فصل: الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن صلاة الجماعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


صلاة التّوبة

التّعريف

1 - الصّلاة تقدّم تعريفها ‏(‏ر‏:‏ صلاة‏)‏‏.‏

والتّوبة لغةً‏:‏ مطلق الرّجوع، والرّجوع عن الذّنب‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الرّجوع من أفعال مذمومة إلى أفعال محمودة شرعاً‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - صلاة التّوبة مستحبّة باتّفاق المذاهب الأربعة‏.‏

وذلك لما رواه أبو بكر رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من رجل يذنب ذنبًا ثمّ يقوم فيتطهّر ثمّ يصلّي ثمّ يستغفر اللّه إلاّ غفر اللّه له‏.‏‏.‏ ثمّ قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏}‏»‏.‏

صَلاَةُ الجماعة

التّعريف

1 - المقصود بصلاة الجماعة‏:‏ فعل الصّلاة في جماعة‏.‏

فضل صلاة الجماعة

2 - لصلاة الجماعة فضل كبير، وقد حثّ عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عدّة أحاديث منها‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجةً» وفي رواية أخرى‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً»‏.‏

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال «لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل، ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التّهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصّبح لأتوهما ولو حبواً»‏.‏

وعن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنّما صلّى اللّيل كلّه»‏.‏

ولأهمّيّتها يقول الفقهاء‏:‏ الصّلاة في الجماعة معنى الدّين، وشعار الإسلام، ولو تركها أهل مصر قوتلوا، وأهل حارة جبروا عليها وأكرهوا‏.‏

الحكم التّكليفيّ

للفقهاء في بيان حكم صلاة الجماعة أقوال مختلفة، وبيانها فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الجماعة في الفرائض

3 - ذهب الحنفيّة - في الأصحّ - وأكثر المالكيّة، وهو قول للشّافعيّة، إلى أنّ صلاة الجماعة في الفرائض سنّة مؤكّدة للرّجال، وهي شبيهة بالواجب في القوّة عند الحنفيّة‏.‏ وصرّح بعضهم بأنّها واجبة - حسب اصطلاحهم - واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً» وفي رواية‏:‏ «بخمس وعشرين درجةً»، فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجماعة لإحراز الفضيلة، وذا آية السّنن، وقال عبد اللّه بن مسعود في الصّلوات‏:‏ إنّها من سنن الهدي‏.‏ وذهب الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم -، إلى أنّها فرض كفاية، وهو قول بعض فقهاء الحنفيّة، كالكرخيّ والطّحاويّ، وهو ما نقله المازريّ عن بعض المالكيّة‏.‏

واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصّلاة إلاّ قد استحوذ عليهم الشّيطان، فعليك بالجماعة فإنّما يأكل الذّئب القاصية»‏.‏

وقد فصّل بعض المالكيّة فقالوا‏:‏ إنّها فرض كفاية من حيث الجملة أي بالبلد، فيقاتل أهلها عليها إذا تركوها، وسنّة في كلّ مسجد وفضيلة للرّجل في خاصّة نفسه‏.‏

وذهب الحنابلة، وهو قول للحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّها واجبة وجوب عين وليست شرطاً لصحّة الصّلاة، خلافاً لابن عقيل من الحنابلة، الّذي ذهب إلى أنّها شرط في صحّتها قياساً على سائر واجبات الصّلاة‏.‏

واستدلّ الحنابلة بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ‏}‏ فأمر اللّه تعالى بالجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى‏.‏

وبما رواه أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«والّذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب، فيحطب ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها، ثمّ آمر رجلاً فيؤمّ النّاس، ثمّ أخالف إلى رجال لا يشهدون الصّلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم»‏.‏

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ «أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إنّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخّص له، فيصلّي في بيته فرخّص له، فلمّا ولّى دعاه فقال‏:‏ هل تسمع النّداء بالصّلاة‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأجب» وإذا لم يرخّص للأعمى الّذي لم يجد قائداً فغيره أولى‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ إنّ تارك الجماعة يقاتل وإن أقامها غيره، لأنّ وجوبها على الأعيان‏.‏

4 - والجماعة في صلاة الخوف عند الشّافعيّة أفضل من الانفراد لعموم الأخبار في صلاة الجماعة، كما في الأمن‏.‏ وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الخوف‏)‏‏.‏

5- أمّا بالنّسبة لصلاة الجمعة فإنّ الجماعة شرط في صحّتها، فلا تصحّ بغير جماعة، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ صلاة الجمعة‏)‏‏.‏

6- والجماعة في صلاة الجنازة ليست بشرط، بل سنّة، وقال ابن رشد‏:‏ إنّ الجماعة شرط فيها كالجمعة، والمشهور عند المالكيّة أنّها مندوبة‏.‏

حكم صلاة جماعة النّساء

7 - ما سبق من حكم صلاة الجماعة إنّما هو بالنّسبة للرّجال‏.‏

أمّا بالنّسبة للنّساء‏:‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة يسنّ لهنّ الجماعة منفردات عن الرّجال، سواء أأمّهنّ رجل أم امرأة، لفعل عائشة وأمّ سلمة - رضي الله تعالى عنهما - وقد «أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ورقة بأن تجعل لها مؤذّناً يؤذّن لها وأمرها أن تؤمّ أهل دارها» ولأنّهنّ من أهل الفرض، فأشبهن الرّجال‏.‏

أمّا الحنفيّة فإنّ الجماعة للنّساء عندهم مكروهة، ولأنّ خروجهنّ إلى الجماعات قد يؤدّي إلى فتنة‏.‏

ومنع المالكيّة جماعة النّساء، لأنّ من شروط الإمام أن يكون ذكراً فلا تصحّ إمامة المرأة لرجال، ولا لنساء مثلها، وإنّما يصحّ للمرأة حضور جماعة الرّجال إذا لم تكن مخشيّة الفتنة‏.‏

الجماعة في غير الفرائض

8 - الجماعة في صلاة العيدين شرط صحّة عند الحنفيّة والحنابلة، وسنّة عند المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ الجماعة سنّة في صلاة الكسوف‏.‏

وسوّى الشّافعيّة والحنابلة بين الكسوف والخسوف في سنّيّة الجماعة فيهما‏.‏

أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يرون صلاة الجماعة في صلاة الخسوف‏.‏

والجماعة في صلاة الاستسقاء سنّة عند المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، ومحمّد، وأبي يوسف خلافاً لأبي حنيفة، فإنّه لا يرى فيها صلاةً أصلاً‏.‏

والجماعة في صلاة التّراويح سنّة عند الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة ومستحبّة عند المالكيّة‏.‏ والجماعة في صلاة الوتر سنّة في شهر رمضان عند الحنابلة، ومستحبّة عند الشّافعيّة وفي قول عند الحنفيّة‏.‏

وتجوز الجماعة في غير ما ذكر من صلاة التّطوّع عند جمهور الفقهاء وقالوا‏:‏ يجوز التّطوّع جماعةً وفرادى، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما، وكان أكثر تطوّعه منفرداً، «وصلّى بحذيفة مرّةً، وبأنس وأمّه واليتيم مرّةً، وأمّ أصحابه في بيت عتبان مرّةً كذلك»‏.‏

وعن ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - «أنّه أمّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم»‏.‏

والمالكيّة قيّدوا الجواز بما إذا كانت الجماعة قليلةً، وكان المكان غير مشتهر، فإن كثر العدد كرهت الجماعة، وكذلك تكره لو كانت الجماعة قليلةً والمكان مشتهراً‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ الجماعة في النّفل في غير رمضان مكروهة‏.‏

من يطالب بالجماعة

9 - يطالب بصلاة الجماعة - سواء كان الطّلب على سبيل الوجوب، أو على سبيل السّنّيّة-‏:‏ الرّجال الأحرار العقلاء القادرون عليها دون حرج، فلا تجب على النّساء والعبيد والصّبيان وذوي الأعذار‏.‏ ومع ذلك تصحّ منهم صلاة الجماعة، وتنعقد بهم، على ما هو مبيّن بعد ذلك، وقد استحبّ الشّافعيّة، والحنابلة جماعة النّساء، وقرّر الحنابلة أنّه يكره للحسناء حضور الجماعة مع الرّجال، خشية الافتتان بها، ويباح لغيرها حضور الجماعة‏.‏

العدد الّذي تنعقد به الجماعة

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ أقلّ عدد تنعقد به الجماعة اثنان، وهو أن يكون مع الإمام واحد، فيحصل لهما فضل الجماعة، لما روى أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اثنان فما فوقهما جماعة» ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث‏:‏ «إذا حضرت الصّلاة فليؤذّن أحدكما وليؤمّكما أكبركما» وسواء أكان ذلك في المسجد أم في غيره كالبيت والصّحراء‏.‏

وسواء أكان الّذي يصلّي مع الإمام رجلاً أم امرأةً‏.‏ فمن صلّى إماماً لزوجته حصل لهما فضل الجماعة‏.‏

واختلف الفقهاء في انعقاد الجماعة في صلاة الفريضة لو كان الواحد مع الإمام صبيّاً مميّزاً، إذ غير المميّز لا تنعقد به جماعة بالاتّفاق‏.‏

فذهب الحنفيّة والشّافعيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى انعقادها باقتداء الصّبيّ مع حصول فضل الجماعة «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرّجل الّذي فاتته الجماعة‏:‏ من يتصدّق على هذا»، ولأنّه يصحّ أن يكون إماماً، وهو متنفّل، فجاز أن يكون مأموماً بالمفترض كالبالغ‏.‏

وعند المالكيّة - وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد - لا يحصل فضل الجماعة باقتداء الصّبيّ في الفرض، لأنّ صلاة الصّبيّ نفل، فكأنّ الإمام صلّى منفرداً‏.‏

وأمّا في التّطوّع فيصحّ باقتداء الصّبيّ، ويحصل فضل الجماعة، وهذا باتّفاق‏.‏ «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ابن عبّاس مرّةً وهو صبيّ، وأمّ حذيفة مرّةً أخرى»‏.‏

ويختلف العدد بالنّسبة لإظهار الشّعيرة في البلدة أو القرية، إذ أنّ صلاة الجماعة من شعائر الإسلام، ولو تركها أهل قرية قوتلوا عليها، ولذلك قال المالكيّة‏:‏ قوتلوا عليها لتفريطهم في الشّعيرة، ولا يخرج أهل البلد عن العهدة إلاّ بجماعة أقلّها ثلاثة‏:‏ إمام ومأمومان، ومؤذّن يدعو للصّلاة، وموضع معدّ لها، وهو المسجد‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن امتنع أهل القرية قوتلوا، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصّلاة إلاّ استحوذ عليهم الشّيطان، فعليك بالجماعة، فإنّما يأكل الذّئب القاصية» فتجب بحيث يظهر الشّعار بإقامتها بمحلّ في القرية الصّغيرة والكبيرة بمحالّ يظهر بها الشّعار، ويسقط الطّلب بطائفة وإن قلّت‏.‏

ويرى المالكيّة‏:‏ أنّ الإمام الرّاتب بمسجد أو غيره إذا جاء في وقته المعتاد له، فلم يجد أحدًا يصلّي معه، فصلّى منفرداً، بعد أن أذّن وأقام فإنّه يعتبر كالجماعة فضلاً وحكماً، ويحصل له فضل الجماعة إن نوى الإمامة، لأنّه لا تتميّز صلاته منفرداً عن صلاته إماماً إلاّ بالنّيّة، ولذلك لا يعيد في أخرى، ولا يصلّي بعده جماعةً، ويجمع ليلة المطر‏.‏

والأحكام الّتي سبقت بالنّسبة للعدد الّذي تنعقد به الجماعة إنّما هو في غير الجمعة والعيد، إذ فيهما يختلف العدد - ولكلّ مذهب رأيه في تحديد العدد، حسبما يستند إليه من أدلّة‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏صلاة الجمعة وصلاة العيدين‏)‏‏.‏

أفضل مكان لصلاة الجماعة

11 - تجوز إقامة صلاة الجماعة في أيّ مكان طاهر، في البيت أو الصّحراء أو المسجد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ»‏.‏ «وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لرجلين‏:‏ إذا صلّيتما في رحالكما، ثمّ أتيتما مسجد جماعة، فصلّيا معهم، فإنّها لكما نافلة» إلاّ أنّ الجماعة للفرائض في المسجد أفضل منها في غير المسجد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة»، ولأنّ المسجد مشتمل على الشّرف والطّهارة، كما أنّ إقامتها في المسجد فيه إظهار الشّعائر وكثرة الجماعة‏.‏

والصّلاة في المساجد الّتي يكثر فيها النّاس أفضل من الصّلاة في المساجد الّتي يقلّ فيها النّاس، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة الرّجل مع الرّجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرّجل مع الرّجلين أزكى من صلاته مع الرّجل، وما كانوا أكثر فهو أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ» وإن كان في جواره أو غير جواره مسجد لا تنعقد فيه الجماعة إلاّ بحضوره، ففعلها فيه أفضل وأولى من فعلها في المسجد الّذي يكثر فيه النّاس، لأنّه يعمّره بإقامة الجماعة فيه وبذلك تحصل الجماعة في مسجدين‏.‏

وإذا كانت الجماعة في المسجد أفضل من إقامتها في البيت فإنّه لو كان إذا ذهب الإنسان إلى المسجد، وترك أهل بيته لصلّوا فرادى، أو لتهاونوا أو تهاون بعضهم في الصّلاة، أو لو صلّى في بيته لصلّى جماعةً، وإذا صلّى في المسجد صلّى وحده فصلاته في بيته أفضل‏.‏ وإن كان البلد ثغراً فالأفضل اجتماع النّاس في مسجد واحد، ليكون أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وإذا جاءهم خبر عن عدوّهم سمعه جميعهم، وإن أرادوا التّشاور في أمر حضر جميعهم، وإن جاء عين الكفّار رآهم فأخبر بكثرتهم‏.‏

والصّلاة في المساجد الثّلاثة‏:‏ - المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى - وإن قلّت الجماعة فيها أفضل منها في غيرها من المساجد وإن كثرت الجماعة فيها، بل قال بعض الفقهاء‏:‏ الانفراد فيها أفضل من الجماعة في غيرها‏.‏

وأمّا النّوافل فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏«صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة»‏.‏ لكن ما شرعت له الجماعة من السّنن فهو مستثنًى من الحديث، وصلاته في المسجد أفضل من صلاته في البيت‏.‏

وما سبق من أفضليّة صلاة الجماعة في المسجد إنّما هو بالنّسبة للرّجال، أمّا بالنّسبة للنّساء فالجماعة لهنّ في البيت أفضل منها في المسجد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها»‏.‏

ما تدرك به الجماعة

12 - يفرّق بعض الفقهاء بين إدراك فضيلة الجماعة، وبين ثبوت حكم الجماعة، ويختلفون في القدر الّذي تدرك به فضيلة الجماعة‏.‏ ويختلفون كذلك في القدر الّذي يثبت به حكم الجماعة‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ ما تدرك به فضيلة الجماعة‏:‏

13 - اختلف الفقهاء في القدر الّذي تدرك به فضيلة الجماعة، فعند الحنفيّة والحنابلة، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة، وهو قول ابن يونس وابن رشد من المالكيّة تدرك فضيلة الجماعة باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته، ولو في القعدة الأخيرة قبل السّلام، لأنّه أدرك جزءاً من الصّلاة، فأشبه ما لو أدرك ركعةً، ولأنّ من أدرك آخر الشّيء فقد أدركه، ولأنّه لو لم يدرك فضل الجماعة بذلك لمنع من الاقتداء، لأنّه يكون حينئذ زيادة بلا فائدة، لكن ثوابه يكون دون ثواب من أدركها من أوّلها‏.‏

ومقابل الصّحيح عند الشّافعيّة - وهو قول خليل والدّردير وابن الحاجب من المالكيّة - لا تدرك فضيلة الجماعة إلاّ بإدراك ركعة كاملة، لأنّ الصّلاة كلّها ركعة مكرّرة‏.‏

ويشترط لحصول فضل الجماعة نيّة الاقتداء من المأموم، ليحوز فضل الجماعة وهذا باتّفاق، أمّا نيّة الإمام الإمامة ففيها خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏إمامة واقتداء‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يثبت به حكم الجماعة وما يترتّب عليه من أحكام

14 - المقصود بحكم الجماعة - كما يفسّره المالكيّة - أنّ من ثبت له حكم الجماعة لا يقتدى به، ولا يعيد في جماعة، ويصحّ استخلافه، ويترتّب عليه سجود سهو الإمام‏.‏ وحكم الجماعة هذا لا يثبت عند المالكيّة إلاّ بإدراك ركعة كاملة بسجدتيها مع الإمام‏.‏

أمّا عند الحنفيّة‏:‏ فلا تدرك الجماعة إلاّ بإدراك ركعاتها كلّها في الجملة‏.‏ يقول صاحب الدّرّ المختار وشرحه‏:‏ لا يكون مصلّياً جماعةً اتّفاقاً ‏(‏أي بين فقهاء المذهب‏)‏ من أدرك ركعةً من ذوات الأربع، أو من الصّلاة الثّنائيّة أو الثّلاثيّة، لأنّه منفرد ببعضها، لكنّه أدرك فضلها ولو بإدراك التّشهّد‏.‏ وكذا مدرك الثّلاث لا يكون مصلّياً بجماعة على الأظهر‏.‏ وقال السّرخسيّ‏:‏ للأكثر حكم الكلّ، لكن صاحب البحر ضعّفه‏.‏

إعادة الصّلاة جماعةً لمن صلّى منفرداً أو في جماعة

15 - من أدّى الصّلاة المكتوبة منفرداً ثمّ وجد جماعةً استحبّ له أن يدخل مع الجماعة لتحصيل الفضل، لما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنّه صلّى في مسجد الخيف، فرأى رجلين خلف الصّفّ لم يصلّيا معه، فقال‏:‏ عليّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال‏:‏ ما منعكما أن تصلّيا معنا‏؟‏ فقالا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّا كنّا قد صلّينا في رحالنا، قال‏:‏ فلا تفعلا،إذا صلّيتما في رحالكما ثمّ أتيتما مسجد جماعة، فصلّيا معهم، فإنّها لكما نافلة» وعن أبي ذرّ - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخّرون الصّلاة عن وقتها، أو يميتون الصّلاة عن وقتها‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ صلّ الصّلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ، فإنّها لك نافلة»‏.‏

وهذا باتّفاق، من حيث طلب الإعادة لتحصيل الفضل - وللفقهاء تفصيل في استثناء بعض الصّلوات من استحباب الإعادة - فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لا تعاد صلاة المغرب، لأنّ التّنفّل بالثّلاث بعد المغرب مكروه، ولا نظير له في الشّرع، فإذا أعادها شفع بجعلها أربعاً أو اقتصر على اثنتين، وتصير نافلةً، كمن دخل مع الإمام في ثانية المغرب، أمّا إن أتمّ مع الإمام الثّلاث سهواً لا يسلّم معه، وأتى برابعة وجوبًا، وسجد للسّهو‏.‏ وزاد الحنفيّة عدم إعادة العصر والفجر، لكراهة النّفل بعدهما، وهو محكيّ عن بعض الشّافعيّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لو أوتر بعد العشاء فلا يعيد العشاء، لأنّه إن أعاد الوتر لزم مخالفة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا وتران في ليلة»، وإن لم يعده لزم مخالفة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجعلوا آخر صلاتكم وتراً»‏.‏

والصّلاة المعادة تكون نافلةً، وهذا قول الحنفيّة والحنابلة، وهو قول الشّافعيّ في الجديد، لأنّ الفرض لا يتكرّر في وقت واحد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يفوّض في الثّانية أمره إلى اللّه تعالى في قبول أيّ من الصّلاتين لفرضه، وهو قول الشّافعيّ في القديم‏.‏

وقال سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ‏:‏ تكون المعادة مع الجماعة هي المكتوبة، لما روي في حديث يزيد بن عامر بن الأسود أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ «إذا جئت إلى الصّلاة فوجدت النّاس فصلّ معهم، وإن كنت قد صلّيت تكن لك نافلةً وهذه مكتوبة»‏.‏

هذا بالنّسبة لمن صلّى منفرداً‏.‏ أمّا بالنّسبة لمن صلّى المكتوبة في جماعة ثمّ وجد جماعةً أخرى فقد ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى استحباب إعادة الصّلاة مرّةً أخرى في الجماعة الثّانية، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الصّبح، فرأى رجلين لم يصلّيا معه فقال‏:‏ ما منعكما أن تصلّيا معنا‏؟‏ قالا‏:‏ صلّينا في رحالنا فقال‏:‏ إذا صلّيتما في رحالكما ثمّ أتيتما مسجد جماعة فصلّيا معهم فإنّها لكما نافلة»‏.‏

فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلّيتما» يصدق بالانفراد والجماعة‏.‏ وروى الأثرم عن الإمام أحمد قال‏:‏ سألت أبا عبد اللّه عمّن صلّى في جماعة ثمّ دخل المسجد - وهم يصلّون - أيصلّي معهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وقد روى أنس قال‏:‏ صلّى بنا أبو موسى الغداة في المربد، فانتهينا إلى المسجد الجامع، فأقيمت الصّلاة، فصلّينا مع المغيرة بن شعبة‏.‏ وعن صلة عن حذيفة أنّه أعاد الظّهر والعصر والمغرب وكان قد صلّاهنّ في جماعة‏.‏

وذهب المالكيّة - وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى أنّ من صلّى في جماعة فلا يعيدها في جماعة أخرى، لأنّه حصّل فضيلة الجماعة فلا معنى للإعادة بخلاف المنفرد، واستثنى المالكيّة المسجد الحرام، ومسجد المدينة وبيت المقدس‏.‏ قالوا‏:‏ يجوز لمن صلّى جماعةً في غير هذه المساجد أن يعيد فيها جماعةً، لفضل تلك البقاع‏.‏

تكرار الجماعة في مسجد واحد‏:‏

16 - يكره تكرار الجماعة في مسجد الحيّ الّذي له إمام وجماعة معلومون، لما روى أبو بكرة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصّلاة، فوجد النّاس قد صلّوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلّى بهم» ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لما تركها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع علمه بفضل الجماعة في المسجد، وورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلّوا في المسجد فرادى، ولأنّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة، لأنّ النّاس إذا علموا أنّهم تفوتهم الجماعة يستعجلون، فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنّها لا تفوتهم يتأخّرون ؛ فتقلّ الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه، وهذا رأي جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - في الجملة، إذ هناك بعض القيود مع شيء من التّفصيل لكلّ مذهب‏.‏ فالحنفيّة يقيّدون كراهة التّكرار بما إذا صلّى في مسجد الحيّ أهله بأذان وإقامة، فإذا صلّى فيه أوّلاً غير أهله أو صلّى فيه أهله بدون أذان وإقامة لا يكره تكرار الجماعة فيه‏.‏ كذلك روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّه يكره التّكرار إذا كانت الجماعة الثّانية كثيرةً، فأمّا إذا كانوا ثلاثةً أو أربعةً، فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلّوا بجماعة فلا يكره‏.‏ وروي عن محمّد‏:‏ أنّه يكره التّكرار إذا كانت الجماعة الثّانية على سبيل التّداعي والاجتماع، فأمّا إذا لم يكن فلا يكره‏.‏

وروي عن أبي يوسف‏:‏ أنّه إذا لم تكن الجماعة الثّانية على الهيئة الأولى لا تكره، وإلاّ تكره - وهو الصّحيح - وبالعدول عن المحراب تختلف الهيئة‏.‏

ويقول المالكيّة‏:‏ يجوز للإمام الرّاتب الجمع - يعني أن يصلّي جماعةً - إن جمع غيره قبله بغير إذنه إن لم يؤخّر عن عادته كثيراً، فإن أذن لأحد أن يصلّي مكانه، أو أخّر عن عادته تأخيراً كثيراً يضرّ بالمصلّين فجمعوا، كره للإمام الجمع حينئذ‏.‏ وبناءً على كراهة إعادة الصّلاة جماعةً في المسجد الّذي له إمام راتب فإنّه إذا دخل جماعة المسجد بعدما صلّى أهله فيه ففي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة يصلّون وحداناً‏.‏

وعند المالكيّة يندب خروجهم من المسجد ليجمعوا خارجه، أو مع إمام راتب آخر، ولا يصلّون في هذا المسجد أفذاذاً ؛ لفوات فضل الجماعة، إلاّ بالمساجد الثّلاثة ‏"‏ مكّة والمدينة والأقصى ‏"‏، فلا يخرجون إذا وجدوا الإمام قد صلّى ويصلّون فيها أفذاذاً ؛ لفضل فذّها على جماعة غيرها، وهذا إن دخلوها فوجدوا الرّاتب قد صلّى، وأمّا إن علموا بصلاته قبل دخولهم فإنّهم يجمعون خارجها، ولا يدخلونها ليصلّوا أفذاذاً‏.‏

وبعد أن ذكر الشّافعيّة كراهة إعادة صلاة الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب، قالوا‏:‏ ومن حضر ولم يجد إلاّ من صلّى استحبّ لبعض من حضر أن يصلّي معه ؛ ليحصل له فضل الجماعة، لما روى أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - «أنّ رجلاً جاء، وقد صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من يتصدّق على هذا‏؟‏ فقام رجل فصلّى معه»‏.‏

وهذا بناءً على قولهم بأنّ الجماعة الثّانية إنّما تكره إذا لم يأذن الإمام، فإن أذن فلا كراهة‏.‏ هذا بالنّسبة لمسجد الحيّ الّذي له إمام راتب‏.‏

17 - أمّا المسجد الّذي في سوق، أو في الطّرق وممرّ النّاس، فإنّه يجوز تكرار الجماعة فيه، ولا تكره ؛ لأنّ النّاس فيه سواء، لا اختصاص له بفريق دون فريق‏.‏

مثل ذلك المسجد الّذي ليس له إمام ولا مؤذّن، ويصلّي النّاس فيه فوجاً فوجاً، فإنّ الأفضل أن يصلّي كلّ فريق بأذان وإقامة، وهذا باتّفاق‏.‏

وذهب الحنابلة إلى عدم كراهة إعادة الجماعة في المسجد، ولو كان مسجد الحيّ وله إمام راتب، بل قالوا‏:‏ إذا صلّى إمام الحيّ، حضر جماعة أخرى استحبّ لهم أن يصلّوا جماعةً، وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنّخعيّ وقتادة وإسحاق ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجةً» وفي رواية‏:‏ «بسبع وعشرين درجةً»، وروى أبو سعيد قال‏:‏ «جاء رجل وقد صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من يتصدّق على هذا‏؟‏ فقام رجل فصلّى معه»، وروى الأثرم بإسناده عن أبي أمامة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله وزاد قال‏:‏ «فلمّا صلّيا قال‏:‏ وهذان جماعة»‏.‏ ولأنّه قادر على الجماعة، فاستحبّ له فعلها، كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس وهذا فيما عدا إعادة الجماعة في المساجد الثّلاثة، فقد روي عن الإمام أحمد، وبعض المالكيّة كراهة إعادة الجماعة فيها، وفي رأي آخر عند الحنابلة لا تكره، وخالف في ذلك بعض المالكيّة حيث أفتى بالجواز‏.‏

الصّلاة عند قيام الجماعة

18 - من دخل المسجد، وقد أخذ المؤذّن في إقامة الصّلاة فلا يجوز له الانشغال عنها بنافلة، سواء أخشي فوات الرّكعة الأولى أم لم يخش فواتها ؛ لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة» ولأنّ ما يفوته مع الإمام أفضل ممّا يأتي به، فلا يشتغل به، وقد روت السّيّدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصّلاة، فرأى ناساً يصلّون، فقال‏:‏ أصلاتان معاً‏؟‏»‏.‏ وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وبهذا قال أبو هريرة، وابن عمر، وعروة، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وإسحاق، وأبو ثور، وهو مذهب الحنفيّة بالنّسبة لغير سنّة الفجر‏.‏

وقال الحنفيّة في سنّة الفجر‏:‏ إذا خاف فوت ركعتي الفجر لاشتغاله بسنّتها تركها ؛ لكون الجماعة أكمل، فلا يشرع فيها‏.‏ وإذا رجا إدراك ركعة مع الإمام فلا يترك سنّة الفجر، بل يصلّيها، وذلك في ظاهر المذهب، وقيل‏:‏ إذا رجا إدراك التّشهّد مع الإمام فإنّه يصلّي السّنّة خارج المسجد عند بابه إن وجد مكاناً، فإن لم يجد مكاناً تركها ولا يصلّيها داخل المسجد ؛ لأنّ التّنفّل في المسجد عند اشتغال الإمام بالفريضة مكروه‏.‏

وروي عن ابن مسعود‏:‏ أنّه دخل والإمام في صلاة الصّبح فركع ركعتي الفجر، وهذا مذهب الحسن، ومكحول، ومجاهد، وحمّاد بن أبي سليمان‏.‏

19 - ومن كان يصلّي النّافلة، ثمّ أقيمت صلاة الجماعة فقد قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن لم يخش فوات الجماعة بسلام الإمام فإنّه يتمّ النّافلة، ولا يقطعها ؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ثمّ يدخل في الجماعة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن لم يخش فوات ركعة بإتمام النّافلة بأن تحقّق أو ظنّ أنّه يدرك الإمام في الرّكعة الأولى عقب إتمام ما هو فيه أتمّها، ثمّ دخل مع الجماعة‏.‏

أمّا إن خشي فوات الجماعة - كما يقول الشّافعيّة والحنابلة - أو خشي فوات ركعة - كما يقول المالكيّة - فإنّه يقطع النّافلة وجوباً عند المالكيّة، وندباً في غير الجمعة عند الشّافعيّة، ووجوباً في الجمعة ‏"‏ أي إن كانت الّتي يصلّيها الإمام هي الجمعة ‏"‏، وعند الحنابلة روايتان حكاهما ابن قدامة، إحداهما‏:‏ يتمّ النّافلة، والثّانية‏:‏ يقطعها ؛ لأنّ ما يدركه من الجماعة أعظم أجراً وأكثر ثواباً ممّا يفوته بقطع النّافلة ؛ لأنّ صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرّجل وحده سبعاً وعشرين درجةً‏.‏

أمّا الحنفيّة‏:‏ فلم يقيّدوا القطع أو الإتمام بإدراك الجماعة، أو عدم إدراكها ؛ لأنّ الشّروع في النّافلة عندهم يجعلها واجبةً، ولذلك يقولون‏:‏ الشّارع في نفل لا يقطع مطلقاً إذا أقيمت الجماعة وهو في صلاة النّافلة، بل يتمّه ركعتين، وإذا كان في سنّة الظّهر، أو سنّة الجمعة، إذا أقيمت الظّهر، أو خطب الإمام، فإنّه يتمّها أربعاً على القول الرّاجح ؛ لأنّها صلاة واحدة‏.‏

ونقل ابن عابدين عن الكمال في فتح القدير ما نصّه‏:‏ وقيل‏:‏ يقطع على رأس الرّكعتين في سنّة الظّهر والجمعة، وهو الرّاجح ؛ لأنّه يتمكّن من قضائها بعد الفرض‏.‏ وهذا حيث لم يقم إلى الرّكعة الثّالثة‏.‏ أمّا إن قام إليها وقيّدها بسجدة ففي رواية النّوادر يضيف إليها رابعةً ويسلّم، وإن لم يقيّدها بسجدة فقيل‏:‏ يتمّها أربعاً، ويخفّف القراءة‏.‏ وقيل‏:‏ يعود إلى القعدة ويسلّم، وهذا أشبه، قال في شرح المنية‏:‏ والأوجه أن يتمّها‏.‏

20 - وإن أقيمت الجماعة والمنفرد يصلّي الصّلاة المفروضة الّتي يؤدّيها الإمام، فإن لم يكن قيّد الرّكعة الأولى بالسّجود قطع صلاته، واقتدى، وإن كان قد عقد ركعةً بالسّجود، فإن كان في صلاة الصّبح أو المغرب قطع صلاته واقتدى بالإمام، إلاّ إذا كان قد قام إلى الرّكعة الثّانية، وقيّدها بالسّجود فإنّه في هذه الحالة يتمّ صلاته‏.‏ ولا يدخل مع الإمام ؛ لكراهة التّنفّل بعد الفجر وبالثّلاث في المغرب‏.‏

وهذا كما يقول الحنفيّة، لكن المالكيّة قالوا‏:‏ يدخل مع الإمام في صلاة الصّبح ولا يدخل معه في صلاة المغرب‏.‏

وإن كانت الصّلاة رباعيّةً، وكان المنفرد قد قيّد الرّكعة الأولى بالسّجود، شفع بركعة أخرى، وسلّم واقتدى بالإمام، وكذلك إذا كان صلّى ركعتين وقام إلى الثّالثة، ولكنّه لم يقيّدها بالسّجدة، فإنّه يرجع للجلوس، ويعيد التّشهّد، ويسلّم ويدخل مع الإمام‏.‏ وإن كان قد قيّد الثّالثة بالسّجدة فإنّه يتمّ صلاته، ويقتدي بالإمام متنفّلاً، إلاّ في العصر، كما هو عند الحنفيّة ؛ لكراهة النّفل بعده‏.‏

21 - من شرع في صلاة فائتة وأقيمت الحاضرة في المسجد فإنّه لا يقطع صلاته، لكنّه لو خاف فوت جماعة الحاضرة قبل قضاء الفائتة، فإن كان صاحب ترتيب قضى، وإن لم يكن فالظّاهر أنّه يقتدي ؛ لإحراز فضيلة الجماعة، مع جواز تأخير القضاء وإمكان تلافيه‏.‏

قال ابن عابدين بعد أن نقل ذلك عن الخير الرّمليّ‏:‏ ووجهه ظاهر ؛ لأنّ الجماعة واجبة عندنا، أو في حكم الواجب‏.‏

أمّا إذا شرع في قضاء فرض، وأقيمت الجماعة في ذلك الفرض بعينه، فإنّه يقطع ويقتدي‏.‏ وعزي للخلاصة‏:‏ أنّه لو شرع في قضاء الفوائت، ثمّ أقيمت لا يقطع، هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ من شرع في فريضة، وأقيمت الجماعة في غيرها، بأن كان في ظهر، فأقيمت عليه العصر مثلاً قطع صلاته الّتي فيها إن خشي، بأن تحقّق أو ظنّ فوات ركعة مع الإمام، وإن لم يخش فوات ركعة مع الإمام بأن تحقّق أو ظنّ إدراكه في الأولى عقب إتمام ما هو فيه فلا يقطع بل يتمّ صلاته‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من كان يصلّي فائتةً، والجماعة تصلّي الحاضرة فلا يقلب صلاته نفلاً ليصلّيها جماعةً، إذ لا تشرع فيها الجماعة حينئذ، خروجاً من خلاف العلماء، فإن كانت الجماعة في تلك الفائتة بعينها جاز ذلك، لكنّه لا يندب، أي جاز قطع صلاته الّتي هو فيها، ويقتدي بالإمام‏.‏

ما يستحبّ لمن قصد الجماعة

22 - يستحبّ للرّجل إذا أقبل إلى الصّلاة‏:‏ أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع، وعليه السّكينة والوقار، وإن سمع الإقامة لم يسع إليها في عجلة، لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السّكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا» وعن أبي قتادة قال‏:‏ «بينما نحن نصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلمّا صلّى قال‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ استعجلنا إلى الصّلاة، قال‏:‏ فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصّلاة فعليكم بالسّكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا»، وفي رواية‏:‏ «فاقضوا»‏.‏

وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

وقال الإمام أحمد وأبو إسحاق‏:‏ إن خاف فوات التّكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع إذا طمع أن يدركها ما لم يكن عجلةً تقبح، جاء الحديث عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنّهم كانوا يعجّلون شيئاً إذا خافوا فوات التّكبيرة الأولى»، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشتدّ إلى الصّلاة وقال‏:‏ بادروا حدّ الصّلاة يعني التّكبيرة الأولى‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز الإسراع في المشي للصّلاة في جماعة لإدراك فضلها إسراعاً يسيراً بلا خبب أي بلا جري يذهب الخشوع، فيكره، ولو خاف فوات إدراكها ولو جمعةً ؛ لأنّ لها بدلاً؛ ولأنّ الشّارع إنّما أذن في السّعي مع السّكينة، فاندرجت الجمعة وغيرها، إلاّ أن يكون في محلّ لا تصحّ الصّلاة فيه ويضيق الوقت، بحيث يخشى فواته إن لم يسرع، فيجب حينئذ‏.‏ كذلك قال الشّافعيّة‏:‏ لو ضاق الوقت وخشي فواته فليسرع، كما لو خشي فوات الجمعة وكذلك لو امتدّ الوقت، وكانت لا تقوم إلاّ به، ولو لم يسرع لتعطّلت، قاله الأذرعيّ‏.‏ ويستحبّ أن يقارب بين خطوه لتكثر حسناته، فإنّ كلّ خطوة يكتب له بها حسنة، وقد روى عبد بن حميد في مسنده بإسناده عن زيد بن ثابت قال‏:‏ «أقيمت الصّلاة، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه فقارب في الخطى ثمّ قال‏:‏ أتدري لم فعلت هذا‏؟‏ لتكثر خطانا في طلب الصّلاة»‏.‏

كيفيّة انتظام المصلّين في صلاة الجماعة

23 - إذا انعقدت الجماعة بأقلّ ما تنعقد به ‏(‏واحد مع الإمام‏)‏ فالسّنّة أن يقف المأموم عن يمين الإمام إذا كان رجلاً أو صبيّاً يعقل، فإن كانت امرأةً أقامها خلفه، ولو كان مع الإمام اثنان، فإن كانا رجلين أقامهما خلفه، وإن كانا رجلاً وامرأةً أقام الرّجل عن يمينه والمرأة خلف الرّجل‏.‏

ولو كانت الجماعة كثيرةً وفيهم رجال ونساء وصبيان قام الرّجال في الصّفوف الأولى خلف الإمام، ثمّ قام الصّبيان من وراء الرّجال، ثمّ قام النّساء من وراء الصّبيان‏.‏

وفي جماعة النّساء تقف الّتي تؤمّ النّساء وسطهنّ‏.‏

ولا يجوز أن يتأخّر الإمام عن المأمومين في الموقف، ولا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المقتدين‏.‏

وهذا في الجملة، وتفصيل ذلك في‏:‏ مصطلح ‏(‏إمامة الصّلاة ج /6،ف 20 - 21 - 22‏)‏‏.‏

أفضليّة الصّفوف وتسويتها

24 - يستحبّ أن يتقدّم النّاس في الصّفّ الأوّل ؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الّتي تحثّ على التّقدّم إلى الصّفّ الأوّل، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو يعلمون ما في الصّفّ الأوّل لكانت قرعةً»‏.‏

وعن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الصّفّ الأوّل على مثل صفّ الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه»‏.‏

كما يستحبّ إتمام الصّفوف، ولا يشرع في صفّ حتّى يتمّ ما قبله، فيبدأ بإتمام الصّفّ الأوّل، ثمّ الّذي يليه، ثمّ الّذي يليه وهكذا إلى آخر الصّفوف، فعن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أتمّوا الصّفّ المقدّم ثمّ الّذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصّفّ المؤخّر»‏.‏

ويستحبّ الاعتدال في الصّفوف، فإذا وقفوا في الصّفّ لا يتقدّم بعضهم بصدره أو غيره ولا يتأخّر عن الباقين، ويسوّي الإمام بينهم ففي صحيح ابن خزيمة عن البراء «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصّفّ ويسوّي بين صدور القوم ومناكبهم، ويقول‏:‏ لا تختلفوا فتختلف قلوبكم إنّ اللّه وملائكته يصلّون على الصّفوف الأول»‏.‏

وروى مسلم عن جابر بن سمرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها‏؟‏ فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه وكيف تصفّ الملائكة عند ربّها‏؟‏ قال‏:‏ يتمّون الصّفوف الأول، ويتراصّون في الصّفّ»‏.‏

وأخرج البخاريّ من حديث أنس قال‏:‏ «أقيموا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه»‏.‏

كما يستحبّ سدّ الفرج، والإفساح لمن يريد الدّخول في الصّفّ‏.‏ فقد ورد عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أقيموا الصّفوف، وحاذوا بين المناكب وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشّيطان، ومن وصل صفّاً وصله اللّه ومن قطع صفّاً قطعه اللّه»‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ واستحباب الصّفّ الأوّل ثمّ الّذي يليه ثمّ الّذي يليه إلى آخرها - هذا الحكم مستمرّ في صفوف الرّجال بكلّ حال، وكذا في صفوف النّساء المنفردات بجماعتهنّ عن جماعة الرّجال، أمّا إذا صلّت النّساء مع الرّجال جماعةً واحدةً، وليس بينهما حائل فأفضل صفوف النّساء آخرها‏.‏

لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النّساء آخرها، وشرّها أوّلها»‏.‏

صلاة الرّجل وحده خلف الصّفوف

25 - الأصل في صلاة الجماعة أن يكون المأمومون صفوفاً متراصّةً - كما سبق بيانه - ولذلك يكره أن يصلّي واحد منفردًا خلف الصّفوف دون عذر، وصلاته صحيحة مع الكراهة، وتنتفي الكراهة بوجود العذر على ما سيأتي بيانه‏.‏

وهذا عند جمهور الفقهاء‏:‏ - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والأصل فيه ما رواه البخاريّ عن «أبي بكرة‏:‏ أنّه انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصّفّ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ زادك اللّه حرصاً ولا تعد»‏.‏

قال الفقهاء‏:‏ يؤخذ من ذلك عدم لزوم الإعادة، وأنّ الأمر الّذي ورد في حديث وابصة بن معبد الّذي رواه التّرمذيّ من «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي خلف الصّفّ، فأمره أن يعيد الصّلاة»‏.‏ هذا الأمر بالإعادة إنّما هو على سبيل الاستحباب ؛ جمعاً بين الدّليلين‏.‏

وعند الحنابلة تبطل صلاة من صلّى وحده ركعةً كاملةً خلف الصّفّ منفرداً دون عذر ؛ لحديث وابصة بن معبد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي خلف الصّفّ وحده فأمره أن يعيد»‏.‏

وعن عليّ بن شيبان‏:‏ «أنّه صلّى بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فانصرف، ورجل فرد خلف الصّفّ، قال‏:‏ فوقف عليه نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال‏:‏ استقبل صلاتك، لا صلاة للّذي خلف الصّفّ»‏.‏

فأمّا حديث أبي بكرة فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهاه فقال‏:‏ «لا تعد»، والنّهي يقتضي الفساد، وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه، وللجهل تأثير في العفو‏.‏

وفيما يلي بيان كيفيّة تصرّف المأموم ليجتنب الصّلاة منفرداً خلف الصّفّ، حتّى تنتفي الكراهة، كما يقول جمهور الفقهاء، وتصحّ كما يقول الحنابلة‏:‏

26 - من دخل المسجد وقد أقيمت الجماعة، فإن وجد فرجةً في الصّفّ الأخير وقف فيها، أو وجد الصّفّ غير مرصوص وقف فيه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه وملائكته يصلّون على الّذين يصلون الصّفوف»‏.‏

وإن وجد الفرجة في صفّ متقدّم فله أن يخترق الصّفوف ليصل إليها لتقصير المصلّين في تركها، يدلّ على ذلك ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نظر إلى فرجة في صفّ فليسدّها بنفسه، فإن لم يفعل، فمرّ مارّ، فليتخطّ على رقبته فإنّه لا حرمة له»‏.‏

ولأنّ سدّ الفرجة الّتي في الصّفوف مصلحة عامّة له وللقوم بإتمام صلاته وصلاتهم، فإنّ تسوية الصّفوف من تمام الصّلاة، كما ورد في الحديث‏.‏ وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسدّ الفرج‏.‏

وهذا باتّفاق بين الفقهاء في الجملة إذ إنّ بعض المالكيّة يحدّد الصّفوف الّتي يجوز اختراقها بصفّين غير الّذي خرج منه والّذي دخل فيه، كذلك قال الحنابلة‏:‏ لو كانت الفرجة بحذائه كره أن يمشي إليها عرضًا بين يدي بعض المأمومين ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه»‏.‏

27 - ومن لم يجد فرجةً في أيّ صفّ فقد اختلف الفقهاء فيما ينبغي أن يفعله حينئذ‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ من لم يجد فرجةً ينبغي أن ينتظر من يدخل المسجد ليصطفّ معه خلف الصّفّ، فإن لم يجد أحداً وخاف فوات الرّكعة جذب من الصّفّ إلى نفسه من يعرف منه علماً وخلقاً لكي لا يغضب عليه، فإن لم يجد وقف خلف الصّفّ بحذاء الإمام، ولا كراهة حينئذ، لأنّ الحال حال العذر، هكذا ذكر الكاسانيّ في البدائع، لكن الكمال بن الهمام ذكر في الفتح‏:‏ أنّ من جاء والصّفّ ملآن يجذب واحداً منه، ليكون معه صفّاً آخر، ثمّ قال‏:‏ وينبغي لذلك ‏"‏ أي لمن كان في الصّفّ ‏"‏ أن لا يجيبه، فتنتفي الكراهة عن هذا ؛ لأنّه فعل وسعه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ من لم يمكنه الدّخول في الصّفّ، فإنّه يصلّي منفرداً عن المأمومين، ولا يجذب أحدًا من الصّفّ، وإن جذب أحداً فلا يطعه المجذوب ؛ لأنّ كلّاً من الجذب والإطاعة مكروه‏.‏

والصّحيح عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ من لم يجد فرجةً ولا سعةً فإنّه يستحبّ أن يجرّ إليه شخصاً من الصّفّ ليصطفّ معه، لكن مع مراعاة أنّ المجرور سيوافقه، وإلاّ فلا يجرّ أحداً منعاً للفتنة، وإذا جرّ أحداً فيندب للمجرور أن يساعده لينال فضل المعاونة على البرّ والتّقوى‏.‏

ومقابل الصّحيح - وهو ما نصّ عليه في البويطيّ واختاره القاضي أبو الطّيّب - أنّه يقف منفرداً، ولا يجذب أحداً ؛ لئلاّ يحرم غيره فضيلة الصّفّ السّابق‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من لم يجد موضعًا في الصّفّ يقف فيه وقف عن يمين الإمام إن أمكنه ذلك ‏;‏ لأنّه موقف الواحد، فإن لم يمكنه الوقوف عن يمين الإمام فله أن ينبّه رجلاً من الصّفّ ليقف معه، وينبّهه بكلام أو بنحنحة أو إشارة ويتبعه من ينبّهه‏.‏

وظاهره وجوباً لأنّه من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به‏.‏

ويكره تنبيهه بجذبه نصّاً، واستقبحه أحمد وإسحاق لما فيه من التّصرّف فيه بغير إذنه‏.‏

وقال ابن عقيل‏:‏ جوّز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفًّا، وصحّح ذلك ابن قدامة ؛ لأنّ الحالة داعية إليه، فجاز كالسّجود على ظهره أو قدمه حال الزّحام، وليس هذا تصرّفاً فيه، إنّما هو تنبيهه ليخرج معه، فجرى مجرى مسألته أن يصلّي معه، وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لينوا بأيدي إخوانكم» فإن امتنع من الخروج معه لم يكرهه وصلّى وحده‏.‏

الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن صلاة الجماعة

الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن صلاة الجماعة‏:‏ منها ما هو عامّ، ومنها ما هو خاصّ‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الأعذار العامّة

28 - أ - المطر الشّديد الّذي يشقّ معه الخروج للجماعة، والّذي يحمل النّاس على تغطية رءوسهم‏.‏

ب - الرّيح الشّديدة ليلاً لما في ذلك من المشقّة‏.‏

ج - البرد الشّديد ليلاً أو نهاراً، وكذلك الحرّ الشّديد‏.‏ والمراد البرد أو الحرّ الّذي يخرج عمّا ألفه النّاس أو ألفه أصحاب المناطق الحارّة أو الباردة‏.‏

د - الوحل الشّديد الّذي يتأذّى به الإنسان في نفسه وثيابه، ولا يؤمن معه التّلوّث‏.‏

وعن أبي يوسف‏:‏ سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين وردغة فقال‏:‏ لا أحبّ تركها‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وفي شرح الزّاهديّ عن شرح التّمرتاشيّ‏:‏ اختلف في كون الأمطار والثّلوج والأوحال والبرد الشّديد عذراً، وعن أبي حنيفة‏:‏ إذا اشتدّ التّأذّي يعذر، وفي وجه عند الشّافعيّة - وهو مقابل الصّحيح - أنّ الوحل ليس بعذر، والصّحيح أنّه عذر‏.‏

هـ - الظّلمة الشّديدة، والمراد بها كون الإنسان لا يبصر طريقه إلى المسجد، قال ابن عابدين‏:‏ والظّاهر أنّه لا يكلّف إيقاد نحو سراج وإن أمكنه ذلك‏.‏

والدّليل على كون الأعذار السّابقة من مطر وغيره تبيح التّخلّف عن الجماعة الأحاديث الواردة في ذلك ومنها‏:‏

ما روي أنّ ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أذّن بالصّلاة في ليلة ذات برد وريح فقال‏:‏ ألا صلّوا في الرّحال، ثمّ قال‏:‏ «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلةً ذات برد ومطر يقول‏:‏ ألا صلّوا في رحالكم» وفي رواية‏:‏ «كان يأمر مناديه في اللّيلة الممطرة واللّيلة الباردة ذات الرّيح أن يقول‏:‏ ألا صلّوا في رحالكم»‏.‏

عن عبد اللّه بن الحارث، عن عبد اللّه بن عبّاس‏:‏ «أنّه قال لمؤذّنه في يوم مطير‏:‏ إذا قلت‏:‏ أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏.‏ أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه فلا تقل‏:‏ حيّ على الصّلاة‏.‏ قل‏:‏ صلّوا في بيوتكم‏.‏ قال‏:‏ فكأنّ النّاس استنكروا ذاك‏.‏ فقال‏:‏ أتعجبون من ذا‏؟‏ قد فعل ذا من هو خير منّي‏.‏ إنّ الجمعة عَزْمةٌ‏.‏ وإنّي كرهت أن أحرجكم، فتمشوا في الطّين والدّحض»‏.‏

ثانياً‏:‏ الأعذار الخاصّة

أ - المرض‏:‏

29 - وهو المرض الّذي يشقّ معه الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏

لا أعلم خلافاً بين أهل العلم‏:‏ أنّ للمريض أن يتخلّف عن الجماعات من أجل المرض، ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا مرض تخلّف عن المسجد، وقال‏:‏ مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس»، ومن ذلك كبر السّنّ الّذي يشقّ معه الإتيان إلى المسجد‏.‏

ب - الخوف‏:‏

30 - وهو عذر في ترك الجماعة ؛ لما روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من سمع النّداء، فلم يمنعه من اتّباعه عذر، قالوا‏:‏ وما العذر يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ خوف أو مرض، لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى»‏.‏

والخوف ثلاثة أنواع‏:‏ خوف على النّفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل‏.‏

الأوّل‏:‏ أن يخاف على نفسه سلطاناً يأخذه، أو عدوّاً أو لصّاً أو سبعاً أو دابّةً أو سيلاً أو نحو ذلك ممّا يؤذيه في نفسه، وفي معنى ذلك أن يخاف غريماً له يلازمه، ولا شيء معه يوفّيه ؛ لأنّ حبسه بدين هو معسر به ظلم له‏.‏ فإن كان قادراً على أداء الدّين لم يكن عذراً له ؛ لأنّه يجب إيفاؤه‏.‏

ومن ذلك‏:‏ الخوف من توقيع عقوبة، كتعزير وقود وحدّ قذف ممّا يقبل العفو‏.‏ فإن كان يرجو العفو عن العقوبة إن تغيّب أيّاماً عن الجماعة كان ذلك عذراً‏.‏ فإن لم يرج العفو أو كان الحدّ، ممّا لا يقبل العفو كحدّ الزّنا لم يكن ذلك عذراً، وهذا كما يقول الشّافعيّة والمالكيّة‏.‏ واختلف الحنابلة فيمن وجب عليه قصاص، فلم يعتبره بعضهم عذراً، واعتبره بعضهم عذرًا إن رجا العفو مجّاناً أو على مال، وقال القاضي‏:‏ إن كان يرجو الصّلح على مال فله التّخلّف حتّى يصالح‏.‏ أمّا الحدود، فما كان حقّاً لآدميّ كحدّ القذف فالصّحيح عندهم أنّه ليس عذراً في التّخلّف، لكن ابن مفلح قال في كتابه الفروع‏:‏ ويتوجّه فيه وجه‏:‏ إن رجا العفو، قال في شرح منتهى الإرادات‏:‏ وجزم به في الإقناع‏.‏

أمّا الحدود الّتي لا تقبل العفو فلا تعتبر عذراً‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يخاف على ماله من ظالم أو لصّ، أو يخاف أن يسرق منزله أو يحرق منه شيء، أو يكون له خبز في تنّور أو طبيخ على نار، ويخاف حريقه باشتغاله عنه، أو يكون له غريم إن ترك ملازمته ذهب بماله، أو يكون له بضاعة أو وديعة عند رجل وإن لم يدركه ذهب، أو كانت عنده أمانة كوديعة أو رهن أو عاريّة ممّا يجب عليه حفظه، ويخاف تلفه بتركه‏.‏ ويدخل في ذلك الخوف على مال الغير‏.‏

الثّالث‏:‏ الخوف على الأهل‏:‏ من ولد ووالد وزوج إن كان يقوم بتمريض أحدهم، فإنّ ذلك عذر في التّخلّف عن الجماعة‏.‏

ومثل ذلك‏:‏ القيام بتمريضه الأجنبيّ إذا لم يكن له من يقوم بتمريضه، وكان يخشى عليه الضّياع لو تركه، وقد ثبت أنّ ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - استصرخ على سعيد بن زيد، وهو يتجمّر للجمعة، فأتاه بالعقيق، وترك الجمعة‏.‏

ج - حضور طعام تشتاقه نفسه وتنازعه إليه‏:‏

31 - قال ابن قدامة‏:‏ إذا حضر العشاء في وقت الصّلاة فالمستحبّ أن يبدأ بالعشاء قبل الصّلاة ؛ ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله، ولا يستحبّ أن يعجّل عن عشائه أو غدائه، فإنّ أنساً روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قرب العشاء وحضرت الصّلاة فابدءوا به قبل أن تصلّوا صلاة المغرب، ولا تعجّلوا عن عشائكم»، ولا فرق بين أن يخاف فوت الجماعة أو لا يخاف، فإنّ في بعض ألفاظ حديث أنس‏:‏ «إذا حضر العشاء وأقيمت الصّلاة فابدءوا بالعشاء» وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصّلاة فابدءوا بالعشاء ولا يعجّلنّ حتّى يفرغ منه»‏.‏ وتعشّى ابن عمر وهو يسمع قراءة الإمام‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ إنّما يقدّم العشاء على الجماعة إذا كانت نفسه تتوق إلى الطّعام كثيراً، ونحوه قال الشّافعيّ‏.‏ وقال بظاهر الحديث عمر وابنه وإسحاق وابن المنذر‏.‏ وقال ابن عبّاس‏:‏ لا نقوم إلى الصّلاة وفي أنفسنا شيء‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ أجمعوا على أنّه لو صلّى بحضرة الطّعام فأكمل صلاته أنّ صلاته تجزئه‏.‏

د - مدافعة أحد الأخبثين‏:‏

32 - ومثلهما الرّيح، فإنّ ذلك عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة، قالت السّيّدة عائشة - رضي الله تعالى عنها -‏:‏ إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان»، ولأنّ القيام إلى الصّلاة مع مدافعة أحد الأخبثين يبعده عن الخشوع فيها ويكون مشغولاً عنها‏.‏

هـ - أكل ذي رائحة كريهة‏:‏

33 - وذلك كبصل وثوم وكرّاث وفجل إذا تعذّر زوال رائحته، فإنّ ذلك عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة، حتّى لا يتأذّى به النّاس والملائكة ؛ لحديث‏:‏ «من أكل من هذه البقلة‏:‏ الثّوم - وقال مرّةً‏:‏ من أكل البصل والثّوم والكرّاث - فلا يقربنّ مسجدنا ؛ فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم»‏.‏ والمراد أكل هذه الأشياء نيئةً، ويدخل في ذلك من كانت حرفته لها رائحة مؤذية، كالجزّار والزّيّات ونحو ذلك‏.‏ ومثل ذلك من كان به مرض يتأذّى به النّاس، كجذام وبرص، ففي كلّ ذلك يباح التّخلّف عن الجماعة‏.‏

و - العري‏:‏

34 - فمن لم يجد ما يستر ما بين السّرّة والرّكبة فإنّه يباح له التّخلّف عن الجماعة‏.‏

وهذا إذا كان من عادة أمثاله الخروج بمثل ذلك، قال الشّافعيّة وبعض المالكيّة‏:‏ الأليق بالحنيفيّة السّمحة‏:‏ أنّه إن وجد ما يليق بأمثاله خرج للجماعة، وإلاّ فلا‏.‏

ز - العمى‏:‏

35 - اعتبر الحنفيّة أنّ العمى عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة وإن وجد قائداً‏.‏

ولم يعتبره جمهور الفقهاء عذراً إلاّ أن لا يجد قائداً، ولم يهتد للطّريق بنفسه‏.‏

ح - إرادة السّفر‏:‏

36 - من تأهّب لسفر مباح مع رفقة، ثمّ أقيمت الجماعة، وكان يخشى إن حضر الجماعة أن تفوته القافلة، فإنّه يباح له التّخلّف عن الجماعة‏.‏

ط - غلبة النّعاس والنّوم‏:‏

37 - فمن غلبه النّعاس والنّوم إن انتظر الجماعة صلّى وحده‏.‏ وكذلك لو غلبه النّعاس مع الإمام ؛ لأنّ «رجلاً صلّى مع معاذ، ثمّ انفرد فصلّى وحده عند تطويل معاذ، وخوف النّعاس والمشقّة، فلم ينكر عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخبره»، والأفضل الصّبر والتّجلّد على رفع النّعاس والصّلاة جماعةً‏.‏

ي - زفاف الزّوجة‏:‏

38 - فزفاف الزّوجة عذر يبيح للزّوج التّخلّف عن صلاة الجماعة، وذلك كما يقول الشّافعيّة والحنابلة، لكن الشّافعيّة قيّدوه بالتّخلّف عن الجماعة في الصّلوات اللّيليّة فقط، وأمّا المالكيّة فلم يعتبروا ذلك عذراً، وخفّف مالك للزّوج ترك بعض الصّلاة في الجماعة للاشتغال بزوجه والسّعي إلى تأنيسها واستمالتها‏.‏

39 - ك - ذكر الحنفيّة من الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن الجماعة‏:‏ الاشتغال بالفقه، لا بغيره من العلوم‏.‏

كما ذكر الشّافعيّة من الأعذار‏:‏ السّمن المفرط‏.‏

صلاة الجمعة

زمن مشروعيّتها

1 - شرعت صلاة الجمعة في أوّل الهجرة عند قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، قال الحافظ ابن حجر‏:‏ الأكثر على أنّها فرضت بالمدينة‏.‏ وهو مقتضى أنّ فرضيّتها ثبتت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ وهي مدنيّة، وقال الشّيخ أبو حامد‏:‏ فرضت بمكّة، وهو غريب‏.‏

ومن المتّفق عليه‏:‏ «أنّ أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه، كانت في قبيلة بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم لهم في ذلك الموضع مسجداً، وذلك عندما قدم إلى المدينة مهاجراً»‏.‏

غير أنّه ثبت أيضاً «أنّ أسعد بن زرارة أوّل من جمع النّاس لصلاة الجمعة في المدينة، وكان ذلك بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم له قبل أن يهاجر من مكّة»، فقد ورد عن كعب بن مالك أنّه «كان إذا سمع النّداء ترحّم لأسعد بن زرارة، وكان يقول‏:‏ إنّه أوّل من جمّع بنا في هزم النّبيت من حرّة بني بياضة في نقيع يقال له‏:‏ نقيع الخضمات»‏.‏

فمن رجّح أنّها فرضت بالمدينة بعد الهجرة، استدلّ بأنّه صلى الله عليه وسلم لم يقم أيّ جمعة في مكّة قبل الهجرة، ومن قال‏:‏ إنّها فرضت بمكّة قبل الهجرة استدلّ بأنّ الصّحابة قد صلّوها في المدينة قبل هجرته - عليه الصلاة والسلام - فلا بدّ أن تكون واجبةً إذ ذاك على المسلمين كلّهم سواء من كان منهم في مكّة وفي المدينة، إلاّ أنّ الّذي منع من أدائها في مكّة عدم توافر كثير من شرائطها‏.‏ قال البكريّ‏:‏ فرضت بمكّة ولم تقم بها ؛ لفقد العدد، أو لأنّ شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم مستخفياً فيها‏.‏ وأوّل من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة‏.‏

الحكمة من مشروعيّتها

2 - قال الدّهلويّ‏:‏ إنّه لمّا كانت إشاعة الصّلاة في البلد بحيث يجتمع لها أهلها متعذّرةً كلّ يوم، وجب أن يعيّن لها ميقات لا يتكرّر دورانه بسرعة حتّى لا تعسر عليهم المواظبة على الاجتماع لها، ولا يبطؤ دورانه بأن يطول الزّمن الفاصل بين المرّة والأخرى، كي لا يفوت المقصود وهو تلاقي المسلمين واجتماعهم بين الحين والآخر‏.‏ ولمّا كان الأسبوع قدراً زمنيّاً مستعملاً لدى العرب والعجم وأكثر الملل، - وهو قدر متوسّط الدّوران والتّكرار بين السّرعة والبطء - وجب جعل الأسبوع ميقاتاً لهذا الواجب‏.‏

فرضيّتها

دليل الفرضيّة‏:‏

3 - صلاة الجمعة من الفرائض المعلوم فرضيّتها بالضّرورة، وبدلالة الكتاب والسّنّة ؛ فيكفر جاحدها‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ الجمعة فرض لا يسع تركها، ويكفر جاحدها والدّليل على فرضيّتها‏:‏ الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ ‏"‏ ذكر اللّه ‏"‏ هو صلاة الجمعة، وقيل‏:‏ هو الخطبة، وكلّ ذلك حجّة ؛ لأنّ السّعي إلى الخطبة إنّما يجب لأجل الصّلاة، بدليل أنّ من سقطت عنه الصّلاة لا يجب عليه السّعي إلى الخطبة، فكان فرض السّعي إلى الخطبة فرضاً للصّلاة ؛ ولأنّ ذكر اللّه يتناول الصّلاة ويتناول الخطبة من حيث إنّ كلّ واحد منهما ذكر اللّه تعالى‏.‏

وقد استدلّ الإمام السّرخسيّ - أيضاً - بالآية المذكورة من وجهين‏:‏

الوجه السّابق، ووجه آخر حيث قال‏:‏ اعلم أنّ الجمعة فريضة بالكتاب والسّنّة، أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ والأمر بالسّعي إلى الشّيء لا يكون إلاّ لوجوبه، والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضاً‏.‏

وحكى الخطّابيّ عن بعض الفقهاء‏:‏ أنّ صلاة الجمعة فرض على الكفاية، وقال القرافيّ‏:‏ هو وجه لبعض أصحاب الشّافعيّة‏.‏

وأمّا السّنّة‏:‏ فالحديث المشهور، وهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه تعالى قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي، أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها بحقّها فلا جمع اللّه له شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حجّ له، ولا صوم له، ولا برّ له حتّى يتوب فمن تاب تاب اللّه عليه» وحديث‏:‏ «الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلاّ أربعةً‏:‏ عبد مملوك، أو امرأة، أو صبيّ، أو مريض» وحديث‏:‏ «رواح الجمعة واجب على كلّ محتلم»‏.‏

فرض وقت الجمعة

4 - ذهب الأئمّة الثّلاثة - مالك والشّافعيّ في مذهبه الجديد وأحمد - إلى أنّ الجمعة فرض مستقلّ، فليست بدلاً من الظّهر، وليست ظهراً مقصوراً‏.‏ واستدلّ الرّمليّ لكونها صلاةً مستقلّةً‏:‏ بأنّه لا يغني الظّهر عنها ولقول عمر - رضي الله عنه -‏:‏ «الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيّكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى»‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ إنّ فرض وقت الجمعة في الأصل إنّما هو الظّهر، إلاّ أنّ من تكاملت فيه شرائط الجمعة الآتي ذكرها فإنّه مأمور بإسقاطه وإقامة الجمعة في مكانه على سبيل الحتم، أمّا من لم تتكامل فيه شرائطها، فيبقى على أصل الظّهر إلاّ أنّه يخاطب بأداء الجمعة في مكانها على سبيل التّرخيص، أي فإذا أدّى الجمعة رغم عدم تكامل شروط وجوبها عليه سقط عنه الظّهر بذلك‏.‏ على أنّ لكلّ من محمّد وزفر أقوالاً أخرى في كيفيّة فرضيّة الجمعة‏.‏

5- وفائدة الخلاف تظهر فيما لو صلّى الظّهر في بيته وحده قبل فوات الجمعة - وهو غير معذور، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ ظهره ويقع فرضاً ؛ لأنّه أدّى فرض الوقت الأصليّ فيجزئه‏.‏

قال السّمرقنديّ‏:‏ من صلّى الظّهر في بيته وحده - وهو غير معذور - فإنّه يقع فرضاً في قول أصحابنا الثّلاثة - أبي حنيفة وصاحبيه - خلافاً لزفر فإنّ عنده لا يجوز الظّهر‏.‏

وفي المذاهب الأخرى لا تجزئه صلاة الظّهر ويلزمه حضور الجمعة، فإن حضرها فذاك وإلاّ بأن فاتته لزمه قضاء الظّهر حينئذ‏.‏ قال أبو إسحاق الشّيرازيّ في المهذّب‏:‏ وأمّا من تجب عليه الجمعة، ولا يجوز له أن يصلّي الظّهر قبل فوات الجمعة، فإنّه مخاطب بالسّعي إلى الجمعة، فإن صلّى الظّهر قبل صلاة الإمام ففيه قولان‏:‏ قال في القديم‏:‏ يجزئه ؛ لأنّ الفرض هو الظّهر‏.‏‏.‏‏.‏ وقال في الجديد‏:‏ لا تجزئه، ويلزمه إعادتها وهو الصّحيح‏.‏

وقال ابن قدامة في المغني‏:‏ من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ، ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه يدركها ؛ لأنّها المفروضة عليه‏.‏

شروط صلاة الجمعة

6 - لصلاة الجمعة ثلاثة أنواع من الشّروط‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ شروط للصّحّة والوجوب معاً، والثّاني‏:‏ للوجوب فقط، والثّالث‏:‏ للصّحّة فقط‏.‏ والفرق بين هذه الأنواع الثّلاثة من الشّروط، أنّ ما يعتبر شرطاً لصحّة صلاة الجمعة ووجوبها معاً، يلزم من فقده أمران اثنان‏:‏ بطلانها، وعدم تعلّق الطّلب بها‏.‏

وما يعتبر شرطاً للوجوب - فقط - يلزم من فقده عدم تعلّق الطّلب وحده، مع ثبوت صحّة الفعل، وما يعتبر شرطاً للصّحّة فقط يلزم من فقده البطلان مع استمرار المطالبة به‏.‏

النّوع الأوّل شروط الصّحّة والوجوب معاً وتنحصر في ثلاثة

7 - الشّرط الأوّل‏:‏ اشترطه الحنفيّة، وهو أن يكون المكان الّذي تقام فيه ‏"‏ مصراً ‏"‏ والمقصود بالمصر كلّ بلدة نصب فيها قاض ترفع إليه الدّعاوى والخصومات‏.‏

قال في المبسوط‏:‏ وظاهر المذهب في بيان حدّ المصر الجامع‏:‏ أن يكون فيه سلطان، أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام‏.‏

ويلحق بالمصر ضاحيته أو فناؤه، وضواحي المصر هي القرى المنتشرة من حوله والمتّصلة به والمعدودة من مصالحه، بشرط أن يكون بينها وبينه من القرب ما يمكّن أهلها من حضور الجمعة، ثمّ الرّجوع إلى منازلهم في نفس اليوم بدون تكلّف‏.‏

وعلى هذا، فمن كانوا يقيمون في قرية نائية، لا يكلّفون بإقامة الجمعة، وإذا أقاموها لم تصحّ منهم‏.‏ قال صاحب البدائع‏:‏ المصر الجامع شرط وجوب الجمعة، وشرط صحّة أدائها عند أصحابنا، حتّى لا تجب الجمعة إلاّ على أهل المصر ومن كان ساكناً في توابعه، وكذا لا يصحّ أداء الجمعة إلاّ في المصر وتوابعه‏.‏

فلا تجب على أهل القرى الّتي ليست من توابع المصر، ولا يصحّ أداء الجمعة فيها‏.‏

ولم تشترط المذاهب الأخرى هذا الشّرط‏.‏

فأمّا الشّافعيّة‏:‏ فاكتفوا باشتراط إقامتها في خطّة أبنية سواء كانت من بلدة أو قرية، قال صاحب المهذّب‏:‏ لا تصحّ الجمعة إلاّ في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية‏.‏

وأمّا الحنابلة‏:‏ فلم يشترطوا ذلك أيضاً، وصحّحوا إقامتها في الصّحاري، وبين مضارب الخيام‏.‏ قال صاحب المغني‏:‏ ولا يشترط لصحّة الجمعة إقامتها في البنيان ويجوز إقامتها فيما قاربه من الصّحراء‏.‏

وأمّا المالكيّة‏:‏ فإنّما شرطوا أن تقام في مكان صالح للاستيطان‏.‏ فتصحّ إقامتها في الأبنية، أو الأخصاص ؛ لصلاحها للاستيطان فيها مدّةً طويلةً‏.‏ ولا تصحّ في الخِيَم لعدم صلاحيّتها لذلك في الغالب‏.‏

قال في الجواهر الزّكيّة في تعداد شروطها‏:‏ موضع الاستيطان، ولو كان بأخصاص لا خيم، فلا تقام الجمعة إلاّ في موضع يستوطن فيه بأن يقيم فيه صيفًا وشتاءً‏.‏

8 - ويترتّب على هذا الخلاف‏:‏ أنّ أصحاب القرى الّتي لا تعتبر تابعةً لمصر إلى جانبها يجب عليهم - عند غير الحنفيّة - إقامة الجمعة في أماكنهم، ولا يكلّفون بالانتقال لها إلى أيّ بلدة كبيرة أخرى من حولهم‏.‏

أمّا في المذهب الحنفيّ‏:‏ فلا يكلّفون بإقامة الجمعة في مثل هذه الحال، وإذا أقاموها لم تصحّ منهم‏.‏ ويجب عليهم الانتقال إلى البلدة المجاورة إذا سمع منها الأذان‏.‏

9 - الشّرط الثّاني‏:‏ واشترطه الحنفيّة، إذن السّلطان بذلك، أو حضوره، أو حضور نائب رسميّ عنه، إذ هكذا كان شأنها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي عهود الخلفاء الرّاشدين‏.‏

هذا إذا كان ثمّة إمام أو نائب عنه في البلدة الّتي تقام فيها الجمعة، فإذا لم يوجد أحدهما، لموت أو فتنة أو ما شابه ذلك، وحضر وقت الجمعة كان للنّاس حينئذ أن يجتمعوا على رجل منهم ليتقدّمهم فيصلّي بهم الجمعة‏.‏

أمّا أصحاب المذاهب الأخرى فلم يشترطوا لصحّة الجمعة أو وجوبها شيئاً ممّا يتعلّق بالسّلطان، إذناً أو حضوراً أو إنابةً‏.‏

10 - الشّرط الثّالث من شروط صحّة الجمعة ووجوبها معاً‏:‏ دخول الوقت، ووقتها عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - هو وقت الظّهر، فلا يثبت وجوبها، ولا يصحّ أداؤها إلاّ بدخول وقت الظّهر، ويستمرّ وقتها إلى دخول وقت العصر، فإذا خرج وقت الظّهر سقطت الجمعة واستبدل بها الظّهر ؛ لأنّ الجمعة صلاة لا تقضى بالتّفويت‏.‏ ويشترط دخول وقت الظّهر من ابتداء الخطبة، فلو ابتدأ الخطيب الخطبة قبله لم تصحّ الجمعة، وإن وقعت الصّلاة داخل الوقت‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ أوّل وقت صلاة الجمعة هو أوّل وقت صلاة العيد لحديث عبد اللّه بن سيدان‏:‏ «شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النّهار»، ولحديث جابر‏:‏ «كان يصلّي الجمعة ثمّ نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشّمس» وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعد ومعاوية - رضي الله عنهم - أنّهم صلّوا قبل الزّوال ولم ينكر عليهم، وفعلها بعد الزّوال أفضل‏.‏

النّوع الثّاني من الشّروط وهي‏:‏

شروط الوجوب فقط‏:‏

تتلخّص جملة هذه الشّروط في خمسة أمور، وذلك بعد اعتبار الشّروط الّتي تتوقّف عليها أهليّة التّكليف بصورة عامّة، من عقل وبلوغ‏:‏

11 - الأوّل‏:‏ الإقامة بمصر‏:‏ فلا تجب على مسافر‏.‏ ثمّ لا فرق في الإقامة بين أن تكون على سبيل الاستيطان أو دون ذلك، فمن تجاوزت أيّام إقامته في بلدة ما الفترة الّتي يشرع له فيها قصر الصّلاة وجبت عليه صلاة الجمعة وإلاّ فلا على التّفصيل المبيّن في ‏(‏صلاة المسافر‏)‏‏.‏

ودليل ذلك ما رواه جابر - رضي الله عنه -‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلاّ مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبيّ، أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى اللّه عنه واللّه غنيّ حميد»‏.‏ قال السّرخسيّ‏:‏ والمعنى‏:‏ أنّ المسافر تلحقه المشقّة بدخول المصر وحضور الجمعة، وربّما لا يجد أحداً يحفظ رحله، وربّما ينقطع عن أصحابه، فلدفع الحرج أسقطها الشّرع عنه‏.‏

أمّا من كان مقيماً في غير مصر، كالقرى والبوادي، فإن كان مكانه قريباً من بلدة هناك وجب عليه الذّهاب إليها وإقامة الجمعة فيها، وإلاّ لم تجب عليه‏.‏

والمفتى به في ضابط القرب‏:‏ أن تصل أصوات المؤذّنين إلى ذلك المكان عندما يؤذّنون في أماكن مرتفعة وبأصوات عالية مع توسّط حالة الجوّ من حيث الهدوء والضّجيج‏.‏

وهذا على ما سبق بيانه في الفقرة من اشتراط الحنفيّة المصر خلافاً لغيرهم‏.‏

12 - الشّرط الثّاني‏:‏ الذّكورة‏:‏ فلا تجب صلاة الجمعة على النّساء‏.‏

وذكر صاحب البدائع حكمة ذلك فقال‏:‏ وأمّا المرأة فلأنّها مشغولة بخدمة الزّوج، ممنوعة من الخروج إلى محافل الرّجال، لكون الخروج سبباً للفتنة ولهذا لا جماعة عليهنّ أيضاً‏.‏

13 - الشّرط الثّالث‏:‏ الصّحّة‏:‏ ويقصد بها خلوّ البدن عمّا يتعسّر معه - عرفاً - الخروج لشهود الجمعة في المسجد، كمرض وألم شديد ؛ فلا تجب صلاة الجمعة على من اتّصف بشيء من ذلك‏.‏

وألحق بالمريض ممرّضه الّذي يقوم بأمر تمريضه وخدمته، بشرط أن لا يوجد من يقوم مقامه في ذلك لو تركه‏.‏

14 - الشّرط الرّابع‏:‏ الحرّيّة‏:‏ فلا تجب على العبد المملوك، لانشغاله بخدمة المولى‏.‏

غير أنّها تجب على المكاتب والمبعّض وتجب على الأجير، بمعنى أنّه لا يجوز للمستأجر منعه منها، فإذا ترك العمل لصلاتها، وكان المسجد بعيداً عن مكان عمله في - العرف - سقط من أجرته ما يقابل الزّمن الّذي ترك فيه العمل من أجلها بما في ذلك مدّة الصّلاة نفسها، وإلاّ لم يسقط شيء‏.‏

وهذه الشّريطة - أيضاً - محلّ اتّفاق لدى مختلف المذاهب، ثمّ إنّ السّيّد إذا أذن لعبده في الخروج لصلاة الجمعة وجبت عليه حينئذ‏.‏

15 - الشّرط الخامس‏:‏ السّلامة‏:‏ والمقصود بها سلامة المصلّي من العاهات المقعدة، أو المتعبة له في الخروج إلى صلاة الجمعة، كالشّيخوخة المقعدة والعمى، فإن وجد الأعمى قائدًا متبرّعاً أو بأجرة معتدلة، وجبت عليه عند الجمهور - أبي يوسف ومحمّد والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - ؛لأنّ الأعمى بواسطة القائد يعتبر قادراً على السّعي خلافاً لأبي حنيفة‏.‏ وهناك صورتان أخريان تجب فيهما على الأعمى صلاة الجمعة‏:‏

الصّورة الأولى‏:‏ أن تقام الصّلاة وهو في المسجد متطهّر متهيّئ للصّلاة‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ أن يكون ممّن أوتوا مهارةً في المشي في الأسواق دون الاحتياج إلى أيّ كلفة أو قيادة أو سؤال أحد‏.‏ إذ لا حرج حينئذ عليه في حضور صلاة الجمعة‏.‏

ولا تجب - أيضاً - في حالة خوف من عدوّ أو سبع أو لصّ، أو سلطان، ولا في حالة مطر شديد، أو وحل، أو ثلج، يتعسّر معها الخروج إليها‏.‏ إذ لا تعتبر السّلامة متوفّرةً في مثل هذه الحالات‏.‏

16 - ثمّ إنّ مَنْ حضر صلاة الجمعة ممّن لم تتوفّر فيه هذه الشّروط الخمسة ينظر في أمره‏:‏ فإن كان فاقداً أهليّة التّكليف نفسها، كالصّبيّ والمجنون، صحّت صلاة الصّبيّ واعتبرت له تطوّعاً، وبطلت صلاة المجنون ؛ لعدم توفّر الإدراك المصحّح لأصل العبادة‏.‏

أمّا إن تكاملت لديه أهليّة التّكليف، كالمريض والمسافر والعبد والمرأة، فمثل هؤلاء إن حضروا الجمعة وصلّوها أجزأتهم عن فرض الظّهر ؛ لأنّ امتناع الوجوب في حقّهم إنّما كان للعذر، وقد زال بحضورهم لكن صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ لهم الانصراف ؛ إذ المانع من وجوبها عليهم لا يرتفع بحضورهم إلاّ المريض ونحوه كالأعمى فيحرم انصرافهما إن دخل الوقت قبل انصرافهما ؛ لأنّ المانع في حقّهما مشقّة الحضور وقد زالت‏.‏

17 - ويصحّ أن يؤمّ القوم من هؤلاء كلّ من صحّت إمامته المطلقة في باب صلاة الجماعة فتصحّ إمامة المريض والمسافر والعبد، دون المرأة قال في تنوير الأبصار‏:‏ ويصلح للإمامة فيها من صلح لغيرها ؛ فجازت لمسافر وعبد ومريض‏.‏

وأمّا صفة الّذين تنعقد بهم الجمعة فهي‏:‏ أنّ كلّ من يصلح إماماً للرّجال في الصّلوات المكتوبة تنعقد بهم الجمعة، فيشترط صفة الذّكورة والعقل والبلوغ لا غير، فتنعقد الجمعة بعبيد ومسافرين‏.‏ وهذا عند الحنفيّة‏.‏

ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّه لا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء، ولا تصحّ إمامته‏.‏

أمّا الشّافعيّة‏:‏ فصحّحوا الإمامة من هؤلاء دون الانعقاد به‏.‏ فلو أمّ المصلّين مسافر وكان عددهم لا يتجاوز مع إمامهم المسافر أربعين رجلاً، لم تنعقد صلاتهم‏.‏

18 - فمن توفّرت فيه هذه الشّروط، حرّم عليه صلاة الظّهر قبل فوات الجمعة، لما في ذلك من مخالفة الأمر بإسقاط صلاة الظّهر وأداء الجمعة في مكانها‏.‏ أمّا بعد فواتها عليه فلا مناص حينئذ من أداء الظّهر، بل يجب عليه ذلك، غير أنّه يعتبر آثماً بسبب تفويت الجمعة بدون عذر‏.‏

فإن سعى إليها بعد أدائه الظّهر والإمام في الصّلاة بطلت صلاته الّتي كان قد أدّاها بمجرّد انفصاله عن داره واتّجاهه إليها سواء أدركها أم لا‏.‏ وذلك لأنّ السّعي إلى صلاة الجمعة معدود من مقدّماتها وخصائصها المأمور بها بنصّ كتاب اللّه تعالى، والاشتغال بفرائض الجمعة الخاصّة بها يبطل الظّهر وهذا عند أبي حنيفة، أمّا عند الصّاحبين فلا يبطل ظهره بمجرّد السّعي، بل لا بدّ لذلك من إدراكه الجمعة وشروعه فيها‏.‏

وقال المالكيّة والحنابلة‏:‏ من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه يدركها‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ شروط الصّحّة فقط‏:‏

وهي أربعة شروط‏:‏

19 - الأوّل الخطبة‏:‏ ويشترط تقدّمها على الصّلاة، وهي كلّ ذكر يسمّى في عرف النّاس خطبةً، فمتى جاء الإمام بذلك بعد دخول الوقت، فقد تأدّى الشّرط وصحّت الخطبة، سواء كان قائماً، أو قاعداً أتى بخطبتين أو خطبة واحدة، تلا فيها قرآناً أم لا، عربيّةً كانت أو عجميّةً، إلاّ أنّها ينبغي أن تكون قبل الصّلاة، إذ هي شرط، وشرط الشّيء لا بدّ أن يكون سابقاً عليه وهذا عند الحنفيّة‏.‏

واشترط لها المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خطبتين مستدلّين على ذلك بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

واعتبر الشّافعيّة للخطبة أركاناً خمسةً لا بدّ من توافرها وهي‏:‏ حمد اللّه، والصّلاة على رسوله، والوصيّة بالتّقوى‏.‏ وهذه الثّلاثة أركان في كلّ من الخطبتين، والرّابع‏:‏ قراءة آية من القرآن في إحداهما، والخامس‏:‏ ما يقع عليه اسم الدّعاء للمؤمّنين في الخطبة الثّانية‏.‏ واشترط الحنابلة من هذه الأركان قراءة آية من القرآن‏.‏ قال ابن قدامة‏.‏‏.‏‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ ولا يكفي في القراءة أقلّ من آية ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على أقلّ من ذلك وما عدا ذلك مستحبّ‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏خطبة‏)‏‏.‏

20 - الثّاني‏:‏ الجماعة‏:‏ قال في البدائع‏:‏ ودليل شرطيّتها، أنّ هذه الصّلاة تسمّى جمعةً، فلا بدّ من لزوم معنى الجمعة فيها، اعتبارًا للمعنى الّذي أخذ اللّفظ منه‏.‏‏.‏‏.‏ ولهذا لم يؤدّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجمعة إلاّ جماعةً، وعليه إجماع العلماء‏.‏

ويتعلّق ببيان كيفيّة هذا الشّرط ثلاثة أبحاث‏:‏

21 - أوّلها‏:‏ حضور واحد سوى الإمام - على الصّحيح من مذهب الحنفيّة - وقيل‏:‏ ثلاثة سوى الإمام، قال في مجمع الأنهر‏:‏ لأنّها أقلّ الجمع، وقد ورد الخطاب للجمع، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ فإنّه يقتضي ثلاثةً سوى الخطيب، هذا مذهب أبي حنيفة ومحمّد‏.‏

واشترط الشّافعيّة والحنابلة أن لا يقلّ المجمعون عن أربعين رجلاً تجب في حقّهم الجمعة‏.‏ قال صاحب المغني‏:‏ أمّا الأربعون فالمشهور في المذهب أنّه شرط لوجوب الجمعة وصحّتها، ويشترط حضورهم الخطبتين‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يشترط حضور اثني عشر من أهل الجمعة‏.‏

22 - ثانيها‏:‏ يجب حضور ما لا يقلّ عن هذا العدد من أوّل الخطبة‏.‏

قال في البدائع‏:‏ لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب وحده، ثمّ حضروا فصلّى بهم الجمعة لا يجوز ؛ لأنّ الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشّروع في الصّلاة، فهي شرط حال سماع الخطبة ؛ لأنّ الخطبة بمنزلة شفع من الصّلاة، قالت عائشة - رضي الله عنها‏:‏ إنّما قصرت الجمعة لأجل الخطبة، وجاء مثله عن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد فتشترط الجماعة حال سماع الخطبة، كما تشترط حال الشّروع في الصّلاة‏.‏

23 - ثالثها‏:‏ الجماعة في صلاة الجمعة شرط أداء عند الحنفيّة، وهو الصّحيح عند المالكيّة والشّافعيّة، ولا يتحقّق الأداء إلاّ بوجود تمام الأركان، وهي‏:‏ القيام، والقراءة، والرّكوع، والسّجود‏.‏ وعلى هذا فلو تفرّقت الجماعة قبل سجود الإمام بطلت الجمعة ويستأنف الظّهر، والجماعة شرط انعقاد عند الصّاحبين، والانعقاد يتمّ بدخول صحيح في الصّلاة، وعلى هذا فلو تفرّقت الجماعة عن الإمام قبل السّجود وبعد الانعقاد صحّت جمعة كلّ منهم وقد صحّح صاحب ‏"‏ تنوير الأبصار ‏"‏ ما ذهب إليه أبو حنيفة‏.‏

أمّا الحنابلة‏:‏ فظاهر كلام أحمد أنّهم إن انفضّوا قبل كمالها لم يجز إتمامها جمعةً، وقياس قول الخرقيّ أنّهم إن انفضّوا بعد ركعة أتمّوها جمعةً‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن إلى أنّ من أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة، فإنّه لا يكون مدركاً للجمعة ويصلّيها ظهراً‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ صلاة المقتدي صحيحة على أنّها جمعة إذا أدرك جزءاً منها مع الإمام، وإن قلّ‏.‏ قال في المبسوط‏:‏ ومن أدرك الإمام في التّشهّد في الجمعة أو في سجدتي السّهو فاقتدى به فقد أدركها ويصلّيها ركعتين‏.‏

24 - الثّالث من شروط الصّحّة‏:‏ واشترط الحنفيّة أن تؤدّى بإذن عامّ يستلزم الاشتهار، وهو يحصل بإقامة الجمعة في مكان بارز معلوم لمختلف فئات النّاس، مع فتح الأبواب للقادمين إليه، قال في تنوير الأبصار‏:‏ فلو دخل أمير حصناً أو قصره وأغلق بابه، وصلّى بأصحابه لم تنعقد‏.‏

والحكمة من هذا الشّرط ما قاله صاحب البدائع‏:‏ وإنّما كان هذا شرطاً ؛ لأنّ اللّه تعالى شرع النّداء لصلاة الجمعة بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

والنّداء للاشتهار ؛ ولذا يسمّى جمعةً، لاجتماع الجماعات فيها فاقتضى أن تكون الجماعات كلّها مأذونين بالحضور إذناً عامّاً تحقيقاً لمعنى الاسم‏.‏

25 - الشّرط الرّابع‏:‏ أن لا تتعدّد الجمعة في المصر الواحد مطلقاً‏:‏

ذهب الجمهور إلى منع التّعدّد في أعمّ الأحوال على اختلاف يسير بينهم في ضابط المكان الّذي لا يجوز التّعدّد فيه‏.‏

فمذهب الشّافعيّ وأحمد والمشهور من مذهب مالك هو منع التّعدّد في البلدة الواحدة كبيرةً كانت أو صغيرةً إلاّ لحاجة‏.‏

وهذا - أيضاً - مذهب أبي حنيفة، وصحّحه ابن عابدين وذكر أنّه اختيار الطّحاويّ والتّمرتاشيّ، ونقل عن شرح المنية أنّه أظهر الرّوايتين عن الإمام، ونقل عن النّهر والتّكملة‏:‏ أنّ الفتوى عليه‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ الحكمة من مشروعيّتها هي الاجتماع والتّلاقي، وينافيه التّفرّق بدون حاجة في عدّة مساجد، ولأنّه لم يحفظ عن صحابيّ ولا تابعيّ تجويز تعدّدها‏.‏

ومقابله ما رواه في البدائع عن الكرخيّ‏:‏ أنّه لا بأس بأن يجمعوا في موضعين أو ثلاثة عند محمّد، وعن أبي يوسف روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجوز إلاّ إذا كان بين موضعي الإقامة نهر عظيم كدجلة ونحوها فيصير بمنزلة مصرين‏.‏

والثّانية‏:‏ يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيماً‏.‏

26 - فهذه الشّروط الأربعة إذا فقد واحد منها، بطلت الصّلاة، مع استمرار تعلّق الوجوب بها، حتّى إنّه يجب إعادتها إذا بقي وقت وأمكن تدارك الشّرط الفائت‏.‏

وهذا معنى أنّها شروط للصّحّة فقط، إلاّ ما يتعلّق بفقد الشّرط الأخير، فسنذكر حكم ذلك عند البحث عن مفسدات صلاة الجمعة وما يترتّب على فسادها‏.‏

الإنصات للخطبة

27 - إذا صعد الإمام المنبر للخطبة، يجب على الحاضرين أن لا يشتغلوا عندئذ بصلاة ولا كلام إلى أن يفرغ من الخطبة‏.‏ فإذا بدأ الخطيب بالخطبة تأكّد وجوب ذلك أكثر‏.‏

قال في تنوير الأبصار‏:‏ كلّ ما حرّم في الصّلاة حرّم في الخطبة، وسواء أكان الجالس في المسجد يسمع الخطبة أم لا، اللّهمّ إلاّ أن يشتغل بقضاء فائتة لم يسقط التّرتيب بينها وبين الصّلاة الوقتيّة فلا تكره، بل يجب فعلها‏.‏

فلو خرج الخطيب، وقد بدأ المصلّي بصلاة نافلة، كان عليه أن يخفّفها ويسلّم على رأس ركعتين، وهذا محلّ اتّفاق بين الأئمّة الأربعة‏.‏

غير أنّه جرى الخلاف فيما إذا دخل الرّجل والخطيب يخطب فقد ذهب الحنفيّة، والمالكيّة، إلى أنّه يجلس ولا يصلّي، شأنه في ذلك كالجالسين دون أيّ فرق‏.‏

وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه يصلّي ركعتين خفيفتين ما لم يجلس، تحيّةً للمسجد وقال الشّافعيّة‏:‏ إن غلب على ظنّه أنّه إن صلّاها فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصلّها‏.‏

الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة

28 - ذهب الجمهور إلى أنّه يسنّ للإمام الجهر في قراءة صلاة الجمعة، وعند الحنفيّة يجب الجهر فيها بالقراءة، قال في البدائع‏:‏ وذلك لورود الأثر فيها بالجهر وهو ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّه قال‏:‏ «سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الرّكعة الأولى سورة الجمعة وفي الثّانية سورة المنافقين» ولو لم يجهر لما سمع ولأنّ النّاس يوم الجمعة فرّغوا قلوبهم، عن الاهتمام بأمور التّجارة لعظم ذلك الجمع فيتأمّلون قراءة الإمام فتحصل لهم ثمرات القراءة، فيجهر بها كما في صلاة اللّيل، وخالف بقيّة الأئمّة في وجوب الجهر فذهبوا إلى استحبابه‏.‏

السّعي لصلاة الجمعة

29 - من الواجبات المتعلّقة بهذه الشّعيرة‏:‏ وجوب السّعي إليها، وترك معاملات البيع والشّراء عند الأذان الثّاني، وهو قول الجمهور، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏‏.‏

وقال الحنفيّة في الأصحّ عندهم‏:‏ إنّما يجب ذلك عند الأذان الأوّل، ويترتّب على تأخير هذا السّعي الواجب عند سماع النّداء ما يترتّب على ترك الواجبات من الحرمة بسبب المعصية‏.‏

أمّا حكم العقد الّذي يباشره من بيع، ونحوه بدلاً من المبادرة إلى السّعي ففي بطلانه، أو كراهته اختلاف الفقهاء ويعرف ذلك بالرّجوع إلى أحكام البيع‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ بيع منهيّ عنه ج /9 ف / 133‏)‏‏.‏

المستحبّات من كيفيّة أداء الجمعة

30 - أ - الأذان بين يدي المنبر قبل البدء بالخطبة إذا جلس الخطيب على المنبر، وهذا الأذان هو الّذي كان يؤذّن لكلّ من الوقت والخطبة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثمّ رأى عثمان - رضي الله عنه - أن يؤذّن أذاناً أوّل للإعلام بدخول الوقت، وذلك بسبب كثرة النّاس‏.‏ وأبقى الأذان الثّاني بين يدي المنبر التزاماً للسّنّة‏.‏

ب - أن يخطب الخطيب خطبتين قائماً، يفصل بينهما بجلسة خفيفة يفتتحها بحمد اللّه والثّناء عليه، والتّشهّد، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويزيد على ذلك في الخطبة الثّانية الدّعاء للمؤمنين والمؤمنات‏.‏

31 - وقد اختلف الفقهاء في حكم الطّهارة في الخطبة، فذهب - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الطّهارة سنّة في الخطبة، وذهبت الشّافعيّة إلى اعتبارها شرطاً فيها‏.‏ ودليل الّذين لم يشترطوا الطّهارة فيها‏:‏ أنّ الخطبة من باب الذّكر، والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر اللّه تعالى، أمّا دليل الآخرين‏:‏ فهو مواظبة السّلف على الطّهارة فيها، والقياس على الصّلاة‏.‏

استحباب كون الخطيب والإمام واحداً

32 - يستحبّ أن لا يؤمّ القوم إلاّ من خطب فيهم ؛ لأنّ الصّلاة والخطبة كشيء واحد، قال في تنوير الأبصار‏:‏ فإن فعل بأن خطب صبيّ بإذن السّلطان وصلّى بالغ جاز، غير أنّه يشترط في الإمام حينئذ أن يكون ممّن قد شهد الخطبة‏.‏

قال في البدائع‏:‏ ولو أحدث الإمام بعد الخطبة قبل الشّروع في الصّلاة فقدّم رجلاً يصلّي بالنّاس‏:‏ إن كان ممّن شهد الخطبة أو شيئاً منها جاز، وإن لم يشهد شيئاً من الخطبة لم يجز، ويصلّي بهم الظّهر، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء‏.‏

وخالف في ذلك المالكيّة، فذهبوا إلى وجوب كون الخطيب والإمام واحداً إلاّ لعذر كمرض، وكأن لا يقدر الإمام على الخطبة، أو لا يحسنها‏.‏

ما يقرأ في صلاة الجمعة

33 - اتّفق الفقهاء على أنّه‏:‏ يستحبّ للإمام أن يقرأ في الرّكعة الأولى ‏"‏ سورة الجمعة ‏"‏، وفي الرّكعة الثّانية ‏"‏ سورة المنافقين ‏"‏‏.‏ لما روى عبيد اللّه بن أبي رافع قال‏:‏ «صلّى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الرّكعة الأولى، وفي الرّكعة الآخرة ‏{‏إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ‏}‏ فلمّا قضى أبو هريرة الصّلاة أدركته فقلت‏:‏ يا أبا هريرة إنّك قرأت بسورتين، كان عليّ بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة فقال أبو هريرة‏:‏ إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة»‏.‏

كما استحبّ جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أيضاً قراءة سورة ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ في الرّكعة الأولى و ‏{‏هَلْ أَتَاكَ‏}‏ في الرّكعة الثّانية‏.‏ لما روى النّعمان بن بشير قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ و ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏»‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ لكن لا يواظب على قراءتها بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات حتّى لا يؤدّي إلى هجر بعض القرآن، ولئلاّ تظنّه العامّة حتماً‏.‏

وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بأنّ قراءة ‏"‏ الجمعة، والمنافقين ‏"‏ أولى‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين في وقت، وهاتين في آخر فهما سنّتان، وصرّح المحلّيّ من الشّافعيّة‏:‏ بأنّه لو ترك قراءة ‏"‏ سورة الجمعة ‏"‏ في الأولى قرأها مع ‏"‏ المنافقين ‏"‏ في الثّانية، ولو قرأ ‏"‏ المنافقين ‏"‏ في الأولى قرأ ‏"‏ الجمعة ‏"‏ في الثّانية‏.‏ كي لا تخلو صلاته عن هاتين السّورتين‏.‏

ويندب عند المالكيّة أن يقرأ في الرّكعة الثّانية - أيضاً - بسورة ‏{‏هَلْ أَتَاكَ‏}‏، أو ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏‏.‏

قال الدّسوقيّ‏:‏ إنّه مخيّر في القراءة في الرّكعة الثّانية بين الثّلاث - ‏{‏هَلْ أَتَاكَ‏}‏ أو ‏{‏سَبِّحِ‏}‏ أو ‏"‏ المنافقون ‏"‏ - وأنّ كلّاً يحصل به النّدب، لكن ‏{‏هَلْ أَتَاكَ‏}‏ أقوى في النّدب، وهذا ما اعتمده مصطفى الرّماصيّ‏.‏ وفي كلام بعضهم ما يفيد أنّ المسألة ذات قولين، وأنّ الاقتصار على ‏{‏هَلْ أَتَاكَ‏}‏ مذهب المدوّنة، وأنّ التّخيير بين الثّلاث قول الكافي‏.‏

مفسدات الجمعة

تنقسم إلى نوعين‏:‏

مفسدات مشتركة، ومفسدات خاصّة

34 - فأمّا المفسدات المشتركة‏:‏ فهي كلّ ما يفسد سائر الصّلوات ‏(‏ر‏.‏ صلاة‏)‏

35 - وأمّا مفسداتها الخاصّة بها فتنحصر في الأمور التّالية‏:‏

أوّلها‏:‏ خروج وقت الظّهر قبل الفراغ منها فيصلّيها ظهراً، ويستوي في الفساد خروج الوقت قبل المباشرة بها، وخروجه بعد المباشرة بها وقبل الانتهاء منها هذا عند الحنفيّة، ونحوه للشّافعيّة فإنّها تنقلب ظهراً ولا تكون جمعةً، وقال الحنابلة‏:‏ إن أحرموا بها في الوقت فهي جمعة‏.‏

وهذا يعني‏:‏ أنّ اشتراط وقت الظّهر لها مستمرّ في الاعتبار إلى لحظة الفراغ منها قال في تنوير الأبصار‏:‏ لأنّ الوقت شرط الأداء لا شرط الافتتاح‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ شرط الجمعة وقوع كلّها بالخطبة وقت الظّهر للغروب‏.‏

ثانيها‏:‏ انفضاض الجماعة أثناء أدائها، قبل أن تقيّد الرّكعة الأولى بالسّجدة فيصلّيها ظهراً‏.‏ وذلك على ما ذهب إليه الأئمّة القائلون‏:‏ بأنّ الجماعة شرط أداءً، وأمّا على ما رجّحه الآخرون، فلا أثر لانفساخها بعد الانعقاد وإن لم تقيّد الرّكعة الأولى جماعةً‏.‏

وللشّافعيّة ثلاثة أقوال‏:‏ الأظهر‏:‏ يتمّها ظهراً، والثّاني‏:‏ إن بقي معه اثنان يتمّها جمعةً، والثّالث‏:‏ إن بقي معه واحد يتمّها جمعةً‏.‏

وسبب هذا الخلاف‏:‏ أنّ الجماعة شرط أداءً لصحّة الجمعة عند بعض الأئمّة، وهي عند بعضهم شرط انعقاد‏.‏

قضاء صلاة الجمعة

36 - صلاة الجمعة لا تقضى بالفوات، وإنّما تعاد الظّهر في مكانها‏.‏ قال في البدائع‏:‏ وأمّا إذا فاتت عن وقتها، وهو وقت الظّهر، سقطت عند عامّة العلماء ‏;‏ لأنّ صلاة الجمعة لا تقضى ؛ لأنّ القضاء على حسب الأداء، والأداء فات بشرائط مخصوصة يتعذّر تحصيلها على كلّ فرد، فتسقط، بخلاف سائر المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها وهذا محلّ اتّفاق‏.‏

اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد

37 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إذا وافق العيد يوم الجمعة فلا يباح لمن شهد العيد التّخلّف عن الجمعة‏.‏ قال الدّسوقيّ‏:‏ وسواء من شهد العيد بمنزله في البلد، أو خارجها‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصلّوا العيد والظّهر جاز وسقطت الجمعة عمّن حضر العيد ؛ لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى العيد، وقال‏:‏ من شاء أن يجمّع فليجمّع» وصرّحوا بأنّ إسقاط الجمعة حينئذ إسقاط حضور لا إسقاط وجوب، فيكون حكمه كمريض ونحوه ممّن له عذر أو شغل يبيح ترك الجمعة، ولا يسقط عنه وجوبها فتنعقد به الجمعة ويصحّ أن يؤمّ فيها‏.‏

والأفضل له حضورها خروجاً من الخلاف‏.‏ ويستثنى من ذلك الإمام فلا يسقط عنه حضور الجمعة، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنّا مجمّعون»‏.‏

ولأنّه لو تركها لامتنع فعلها في حقّ من تجب عليه، ومن يريدها ممّن سقطت عنه، وقالوا‏:‏ إن قدّم الجمعة فصلّاها في وقت العيد، فقد روي عن أحمد قال‏:‏ تجزئ الأولى منهما‏.‏

فعلى هذا‏:‏ تجزيه عن العيد والظّهر، ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوّز الجمعة في وقت العيد‏.‏

وأجاز الشّافعيّة في اليوم الّذي يوافق فيه العيد يوم الجمعة لأهل القرية الّذين يبلغهم النّداء لصلاة العيد‏:‏ الرّجوع وترك الجمعة، وذلك فيما لو حضروا لصلاة العيد ولو رجعوا إلى أهليهم فاتتهم الجمعة ؛ فيرخّص لهم في ترك الجمعة تخفيفاً عليهم‏.‏ ومن ثمّ لو تركوا المجيء للعيد وجب عليهم الحضور للجمعة، ويشترط - أيضاً - لترك الجمعة أن ينصرفوا قبل دخول وقت الجمعة‏.‏

آداب صلاة الجمعة ويومها

اختصّ يوم الجمعة واختصّت صلاتها بآداب تشمل مجموعة أفعال وتروك، مجملها فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ ما يسنّ فعله

38 - يسنّ له أن يغتسل، وأن يمسّ طيباً ويتجمّل، ويلبس أحسن ثيابه، لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً‏:‏ «لو أنّكم تطهّرتم ليومكم هذا»، وفي رواية عن أحمد‏:‏ الغسل لها واجب‏.‏

قال صاحب البدائع في بيان علّة ذلك‏:‏ لأنّ الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، فيستحبّ أن يكون المقيم لها على أحسن وصف كما يسنّ التّبكير في الخروج إلى الجامع والاشتغال بالعبادة إلى أن يخرج الخطيب‏.‏

وهذا كلّه ممّا اتّفقت الأئمّة على ندبه، وانفرد المالكيّة - أيضاً - فاشترطوا في الغسل أن يكون متّصلاً بوقت الذّهاب إلى الجامع، قال في الجواهر الزّكيّة‏:‏ فإن اغتسل واشتغل بغذاء أو نوم أعاد الغسل على المشهور، فإذا خفّ الأكل، أو النّوم فلا شيء عليه في ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يسنّ تركه

39 - أوّلاً‏:‏ أكل كلّ ذي ريح كريهة‏:‏ كثوم وبصل ونحوهما‏.‏

40 - ثانياً‏:‏ تخطّي الرّقاب في المسجد، وهو محرّم إذا كان الخطيب قد أخذ في الخطبة، إلاّ أن لا يجد إلاّ فرجةً أمامه ولا سبيل إليها إلاّ بتخطّي الرّقاب، فيرخّص في ذلك للضّرورة‏.‏ 41 - ثالثاً‏:‏ تجنّب الاحتباء والإمام يخطب‏.‏

وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة، حيث صرّحوا بكراهته‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ والصّحيح أنّه مكروه ؛ فقد صحّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب» وقال الخطّابيّ من أصحابنا‏:‏ نهى عنه لأنّه يجلب النّوم، فيعرّض طهارته للنّقض ويمنعه من استماع الخطبة‏.‏

ولم ير جمهور الفقهاء به بأساً حيث صرّحوا بجوازه ‏(‏ر‏:‏ احتباء‏)‏‏.‏

كما صرّح الشّافعيّة بكراهة تشبيك الأصابع‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ يكره أن يشبّك بين أصابعه أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها‏.‏

42 - يحرم عند الجمهور إنشاء سفر بعد الزّوال ‏"‏ وهو أوّل وقت الجمعة ‏"‏ من المصر الّذي هو فيه، إذا كان ممّن تجب عليه الجمعة، وعلم أنّه لن يدرك أداءها في مصر آخر‏.‏

فإن فعل ذلك فهو آثم على الرّاجح ما لم يتضرّر بتخلّفه عن رفقته‏.‏

وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - حيث صرّحوا بحرمة السّفر بعد الزّوال‏.‏

كما صرّح المالكيّة والحنابلة بكراهة السّفر بعد طلوع فجر يوم الجمعة‏.‏

وذهب الشّافعيّ في الجديد‏:‏ إلى أنّ حرمة السّفر تبدأ من وقت الفجر وهو المفتى به في المذهب، ودليله‏:‏ أنّ مشروعيّة الجمعة مضافة إلى اليوم كلّه لا إلى خصوص وقت الظّهر، بدليل وجوب السّعي إليها قبل الزّوال على بعيد الدّار‏.‏

صَلاَةُ الْجنَازة

انظر‏:‏ جنائز‏.‏