نَكْت وَمَعْنَى (أَنْكَرَهَا) رَدَّهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تَصِير عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَض مِثْل الصَّفَا فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَة مَا دَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْآخَر أَسْوَد مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه لَيْسَ تَشْبِيهه بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَة أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْد الْإِيمَان وَسَلَامَته مِنْ الْخَلَل، وَأَنَّ الْفِتَن لَمْ تَلْصَق بِهِ، وَلَمْ تُؤَثِّر فيه كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجْر الْأَمْلَس الَّذِي لَا يَعْلَق بِهِ شَيْء.
وَأَمَّا قَوْله: (مُرْبَادًّا) فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتنَا وَأُصُول بِلَادنَا وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه خِلَافًا فِي ضَبْطه، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ (مُرْبَئِد) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة بَعْدَ الْبَاء قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ رِوَايَة أَكْثَر شُيُوخنَا. وَأَصْله أَنْ لَا يُهْمَز وَيَكُون (مُرْبَدّ) مِثْل مُسَوَّد وَمُحْمَرّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْد وَالْهَرَوِيّ وَصَحَّحَهُ بَعْض شُيُوخنَا عَنْ أَبِي مَرْوَان بْن سَرَّاج لِأَنَّهُ مِنْ اِرْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ اِحْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْد الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَال: اِرْبَأَدّ وَمُرْبَئِدّ وَالدَّال مُشَدَّدَة عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيره.
وَأَمَّا قَوْله: (مُجَخِّيًا) فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَة ثُمَّ جِيم مَفْتُوحَة ثُمَّ خَاء مُعْجَمَة مَكْسُورَة مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره. وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَاب بِقَوْلِهِ: مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْمَائِل.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ لِي اِبْن سَرَّاج: لَيْسَ قَوْله كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَاده بَلْ هُوَ وَصْف آخَر مِنْ أَوْصَافه بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَق بِهِ خَيْر وَلَا حِكْمَة. وَمِثْله بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: شَبَّهَ الْقَلْب الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِف الَّذِي لَا يَثْبُت الْمَاء فيه.
وَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِي دَخَلَ قَلْبه بِكُلِّ مَعْصِيَة يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَة، وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ اُفْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُور الْإِسْلَام. وَالْقَلْب مِثْل الْكُوز فَإِذَا اِنْكَبَّ اِنْصَبَّ مَا فيه وَلَمْ يَدْخُلهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْله فِي الْكِتَاب: (قُلْت لِسَعْدٍ: مَا أَسْوَد مُرْبَادًّا فَقَالَ: شِدَّة الْبَيَاض فِي سَوَاد) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: كَانَ بَعْض شُيُوخنَا يَقُول: إِنَّهُ تَصْحِيف، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيد الْكِنَانِيّ قَالَ: أَرَى أَنَّ صَوَابه شَبَّهَ الْبَيَاض فِي سَوَاد، وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّة الْبَيَاض فِي سَوَاد لَا يُسَمَّى رُبْدَة، وَإِنَّمَا يُقَال لَهَا (بُلْق) إِذَا كَانَ فِي الْجِسْم، وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْن. وَالرُّبْدَة إِنَّمَا هُوَ شَيْء مِنْ بَيَاض يَسِير يُخَالِط السَّوَاد كَلَوْنِ أَكْثَر النَّعَام، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ: رَبْدَاء فَصَوَابه: شَبَّهَ الْبَيَاض لَا شِدَّة الْبَيَاض.
قَالَ أَبُو عُبَيْد عَنْ أَبِي عَمْرو وَغَيْره: الرُّبْدَة لَوْن بَيْن السَّوَاد وَالْغَبَرَة.
وَقَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: الرُّبْدَة لَوْن أَكْدَر.
وَقَالَ غَيْره: هِيَ أَنْ يَخْتَلِط السَّوَاد بِكَدِرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيّ: لَوْن النَّعَام بَعْضه أَسْوَد وَبَعْضه أَبْيَض، وَمِنْهُ اِرْبَدَّ لَوْنه إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَاد.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ: الْمِرْبَد الْمُلَمَّع بِسَوَادٍ وَبَيَاض، وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنه أَيْ تَلَوَّنَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثْته أَنَّ بَيْنَك وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِك أَنْ يُكْسَر قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَك فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَاد) أَمَّا قَوْله: (إِنَّ بَيْنك وَبَيْنهَا بَابًا مُغْلَقًا) فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَن لَا يَخْرُج شَيْء مِنْهَا فِي حَيَاتك.
وَأَمَّا قَوْله: (يُوشِك) بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الشِّين وَمَعْنَاهُ يَقْرُب.
وَقَوْله: (أَكَسْرًا) أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُور لَا يُمْكِن إِعَادَته بِخِلَافِ الْمَفْتُوح، وَلِأَنَّ الْكَسْر لَا يَكُون غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاه وَغَلَبَة وَخِلَاف عَادَة.
وَقَوْله: (لَا أَبَا لَك) قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: هَذِهِ كَلِمَة تَذْكُرهَا الْعَرَب لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْء وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا كَانَ لَهُ أَب وَحَزَبَهُ أَمْر وَوَقَعَ فِي شِدَّة عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْض الْكُلّ فَلَا يَحْتَاج مِنْ الْجِدّ وَالِاهْتِمَام إِلَى مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ الِانْفِرَاد وَعَدَم الْأَب الْمُعَاوِن. فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَك فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْر وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّب مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِن. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَحَدِيثه أَنَّ ذَلِكَ الْبَاب رَجُل يُقْتَل أَوْ يَمُوت حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) أَمَّا الرَّجُل الَّذِي يُقْتَل فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيح أَنَّهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَوْله: (يُقْتَل أَوْ يَمُوت) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا عَلَى الشَّكّ وَالْمُرَاد بِهِ الْإِبْهَام عَلَى حُذَيْفَة وَغَيْره. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون حُذَيْفَة عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَل وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَاطِب عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْقَتْلِ؛ فَإِنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَعْلَم أَنَّهُ هُوَ الْبَاب كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيح أَنَّ عُمَر كَانَ يَعْلَم مَنْ الْبَاب كَمَا يَعْلَم أَنَّ قَبْل غَد اللَّيْلَة فَأَتَى حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِكَلَامٍ يَحْصُل مِنْهُ الْغَرَض مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ إِخْبَارًا لِعُمَرَ بِأَنَّهُ يُقْتَل.
وَأَمَّا قَوْله: (حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) فَهِيَ جَمْع أُغْلُوطَة وَهِيَ الَّتِي يُغَالَط بِهَا فَمَعْنَاهُ حَدَّثْته حَدِيثًا صِدْقًا مُحَقَّقًا لَيْسَ هُوَ مِنْ صُحُف الْكِتَابِيِّينَ وَلَا مِنْ اِجْتِهَاد ذِي رَأْي بَلْ مِنْ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَاصِل أَنَّ الْحَائِل بَيْن الْفِتَن وَالْإِسْلَام عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ الْبَاب فَمَا دَامَ حَيًّا لَا تَدْخُل الْفِتَن، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَتْ الْفِتَن وَكَذَا كَانَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: عَنْ رِبْعِيّ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَة مِنْ عِنْد عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا جَلَسَ فَحَدَّثَنَا فَقَالَ: إِنَّ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَمْس لَمَّا جَلَسْت إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابه أَيّكُمْ يَحْفَظ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتَن؟» إِلَى آخِره فَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ (أَمْس) لِزَمَانٍ الْمَاضِي لَا أَمْس يَوْمه، وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْم تَحْدِيثه؛ لِأَنَّ مُرَاده لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَة الْكُوفَة فِي اِنْصِرَافه مِنْ الْمَدِينَة مِنْ عِنْد عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَفِي (أَمْس) ثَلَاث لُغَات قَالَ الْجَوْهَرِيّ: أَمْس اِسْم حُرِّكَ آخِره لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَاخْتَلَفَ الْعَرَب فيه فَأَكْثَرهمْ يَبْنِيه عَلَى الْكَسْر مَعْرِفَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِبهُ مَعْرِفَة، وَكُلّهمْ يُعْرِبهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِف وَاللَّام أَوْ صَيَّرَهُ نَكِرَة أَوْ أَضَافَهُ تَقُول: مَضَى الْأَمْسُ الْمُبَارَك وَمَضَى أَمْسُنَا وَكُلّ غَد صَائِر أَمْسًا، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَ فِي الشِّعْر مُذْ أَمْس بِالْفَتْحِ. هَذَا كَلَام الْجَوْهَرِيّ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: قَالَ الْفَرَّاء: وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَخْفِض الْأَمْس وَإِنْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِف وَاللَّام. وَاَللَّه أَعْلَم.
208- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وَهُوَ يَأْرِز بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِز الْحَيَّة فِي جُحْرهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّ الْإِيمَان لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تَأْرِز الْحَيَّة إِلَى جُحْرهَا».
فيه (أَبُو حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة) وَاسْم أَبِي حَازِم هَذَا (سَلْمَان الْأَشْجَعِيُّ) مَوْلَى عَزَّة الْأَشْجَعِيَّة. وَتَقَدَّمَ أَنَّ اِسْم أَبِي هُرَيْرَة (عَبْد الرَّحْمَن بْن صَخْر) عَلَى الْأَصَحّ مِنْ نَحْو ثَلَاثِينَ قَوْلًا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا» كَذَا ضَبَطْنَاهُ (بَدَأَ) بِالْهَمْزِ مِنْ الِابْتِدَاء.
و: (طُوبَى) فُعْلَى مِنْ الطِّيب.
قَالَهُ الْفَرَّاء قَالَ: وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْوَاو لِضَمَّةِ الطَّاء.
قَالَ: وَفيها لُغَتَانِ تَقُول الْعَرَب (طُوبَاك) و(طُوبَى لَك).
وَأَمَّا مَعْنَى (طُوبَى) فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْن مَآب} فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ فَرَح وَقُرَّة عَيْن.
وَقَالَ عِكْرِمَة: نِعْمَ مَا لَهُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاك: غِبْطَة لَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْنَى لَهُمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا مَعْنَاهُ أَصَابُوا خَيْرًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم: خَيْر لَهُمْ وَكَرَامَة: وَقَالَ اِبْن عَجْلَان: دَوَام الْخَيْر.
وَقِيلَ: الْجَنَّة.
وَقِيلَ: شَجَرَة فِي الْجَنَّة. وَكُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَلَة فِي الْحَدِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.
209- وَفيه (شَبَابَةُ بْن سَوَّار) فَشَبَابَة بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة الْمُكَرَّرَة. و(سَوَّار) بِتَشْدِيدِ الْوَاو وَشَبَابَة لَقَب وَاسْمه مَرْوَان وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَفيه (عَاصِم بْن مُحَمَّد الْعُمَرِيّ) بِضَمِّ الْعَيْن وَهُوَ عَاصِم بْن مُحَمَّد بْن زَيْد بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهُوَ يَأْرِز» بِيَاءٍ مُثَنَّاة مِنْ تَحْت بَعْدهَا هَمْزَة ثُمَّ رَاء مَكْسُورَة ثُمَّ زَاي مُعْجَمَة. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَحَكَاهُ صَاحِب الْمَطَالِع مَطَالِع الْأَنْوَار عَنْ أَكْثَر الرُّوَاة.
قَالَ: أَبُو الْحُسَيْن بْن سَرَّاج: (لَيَأْرُز) بِضَمِّ الرَّاء وَحَكَى الْقَابِسِيّ فَتْح الرَّاء وَمَعْنَاهُ يَنْضَمّ وَيَجْتَمِع. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب. وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ غَيْر هَذَا مِمَّا لَا يَظْهَر.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْن الْمَسْجِدَيْنِ» أَيْ مَسْجِدَيْ مَكَّة وَالْمَدِينَة.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: فِي قَوْله (غَرِيبًا) رَوَى اِبْن أَبِي أُوَيْس عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْمَدِينَة وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ بِهَا غَرِيبًا وَسَيَعُودُ إِلَيْهَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِر الْحَدِيث الْعُمُوم وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالْإِخْلَال حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيث تَفْسِير (الْغُرَبَاء) وَهُمْ النُّزَّاع مِنْ الْقَبَائِل.
قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا أَوْطَانهمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
210- فيه: (خُبَيْب بْن عَبْد الرَّحْمَن) وَهُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَقَدَّمَ بَيَانه وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهُوَ يَأْرِز إِلَى الْمَدِينَة» مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَان أَوَّلًا وَآخِرًا بِهَذِهِ الصِّفَة لِأَنَّهُ فِي أَوَّل الْإِسْلَام كَانَ كُلّ مَنْ خَلَصَ إِيمَانه وَصَحَّ إِسْلَامه أَتَى الْمَدِينَة، إِمَّا مُهَاجِرًا مُسْتَوْطِنًا، وَإِمَّا مُتَشَوِّقًا إِلَى رُؤْيَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَعَلِّمًا مِنْهُ وَمُتَقَرِّبًا ثُمَّ بَعْدَهُ هَكَذَا فِي زَمَن الْخُلَفَاء كَذَلِكَ، وَلِأَخْذِ سِيرَة الْعَدْل مِنْهُمْ وَالِاقْتِدَاء بِجُمْهُورِ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ فيها ثُمَّ مَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْعُلَمَاء الَّذِينَ كَانُوا سُرُج الْوَقْت وَأَئِمَّة الْهُدَى لِأَخْذِ السُّنَن الْمُنْتَشِرَة بِهَا عَنْهُمْ فَكَانَ كُلّ ثَابِت الْإِيمَان مُنْشَرِح الصَّدْر بِهِ يَرْحَل إِلَيْهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلّ وَقْت إِلَى زَمَاننَا لِزِيَارَةِ قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّبَرُّك بِمَشَاهِدِهِ وَآثَاره وَآثَار أَصْحَابه الْكِرَام فَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا مُؤْمِن هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب ذَهَابِ الإِيمَانِ آخِرَ الزَّمَانِ:

211- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الْأَرْض: اللَّه اللَّه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَا تَقُوم السَّاعَة عَلَى أَحَد يَقُول: اللَّه اللَّه» أَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَة إِنَّمَا تَقُوم عَلَى شِرَار الْخَلْق كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَتَأْتِي الرِّيح مِنْ قِبَل الْيَمَن فَتَقْبِض أَرْوَاح الْمُؤْمِنِينَ عِنْد قُرْب السَّاعَة» وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَاب الرِّيح الَّتِي تَقْبِض أَرْوَاح الْمُؤْمِنِينَ بَيَان هَذَا وَالْجَمْع بَيْنه وَبَيْن قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة».
212- (عَبْد بْن حُمَيْدٍ) قِيلَ: اِسْمه عَبْد الْحَمِيد وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَفيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَحَد يَقُول اللَّه اللَّه» هُوَ بِرَفْعِ اِسْم اللَّه تَعَالَى وَقَدْ يَغْلَط فيه بَعْض النَّاس فَلَا يَرْفَعهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَات كُلّهَا مُتَّفِقَة عَلَى تَكْرِير اِسْم اللَّه تَعَالَى فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه وَفِي رِوَايَة اِبْن أَبِي جَعْفَر يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم.

.باب جَوَازِ الاِسْتِسْرَارِ لِلْخَائِفِ:

213- قَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَمُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر وَأَبُو كُرَيْبٍ وَاللَّفْظ لِأَبِي كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ شَقِيق عَنْ حُذَيْفَة قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظ الْإِسْلَام فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه أَتَخَافُ عَلَيْنَا نَحْنُ مَا بَيْن السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ؟ قَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تَبْتَلُوا قَالَ: فَابْتُلِينَا حَتَّى جَعَلَ الرَّجُل مِنَّا لَا يُصَلِّي إِلَّا سِرًّا» هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ.
وَأَمَّا مَتْنه فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْصُوا» مَعْنَاهُ عُدُّوا.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ (اُكْتُبُوا).
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ يَلْفِظ الْإِسْلَام» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَالْإِسْلَام مَنْصُوب مَفْعُول يَلْفِظ بِإِسْقَاطِ حَرْف الْجَرّ أَيْ يَلْفِظ بِالْإِسْلَامِ وَمَعْنَاهُ كَمْ عَدَد مَنْ يَتَلَفَّظ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَام؟ و(كَمْ) هُنَا اِسْتِفْهَامِيَّة وَمُفَسِّرهَا مَحْذُوف وَتَقْدِيره كَمْ شَخْصًا يَلْفِظ بِالْإِسْلَامِ؟ وَفِي بَعْض الْأُصُول (تَلَفَّظَ) بِتَاءِ مُثَنَّاة مِنْ فَوْق وَفَتْح اللَّام وَالْفَاء الْمُشَدَّدَة. وَفِي بَعْض الرِّوَايَات لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْره: «اُكْتُبُوا مَنْ يَلْفِظ بِالْإِسْلَامِ فَكَتَبْنَا». وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ وَغَيْره: «أَحْصُوا لِي مَنْ كَانَ يَلْفِظ بِالْإِسْلَامِ». وَفِي رِوَايَة أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيّ: «أَحْصُوا كُلّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ».
وَأَمَّا قَوْله: «وَنَحْنُ مَا بَيْن السِّتّمِائَةِ إِلَى السَّبْعمِائَةِ» فَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم وَهُوَ مُشْكِل مِنْ جِهَة الْعَرَبِيَّة وَلَهُ وَجْه وَهُوَ أَنْ يَكُون (مِائَة) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوبًا عَلَى التَّمْيِيز عَلَى قَوْل بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة، وَقِيلَ: إِنَّ (مِائَة) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَجْرُورَة عَلَى أَنْ تَكُون الْأَلِف وَاللَّام زَائِدَتَيْنِ، فَلَا اِعْتِدَاد بِدُخُولِهِمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة غَيْر مُسْلِم (سِتّمِائَةِ إِلَى سَبْعمِائَةِ) وَهَذَا ظَاهِر لَا إِشْكَال فيه مِنْ جِهَة الْعَرَبِيَّة، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسمِائَةِ فَقُلْنَا تَخَاف وَنَحْنُ أَلْف وَخَمْسمِائَةِ». وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا (فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسمِائَةِ).
وَقَدْ يُقَال: وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَلْفَاظ أَنْ يَكُون قَوْلهمْ أَلْف وَخَمْسمِائَةِ الْمُرَاد بِهِ النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَالرِّجَال، وَيَكُون قَوْلهمْ: سِتّمِائَةِ إِلَى سَبْعمِائَةِ الرِّجَال خَاصَّة، وَيَكُون خَمْسمِائَةِ الْمُرَاد بِهِ الْمُقَاتِلُونَ وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَاب بَاطِل بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيّ فِي أَوَاخِر كِتَاب السِّيَر فِي بَاب كِتَابَة الْإِمَام النَّاس قَالَ فيها: (فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسمِائَةِ رَجُل) وَالْجَوَاب الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُقَال لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ مَا بَيْن السِّتّمِائَةِ إِلَى السَّبْعمِائَةِ رِجَال الْمَدِينَة خَاصَّة، وَبِقَوْلِهِمْ فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسمِائَةِ هُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَوْلهمْ.
وَأَمَّا قَوْله: (اُبْتُلِينَا فَجَعَلَ الرَّجُل لَا يُصَلِّي إِلَّا سِرًّا) فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي بَعْض الْفِتَن الَّتِي جَرَتْ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَعْضهمْ يُخْفِي نَفْسه وَيُصَلِّي سِرًّا مَخَافَة مِنْ الظُّهُور وَالْمُشَارَكَة فِي الدُّخُول فِي الْفِتْنَة وَالْحُرُوب. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَأَلُّفِ قَلْبِ مَنْ يَخَافُ عَلَى إِيمَانِهِ لِضَعْفِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْقَطْعِ بِالإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ:

214- حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَمَّا أَلْفَاظه فَقَوْله: (قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا) هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ مُسْلِم» هُوَ بِإِسْكَانِ الْوَاو.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَخَافَة أَنْ يَكُبّهُ اللَّه فِي النَّار» يَكُبّهُ بِفَتْحِ الْيَاء يُقَال أَكَبَّ الرَّجُل وَكَبَّهُ اللَّه وَهَذَا بِنَاء غَرِيب فَإِنَّ الْعَادَة أَنْ يَكُون الْفِعْل اللَّازِم بِغَيْرِ هَمْزَة فَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَهُنَا عَكْسه وَالضَّمِير فِي (يَكُبّهُ) يَعُود عَلَى الْمُعْطِي أَيْ أَتَأَلَّف قَلْبه بِالْإِعْطَاءِ مَخَافَة مِنْ كُفْره إِذَا لَمْ يُعْطَ.
وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه فِي أَوَّل الْبَاب: (حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عُمَر قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَامِر) فَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: قَالَ الْحَافِظ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ: هَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا يَرْوِيهِ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَسَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَمُحَمَّد بْن الصَّبَّاحِ الْجُرْجَانِيّ كُلّهمْ عَنْ سُفْيَان عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ بِإِسْنَادِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَنْ سُفْيَان. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَن الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابه الِاسْتِدْرَاكَات قُلْت: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْإِسْنَاد قَدْ يُقَال: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَافَقُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّ سُفْيَان سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيّ مَرَّة وَسَمِعَهُ مِنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ مَرَّة فَرَوَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَقْدَح أَحَدهمَا فِي الْآخَر وَلَكِنْ اِنْضَمَّتْ أُمُور اِقْتَضَتْ مَا ذَكَرُوهُ. مِنْهَا أَنَّ سُفْيَان مُدَلِّس وَقَدْ قَالَ (عَنْ) وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَر أَصْحَابه رَوَوْهُ عَنْ مَعْمَر وَقَدْ يُجَاب عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه لَا يَرْوِي عَنْ مُدَلِّس قَالَ: (عَنْ) إِلَّا أَنْ يَثْبُت أَنَّهُ سَمِعَهُ مِمَّنْ عَنْعَنَ عَنْهُ. وَكَيْف كَانَ فَهَذَا الْكَلَام فِي الْإِسْلَام لَا يُؤَثِّر فِي الْمَتْن فَإِنَّهُ صَحِيح عَلَى كُلّ تَقْدِير مُتَّصِل. وَاَللَّه أَعْلَم.
215- وَقَوْله: «أَعْطَى رَهْطًا» أَيْ جَمَاعَة وَأَصْله الْجَمَاعَة دُون الْعَشَرَة.
وَقَوْله: «وَهُوَ أَعْجَبهُمْ إِلَيَّ» أَيْ أَفْضَلهمْ وَأَصْلَحهمْ فِي اِعْتِقَادِي.
وَقَوْله: «إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مِنْ: «لَأَرَاهُ» أَيْ لَأَعْلَمه وَلَا يَجُوز ضَمّهَا فَإِنَّهُ قَالَ: غَلَبَنِي مَا أَعْلَم مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ رَاجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث مَرَّات وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا بِاعْتِقَادِهِ لَمَا كَرَّرَ الْمُرَاجَعَة.
وَقَوْله: (عَنْ صَالِح عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِر بْن سَعْد) هَؤُلَاءِ ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُوَ مِنْ رِوَايَة الْأَكَابِر عَنْ الْأَصَاغِر فَإِنَّ صَالِحًا أَكْبَر مِنْ الزُّهْرِيّ.
وَأَمَّا فِقْهه وَمَعَانِيه فَفيه الْفَرْق بَيْن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة خِلَاف وَكَلَام طَوِيل.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَإِيضَاح شَرْحهَا فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان.
وَفيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ فِي قَوْلهمْ: إِنَّ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ لَا يَنْفَع إِلَّا إِذَا اِقْتَرَنَ بِهِ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّةِ وَغُلَاة الْمُرْجِئَة فِي قَوْلهمْ: يَكْفِي الْإِقْرَار. وَهَذَا خَطَأ ظَاهِر يَرُدّهُ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ وَالنُّصُوص فِي إِكْفَار الْمُنَافِقِينَ، وَهَذِهِ صِفَتهمْ.
وَفيه الشَّفَاعَة إِلَى وُلَاة الْأُمُور فِيمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ.
وَفيه مُرَاجَعَة الْمَسْئُول فِي الْأَمْر الْوَاحِد.
وَفيه تَنْبِيه الْمَفْضُول الْفَاضِل عَلَى مَا يَرَاهُ مَصْلَحَة.
وَفيه أَنَّ الْفَاضِل لَا يَقْبَل مَا يُشَار عَلَيْهِ بِهِ مُطْلَقًا بَلْ يَتَأَمَّلهُ فَإِنْ لَمْ تَظْهَر مَصْلَحَته لَمْ يَعْمَل بِهِ.
وَفيه الْأَمْر بِالتَّثْبِيتِ وَتَرْك الْقَطْع بِمَا لَا يُعْلَم الْقَطْع فيه.
وَفيه أَنَّ الْإِمَام يَصْرِف الْمَال فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمّ فَالْأَهَمّ.
وَفيه أَنَّهُ لَا يُقْطَع لِأَحَدٍ بِالْجَنَّةِ عَلَى التَّعْيِين إِلَّا مَنْ ثَبَتَ فيه نَصّ كَالْعَشَرَةِ وَأَشْبَاههمْ وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ عِنْد أَهْل السُّنَّة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ مُسْلِمًا» فَلَيْسَ فيه إِنْكَار كَوْنه مُؤْمِنًا بَلْ مَعْنَاهُ النَّهْي عَنْ الْقَطْع بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّ لَفْظَة (الْإِسْلَام) أَوْلَى بِهِ، فَإِنَّ الْإِسْلَام مَعْلُوم بِحُكْمِ الظَّاهِر، وَأَمَّا الْإِيمَان فَبَاطِن لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ زَعَمَ صَاحِب التَّحْرِير أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّ الرَّجُل لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، بَلْ فيه إِشَارَة إِلَى إِيمَانه فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي جَوَاب سَعْد: «إِنِّي لَأُعْطِيَ الرَّجُل وَغَيْره أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ» مَعْنَاهُ أُعْطِي مَنْ أَخَاف عَلَيْهِ لِضَعْفِ إِيمَانه أَنْ يَكْفُر، وَأَدَع غَيْره مِمَّنْ هُوَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ لِمَا أَعْلَمهُ مِنْ طُمَأْنِينَة قَلْبه وَصَلَابَة إِيمَانه.