فصل: باب بَيَانِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الإِيمَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فيه وَرُجْحَانِ أَهْلِ الْيَمَنِ فيه:

فِي هَذَا الْبَاب: «أَشَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْو الْيَمَنِ فَقَالَ: أَلَّا إِنَّ الْإِيمَان هَاهُنَا، وَإِنَّ الْقَسْوَة وَغِلَظ الْقُلُوب فِي الْفَدَّادِينَ عِنْد أُصُول أَذْنَاب الْإِبِل حَيْثُ يَطْلُع قَرْنَا الشَّيْطَان فِي رَبِيعَة وَمُضَر» وَفِي رِوَايَة: «جَاءَ أَهْل الْيَمَنِ هُمْ أَرَقّ أَفْئِدَة الْإِيمَان يَمَانٍ، وَالْفِقْه يَمَانٍ، وَالْحِكْمَة يَمَانِيَة» وَفِي رِوَايَة: «أَتَاكُمْ أَهْل الْيُمْن هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقّ أَفْئِدَة الْفِقْه يَمَانٍ، وَالْحِكْمَة يَمَانِيَة» وَفِي رِوَايَة: «رَأْس الْكُفْر نَحْو الْمَشْرِق، وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء فِي أَهْل الْخَيْل وَالْإِبِل الْفَدَّادِينَ أَهْل الْوَبَر، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْل الْغَنَم» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْإِيمَان يَمَانٍ، وَالْكُفْر قِبَل الْمَشْرِق وَالسَّكِينَة فِي أَهْل الْغَنَم، وَالْفَخْر وَالرِّيَاء فِي الْفَدَّادِينَ أَهْل الْخَيْل وَالْوَبَر» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَتَاكُمْ أَهْل الْيَمَن هُمْ أَلْيَن قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَة الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَة يَمَانِيَة، وَرَأْس الْكُفْر قِبَل الْمَشْرِق» وَفِي رِوَايَة: «غِلَظ الْقُلُوب وَالْجَفَاء فِي الْمَشْرِق، وَالْإِيمَان فِي أَهْل الْحِجَاز».
قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَوَاضِع هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ جَمَعَهَا الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه، وَنَقَّحَهَا مُخْتَصَرَة بَعْده الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه، وَأَنَا أَحْكِي مَا ذَكَرَهُ.
قَالَ: أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ نِسْبَة الْإِيمَان إِلَى أَهْل الْيَمَن فَقَدْ صَرَفُوهُ عَنْ ظَاهِره مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَبْدَأ الْإِيمَان مِنْ مَكَّة ثُمَّ مِنْ الْمَدِينَة حَرَسَهُمَا اللَّه تَعَالَى فَحَكَى أَبُو عُبَيْد إِمَامُ الْغَرْب ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَكَّة فَإِنَّهُ يُقَال: إِنَّ مَكَّة مِنْ تِهَامَة، وَتِهَامَة مِنْ أَرْض الْيَمَن.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد مَكَّة وَالْمَدِينَة، فَإِنَّهُ يُرْوَى فِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ بِتَبُوك، وَمَكَّة وَالْمَدِينَة حِينَئِذٍ بَيْنه وَبَيْن الْيَمَن، فَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَة الْيَمَن، وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدِينَة، فَقَالَ: الْإِيمَان يَمَان وَنَسَبهمَا إِلَى الْيَمَن لِكَوْنِهِمَا حِينَئِذٍ مِنْ نَاحِيَة الْيَمَن، كَمَا قَالُوا الرُّكْن الْيَمَانِيُّ وَهُوَ بِمَكَّة لِكَوْنِهِ إِلَى نَاحِيَة الْيَمَن.
وَالثَّالِث: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِير مِنْ النَّاس وَهُوَ أَحْسَنُهَا عِنْد أَبِي عُبَيْد أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْأَنْصَار لِأَنَّهُمْ يَمَانُونَ فِي الْأَصْل فَنَسَب الْإِيمَان إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَنْصَاره.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه: وَلَوْ جَمَعَ أَبُو عُبَيْد وَمَنْ سَلَكَ سَبِيله طُرُق الْحَدِيث بِأَلْفَاظِهِ كَمَا جَمَعَهَا مُسْلِم وَغَيْره، وَتَأَمَّلُوهَا لَصَارُوا إِلَى غَيْر مَا ذَكَرُوهُ، وَلَمَا تَرَكُوا الظَّاهِر، وَلَقَضَوْا بِأَنَّ الْمُرَاد الْيَمَن، وَأَهْل الْيَمَن عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُوم مِنْ إِطْلَاق ذَلِكَ؛ إِذْ مِنْ أَلْفَاظه أَتَاكُمْ أَهْل الْيَمَن وَالْأَنْصَار مِنْ جُمْلَة الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فَهُمْ إِذْن غَيْرهمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ أَهْل الْيَمَن» وَإِنَّمَا جَاءَ حِينَئِذٍ غَيْر الْأَنْصَار ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ بِمَا يَقْضِي بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِيمَان يَمَان فَكَانَ ذَلِكَ إِشَارَة لِلْإِيمَانِ إِلَى مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْل الْيَمَن لَا إِلَى مَكَّة وَالْمَدِينَة. وَلَا مَانِع مِنْ إِجْرَاء الْكَلَام عَلَى ظَاهِره، وَحَمْله عَلَى أَهْل الْيَمَن حَقِيقَة؛ لِأَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِشَيْءٍ وَقَوِيَ قِيَامه بِهِ، وَتَأَكَّدَ اِطِّلَاعه مِنْهُ، يُنْسَب ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَيْهِ إِشْعَارًا بِتَمَيُّزِهِ بِهِ، وَكَمَالِ حَاله فيه، وَهَكَذَا كَانَ حَال أَهْل الْيَمَن حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَان، وَحَال الْوَافِدِينَ مِنْهُ فِي حَيَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَعْقَاب مَوْته كَأُوَيْسِ الْقَرْنِيِّ، وَأَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيِّ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَشِبْههمَا مِمَّنْ سَلِمَ قَلْبُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانه فَكَانَتْ نِسْبَة الْإِيمَان إِلَيْهِمْ لِذَلِكَ إِشْعَارًا بِكَمَالِ إِيمَانهمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون فِي ذَلِكَ نَفْيٌ لَهُ عَنْ غَيْرهمْ، فَلَا مُنَافَاة بَيْنه وَبَيْن قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَان فِي أَهْل الْحِجَاز» ثُمَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْمَوْجُودُونَ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ لَا كُلّ أَهْل الْيَمَن فِي كُلّ زَمَان فَإِنَّ اللَّفْظ لَا يَقْتَضِيه. هَذَا هُوَ الْحَقّ فِي ذَلِكَ وَنَشْكُر اللَّه تَعَالَى عَلَى هِدَايَتنَا لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ الْفِقْه وَالْحِكْمَة فَالْفِقْه هُنَا عِبَارَة عَنْ الْفَهْم فِي الدِّين، وَاصْطَلَحَ بَعْد ذَلِكَ الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول عَلَى تَخْصِيص الْفِقْه بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْعَمَلِيَّة بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَعْيَانهَا.
وَأَمَّا الْحِكْمَة فَفيها أَقْوَال كَثِيرَة مُضْطَرِبَةٌ قَدْ اِقْتَصَرَ كُلٌّ مِنْ قَائِلِيهَا عَلَى بَعْض صِفَات الْحِكْمَة.
وَقَدْ صَفَا لَنَا مِنْهَا أَنَّ الْحِكْمَة عِبَارَة عَنْ الْعِلْم الْمُتَّصِف بِالْأَحْكَامِ، الْمُشْتَمِل عَلَى الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، الْمَصْحُوب بِنَفَاذِ الْبَصِيرَة وَتَهْذِيب النَّفْس، وَتَحْقِيق الْحَقّ، وَالْعَمَل بِهِ، وَالصَّدّ عَنْ اِتِّبَاع الْهَوَى وَالْبَاطِل. وَالْحَكِيمُ مَنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن دُرَيْدٍ: كُلُّ كَلِمَة وَعَظَتْك، وَزَجَرَتْك، أَوْ دَعَتْك إِلَى مَكْرُمَة، أَوْ نَهَتْك عَنْ قَبِيح، فَهِيَ حِكْمَة وَحُكْم. مِنْهُ قَوْل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ الشَّعْر حِكْمَةً» وَفِي بَعْض الرِّوَايَات حُكْمًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الشَّيْخ وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْيَن قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَة» الْمَشْهُور أَنَّ الْفُؤَاد هُوَ الْقَلْب. فَعَلَى هَذَا يَكُون كَرَّرَ لَفْظ الْقَلْب بِلَفْظَيْنِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَكْرِيره بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: الْفُؤَادُ غَيْر الْقَلْب، وَهُوَ عَيْن الْقَلْب، وَقِيلَ: بَاطِن الْقَلْب، وَقِيلَ: غِشَاء الْقَلْب.
وَأَمَّا وَصْفُهَا بِاللِّينِ وَالرِّقَّة وَالضَّعْف فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا ذَاتُ خَشْيَة وَاسْتِكَانَة سَرِيعَة الِاسْتِجَابَة وَالتَّأْثِير بِقَوَارِع التَّذْكِير سَالِمَة مِنْ الْغِلَظ وَالشِّدَّة وَالْقَسْوَة الَّتِي وَصَفَ بِهَا قُلُوب الْآخَرِينَ.
قَالَ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْفَدَّادِينَ» فَزَعَمَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيُّ أَنَّهُ بِتَخْفِيفِ الدَّال وَهُوَ جَمْع (فَدَّانٍ) بِتَشْدِيدِ الدَّال وَهُوَ عِبَارَة عَنْ الْبَقَر الَّتِي يُحْرَث عَلَيْهَا. حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْد، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْمُرَاد بِذَلِكَ أَصْحَابُهَا فَحَذَفَ الْمُضَاف. وَالصَّوَاب فِي (الْفَدَّادِينَ) بِتَشْدِيدِ الدَّال جَمْع (فَدَّاد) بِدَالَيْنِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَة. وَهَذَا قَوْل أَهْل الْحَدِيث، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَجُمْهُور أَهْل اللُّغَة. وَهُوَ مِنْ (الْفَدِيد) وَهُوَ الصَّوْت الشَّدِيد. فَهُمْ الَّذِينَ تَعْلُو أَصْوَاتهمْ فِي إِبِلهمْ، وَخَيْلهمْ وَحُرُوثِهِمْ، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى: هُمْ الْمُكْثِرُونَ مِنْ الْإِبِل الَّذِينَ يَمْلِك أَحَدُهُمْ الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا إِلَى الْأَلْف.
وَقَوْله (إِنَّ الْقَسْوَة فِي الْفَدَّادِينَ عِنْد أُصُول أَذْنَاب الْإِبِل) مَعْنَاهُ الَّذِينَ لَهُمْ جَلَبَة وَصِيَاح عِنْد سَوْقهمْ لَهَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَيْثُ يَطْلُع قَرْنَا الشَّيْطَان فِي رَبِيعَة وَمُضَر». قَوْله (رَبِيعَة وَمُضَر) بَدَل مِنْ الْفَدَّادِينَ، وَأَمَّا قَرْنَا الشَّيْطَان فَجَانِبَا رَأْسِهِ، وَقِيلَ: هُمَا جَمْعَاهُ اللَّذَانِ يُغْرِيهِمَا بِإِضْلَالِ النَّاس، وَقِيلَ: شِيعَتَاهُ مِنْ الْكُفَّار. وَالْمُرَاد بِذَلِكَ اِخْتِصَاص الْمَشْرِق بِمَزِيدٍ مِنْ تَسَلُّط الشَّيْطَان وَمِنْ الْكُفْر كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْو الْمَشْرِق» وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَهْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ ذَلِكَ، وَيَكُون حِين يَخْرُج الدَّجَّال مِنْ الْمَشْرِق. وَهُوَ فِيمَا بَيْن ذَلِكَ مَنْشَأ الْفِتَن الْعَظِيمَة، وَمَثَار الْكَفَرَة التُّرْك الْغَاشِمَة الْعَاتِيَة الشَّدِيدَة الْبَأْس.
قَالَ الشَّيْخ وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمَان وَيَمَانِيَة» هُوَ بِتَخْفِيفِ الْيَاء عِنْد جَمَاهِير أَهْل الْعَرَبِيَّة لِأَنَّ الْأَلِفَ الْمَزِيدَةَ فيه عِوَضٌ مِنْ يَاء النَّسَب الْمُشَدَّدَة فَلَا يُجْمَع بَيْنهمَا.
وَقَالَ اِبْن السَّيِّد فِي كِتَابه الِاقْتِضَاب: حَكَى الْمُبَرِّد وَغَيْره أَنَّ التَّشْدِيد لُغَة.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَذَا غَرِيب. قُلْت: وَقَدْ حَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَصَاحِبُ الْمَطَالِع وَغَيْرهمَا مِنْ الْعُلَمَاء عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْض الْعَرَب أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْيَمَانِيّ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَة وَأَنْشَدَ لِأُمَيَّة بْن خَلَفٍ: يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشِبّ كِيرًا وَيَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفَخْر وَالْخُيَلَاء» فَالْفَخْر هُوَ الِافْتِخَار، وَعَدُّ الْمَآثِر الْقَدِيمَة تَعْظِيمًا وَالْخُيَلَاء الْكِبْر وَاحْتِقَار النَّاس.
وَأَمَّا قَوْله: «فِي أَهْل الْخَيْل وَالْإِبِل الْفَدَّادِينَ أَهْل الْوَبَر» فَالْوَبَر وَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِبِل دُون الْخَيْل فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون قَدْ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ جَامِعِينَ بَيْن الْخَيْل وَالْإِبِل وَالْوَبَر.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّكِينَة فِي أَهْل الْغَنَم» فَالسَّكِينَة: الطُّمَأْنِينَة وَالسُّكُون. عَلَى خِلَاف مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَة الْفَدَّادِينَ. هَذَا آخِرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه وَفيه كِفَايَة فَلَا نُطَوِّل بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا أَسَانِيد الْبَاب فَقَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ: وَحَدَّثَنَا اِبْن نُمَيْر حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا اِبْن إِدْرِيسَ كُلّهمْ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَبِيب حَدَّثَنَا مُعْتَمِر عَنْ إِسْمَاعِيل قَالَ: سَمِعْت قَيْسًا يَرْوِي عَنْ أَبِي مَسْعُود)، هَؤُلَاءِ كُلّهمْ كُوفِيُّونَ إِلَّا يَحْيَى بْن حَبِيب وَمُعْتَمِرًا فَإِنَّهُمَا بَصْرِيَّانِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اِسْم اِبْن أَبِي شَيْبَة: عَبْدُ اللَّه اِبْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي شَيْبَة، وَأَنَّ أَبَا أُسَامَة: حَمَّاد بْن أُسَامَة، وَابْن نُمَيْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّد بْن الْعَلَاء، وَابْن إِدْرِيس عَبْد اللَّه، وَأَبُو خَالِد هُرْمُز، وَقِيلَ: سَعْد، وَقِيلَ: كَثِير. وَأَبُو مَسْعُود عُقْبَةُ بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَفِي الْإِسْنَاد الْآخَر الدَّارِمِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب أَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى جَدٍّ لِلْقَبِيلَةِ اِسْمه دَارِم، وَفيه أَبُو الْيَمَان وَاسْمه الْحَكَمُ بْن نَافِع، وَبَعْده أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّدُ بْن خَازِم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان بْن مِهْرَانَ، وَأَبُو صَالِح ذَكْوَانُ، وَابْن جُرَيْجٍ عَبْد الْمَلِكِ بْن عَبْد الْعَزِيز بْن جُرَيْجٍ، وَأَبُو الزُّبَيْر مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن تَدْرُس. وَكُلُّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا أَقْصِد بِتَكْرِيرِهِ وَذِكْرِهِ الْإِيضَاحَ لِمَنْ لَا يَكُون مِنْ أَهْل هَذَا الشَّأْن فَرُبَّمَا وَقَفَ عَلَى هَذَا الْبَاب، وَأَرَادَ مَعْرِفَة اِسْم بَعْض هَؤُلَاءِ لِيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُطَالَعَة تَرْجَمَته، وَمَعْرِفَة حَاله، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاض، فَسَهَّلْت عَلَيْهِ الطَّرِيق بِعِبَارَةٍ مُخْتَصَرَةٍ. وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
72- سبق شرحه بالباب.
73- سبق شرحه بالباب.
74- سبق شرحه بالباب.
75- سبق شرحه بالباب.
76- سبق شرحه بالباب.
77- سبق شرحه بالباب.
78- سبق شرحه بالباب.
79- سبق شرحه بالباب.
80- سبق شرحه بالباب.

.باب بَيَانِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الإِيمَانِ:

81- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول وَالرِّوَايَات وَلَا تُؤْمِنُوا بِحَذْفِ النُّون مِنْ آخِره وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» مَعْنَاهُ لَا يَكْمُل إِيمَانكُمْ وَلَا يَصْلُح حَالُكُمْ فِي الْإِيمَان إِلَّا بِالتَّحَابِّ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا» فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَا يَدْخُل الْجَنَّةِ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِل الْإِيمَان، فَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه. مَعْنَى الْحَدِيث لَا يَكْمُل إِيمَانُكُمْ إِلَّا بِالتَّحَابِّ. وَلَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة عِنْدَ دُخُول أَهْلهَا إِذَا لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ» فَهُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ. وَفيه الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَى إِفْشَاء السَّلَام وَبَذْله لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ؛ مَنْ عَرَفْت، وَمَنْ لَمْ تَعْرِف، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر. وَالسَّلَامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف، وَمِفْتَاح اِسْتِجْلَاب الْمَوَدَّة. وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ، وَإِظْهَار شِعَارهمْ الْمُمَيِّز لَهُمْ مِنْ غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمِلَل، مَعَ مَا فيه مِنْ رِيَاضَة النَّفْس، وَلُزُوم التَّوَاضُع، وَإِعْظَام حُرُمَات الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي صَحِيحه عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَان: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسك، وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاق مِنْ الْإِقْتَار). رَوَى غَيْر الْبُخَارِيِّ هَذَا الْكَلَام مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ، وَالسَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف، وَإِفْشَاء السَّلَام كُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِد. وَفيها لَطِيفَة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ رَفْع التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر وَالشَّحْنَاء وَفَسَاد ذَات الْبَيْن الَّتِي هِيَ الْحَالِقَة، وَأَنَّ سَلَامه لِلَّهِ لَا يَتْبَع فيه هَوَاهُ، وَلَا يَخُصّ أَصْحَابه وَأَحْبَابه بِهِ. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ:

82- فيه عَنْ تَمِيم الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «الدِّين النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» هَذَا حَدِيث عَظِيم الشَّأْن وَعَلَيْهِ مَدَار الْإِسْلَام كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحه.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ أَحَد أَرْبَاع الْإِسْلَام أَيْ أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي تَجْمَع أُمُورَ الْإِسْلَام فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ، بَلْ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ. وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ أَفْرَاد مُسْلِم، وَلَيْسَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ، وَلَا لَهُ فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ غَيْر هَذَا الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر مُقَدِّمَة الْكِتَاب بَيَان الِاخْتِلَاف فِي نِسْبَة تَمِيمٍ وَأَنَّهُ دَارِيٌّ أَوْ دَيْرِيٌّ.
وَأَمَّا شَرْح هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَة الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ.
قَالَ: وَيُقَال: هُوَ مِنْ وَجِيز الْأَسْمَاء، وَمُخْتَصَر الْكَلَام، وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كَلِمَة مُفْرَدَة يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَة عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَة. كَمَا قَالُوا فِي الْفَلَاح لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كَلِمَة أَجْمَع لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْهُ.
قَالَ: وَقِيلَ: النَّصِيحَة مَأْخُوذَة مِنْ نَصَحَ الرَّجُل ثَوْبه إِذَا خَاطَهُ. فَشَبَّهُوا فِعْل النَّاصِح فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاح الْمَنْصُوح لَهُ بِمَا يَسُدّهُ مِنْ خَلَل الثَّوْب.
قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَة مِنْ نَصَحْت الْعَسَلَ إِذَا صَفَّيْته مِنْ الشَّمْع، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْل مِنْ الْغِشّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَل مِنْ الْخَلْط.
قَالَ: وَمَعْنَى الْحَدِيث: عِمَاد الدِّين وَقِوَامه النَّصِيحَة. كَقَوْلِهِ: الْحَجُّ عَرَفَة أَيْ عِمَاده وَمُعْظَمه عَرَفَة.
وَأَمَّا تَفْسِير النَّصِيحَة وَأَنْوَاعهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء فيها كَلَامًا نَفِيسًا أَنَا أَضُمّ بَعْضه إِلَى بَعْض مُخْتَصَرًا. قَالُوا: أَمَّا النَّصِيحَة لِلَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَان بِهِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْإِلْحَاد فِي صِفَاته وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَال وَالْجَلَال كُلّهَا، وَتَنْزِيهه سُبْحَانه وَتَعَالَى مِنْ جَمِيع النَّقَائِص، وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَاب مَعْصِيَته، وَالْحُبّ فيه، وَالْبُغْض فيه، وَمُوَالَاة مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاة مَنْ عَصَاهُ، وَجِهَاد مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَالِاعْتِرَاف بِنِعْمَتِهِ، وَشُكْره عَلَيْهَا، وَالْإِخْلَاص فِي جَمِيع الْأُمُور، وَالدُّعَاء إِلَى جَمِيع الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة، وَالْحَثّ عَلَيْهَا، وَالتَّلَطُّف فِي جَمْع النَّاس، أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحْمه اللَّه: وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَة رَاجِعَة إِلَى الْعَبْد فِي نُصْحه نَفْسه، فَاَللَّه تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِح.
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِكِتَابِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى فَالْإِيمَان بِأَنَّهُ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَتَنْزِيله، لَا يُشْبِههُ شَيْءٌ مِنْ كَلَام الْخَلْق، وَلَا يَقْدِر عَلَى مِثْله أَحَد مِنْ الْخَلْق، ثُمَّ تَعْظِيمه وَتِلَاوَته حَقّ تِلَاوَته، وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوع عِنْدهَا، وَإِقَامَة حُرُوفه فِي التِّلَاوَة، وَالذَّبّ عَنْهُ لِتَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّض الطَّاعِنِينَ، وَالتَّصْدِيق بِمَا فيه، وَالْوُقُوف مَعَ أَحْكَامه، وَتَفَهُّم عُلُومه وَأَمْثَاله، وَالِاعْتِبَار بِمَوَاعِظِهِ، وَالتَّفَكُّر فِي عَجَائِبه، وَالْعَمَل بِمُحْكَمِهِ، وَالتَّسْلِيم لِمُتَشَابِهِهِ، وَالْبَحْث عَنْ عُمُومه وَخُصُوصه وَنَاسِخه وَمَنْسُوخه، وَنَشْر عُلُومه، وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَته.
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة، وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه، وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ، وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ، وَإِعْظَام حَقّه، وَتَوْقِيره، وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته، وَبَثّ دَعَوْته، وَنَشْرِ شَرِيعَته، وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا، وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا، وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا، وَالدُّعَاء إِلَيْهَا، وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا، وَإِعْظَامهَا، وَإِجْلَالهَا، وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا، وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فيها بِغَيْرِ عِلْم، وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا، وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ، وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه، وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته، أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ، وَطَاعَتُهُمْ فيه، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ، وَتَأَلُّف قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِمْ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَمِنْ النَّصِيحَة لَهُمْ الصَّلَاة خَلْفهمْ، وَالْجِهَاد مَعَهُمْ، وَأَدَاء الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ، وَتَرْك الْخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَة، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِب عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَحَكَاهُ أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُتَأَوَّل ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّة الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاء الدِّين، وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتهمْ قَبُول مَا رَوَوْهُ، وَتَقْلِيدهمْ فِي الْأَحْكَام، وَإِحْسَان الظَّنِّ بِهِمْ.
وَأَمَّا نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاة الْأَمْر فَإِرْشَادهمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتهمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ فَيُعَلِّمهُمْ مَا يَجْهَلُونَهُ مِنْ دِينهمْ، وَيُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل، وَسِتْر عَوْرَاتهمْ، وَسَدّ خَلَّاتهمْ، وَدَفْع الْمَضَارّ عَنْهُمْ، وَجَلْب الْمَنَافِع لَهُمْ، وَأَمْرهمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيهمْ عَنْ الْمُنْكَر بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ، وَتَوْقِير كَبِيرهمْ، وَرَحْمَة صَغِيرهمْ، وَتَخَوُّلهمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة، وَتَرْك غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر، وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَكْرُوه، وَالذَّبّ عَنْ أَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل، وَحَثّهمْ عَلَى التَّخَلُّق بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاع النَّصِيحَة، وَتَنْشِيط هَمِّهِمْ إِلَى الطَّاعَات.
وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مَنْ تَبْلُغ بِهِ النَّصِيحَة إِلَى الْإِضْرَار بِدُنْيَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
هَذَا آخِر مَا تَلَخَّصَ فِي تَفْسِير النَّصِيحَة.
قَالَ اِبْن بَطَّال رَحِمَهُ اللَّه فِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ النَّصِيحَة تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا وَأَنَّ الدِّين يَقَع عَلَى الْعَمَل كَمَا يَقَع عَلَى الْقَوْل.
قَالَ: وَالنَّصِيحَة فَرْضٌ يَجْزِي فيه مَنْ قَامَ بِهِ، وَيَسْقُط عَنْ الْبَاقِينَ.
قَالَ: وَالنَّصِيحَة لَازِمَة عَلَى قَدْر الطَّاقَة إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَل نُصْحه، وَيُطَاع أَمْرُهُ، وَأَمِنَ عَلَى نَفْسه الْمَكْرُوه. فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسه أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِأَسَانِيد الْبَاب فَفيه أُمَيَّة بْن بِسْطَامٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمُقَدِّمَة الْخِلَاف فِي أَنَّهُ هَلْ يُصْرَف أَوْ لَا يُصْرَف؟ وَفِي أَنَّ الْبَاء مَكْسُورَة عَلَى الْمَشْهُور، وَأَنَّ صَاحِب الْمَطَالِع حَكَى أَيْضًا فَتْحَهَا.
83- وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر وَأَبُو أُسَامَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ) فَهَذَا إِسْنَاد كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
وَأَمَّا حَدِيث جَرِير رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «بَايَعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة وَالنُّصْح لِكُلِّ مُسْلِم» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة فَلَقَّنَنِي فِيمَا اِسْتَطَعْت» وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاة وَالزَّكَاة لِكَوْنِهِمَا قَرِينَتَيْنِ، وَهُمَا أَهَمّ أَرْكَان الْإِسْلَام بَعْد الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَظْهَرهَا. وَلَمْ يَذْكُر الصَّوْم وَغَيْره لِدُخُولِهَا فِي السَّمْع وَالطَّاعَة.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ جَرِير مَنْقَبَة وَمَكْرُمَة لِجَرِيرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَوَاهَا الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ. اِخْتِصَارُهَا: أَنَّ جَرِيرًا أَمَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ فَرَسًا فَاشْتَرَى لَهُ فَرَسًا بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَم، وَجَاءَ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ لِيَنْقُدَهُ الثَّمَنَ، فَقَالَ جَرِير لِصَاحِبِ الْفَرَس: فَرَسُك خَيْرٌ مِنْ ثَلَثمِائَةِ دِرْهَم. أَتَبِيعُهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَم؟ قَالَ ذَلِكَ إِلَيْك يَا أَبَا عَبْد اللَّه. فَقَالَ: فَرَسُك خَيْر مِنْ ذَلِكَ. أَتَبِيعُهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَم؟ ثُمَّ لَمْ يَزُلْ يَزِيدُهُ مِائَة، فَمِائَة، وَصَاحِبه يَرْضَى، وَجَرِيرٌ يَقُول: فَرَسَك خَيْر إِلَى أَنْ بَلَغَ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَم. فَاشْتَرَاهُ بِهَا. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي بَايَعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْح لِكُلِّ مُسْلِم. وَاَللَّه أَعْلَم.
84- وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَسَانِيد الْبَاب فَفيه زِيَاد بْن عِلَاقَةَ بِكَسْرِ الْعَيْن وَبِالْقَافِ.
85- وَأَمَّا قَوْله: (حَدَّثَنَا سُرَيْج وَيَعْقُوب قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ سَيَّار عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ)، ثُمَّ قَالَ مُسْلِم فِي آخِره: (قَالَ يَعْقُوب فِي رِوَايَته: حَدَّثَنَا سَيَّار) فَفيه تَنْبِيه عَلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ هُشَيْمًا مُدَلِّس وَقَدْ قَالَ (عَنْ) سَيَّار وَالْمُدَلِّس: إِذَا قَالَ: (عَنْ)، لَا يُحْتَجُّ بِهِ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ سَمَاعه مِنْ جِهَة أُخْرَى. فَرَوَى مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه حَدِيثه هَذَا عَنْ شَيْخَيْنِ وَهُمَا سُرَيْجٌ وَيَعْقُوبُ.
فَأَمَّا سُرَيْجٌ فَقَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ سَيَّار.
وَأَمَّا يَعْقُوب فَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْم قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّار. فَبَيَّنَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه اِخْتِلَافُ عِبَارَة الرَّاوِيَيْنِ فِي نَقْلِهِمَا عِبَارَته، وَحَصَلَ مِنْهُمَا اِتِّصَال حَدِيثه، وَلَمْ يَقْتَصِر مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَذَا مِنْ عَظِيم إِتْقَانه، وَدَقِيق نَظَرِهِ، وَحُسْن اِحْتِيَاطه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَسَيَّار بِتَقْدِيمِ السِّين عَلَى الْيَاء. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا اِسْتَطَعْت» مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وَالرِّوَايَة (اِسْتَطَعْت) بِفَتْحِ التَّاء. وَتَلْقِينُهُ مِنْ كَمَالِ شَفَقَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَدْ يَعْجِز فِي بَعْض الْأَحْوَال. فَلَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا اِسْتَطَاعَ لَأَخَلَّ بِمَا اِلْتَزَمَ فِي بَعْض الْأَحْوَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِأَسَانِيد الْبَاب فَفيه سُرَيْج بْن يُونُس بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِالْجِيمِ. وَفيه الدَّوْرَقِيُّ بِفَتْحِ الدَّال، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَة بَيَان هَذِهِ النِّسْبَة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي وَنَفيه عَنِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمَعْصِيَةِ:

86- فِي الْبَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن، وَلَا يَسْرِق السَّارِق حِين يَسْرِق وَهُوَ مُؤْمِن، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْر حِين يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِن» الْحَدِيث وَفِي رِوَايَة: «وَلَا يَغُلُّ أَحَدكُمْ حِين يَغُلّ وَهُوَ مُؤْمِن» وَفِي رِوَايَة (وَالتَّوْبَة مَعْرُوضَة بَعْد)، هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ. فَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِي وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان. وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تُطْلَق عَلَى نَفْيِ الشَّيْء وَيُرَاد نَفْي كَمَالِهِ وَمُخْتَاره كَمَا يُقَال: لَا عِلْم إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة. وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ وَغَيْره: «مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» وَحَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا، وَلَا يَعْصُوا إِلَى آخِره. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَته، وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَب فَهُوَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَعَ نَظَائِرهمَا فِي الصَّحِيح مَعَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر غَيْر الشِّرْك، لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ نَاقِصُو الْإِيمَان. إِنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتهمْ، وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِر كَانُوا فِي الْمَشِيئَة. فَإِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة أَوَّلًا، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة. وَكُلّ هَذِهِ الْأَدِلَّة تَضْطَرُّنَا إِلَى تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث وَشِبْهِهِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّأْوِيل ظَاهِرٌ سَائِغ فِي اللُّغَة مُسْتَعْمَلٌ فيها كَثِير. وَإِذَا وَرَدَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ظَاهِرًا وَجَبَ الْجَمْع بَيْنهمَا.
وَقَدْ وَرَدَا هُنَا فَيُجِبْ الْجَمْع وَقَدْ جَمَعْنَا. وَتَأَوَّلَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ مَعَ عِلْمه بِوُرُودِ الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ.
وَقَالَ الْحَسَن وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ يُنْزَع مِنْهُ اِسْم الْمَدْح الَّذِي يُسَمَّى بِهِ أَوْلِيَاء اللَّه الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَحِقُّ اِسْم الذَّمّ فَيُقَال: سَارِق، وَزَانٍ وَفَاجِر، وَفَاسِق. وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: يُنْزَع مِنْهُ نُور الْإِيمَان. وَفيه حَدِيث مَرْفُوع.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: يُنْزَع مِنْهُ بَصِيرَته فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث. وَمَا أَشْبَهَهُ، يُؤْمَنُ بِهَا، وَيُمَرُّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَلَا يُخَاض فِي مَعْنَاهَا وَأَنَّا لَا نَعْلَم مَعْنَاهَا.
وَقَالَ: أَمِرُّوهَا كَمَا أَمَرَّهَا مَنْ قَبْلكُمْ. وَقِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيث غَيْر مَا ذَكَرْته مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ بَعْضهَا غَلَطٌ، فَتَرَكْتهَا. وَهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكَرْتهَا فِي تَأْوِيله كُلُّهَا مُحْتَمَلَة. وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى الْحَدِيث مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن وَهْب: أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ: سَمِعْت أَبَا سَلَمَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُولَانِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن» إِلَى آخِره قَالَ اِبْن شِهَاب فَأَخْبَرَنِي عَبْد الْمَلِكِ بْن أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ أَبَا بَكْر كَانَ يُحَدِّثُهُمْ هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ يَقُول: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: «وَلَا يَنْتَهِب نُهْبَة ذَات شَرَف يَرْفَع النَّاس إِلَيْهِ فيها أَبْصَارهمْ حِين يَنْتَهِبهَا وَهُوَ مُؤْمِن» فَظَاهِر هَذَا الْكَلَام أَنَّ قَوْله: «وَلَا يَنْتَهِب» إِلَى آخِره لَيْسَ مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَام أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه فِي ذَلِكَ كَلَامًا حَسَنًا فَقَالَ: رَوَى أَبُو نُعَيْم فِي مُخَرَّجه عَلَى كِتَاب مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه مِنْ حَدِيث هَمَّام بْن مُنَبَّه هَذَا الْحَدِيث، وَفيه: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْتَهِب أَحَدكُمْ» وَهَذَا مُصَرَّح بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: وَلَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ ذِكْر هَذَا بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيث اللَّيْث بِإِسْنَادِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم عَنْهُ مَعْطُوفًا فيه ذِكْر النُّهْبَة عَلَى مَا بَعْد قَوْله قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَقًا مِنْ غَيْر فَصْل بِقَوْلِهِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُلْحِق مَعَهُنَّ ذَلِكَ. وَذَلِكَ مُرَاد مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَاقْتَصَّ الْحَدِيث يَذْكُر مَعَ ذِكْر النُّهْبَة وَلَمْ يَذْكُر ذَات شَرَف وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا فِي الِاسْتِدْلَال عَلَى كَوْن النُّهْبَة مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ قِبَل الْمُدْرَج فِي الْحَدِيث مِنْ كَلَام بَعْضِ رُوَاته اِسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُلْحِق مَعَهُنَّ. وَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْم يَرْتَفِع عَنْ أَنْ يَتَطَرَّق إِلَيْهِ هَذَا الِاحْتِمَال. وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْل أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُلْحِق مَعَهُنَّ مَعْنَاهُ يُلْحِقهَا رِوَايَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنْ عِنْد نَفْسه، وَكَأَنَّ أَبَا بَكْر خَصَّهَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ بَلَغَهُ أَنَّ غَيْره لَا يَرْوِيهَا. وَدَلِيل ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ رِوَايَة مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة عُقَيْل أَنَّ اِبْن شِهَاب عَنْ أَبِي سَلَمَة وَابْن الْمُسَيَّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِنْ غَيْر ذِكْر النُّهْبَة. ثُمَّ إِنَّ فِي رِوَايَة عُقَيْل أَنَّ اِبْن شِهَاب رَوَى ذِكْرَ النُّهْبَة عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن نَفْسه وَفِي رِوَايَة يُونُس عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي عِكْرِمَة عَنْهُ. فَكَأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ اِبْنه عَنْهُ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُ نَفْسه.
وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيث يَذْكُر مَعَ ذِكْر النُّهْبَة) فَكَذَا وَقَعَ يَذْكُر مِنْ غَيْر هَاء الضَّمِير فَإِمَّا أَنْ يُقَال حَذَفَهَا مَعَ إِرَادَتهَا، وَإِمَّا أَنْ يُقْرَأَ (يُذْكَر) بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الْكَاف عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، عَلَى أَنَّهُ حَال، أَيْ اِقْتَصَّ الْحَدِيث مَذْكُورًا مَعَ ذِكْر النُّهْبَة. هَذَا آخَر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (ذَات شَرَف) فَهُوَ فِي الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة وَالْأُصُول الْمَشْهُورَة الْمُتَدَاوَلَة بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ جَمِيع الرُّوَاة لِمُسْلِمٍ. وَمَعْنَاهُ ذَات قَدْر عَظِيم، وَقِيلَ ذَات اِسْتِشْرَاف يَسْتَشْرِف النَّاس لَهَا نَاظِرِينَ إِلَيْهَا رَافِعِينَ أَبْصَارهمْ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره رَحِمَهُمْ اللَّه: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيُّ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَكَذَا قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ فِي كِتَاب مُسْلِمٍ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَيْضًا ذَات قَدْر عَظِيم. وَاَللَّه أَعْلَم.
(وَالنُّهْبَة) بِضَمِّ النُّون وَهِيَ مَا يَنْهَبهُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَغُلّ» فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمَّ الْغَيْن وَتَشْدِيد اللَّام وَرَفْعهَا، وَهُوَ مِنْ الْغُلُول، وَهُوَ الْخِيَانَة.
وَأَمَّا قَوْله: «فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ» فَهَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات إِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَاهُ اِحْذَرُوا اِحْذَرُوا. يُقَال: إِيَّاكَ وَفُلَانًا أَيْ اِحْذَرْهُ، وَيُقَال إِيَّاكَ أَيْ اِحْذَرْ مِنْ غَيْر ذِكْر فُلَان كَمَا وَقَعَ هُنَا.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِالْإِسْنَادِ فَفيه حَرْمَلَة التُّجِيبِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَّات أَنَّهُ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْحهَا.
وَفيه عُقَيْل عَنْ اِبْن شِهَاب وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ بِضَمِّ الْعَيْن.
وَفيه الدَّرَاوَرْدِيُّ بِفَتْحِ الدَّال وَالْوَاو وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي بَاب الْأَمْر بِقِتَالِ النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
87- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّوْبَة مَعْرُوضَة بَعْد» فَظَاهِر وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى قَبُول التَّوْبَة مَا لَمْ يُغَرْغِر، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث. وَلِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَة أَرْكَان: أَنْ يُقْلِع عَنْ الْمَعْصِيَة وَيَنْدَم عَلَى فِعْلهَا وَيَعْزِم أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهَا فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْطُل تَوْبَته وَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِآخَر صَحَّتْ تَوْبَته. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ. وَخَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَة فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَشَارَ بَعْض الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ مَا فِي الْحَدِيث تَنْبِيه عَلَى جَمِيع أَنْوَاع الْمَعَاصِي وَالتَّحْذِير مِنْهَا: فَنَبَّهَ بِالزِّنَا عَلَى جَمِيع الشَّهَوَات، وَبِالسَّرِقَةِ عَلَى الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا وَالْحِرْص عَلَى الْحَرَام، وَبِالْخَمْرِ عَلَى جَمِيع مَا يَصُدّ عَنْ اللَّه تَعَالَى وَيُوجِب الْغَفْلَة عَنْ حُقُوقه، وَبِالِانْتِهَابِ الْمَوْصُوف عَنْ الِاسْتِخْفَاف بِعِبَادِ اللَّه تَعَالَى وَتَرْكِ تَوْقِيرهمْ وَالْحَيَاء مِنْهُمْ وَجَمْع الدُّنْيَا مِنْ غَيْر وَجْهِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.