فصل: الاختلاف في التّفريق بين البطلان والفساد، وسبب ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


بطالة

التّعريف

1 - البطالة لغةً‏:‏ التّعطّل عن العمل‏.‏ يقال‏:‏ بطل العامل، أو الأجير عن العمل فهو بطّال بيّن البطالة ‏(‏بفتح الباء‏)‏ وحكى بعض شارحي المعلّقات البطالة ‏(‏بالكسر‏)‏ وقال‏:‏ هو أفصح، ويقال‏:‏ بطل الأجير من العمل، يبطل بطالةً وبطالةً‏:‏ تعطّل فهو بطّال‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

حكمها التّكليفي

2 - يختلف حكم البطالة تبعاً للأحوال الّتي تكون فيها كالآتي‏:‏ البطالة حتّى لو كانت للتّفرّغ للعبادة، مع القدرة على العمل، والحاجة إلى الكسب لقوته وقوت من يعوله تكون حراماً، لخبر ‏{‏إنّ اللّه يكره الرّجل البطّال‏}‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يحبّ العبد المؤمن المحترف‏}‏ وعن ابن مسعودٍ أنّه قال‏:‏ إنّي لأمقت الرّجل فارغاً ليس في شيءٍ من عمل دنيا ولا آخرةٍ وفي الشّعب للبيهقيّ عن عروة بن الزّبير أنّه سئل‏:‏ ما شرّ شيءٍ في العالم ‏؟‏ فقال‏:‏ البطالة‏.‏ والبطالة تهاوناً وكسلاً مع عدم الحاجة للكسب مكروهة أيضاً، وتزري بصاحبها‏.‏ أمّا البطالة لعذرٍ - كزمانةٍ وعجزٍ لعاهةٍ - فلا إثم فيها ولا كراهة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها‏}‏‏.‏

التّوكّل لا يدعو إلى البطالة‏:‏

3 - التّوكّل لا يدعو إلى البطالة، وإنّما هو واجب، ولكن يجب معه الأخذ بالأسباب‏.‏ وورد أنّ ‏{‏أعرابيّاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ أرسل ناقتي وأتوكّل ‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اعقلها وتوكّل‏}‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يحبّ المؤمن المحترف‏}‏‏.‏ ومرّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال‏:‏ ما أنتم ‏؟‏ قالوا متوكّلون قال‏:‏ لا بل أنتم متأكّلون، إنّما المتوكّل من ألقى حبّةً في الأرض، وتوكّل على ربّه‏.‏ فليس في طلب المعاش والمضيّ في الأسباب على تدبير اللّه ترك التّفويض، والتّوكّل إنّما هو بالقلب، وترك التّوكّل يكون إذا غفل عن اللّه، واعتمد على الأسباب ونسي مسبّبها، وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى ذي سيما سأل‏:‏ أله حرفة ‏؟‏ فإن قيل‏:‏ لا، سقط من عينه‏.‏

العبادة ليست مسوّغاً للبطالة‏:‏

4 - يرى الفقهاء‏:‏ أنّ العبادة ليست مسوّغاً للبطالة، وأنّ الإسلام لا يقرّ البطالة من أجل الانقطاع للعبادة، لأنّ في هذا تعطيلاً للدّنيا الّتي أمر اللّه عباده بالسّعي فيها، قال تعالى ‏{‏فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه‏}‏ وقال جلّ شأنه ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع‏}‏ وأعقبها بقوله ‏{‏فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه‏}‏ وورد أنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على شخصٍ، قالوا له عنه أنّه كان يقوم اللّيل ويصوم النّهار، وهو منقطع للعبادة انقطاعاً كلّيّاً، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمّن يعوله ‏؟‏ فقالوا‏:‏ كلّنا‏.‏ فقال‏:‏ عليه الصلاة والسلام كلّكم أفضل منه‏}‏‏.‏

أثر البطالة في طلب المتعطّل نفقةً له‏:‏

5 - أجمع الفقهاء على أنّ نفقة الابن المتعطّل عن العمل - مع قدرته على الكسب - لا تجب على أبيه، لأنّ من شروط وجوبها‏:‏ أن يكون عاجزاً عن الكسب، والعاجز عن الكسب هو من لا يمكنه اكتساب معيشته بالوسائل المشروعة المعتادة، والقادر غنيّ بقدرته، ويستطيع أن يتكسّب بها وينفق على نفسه، ولا يكون في حالة ضرورةٍ يتعرّض فيها للهلاك‏.‏

أثر البطالة في استحقاق الزّكاة‏:‏

6 - إنّ القادر على الكسب مكلّف بالعمل ليكفي نفسه بنفسه، أمّا العاجز عن الكسب لضعفٍ ذاتيٍّ، كالصّغر والأنوثة والعته والشّيخوخة والمرض إذا لم يكن عنده مال موروث يسدّ حاجته، كان في كفالة أقاربه الموسرين، وإذا لم يوجد له شخص يكفله بما يحتاجه فقد حلّ له الأخذ من الزّكاة، ولا حرج عليه في دين اللّه‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

رعاية الدّولة والمجتمع للمتعطّلين بعدم وجود عملٍ‏:‏

7 - صرّح الفقهاء بأنّ على الدّولة القيام بشئون فقراء المسلمين من العجزة واللّقطاء والمساجين الفقراء، الّذين ليس لهم ما ينفق عليهم منه ولا أقارب تلزمهم نفقتهم، فيتحمّل بيت المال نفقاتهم وكسوتهم، وما يصلحهم من دواءٍ وأجرة علاجٍ وتجهيز ميّتٍ ونحوها‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ بيت المال‏)‏‏.‏

بطانة

التّعريف

1 - البطانة‏:‏ بطانة الثّوب، وهي‏:‏ ما يجعل وقاءً له من الدّاخل، وهي خلاف الظّهارة‏.‏ وبطانة الرّجل‏:‏ خاصّته، وأبطنت الرّجل‏:‏ جعلته من خواصّك، وفي الحديث‏:‏ ‏{‏وما بعث اللّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفةٍ إلاّ كانت له بطانتان‏:‏ بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه اللّه تعالى‏}‏ وهو مصدر سمّي به الواحد والجمع‏.‏ والبطانة اصطلاحاً‏:‏ خاصّة الرّجل المقرّبون الّذين يفضي إليهم بأسراره‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحاشية‏:‏

2 - الحاشية‏:‏ هي واحدة حواشي الثّوب‏.‏ وتطلق على صغار الإبل‏.‏ وعلى ما يكتب على جوانب صفحات الكتاب‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ أهل الرّجل من غير أصوله وفروعه كالإخوة والأعمام‏.‏

ب - ‏(‏أهل الشّورى‏)‏‏:‏

3 - الشّورى‏:‏ اسم مصدرٍ من التّشاور‏.‏ وأهل الشّورى‏:‏ هم أهل الرّأي الّذين يقدّمون المشورة لمن يستشيرهم، وقد يكونون من بطانة الرّجل أو غيرهم من ذوي الرّأي‏.‏ ما يتعلّق بالبطانة من أحكامٍ‏:‏ أوّلاً‏:‏ البطانة بمعنى خاصّة الرّجل‏.‏ اتّخاذ البطانة الصّالحة‏:‏

4 - لمّا كانت الشّورى من قواعد الشّريعة، ومن لوازم الحكم في الإسلام، وأنّ العادة جارية بأنّ الإنسان يطمئنّ إلى بطانته، فإنّه يجب على ولاة المسلمين أن يتّخذوا بطانةً صالحةً، من أهل التّقوى والأمانة، وممّن يخشى اللّه‏.‏ قال ابن خويز مندادٍ‏:‏ واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدّين، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ومشاورة وجوه النّاس فيما يتعلّق بالمصالح، ومشاورة وجوه الكتّاب والوزراء والعمّال فيما يفعلون بمصالح البلاد وعمارتها‏.‏ وجاء في كتاب ‏"‏ الأحكام السّلطانيّة ‏"‏ للماورديّ في معرض عدّ واجبات الإمام‏:‏ استكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء فيما يفوّضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطةً، والأموال بالأمناء محفوظةً‏.‏ وفي الأثر الصّحيح‏:‏ ‏{‏إذا أراد اللّه بالأمير خيراً جعل له وزير صدقٍ، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوءٍ‏:‏ إن نسي لم يذكّره، وإن ذكر لم يعنه‏}‏‏.‏ وعن أبي سعيدٍ الخدريّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏{‏ما بعث اللّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفةٍ إلاّ كانت له بطانتان‏:‏ بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه اللّه تعالى‏}‏‏.‏

اتّخاذ بطانةٍ من دون المؤمنين‏:‏

5 - لا خلاف بين علماء الإسلام في أنّه لا يجوز لأولياء أمور المسلمين أن يتّخذوا بطانةً من الكفّار والمنافقين، يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، ويستشيرونهم في الأمور، لأنّ هذا من شأنه أن يضرّ مصلحة المسلمين، ويعرّض أمنهم للخطر، وقد ورد التّنزيل بتحذير المؤمنين من موالاة غيرهم ممّن يخالفونهم في العقيدة والدّين، وقال عزّ من قائلٍ‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا باللّه ربّكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل‏}‏‏.‏ ونهى اللّه تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن اتّخاذ بطانةٍ من دون المؤمنين، يطلعونهم على سرائرهم، ويكشفون لهم عورات المسلمين‏.‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ وفي معنى ذلك آيات كثيرة‏.‏ وقد تقدّم الحديث في شأن بطانة السّوء‏.‏ وقال ابن أبي حاتمٍ‏:‏ قيل لعمر بن الخطّاب‏:‏ رضي الله عنه‏:‏ إنّ هنا غلاماً من أهل الحيرة حافظاً كاتباً، فلو اتّخذته كاتباً ‏؟‏ قال‏:‏ اتّخذت إذن بطانةً من دون المؤمنين‏.‏ قال ابن كثيرٍ‏:‏ في الأثر مع هذه الآية دليل على أنّه لا يجوز استعمال أهل الذّمّة في الكتابة، الّتي فيها استطالة على المسلمين، واطّلاع على دخائل أمورهم الّتي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب‏.‏ وقال السّيوطيّ نقلاً عن إلكيا الهرّاسيّ‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتّخذوا بطانةً من دونكم‏}‏ فيه دلالة على أنّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذّمّة في شيءٍ من أمر المسلمين‏.‏ وقال القرطبيّ في تفسير هذه الآية‏:‏ أكّد اللّه سبحانه وتعالى الزّجر عن الرّكون إلى الكفّار وهو متّصل بما سبق من قوله‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏، ونهى المؤمنين بهذه الآية أن يتّخذوا من الكفّار وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم‏.‏ ثمّ بيّن اللّه المعنى الّذي من أجله نهى عن المواصلة فقال‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ يعني لا يتركون الجهد في إفسادكم، أي أنّهم وإن لم يقاتلوكم فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة‏.‏ وروي أنّ أبا موسى الأشعريّ استكتب ذمّيّاً، فعنّفه عمر رضي الله عنهما وتلا عليه هذه الآية‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال أيضاً‏:‏ لا تستعملوا أهل الكتاب فإنّهم يستحلّون الرّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيّتكم بالّذين يخشون اللّه تعالى‏.‏

ثانياً‏:‏ البطانة في الثّوب‏:‏ الصّلاة على ثوبٍ بطانته نجسة‏:‏

6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة وأبو حنيفة والحنابلة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه تصحّ الصّلاة على بساطٍ ظاهره طاهر، وبطانته نجس، لأنّه ليس حاملاً ولا لابساً، ولا مباشراً للنّجاسة، فأشبه ما لو صلّى على بساطٍ طرفه نجس، أو مفروشٍ على نجسٍ‏.‏ وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يصحّ الصّلاة عليه، نظراً لاتّحاد المحلّ، فاستوى ظاهره وباطنه‏.‏

حكم لبس الرّجل ثوباً بطانته من حريرٍ‏:‏

7 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يحرم على الرّجل لبس ثوبٍ بطانته من حريرٍ، لحديث عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تلبسوا الحرير، فإنّه من لبسه في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة‏}‏‏.‏ وفي كشّاف القناع، بعد بيان تحريم الحرير على الرّجال والاستدلال بالحديث، قال‏:‏ ولو كان الحرير بطانةً، لعموم الخبر، لكن قيّد المالكيّة حرمة المبطّن بالحرير بما إذا كان كثيراً، كما قال القاضي أبو الوليد‏.‏ وهو مكروه عند الحنفيّة كما جاء في ابن عابدين نقلاً عن الهنديّة، وقال في تعليله‏:‏ لأنّ البطانة مقصودة‏.‏ والكراهة حيث أطلقت عند الحنفيّة فهي لكراهة التّحريم‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏حرير‏)‏‏.‏

بطلان

التّعريف

1 - البطلان لغةً‏:‏ الضّياع والخسران، أو سقوط الحكم‏.‏ يقال‏:‏ بطل الشّيء يبطل بطلاً وبطلاناً بمعنى‏:‏ ذهب ضياعاً وخسراناً، أو سقط حكمه، ومن معانيه‏:‏ الحبوط‏.‏ وهو في الاصطلاح يختلف تبعاً للعبادات والمعاملات‏.‏ ففي العبادات‏:‏ البطلان‏:‏ عدم اعتبار العبادة حتّى كأنّها لم تكن‏.‏ كما لو صلّى بغير وضوءٍ‏.‏ والبطلان في المعاملات يختلف فيها تعريف الحنفيّة عن غيرهم، فهو عند الحنفيّة‏:‏ أن تقع على وجهٍ غير مشروعٍ بأصله ولا بوصفه، وينشأ عن البطلان تخلّف الأحكام كلّها عن التّصرّفات، وخروجها عن كونها أسباباً مفيدةً لتلك الأحكام الّتي تترتّب عليها، فبطلان المعاملة لا يوصّل إلى المقصود الدّنيويّ أصلاً، لأنّ آثارها لا تترتّب عليها‏.‏ وتعريف البطلان عند غير الحنفيّة هو تعريف الفساد بعينه، وهو‏:‏ أن تقع المعاملة على وجهٍ غير مشروعٍ بأصله أو بوصفه أو بهما‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الفساد‏:‏

2 - الفساد‏:‏ مرادف للبطلان عند الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ فكلّ من الباطل والفاسد يطلق على الفعل الّذي يخالف وقوعه الشّرع، ولا تترتّب عليه الآثار، ولا يسقط القضاء في العبادات‏.‏ وهذا في الجملة، ففي بعض أبواب الفقه يأتي التّفريق بين البطلان والفساد، كالحجّ والعاريّة والكتابة والخلع وسيأتي بيان ذلك‏.‏ أمّا عند الحنفيّة، فالفساد يباين البطلان بالنّسبة للمعاملات، فالبطلان عندهم‏:‏ مخالفة الفعل للشّرع لخللٍ في ركنٍ من أركانه أو شرطٍ من شرائط انعقاده‏.‏ أمّا الفساد فهو‏:‏ مخالفة الفعل للشّرع في شرطٍ من شروط صحّته، ولو مع موافقة الشّرع في أركانه وشرائط انعقاده‏.‏

ب - الصّحّة‏:‏

3 - الصّحّة في اللّغة‏.‏ بمعنى‏:‏ السّلامة فالصّحيح ضدّ المريض‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ وقوع الفعل موافقاً للشّرع باستجماع الأركان والشّروط‏.‏ وأثره في المعاملات‏:‏ ترتّب ثمرة التّصرّف المطلوبة منه عليه، كحلّ الانتفاع في البيع، والاستمتاع في النّكاح‏.‏ وأثره في العبادات هو سقوط القضاء بفعل العبادة‏.‏

ج - الانعقاد‏:‏

4 - الانعقاد‏:‏ يشمل الصّحّة، ويشمل الفساد عند الحنفيّة، فهو ارتباط أجزاء التّصرّف شرعاً‏.‏ أو هو‏:‏ تعلّق كلٍّ من الإيجاب والقبول بالآخر على وجهٍ مشروعٍ، يظهر أثره في متعلّقهما‏.‏ فالعقد الفاسد منعقد بأصله، ولكنّه فاسد بوصفه، وهذا عند الحنفيّة‏.‏ فالانعقاد ضدّ البطلان‏.‏ عدم التّلازم بين بطلان التّصرّف في الدّنيا وبطلان أثره في الآخرة‏:‏

5 - لا تلازم بين صحّة التّصرّف أو بطلانه في أحكام الدّنيا، وبين بطلان أثره في الآخرة، فقد يكون محكوماً عليه بالصّحّة في الدّنيا، لاستكماله الأركان والشّروط المطلوبة شرعاً، لكن اقترن به من المقاصد والنّيّات ما يبطل ثمرته في الآخرة، فلا يكون له عليه ثواب، بل قد يلزمه الإثم، ودليل ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الدّنيا يصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏}‏ وقد يصحّ العمل ويستحقّ عامله الثّواب، ولكن يتبعه صاحبه عملاً يبطله، فالمنّ والأذى يبطل أجر الصّدقة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏‏.‏

6- ويوضّح الشّاطبيّ ذلك فيقول‏:‏ يراد بالبطلان إطلاقان‏:‏ أحدهما‏:‏ عدم ترتّب آثار العمل عليه في الدّنيا، كما نقول في العبادات‏:‏ إنّها غير مجزئةٍ ولا مبرّئةٍ للذّمّة ولا مسقطةٍ للقضاء، فهي باطلة بهذا المعنى لمخالفتها لما قصد الشّارع فيها‏.‏ وقد تكون باطلةً لخللٍ في بعض أركانها أو شروطها، ككونها ناقصةً ركعةً أو سجدةً‏.‏ ونقول أيضاً في العادات‏:‏ إنّها باطلة، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعاً، من حصول إملاكٍ واستباحة فروجٍ وانتفاعٍ بالمطلوب‏.‏ والثّاني‏:‏ أن يراد بالبطلان عدم ترتّب آثار العمل عليه في الآخرة، وهو الثّواب‏.‏ فتكون العبادة باطلةً بالإطلاق الأوّل، فلا يترتّب عليها جزاء، لأنّها غير مطابقةٍ لمقتضى الأمر بها، كالمتعبّد رئاء النّاس، فهي غير مجزئةٍ ولا يترتّب عليها ثواب، وقد تكون صحيحةً بالإطلاق الأوّل، ولا يترتّب عليها ثواب أيضاً، كالمتصدّق بالصّدقة يتبعها بالمنّ والأذى، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس‏}‏‏.‏

الحكم التّكليفيّ للإقدام على تصرّفٍ باطلٍ مع العلم وعدمه‏:‏

7 - الإقدام على فعلٍ باطلٍ - مع العلم ببطلانه - حرام، ويأثم فاعله، لارتكابه المعصية بمخالفته المشروع، لأنّ البطلان وصف للفعل الّذي يقع مخالفاً للشّرع، وسواء أكان ذلك في العبادات، كالصّلاة بدون طهارةٍ، والأكل في نهار رمضان، أم كان ذلك في المعاملات، كبيع الميتة والدّم والملاقيح والمضامين، وكالاستئجار على النّوح، وكرهن الخمر عند المسلم ولو كانت لذمّيٍّ، وما شابه ذلك، أم كان في النّكاح، كنكاح الأمّ والبنت‏.‏ وهذا الحكم يشمل الفاسد أيضاً عند الحنفيّة، فإنّه وإن كان يفيد بعض الأحكام - كإفادته الملك بالقبض في البيع مثلاً - إلاّ أنّ الإقدام عليه حرام، ويجب فسخه حقّاً للّه تعالى دفعاً للفساد، لأنّ فعله معصية، فعلى العاقد التّوبة منه بفسخه‏.‏ ويستثنى من حكم الإقدام على التّصرّف الباطل حالة الضّرورة، كالمضطرّ يشتري الميتة‏.‏ هذا فيمن يقدم على الباطل مع علمه ببطلانه‏.‏

8 - وأمّا الإقدام على التّصرّف الباطل مع عدم العلم، فهذا يشمل النّاسي والجاهل‏.‏ والأصل بالنّسبة للجاهل‏:‏ أنّه لا يجوز له أن يقدم على فعلٍ حتّى يعلم حكم اللّه فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلّم ما شرعه اللّه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلّم ما شرعه اللّه في الإجارة، ومن صلّى وجب عليه أن يتعلّم حكم اللّه تعالى في هذه الصّلاة، وهكذا في كلّ ما يريد الإقدام عليه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ فلا يجوز الشّروع في شيءٍ حتّى يعلم حكمه، فيكون طلب العلم واجباً في كلّ مسألةٍ، وترك التّعلّم معصيةً يؤاخذ بها‏.‏ أمّا المؤاخذة بالنّسبة للتّصرّف الّذي وقع باطلاً مع الجهل، فقد ذكر القرافيّ في الفروق‏:‏ أنّ صاحب الشّرع قد تسامح في جهالاتٍ في الشّريعة، فعفا عن مرتكبها، وأخذ بجهالاتٍ، فلم يعف عن مرتكبها‏.‏ وانظر للتّفصيل مصطلح ‏(‏جهل، نسيان‏)‏‏.‏

الإنكار على من فعل الباطل‏:‏

9 - إن كان الفعل متّفقاً على بطلانه، فإنكاره واجب على مسلمٍ‏.‏ أمّا إن كان مختلفاً فيه، فلا إنكار فيه‏.‏ قال الزّركشيّ‏:‏ الإنكار من المنكر إنّما يكون فيما اجتمع عليه، فأمّا المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنّ كلّ مجتهدٍ مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السّلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره أمراً مجتهداً فيه، وإنّما ينكرون ما خالف نصّاً، أو إجماعاً قطعيّاً أو قياساً جليّاً، وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه، فإن كان يراه فالأصحّ الإنكار‏.‏ وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في ‏(‏إنكار، أمر بالمعروف، اجتهاد، تقليد، اختلاف، إفتاء، رخصة‏)‏‏.‏

الاختلاف في التّفريق بين البطلان والفساد، وسبب ذلك‏:‏

10 - يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا فرق بين البطلان والفساد في التّصرّفات، سواء أكان ذلك في العبادات، كالصّلاة مع ترك ركنٍ من أركانها، أو شرطٍ من شروطها، أم كان ذلك في النّكاح، كالعقد على إحدى المحارم، أم كان في المعاوضات، كبيع الميتة والدّم، والشّراء بالخمر، والبيع المشتمل على الرّبا، فكلّ من البطلان والفساد يوصف به الفعل الّذي يقع على خلاف ما طلبه الشّارع، ومن أجل هذه المخالفة لم يعتبره، ولم يرتّب عليه أيّ أثرٍ من الآثار الّتي تترتّب على الفعل الصّحيح‏.‏ فالجمهور يطلقونهما، ويريدون بهما معنًى واحداً، وهو‏:‏ وقوع الفعل على خلاف ما طلبه الشّارع، سواء أكان هذا الخلاف راجعاً إلى فوات ركنٍ من أركان الفعل، أم راجعاً إلى فوات شرطٍ من شروطه‏.‏ أمّا الحنفيّة فإنّهم - على المشهور عندهم، وهو المعتمد - يوافقون الجمهور في أنّ البطلان والفساد مترادفان بالنّسبة للعبادات‏.‏ أمّا بالنّسبة للمعاملات، فإنّهم يخالفون الجمهور، فيفرّقون بينهما، ويجعلون للفساد معنًى يخالف معنى البطلان، ويقوم هذا التّفريق على أساس التّمييز بين أصل العقد ووصفه‏.‏ فأصل العقد هو أركانه وشرائط انعقاده، من أهليّة العاقد ومحلّيّة المعقود عليه وغيرهما، كالإيجاب والقبول‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏ أمّا وصف العقد، فهي شروط الصّحّة، وهي العناصر المكمّلة للعقد، كخلوّه عن الرّبا، وعن شرطٍ من الشّروط الفاسدة، وعن الغرر والضّرر‏.‏ وعلى هذا الأساس يقول الحنفيّة‏:‏ إذا حصل خلل في أصل العقد - بأن تخلّف ركن من أركانه، أو شرط من شروط انعقاده - كان العقد باطلاً، ولا وجود له، ولا يترتّب عليه أيّ أثرٍ دنيويٍّ، لأنّه لا وجود للتّصرّف إلاّ من الأهل في المحلّ، ويكون العقد فائت المعنى من كلّ وجهٍ مع وجود الصّورة فحسب، إمّا لانعدام محلّ التّصرّف كبيع الميتة والدّم، أو لانعدام أهليّة المتصرّف كالبيع الصّادر من المجنون أو الصّبيّ الّذي لا يعقل‏.‏ أمّا إذا كان أصل العقد سالماً من الخلل، وحصل خلل في الوصف، بأن اشتمل العقد على شرطٍ فاسدٍ، أو رباً، فإنّ العقد يكون فاسداً لا باطلاً، وتترتّب عليه بعض الآثار دون بعضٍ‏.‏

11 - والسّبب في هذا الاختلاف بين الجمهور والحنفيّة، يرجع إلى اختلاف هؤلاء الفقهاء في أثر النّهي إذا توجّه إلى وصفٍ من أوصاف العمل اللّازمة له، كالنّهي عن البيع المشتمل على الرّبا أو شرطٍ فاسدٍ‏.‏ فالجمهور يقولون‏:‏ إنّه يقتضي بطلان كلٍّ من الوصف والأصل، كأثر النّهي المتوجّه إلى ذات الفعل وحقيقته، ويطلقون على الفعل المنهيّ عنه لوصفٍ لازمٍ له اسم الفاسد أو الباطل، ولا يرتّبون عليه أيّ أثرٍ من الآثار المقصودة منه، ولهذا كان البيع المشتمل على الرّبا، أو على شرطٍ فاسدٍ، أو نحو هذا من قبيل الباطل عندهم أو الفاسد‏.‏ والحنفيّة يقولون‏:‏ إنّه يقتضي بطلان الوصف فقط، أمّا أصل العمل فهو باقٍ على مشروعيّته بخلاف النّهي المتوجّه إلى ذات الفعل وحقيقته، ويطلقون على الفعل المنهيّ عنه لوصفٍ لازمٍ له اسم الفاسد لا الباطل، ويرتّبون عليه بعض الآثار دون بعضٍ، ولهذا كان البيع المشتمل على الرّبا، أو على شرطٍ فاسدٍ ونحوهما من قبيل الفاسد عندهم، لا من قبيل الباطل‏.‏

12 - وقد استدلّ كلّ من الفريقين لما ذهب إليه بأدلّةٍ كثيرةٍ، أهمّها ما يأتي‏:‏ أمّا الجمهور فقد استدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ‏}‏ فإنّه يدلّ على أنّ العمل متى خالف أمر الشّارع صار غير معتبرٍ في نظره، فلا تترتّب عليه الأحكام الّتي يقصدها منه، سواء أكانت المخالفة راجعةً إلى ذات العمل وحقيقته، أم إلى وصفٍ من الأوصاف اللّازمة له‏.‏ وأمّا الحنفيّة فإنّهم استندوا إلى أنّ الشّارع قد وضع العبادات والمعاملات أسباباً لأحكامٍ تترتّب عليها، فإذا نهى الشّارع عن شيءٍ منها لوصفٍ من الأوصاف اللّازمة له، كان النّهي مقتضياً بطلان هذا الوصف فقط، لأنّ النّهي متوجّه إليه، فيقتصر أثره عليه، فإذا لم يكن وجود هذا الوصف مخلّاً بحقيقة التّصرّف الموصوف به، بقيت حقيقته قائمةً، وحينئذٍ يجب أن يثبت لكلٍّ منهما مقتضاه‏.‏ فإذا كان المنهيّ عنه بيعاً مثلاً، ووجدت حقيقته بوجود ركنه ومحلّه، ثبت الملك به نظراً لوجود حقيقته، ووجب فسخه نظراً لوجود الوصف المنهيّ عنه، وبذلك يمكن مراعاة الجانبين، وإعطاء كلٍّ منها حكمه اللّائق به‏.‏ إلاّ أنّ العبادات لمّا كان المقصود منها الامتثال والطّاعة، ولا يتحقّق هذا إلاّ إذا لم تحصل فيها مخالفة ما، لا في الأصل ولا في الوصف، كانت مخالفة أمر الشّارع فيها مقتضيةً للفساد والبطلان، سواء أكانت هذه المخالفة راجعةً إلى ذات العبادة، أم إلى صفةٍ من صفاتها اللّازمة‏.‏ بقي بعد ذلك أن نذكر أنّ الجمهور وإن كانوا لا يفرّقون بين الفاسد والباطل - على ما جاء في قواعدهم العامّة - إلاّ أنّه يتبيّن وجود الخلاف في كثيرٍ من أبواب الفقه، كما يؤخذ من نصوصهم، غير أنّهم اعتبروا ذلك استثناءً من القاعدة العامّة كما يقول الشّافعيّة، أو للتّفرقة في مسائل الدّليل كما يقول الحنابلة والمالكيّة، وتفصيل ذلك في كلّ بابٍ من أبواب الفقه ينظر في مواضعه‏.‏

تجزّؤ البطلان‏:‏

13 - المراد بتجزّؤ البطلان‏:‏ أن يشمل التّصرّف على ما يجوز وما لا يجوز، فيكون في شقٍّ منه صحيحاً، وفي الشّقّ الآخر باطلاً‏.‏ ومن هذا النّوع ما يسمّى بتفريق الصّفقة‏.‏ وهي الجمع بين ما يجوز وما لا يجوز في عقدٍ واحدٍ‏.‏ وأهمّ الصّور الواردة في ذلك ما جاء في البيع وهي‏.‏

14 - عقد البيع إذا كان في شقٍّ منه صحيحاً، وفي الشّقّ الآخر باطلاً، كبيع العصير والخمر صفقةً واحدةً، وكذلك بيع المذكّاة والميتة، فالصّفقة كلّها باطلة، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة - عدا ابن القصّار منهم - وهو أحد قولي الشّافعيّة ‏(‏وادّعى في المهمّات أنّه المذهب‏)‏، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد‏.‏ وذلك لأنّه متى بطل العقد في البعض بطل في الكلّ، لأنّ الصّفقة غير متجزّئةٍ، أو لتغليب الحرام على الحلال عند اجتماعهما، أو لجهالة الثّمن‏.‏ والقول الآخر للشّافعيّة - قالوا‏:‏ وهو الأظهر - والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد، وقول ابن القصّار من المالكيّة‏:‏ أنّه يجوز تجزئة الصّفقة، فيصحّ البيع فيما يجوز، ويبطل فيما لا يجوز، لأنّ الإبطال في الكلّ لبطلان أحدهما ليس بأولى من تصحيح الكلّ لصحّة أحدهما، فيبقيان على حكمهما، ويصحّ فيما يجوز ويبطل فيما لا يجوز‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة‏:‏ إن عيّن ابتداءً لكلّ شقّ حصّته من الثّمن، فعند ذلك نعتبر الصّفقة صفقتين مستقلّتين، تجوز فيهما التّجزئة، فتصحّ واحدة، وتبطل الأخرى‏.‏ وإذا كان العقد في شقٍّ منه صحيحاً، وفي الشّقّ الآخر موقوفاً، كالجمع بين ما يملكه وما يملكه غيره، وبيعهما صفقةً واحدةً، فإنّ البيع يصحّ فيهما ويلزم في ملكه، ويقف اللّازم في ملك الغير على إجازته، وهذا عند المالكيّة والحنفيّة عدا زفر، وهو مبنيّ عند الحنفيّة على قاعدة عدم جواز البيع بالحصّة ابتداءً، وجواز ذلك بقاءً‏.‏ وعند زفر‏:‏ يبطل الجميع، لأنّ العقد وقع على المجموع، والمجموع لا يتجزّأ‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة يجري الخلاف السّابق، لأنّ العقد الموقوف عندهم باطل في الأصحّ‏.‏

15 - كذلك تجري التّجزئة في النّكاح، فلو جمع في عقد النّكاح بين من تحلّ ومن لا تحلّ، كمسلمةٍ ووثنيّةٍ، صحّ نكاح الحلال اتّفاقاً، وبطل في من لا تحلّ‏.‏ أمّا لو جمع بين خمسٍ، أو بين أختين في عقدٍ واحدٍ فإنّه يبطل في الكلّ، لأنّ المحرّم الجمع، لا إحداهنّ أو إحداهما فقط، وإنّما يجري خلاف الفقهاء فيما لو جمع بين أمةٍ وحرّةٍ معاً في عقدٍ واحدٍ، فعند الحنفيّة يبطل فيهما، وعند المالكيّة صحّ نكاح الحرّة، وبطل نكاح الأمة على المشهور، وهو أظهر الرّوايتين عند الحنابلة والأظهر عند الشّافعيّة‏.‏ والحكم في سائر عقود المعاملات كالإجارة وغيرها كالحكم في البيع في الجملة، وقد عقد الفقهاء فصلاً لتفريق الصّفقة وما يجرى مجراها من تصرّفاتٍ‏.‏ انظر ‏(‏تفريق الصّفقة‏)‏‏.‏

بطلان الشّيء يستلزم بطلان ما في ضمنه وما بني عليه‏:‏

16 - من القواعد الفقهيّة الّتي ذكرها ابن نجيمٍ في الأشباه‏:‏ إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه، ثمّ قال‏:‏ وهو معنى قولهم‏:‏ إذا بطل المتضمّن ‏(‏بالكسر‏)‏ بطل المتضمّن ‏(‏بالفتح‏)‏ وأورد لذلك عدّة أمثلةٍ منها‏:‏

أ - لو قال‏:‏ بعتك دمي بألفٍ، فقتله وجب القصاص، ولا يعتبر ما في ضمنه من الإذن بقتله‏.‏

ب - التّعاطي ضمن عقدٍ فاسدٍ أو باطلٍ لا ينعقد به البيع‏.‏

ج - لو أبرأه أو أقرّ له ضمن عقدٍ فاسدٍ فسد الإبراء‏.‏

د - لو جدّد النّكاح لمنكوحته بمهرٍ لم يلزمه، لأنّ النّكاح الثّاني لم يصحّ، فلم يلزم ما في ضمنه من المهر‏.‏ إلاّ أنّ أغلب كتب الحنفيّة تجري القاعدة على الفساد لا على البطلان، لأنّ الباطل معدوم شرعاً أصلاً ووصفاً، والمعدوم لا يتضمّن شيئاً، أمّا الفاسد فهو فائت الوصف دون الأصل، فلم يكن معدوماً بأصله فصحّ أن يكون متضمّناً، فإن فسد المتضمّن فسد المتضمّن‏.‏

17 - هذا والمذاهب الأخرى - وهي الّتي لا تفرّق بين البطلان والفساد - تسير على هذا النّهج، واستثنوا من ذلك صوراً‏.‏ ففي كتب الشّافعيّة‏:‏ الفاسد من العقود المتضمّنة للإذن، إذا صدرت من المأذون، صحّت، كما في الوكالة المعلّقة إذا أفسدناها فتصرّف الوكيل، صحّ لوجود الإذن، والوكيل بالبيع مع شرط عوضٍ فاسدٍ للوكيل، فالإذن صحيح والعوض فاسد‏.‏ وفي القواعد لابن رجبٍ الحنبليّ‏:‏ العقود الجائزة كالشّركة والمضاربة والوكالة لا يمنع فسادها نفوذ المتصرّف فيها بالإذن‏.‏ ثمّ يفرّق بين الإذن في البيع - وهو عقد تمليكٍ - وبين الإذن في العقود الجائزة، فيقول‏:‏ البيع وضع لنقل الملك لا للإذن وصحّة التّصرّف فيه تستفاد من الملك لا من الإذن، بخلاف الوكالة فإنّها موضوعة للإذن‏.‏ ويقول ابن قدامة‏:‏ إذا تصرّف العامل في المضاربة الفاسدة نفذ تصرّفه، لأنّه أذن له فيه، فإذا بطل العقد بقي الإذن، فملك به التّصرّف‏.‏ وقواعد المالكيّة لا تأبى ذلك‏.‏ هذه هي قاعدة التّضمّن‏.‏ لكن هناك قاعدة أخرى شبيهة بها، وهي‏:‏ إذا سقط الأصل سقط الفرع، ومنها‏:‏ التّابع يسقط بسقوط المتبوع، وقد مثّل الفقهاء لذلك بقولهم‏:‏ لو أبرأ الدّائن المدين من الدّين، فكما أنّه يبرأ المدين يبرأ منه الكفيل أيضاً، لأنّ المدين في الدّين أصل، والكفيل فرع‏.‏

تصحيح العقد الباطل‏:‏

18 - تصحيح العقد الباطل يمكن تصويره بصورتين‏:‏ الأولى‏:‏ إذا ارتفع ما يبطل العقد فهل ينقلب صحيحاً الثّانية‏:‏ أن تؤدّي صيغة العقد الباطل إلى معنى عقدٍ آخر صحيحٍ‏.‏

19 - أمّا الصّورة الأولى‏:‏ فإنّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لا يصير العقد الباطل صحيحاً عندهم إذا ارتفع ما يبطله‏.‏ وعلى ذلك‏:‏ لا يجوز بيع الدّقيق في الحنطة، والزّيت في الزّيتون، واللّبن في الضّرع، والبذر في البطّيخ، والنّوى في التّمر، لأنّه لا يعلّم وجوده فهو كالمعدوم، حتّى لو سلّم اللّبن أو الدّقيق أو العصير لا ينقلب صحيحاً، لأنّ المعقود عليه كالمعدوم حالة العقد، ولا يتصوّر انعقاد العقد بدونه، فلم ينعقد أصلاً، فلا يحتمل التّصحيح‏.‏ أمّا الجمهور ‏(‏وهم لا يفرّقون في الجملة بين الفاسد والباطل‏)‏ فالحكم عند الشّافعيّة والحنابلة كالحنفيّة، لا ينقلب العقد الباطل صحيحاً برفع المفسد‏.‏ ففي كتب الشّافعيّة‏:‏ لو حذف العاقدان المفسد للعقد، ولو في مجلس الخيار، لم ينقلب العقد صحيحاً، إذ لا عبرة بالفاسد‏.‏ وفي منتهى الإرادات‏:‏ الفاسد لا ينقلب صحيحاً‏.‏ أمّا المالكيّة‏:‏ فإنّهم يوافقون الجمهور في هذا الحكم، إلاّ في البيع بشرطٍ لا يؤدّي إلى الإخلال بشيءٍ من شروط الصّحّة، فإنّ العقد ينقلب صحيحاً إذا أسقط الشّرط، وذلك كبيع الثّنيا، وهو أن يبتاع السّلعة على أنّ البائع متى ردّ الثّمن فالسّلعة له، وكالبيع بشرط السّلف، فإنّ البيع عندهم يكون فاسداً، لكنّه ينقلب صحيحاً إن حذف الشّرط‏.‏

أمّا الصّورة الثّانية‏:‏ وهي تحوّل العقد الباطل إلى عقدٍ آخر صحيحٍ، فيكاد الفقهاء يتّفقون على أنّه متى أمكن تحويل العقد الباطل إلى عقدٍ آخر صحيحٍ - لتوفّر أسباب الصّحّة فيه - صحّ ذلك، سواء أكانت الصّحّة عن طريق المعنى عند بعض الفقهاء، أم عن طريق اللّفظ عند البعض الآخر، نظراً لاختلافهم في قاعدة‏:‏ هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها‏.‏

21 - ومن أمثلة ذلك ما يأتي‏:‏ المضاربة، وهي‏:‏ أن يدفع شخص إلى آخر ماله ليتّجر فيه، ويكون الرّبح بينهما بحسب ما يتّفقان، ويسمّى القائم بالتّجارة مضارباً، فلو شرط في عقد المضاربة الرّبح كلّه للمضارب لم يكن مضاربةً، ولكن يكون قرضاً، تصحيحاً للعقد، لأنّه لو بقي مضاربةً لكان باطلاً، لأنّ المضارب لا يملك رأس مال المضاربة حتّى يكون الرّبح كلّه له، فجعل قرضاً، نظراً للمعنى، ليصحّ العقد‏.‏ وكذلك لو شرط الرّبح كلّه لربّ المال، اعتبر العقد في هذه الحالة إبضاعاً، تصحيحاً للعقد، وفي هذه الحالة يكون المضارب وكيلاً متبرّعاً لصاحب المال‏.‏ نصّ على ذلك فقهاء الحنفيّة‏.‏ وبه قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وصحّحوا الوكالة إذا عقدت بلفظ الحوالة، والحوالة إذا عقدت بلفظ الوكالة، لاشتراكهما في المعنى، حيث قالوا‏:‏ إن أحال من ليس عليه دين رجلاً على رجلٍ آخر مدينٍ له، لم يكن هذا التّصرّف حوالةً، بل وكالةً تترتّب عليه أحكامها، وإن أحال من عليه دين صاحب الدّين على رجلٍ ليس له عليه دين، لم يجعل هذا التّصرّف حوالةً، بل اقتراضاً، وإن كان الّذي أحاله لا دين له عليه اعتبر وكالةً في الاقتراض‏.‏ وفي الفقه الشّافعيّ‏:‏ إذا وهب شخص لآخر شيئاً بشرط الثّواب، اعتبر هذا التّصرّف بيعاً بالثّمن لا هبةً، في أصحّ الأقوال‏.‏

الباطل لا يصير صحيحاً بتقادم الزّمان أو بحكم الحاكم‏:‏

22 - التّصرّفات الباطلة لا تنقلب صحيحةً بتقادم الزّمان، ولو حكم حاكم بنفاذ التّصرّفات الباطلة، فإنّ ثبوت الحقّ وعودته يعتبر قائماً في نفس الأمر، ولا يحلّ لأحدٍ الانتفاع بحقّ غيره نتيجة تصرّفٍ باطلٍ ما دام يعلم بذلك‏.‏ فإنّ حكم الحاكم لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً‏.‏ هذا هو الأصل، والقضاة إنّما يقضون بحسب ما يظهر لهم من أدلّةٍ وحججٍ يبنون عليها أحكامهم، وقد تكون غير صحيحةٍ في نفس الأمر‏.‏ ولذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما روت أمّ سلمة عنه‏:‏ ‏{‏إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ، فأقضي له بما أسمع، وأظنّه صادقاً، فمن قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه فلا يأخذ منه شيئاً، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار‏}‏‏.‏

23 - ومضيّ فترةٍ من الزّمن على أيّ تصرّفٍ، مع عدم تقدّم أحدٍ إلى القضاء بدعوى بطلان هذا التّصرّف، ربّما يعني صحّة هذا التّصرّف أو رضى صاحب الحقّ به‏.‏ ومن هنا نشأ عدم سماع الدّعوى بعد مضيّ مدّةٍ معيّنةٍ، يختلف الفقهاء في تحديدها بحسب الأحوال، وبحسب الشّيء المدّعى به، وبحسب القرابة وعدمها، ومدّة الحيازة، لكنّ مضيّ المدّة الّتي تمنع سماع الدّعوى لا أثر له في صحّة التّصرّف، إن كان باطلاً‏.‏ يقول ابن نجيمٍ‏:‏ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان، قذفاً أو قصاصاً أو لعاناً أو حقّاً للعبد‏.‏ ويقول‏:‏ ينفذ قضاء القاضي في المسائل المجتهد فيها، إلاّ في مسائل منها‏:‏ لو قضى ببطلان الحقّ بمضيّ المدّة، أو بصحّة نكاح المتعة، أو بسقوط المهر بالتّقادم‏.‏ وفي التّكملة لابن عابدين‏:‏ من القضاء الباطل‏:‏ القضاء بسقوط الحقّ بمضيّ سنين‏.‏ ثمّ يقول‏.‏ عدم سماع الدّعوى بعد مضيّ ثلاثين سنةً، أو بعد الاطّلاع على التّصرّف، ليس مبنيّاً على بطلان الحقّ في ذلك، وإنّما هو مجرّد منعٍ للقضاء عن سماع الدّعوى، مع بقاء الحقّ لصاحبه، حتّى لو أقرّ به الخصم يلزمه‏.‏ وفي منتهى الإرادات‏:‏ تقبل الشّهادة بحدٍّ قديمٍ على الصّحيح، لأنّها شهادة بحقٍّ، فجازت مع تقادم الزّمان‏.‏ والمالكيّة - وإن كانوا يشترطون لعدم سماع الدّعوى حيازة الشّيء المدّعى به مدّةً تختلف بحسبه من عقارٍ وغيره - إلاّ أنّ ذلك مقيّد بكون المدّعي حاضراً مدّة حيازة الغير، ويراه يقوم بالهدم والبناء والتّصرّف وهو ساكت‏.‏ أمّا إذا كان ينازعه فإنّ الحيازة لا تفيد شيئاً مهما طالت المدّة، وفي فتح العليّ لمالكٍ‏:‏ رجل استولى على أرضٍ بعد موت أهلها بغير حقٍّ، مع وجود ورثتهم، وبناها ونازعه الورثة، ولم يقدروا على منعه لكونه من رؤساء بلدتهم، فهل لا تعتبر حيازته ولو طالت مدّتها ‏؟‏ أجيب‏:‏ نعم‏.‏ لا تعتبر حيازته ولو طالت مدّتها‏.‏‏.‏‏.‏ سمع يحيى من ابن القاسم‏:‏ من عرف بغصب أموال النّاس لا ينتفع بحيازته مال غيره في وجهه، فلا يصدّق فيما يدّعيه من شراءٍ أو عطيّةٍ، وإن طال بيده أعواماً إن أقرّ بأصل الملك لمدّعيه، أو قامت له به بيّنة‏.‏ قال ابن رشدٍ‏:‏ هذا صحيح لا خلاف فيه، لأنّ الحيازة لا توجب الملك، وإنّما هي دليل عليه توجب تصديق غير الغاصب فيما ادّعاه من تصير إليه، لأنّ الظّاهر أنّه لا يجوز أخذ مال أحدٍ، وهو حاضر لا يطلبه ولا يدّعيه، إلاّ وقد صار إلى حائزةٍ إذا حازه عشرة أعوامٍ ونحوها‏.‏ وتنظر تفصيلات ذلك في ‏(‏دعوى‏.‏ تقادم‏.‏ حيازة‏)‏‏.‏ وبالنّسبة للعبادات‏:‏ فمن المقرّر أنّ من بطلت عبادته، فإنّ ذمّته تظلّ مشغولةً بها حتّى يقضيها‏.‏

آثار البطلان

تختلف آثار البطلان بالنّسبة للتّصرّفات، وبيان ذلك فيما يلي

‏:‏ أوّلاً - بالنّسبة للعبادات‏:‏

24 - بطلان العبادات يترتّب عليه عدّة آثارٍ منها‏:‏

أ - استمرار انشغال الذّمّة بالعبادة إلى أن - تؤدّى إن كانت العبادة ليس لها وقت محدّد كالزّكاة، وعبّر بعض الفقهاء فيها بالإعادة - أو تقضى، إن كانت العبادة لا يتّسع وقتها لمثلها كرمضان‏.‏ - أو تعاد، إن كان وقتها يتّسع لغيرها معها كالصّلاة‏.‏ فإن خرج الوقت كانت قضاءً أو يؤتى بالبدل، كالظّهر لمن بطلت جمعته‏.‏

ب - العقوبة الدّنيويّة في بعض العبادات كالكفّارة على من تعمّد الإفطار في رمضان‏.‏ ج - وجوب الانقطاع عن المضيّ في الصّلاة إذا بطلت لا في الصّيام والحجّ، إذ يجب الإمساك في الصّوم في رمضان، والمضيّ في الحجّ الفاسد، مع القضاء فيهما‏.‏

د - حقّ استرداد الزّكاة إذا أعطيت لغير مستحقٍّ‏.‏ وفي كلّ ما سبق تفصيل ينظر في أبوابه‏.‏

ثانياً‏:‏ أثر البطلان في المعاملات‏:‏

25 - العقد الباطل في اصطلاح الحنفيّة لا وجود له إلاّ من حيث الصّورة، فليس له وجود شرعيّ، ومن ثمّ فهو عدم، والعدم لا ينتج أثراً‏.‏ وهو منقوض من أساسه، ولا يحتاج لحكم حاكمٍ لنقضه‏.‏ ولا تلحقه الإجازة، لأنّه غير منعقدٍ أصلاً فهو معدوم، والإجازة لا تلحق المعدوم، لأنّه متلاشٍ‏.‏ ولا يملك بالعقد الباطل ما يملك بغيره، وإذا حدث فيه تسليم يجب الرّدّ‏.‏ ففي البيع الباطل لا ينتقل الملك بالقبض ولذا يجب الرّدّ‏.‏ يقول ابن رشدٍ من المالكيّة‏:‏ اتّفق العلماء على أنّ البيوع الفاسدة - وهي الباطلة عند الحنفيّة - إذا وقعت ولم تفت، حكمها الرّدّ، أي أن يردّ البائع الثّمن، ويردّ المشتري المثمّن‏.‏ ولا يملك المصالح ما صالح به في الصّلح الباطل، ويرجع الدّافع بما دفع‏.‏ ولا يملك الموهوب له الهبة في الهبة الباطلة‏.‏ ولا يملك المرتهن حبس المرهون في الرّهن الباطل‏.‏ ولا يملك المكاتب حرّيّته في الكتابة الباطلة‏.‏ وفي الإجارة الباطلة الّتي ليست محلّاً للإجارة، لا تملك الأجرة ويجب ردّها، لأنّ أخذها حرام، وتعتبر من أكل الأموال بالباطل‏.‏ ولا يملك الاستمتاع بالبضع والانتفاع به في النّكاح الباطل‏.‏ وهكذا الحكم في كلّ العقود الباطلة على وجه الإجمال، مع تفصيلاتٍ تنظر في مواضعها‏.‏ لكنّ وجود العقد الباطل كصورةٍ قد ينتج أثراً، وذلك إذا حدث فيه تسليم وامتنع الرّدّ للفوات، فهل يكون فيه الضّمان أو لا يكون‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏ الضّمان‏:‏

26 - رغم أنّ جمهور الفقهاء لا يفرّقون في قواعدهم العامّة بين الباطل والفاسد إلاّ أنّه بالنّسبة لبعض الأحكام نجد التّفريق بينهما‏.‏ والضّمان ممّا يفترقان فيه وبيان ذلك فيما يلي‏:‏ في قاعدةٍ عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ كلّ عقدٍ اقتضى صحيحه الضّمان بعد التّسليم كالبيع ففاسده كذلك يقتضي الضّمان، وإن اقتضى صحيحه عدم الضّمان كالقراض ففاسده كذلك لا يقتضي الضّمان‏.‏ لكنّ عدم اقتضاء الضّمان مقيّد بما إذا كان القبض صحيحاً، بأن كان الإذن في قبضه صادراً من أهله، ويكون وضع اليد عليه في هذه الحالة صحيحاً، وحينئذٍ فلا ضمان مع فساد القبض‏.‏ أمّا إذا لم يوجد إذن أصلاً، أو صدر ولم يكن صحيحاً، لكونه من غير أهله، أو في ظلّ الإكراه، فإنّ القبض يكون باطلاً، وحينئذٍ يجب الضّمان مطلقاً، سواء أكان صحيحه لا ضمان فيه، أم كان فيه الضّمان‏.‏ جاء في نهاية المحتاج‏:‏ فاسد كلّ عقدٍ صدر من رشيدٍ كصحيحه، في الضّمان وعدمه، لأنّ العقد إن اقتضى صحيحه الضّمان بعد التّسليم كالبيع والإعارة ففاسده أولى‏.‏ وإن اقتضى صحيحه عدم الضّمان كالرّهن، والهبة من غير ثوابٍ، والعين المستأجرة، ففاسده كذلك لا يقتضي الضّمان‏.‏ ومثل ذلك في حاشية الجمل وغيرها من كتب الشّافعيّة‏.‏

27 - واعتبار عدم الضّمان مع البطلان في عقود التّصرّفات والأمانات لوجود الإذن الصّادر من أهله، والضّمان إن كان الإذن من غير أهله، هو أيضاً مذهب الحنفيّة والمالكيّة في الجملة على ما يستفاد من أقوالهم، مع الاختلاف فيمن يعتبر أهلاً للإذن، ومن لا يعتبر كالسّفيه، ومع الاختلاف أيضاً في العقود المضمونة في صحيحها، أو غير المضمونة كالرّهن والعاريّة‏.‏ ويعتبر أبو حنيفة المبيع في البيع الباطل إذا قبضه المشتري أمانةً، ولا ضمان عليه لو هلك، لأنّ العقد إذا بطل بقي مجرّد القبض بإذن المالك، وهو لا يوجب الضّمان إلاّ بالتّعدّي، والقائلون بالضّمان يعلّلون ذلك بأنّه لا يكون أدنى من المقبوض على سوم الشّراء‏.‏ ويفرّق المالكيّة في العقد الفاسد بين ما قبض على جهة التّملّك فيكون مضموناً، وما قبض على جهة الأمانة فلا ضمان فيه‏.‏ جاء في الفواكه الدّواني‏:‏ كلّ مبيعٍ فاسدٍ قبضه المبتاع قبضاً مستمرّاً بعد بتّ البيع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه، لأنّه قبضه على جهة التّملّك، لا على جهة الأمانة‏.‏ ومثل ذلك في الشّركة‏:‏ لو اشترك من لا يعتبر إذنه، كصبيٍّ غير مأذونٍ أو سفيهٍ، فلا ضمان‏.‏

أثر البطلان في النّكاح‏:‏

28 - من القواعد العامّة عند الجمهور أنّه لا فرق بين الباطل والفاسد، ويتابعهم الحنفيّة في ذلك في باب النّكاح على ما عرف من القواعد العامّة عندهم‏.‏ إلاّ أنّ الفقهاء يعبّرون عن النّكاح غير الصّحيح بالباطل أحياناً، وبالفاسد أحياناً أخرى‏.‏ ويريدون بهما ما قابل الصّحيح‏.‏ لكنّهم يقصدون بالفاسد ما كان مختلفاً في فساده بين المذاهب، كالنّكاح بدون شهودٍ، حيث يجيز المالكيّة العقد بدونه، وإن كانوا يشترطون الإشهاد قبل الدّخول، ويجيزه أيضاً أبو ثورٍ وجماعة‏.‏ وكنكاح المحرم بالحجّ، والنّكاح بدون وليٍّ، حيث يجيزهما الحنفيّة‏.‏ وكنكاح الشّغار يصحّحه الحنفيّة ويلغون الشّرط، ويوجبون مهر المثل لكلٍّ من المرأتين‏.‏ ويقصدون بالباطل‏:‏ ما كان مجمعاً على فساده بين المذاهب، كنكاح الخامسة، أو المتزوّجة من الغير، أو المطلّقة ثلاثاً، أو نكاح المحارم‏.‏ والنّكاح الباطل أو الفاسد واجب الفسخ عند الجميع بالنّسبة للمتّفق على فساده، وعند القائلين بالفساد بالنّسبة للمختلف فيه، إلاّ إذا حكم حاكم بصحّته، فلا ينقض حكمه‏.‏ والتّفريق في المتّفق على فساده ليس طلاقاً بالإجماع، وإنّما هو فسخ أو متاركة، وأمّا المختلف فيه، ففي اعتبار التّفريق طلاقاً أم لا اختلاف الفقهاء‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏طلاق - فرقة - فسخ‏)‏‏.‏ ولا حكم للنّكاح الباطل أو الفاسد قبل الدّخول في الجملة على ما سيعرف، لأنّه ليس بنكاحٍ حقيقةً، لانعدام ملك منافع البضع بالعقد الباطل أو الفاسد‏.‏ أمّا بعد الدّخول فيتعلّق بالفاسد بعض الأحكام، لاعتباره منعقداً ضرورةً في حقّ المنافع المستوفاة‏.‏ وفيما يلي بيان أهمّ الأحكام الّتي تتعلّق به‏:‏ المهر‏:‏

29 - لا يستحقّ المهر في النّكاح الفاسد مطلقاً - سواء اتّفق على فساده أم لا - إذا حصل التّفريق قبل الدّخول باتّفاقٍ في الجملة، أو قبل الخلوة فيما اختلف فيه، وذلك عند الحنابلة‏.‏ هذا مع استثناء بعض المسائل الّتي يثبت فيها نصف المهر قبل الدّخول، ومن ذلك ما يقوله المالكيّة من أنّ سبب الفساد إذا لم يؤثّر خللاً في المهر، كنكاح المحرم بالحجّ، ففيه نصف الصّداق بالطّلاق، وجميعه بالموت‏.‏ وكذلك النّكاح الفاسد عند المالكيّة لوقوع صداقه أقلّ من الصّداق الشّرعيّ، وامتنع الزّوج من إتمامه ‏(‏وهو ما يسمّى بنكاح الدّرهمين، لأنّهما أقلّ من الصّداق الشّرعيّ‏)‏ ففيه نصف الدّرهمين بفسخه قبل الدّخول‏.‏ ومن ذلك ما إذا ادّعى الزّوج قبل الدّخول رضاعاً محرّماً بلا بيّنةٍ، وكذّبته الزّوجة، فإنّه يفسخ، وعليه نصف الصّداق كما يقول المالكيّة والحنابلة‏.‏ ويتّفق الفقهاء على وجوب المهر في النّكاح الفاسد مطلقاً بالدّخول ‏(‏أي بالوطء‏)‏ لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏{‏أيّما امرأةٍ أنكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر مثلها‏}‏ جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها مهر المثل فيما له حكم النّكاح الفاسد، وعلّقه بالدّخول، فدلّ أنّ وجوبه متعلّق به‏.‏ وعند الحنابلة يجب المهر كذلك في النّكاح المختلف فيه بالخلوة‏.‏ قال في منتهى الإرادات‏:‏ نصّاً لما في حديث عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلها المهر بما استحلّ من فرجها‏}‏‏.‏ إلاّ أنّ ابن قدامة ذكر في المغني أنّ الخلوة في النّكاح الفاسد لا يجب بها شيء من المهر، وإنّما يوجبه الوطء ولم يوجد، ثمّ قال‏:‏ وقد روي عن أحمد ما يدلّ على أنّ الخلوة فيه كالصّحيح، فيتقرّر به المهر كالصّحيح، والأوّل أولى‏.‏ ويرى المالكيّة أنّ المتلذّذ بها من غير وطءٍ تعوّض وجوباً بالاجتهاد، سواء أكان النّكاح مختلفاً فيه أم متّفقاً على فساده‏.‏ واختلف الفقهاء في الواجب من المهر، هل هو المسمّى أو مهر المثل ‏؟‏‏.‏ فعند الحنفيّة - غير زفر - لها الأقلّ من مهر مثلها ومن المسمّى‏.‏ وعند المالكيّة لها المسمّى، وإن لم يكن مسمًّى - كنكاح الشّغار - فلها مهر المثل، وعند الشّافعيّة وزفر من الحنفيّة لها مهر المثل، وعند الحنابلة لها المسمّى في الفاسد ومهر المثل في الباطل‏.‏ وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في ‏(‏مهر، صداق، نكاح‏)‏‏.‏

ب - العدّة والنّسب‏:‏

30 - اتّفق الفقهاء على وجوب العدّة وثبوت النّسب بالوطء في النّكاح المختلف فيه بين المذاهب، كالنّكاح بدون شهودٍ، أو بدون وليٍّ، وكنكاح المحرم بالحجّ، ونكاح الشّغار‏.‏ ويزيد الحنابلة ثبوتهما بالخلوة، لأنّه ينفذ بحكم الحاكم أشبه الصّحيح‏.‏ ويتّفقون كذلك على وجوب العدّة وثبوت النّسب في النّكاح المجمع على فساده بالوطء كنكاح المعتدّة، وزوجة الغير والمحارم إذا كانت هناك شبهة تسقط الحدّ، بأن كان لا يعلم بالحرمة ، ولأنّ الأصل عند الفقهاء‏:‏ أنّ كلّ نكاحٍ يدرأ فيه الحدّ فالولد لاحق بالواطئ‏.‏ أمّا إذا لم تكن هناك شبهة تسقط الحدّ، بأن كان عالماً بالحرمة، فلا يلحق به الولد عند الجمهور، وكذلك عند بعض مشايخ الحنفيّة، لأنّه حيث وجب الحدّ فلا يثبت النّسب‏.‏ وعند أبي حنيفة وبعض مشايخ الحنفيّة يثبت النّسب لأنّ العقد شبهة‏.‏ وروي عن أبي يوسف ومحمّدٍ أنّ الشّبهة تنتفي إذا كان النّكاح مجمعاً على تحريمه والمنكوحة محرّمة على التّأبيد، كالأمّ والأخت، وعلى ذلك فلا يثبت النّسب عندهما في المحرّمة على التّأبيد، فقد ذكر الخير الرّمليّ في باب المهر عن العينيّ ومجمع الفتاوى أنّه يثبت النّسب عند أبي حنيفة خلافاً لهما، إلاّ أنّه روي عن محمّدٍ أنّه قال سقوط الحدّ عنه لشبهةٍ حكميّةٍ فيثبت النّسب‏.‏ هذا بالنّسبة للنّسب في النّكاح المجمع على تحريمه مع العلم بالحرمة‏.‏ وأمّا بالنّسبة للعدّة، فعند المالكيّة والحنابلة والقائلين من الحنفيّة بثبوت النّسب فإنّ العدّة تجب وتسمّى استبراءً، ولا يجب عند الشّافعيّة وبعض الحنفيّة القائلين بعدم ثبوت النّسب‏.‏ هذا مع اختلافهم في العدّة وهل تعتبر وقت التّفريق أو من آخر الوطآت‏.‏ وهل تتداخل العدد أو لا تتداخل، بل تستأنف‏.‏ وهل يعتبر النّسب من وقت الدّخول أو من وقت العقد‏.‏ وهل تثبت بالنّكاح الباطل حرمة المصاهرة أو لا تثبت‏.‏ وهل يثبت به الإرث أو لا يثبت ‏؟‏ ففي كلّ ذلك تفصيلات كثيرة تنظر في مواضعها‏.‏

بعض

انظر‏:‏ بعضيّة‏.‏

بعضيّة

التّعريف

1 - البعضيّة‏:‏ مصدر صناعيّ من البعض، وبعض الشّيء‏:‏ الطّائفة منه، وبعضهم يقول‏:‏ الجزء منه، والجمع‏:‏ أبعاض‏.‏ قال ثعلب‏:‏ أجمع أهل النّحو على أنّ البعض‏:‏ شيء من شيءٍ، أو شيء من أشياء، وهذا يتناول ما فوق النّصف، كالثّمانية، فإنّه يصدق عليه أنّه شيء من العشرة، ويتناول أيضاً ما دون النّصف‏.‏ وبعّضت الشّيء تبعيضاً‏:‏ جعلته أبعاضاً متمايزةً‏.‏ وفي الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - من الألفاظ ذات الصّلة ‏"‏ الجزئيّة والفرعيّة ‏"‏ وهذه الألفاظ مقاربة، لأنّ الجزئيّة من الجزء، والجزء من الشّيء‏:‏ الطّائفة منه‏.‏ والفرعيّة من الفرع، وهو ما يتفرّع من أصله‏.‏

الحكم الإجماليّ

ورد استعمال الفقهاء لهذا المصطلح في كتب الفقه في مواطن أهمّها ما يأتي‏:‏ في الطّهارة‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في القدر الواجب في مسح الرّأس، فذهب الأحناف إلى أنّه يجب مسح مقدار النّاصية، وهو ربع الرّأس‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب مسح جميع الرّأس‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكفي ما يقع عليه اسم المسح من الرّأس، وإن قلّ‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏ واختلف الفقهاء كذلك فيمن لم يجد من الماء إلاّ ما يكفي بعض أعضائه‏.‏ فذهب الأحناف والمالكيّة وأكثر العلماء إلى أنّه يترك الماء الّذي لا يكفي إلاّ لبعض أعضائه ويتيمّم، وهذا أحد الوجهين عند الحنابلة، وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّه يلزمه استعماله، ثمّ يتيمّم، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏تيمّم‏)‏‏.‏

في الصّلاة‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ من لم يجد إلاّ ما يستر به بعض عورته لزمه ستره‏.‏ وأبعاض الصّلاة في اصطلاح الشّافعيّة‏:‏ هي السّنن الّتي تجبر بسجود السّهو، وهي القنوت في الصّبح، أو في وتر نصف رمضان، والقيام له، والتّشهّد الأوّل، وقعوده، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأظهر‏.‏ وسمّيت أبعاضاً، لأنّها لمّا تأكّدت بالجبر بالسّجود أشبهت الأبعاض الحقيقيّة، وهي الأركان‏.‏ وما عداها من السّنن يسمّى هيئاتٍ لا تجبر بسجود السّهو، ولا يشرع لها‏.‏ ويتميّز البعض من الهيئة عند الشّافعيّة بعدّة أمورٍ‏.‏ أوّلها‏:‏ أنّ البعض يجبر بسجود السّهو بخلاف الهيئة، فإنّها لا تجبر بسجود السّهو، لعدم وروده فيها‏.‏ ثانيها‏:‏ أنّ البعض سنّة مستقلّة وليست تابعةً لغيرها، بخلاف الهيئات، فإنّها ليست مستقلّةً، بل هي تابعة للأركان، كالتّكبيرات والتّسبيحات والأدعية الواقعة إمّا في القيام، أو الرّكوع، أو الاعتدال منها، أو السّجود، أو الجلوس بين السّجدتين‏.‏ ثالثها‏:‏ الأبعاض لها محلّ خاصّ بها من الصّلاة لا يشاركها غيرها، بخلاف الهيئات فليس لها محلّ خاصّ بها، بل تقع في داخل الأركان، كما ذكرنا آنفاً‏.‏ رابعها‏:‏ أنّ الأبعاض لا يطلب الإتيان بها خارج الصّلاة إلاّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف الهيئات، فالتّكبيرات والتّسبيحات وغيرها من الأذكار مطلوبة في الصّلاة وخارج الصّلاة‏.‏ ويكره ترك البعض عمداً عند الشّافعيّة، ولا تبطل الصّلاة به، ويسجد للسّهو ندباً بتركه، كما يسجد كذلك بتركه نسياناً في المعتمد عندهم، لأنّ الخلل حاصل في الحالتين، بل خلل العمد أكثر، فكان للجبر أحوج‏.‏ والمرجوح لديهم أنّه إن ترك عمداً فلا يسجد لتقصيره بتفويت السّنّة على نفسه، بخلاف النّاسي فإنّه معذور، فناسب أن يشرع له الجبر‏.‏ ويقابل البعض عند الحنفيّة والحنابلة الواجب، وهو عند الحنفيّة‏:‏ ما لا تفسد الصّلاة بتركه، ولكن يجب إعادتها في العمد والسّهو إن لم يسجد للسّهو في حالة النّسيان، وإن لم يعدها يكون آثماً، وتصحّ صلاته في الحالتين‏.‏ وتبطل صلاته إذا ترك الواجب عمداً عند الحنابلة، ويجب سجود السّهو عند الفريقين إذا ترك الواجب نسياناً‏.‏ أمّا المالكيّة فيرون أنّ الأبعاض سنّة كالشّافعيّة، وإن لم يسمّوها بهذا الاسم‏.‏ كما أنّ سجود السّهو سنّة عندهم كذلك ‏(‏ر‏:‏ صلاة‏)‏‏.‏

في الزّكاة‏:‏

5 - لا يعطى من تلزم المزكّي نفقته بزوجيّةٍ أو بعضيّةٍ، كالأبناء والبنت، من سهم الفقراء والمساكين، بلا خلافٍ بين الفقهاء في ذلك، فيما إذا كان المزكّي يجب عليه الإنفاق‏.‏

في زكاة الفطر‏:‏

6 - لو وجد بعض الصّاع من الفطرة فهل يلزمه إخراجه ‏؟‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفطرة لا تجب إلاّ على من ملك نصاب الزّكاة، فاضلاً عن مسكنه وثيابه وأثاثه وما يحتاجه‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم اشتراط ملك نصاب الزّكاة، واتّفقوا على أنّ من ملك صاعاً زائداً عن قوت يومٍ وليلةٍ وجب عليه إخراجه‏.‏ أمّا من ملك بعض صاعٍ، فذهب المالكيّة إلى أنّه يجب إخراجه، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد، وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب إخراج بعض الصّاع في الأصحّ محافظةً على الواجب قدر الإمكان‏.‏ راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

في الطّلاق والظّهار والعتق‏:‏

7 - أجمع الفقهاء على أنّ الطّلاق أو الظّهار لا يتبعّض ولا يتجزّأ، فإن قال لزوجته‏:‏ أنت طالق بعض طلقةٍ أو نصفها أو جزأها تقع طلقة كاملة‏.‏ كما اتّفقوا على أنّه إذا أضاف الطّلاق أو الظّهار إلى بعض زوجته يلزمه الطّلاق أو الظّهار، إن كان ذلك البعض جزءاً شائعاً كنصفها أو ثلثها، أمّا إذا أسند الطّلاق أو الظّهار إلى جزءٍ معيّنٍ ففي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏طلاق وظهار‏)‏‏.‏ والكلام في تبعيض العتق يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏عتق‏)‏‏.‏

في الشّهادة‏:‏

8 - تردّ شهادة الابن لأبيه بعلّة البعضيّة، وهو قول جماهير العلماء، أمّا شهادة الابن على أبيه فهي مقبولة عند عامّة أهل العلم، وإنّما ردّوا شهادة الابن لأبيه لأنّ بينهما بعضيّة، فكأنّه يشهد لنفسه أو عليها‏.‏ راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

العتق بالبعضيّة‏:‏

9 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ من ملك أحد أصوله أو فروعه عتق عليه‏.‏ أمّا الأحناف والحنابلة فقد وسّعوا دائرة العتق وقالوا‏:‏ إنّ العلّة هنا المحرميّة، فمن ملك ذا رحمٍ محرمٍ عتق عليه‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه يعتق بنفس الملك الأبوان وإن علوا، والولد وإن سفل، وأخ وأخت شقيقان أو لأبٍ أو لأمٍّ‏.‏ راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏عتق‏)‏‏.‏

بغاء

التّعريف

1 - البغاء مصدر‏:‏ بغت المرأة تبغي بغاءً، بمعنى‏:‏ فجرت، فهي بغيّ، والجمع بغايا، وهو وصف مختصّ بالمرأة، ولا يقال للرّجل‏:‏ بغيّ‏.‏ ويعرّف الفقهاء البغاء بأنّه‏:‏ زنى المرأة‏.‏ أمّا الرّجل فلا يسمّى زناه بغاءً‏.‏ والمراد من بغاء المرأة هو خروجها تبحث عمّن يفعل بها ذلك الفعل، سواء أكانت مكرهةً أم غير مكرهةٍ، ويفهم ذلك من كلام العلماء في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً‏}‏ وقد ذكرت كتب التّفسير سبب نزول هذه الآية، وهو أنّه كان لعبد اللّه بن أبيٍّ ابن سلول جوارٍ، وكان يكرههنّ على ذلك الفعل، فقد سمّي فعلهنّ وهنّ مكرهات عليه بغاءً، فإطلاق هذا الاسم عليه مع رضاهنّ يصحّ، بل أولى، وبالنسبة للقيد الّذي في الآية وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أردن تحصّناً‏}‏ فستأتي الإشارة إليه‏.‏

حكم أخذ البغيّ مهراً‏:‏

2 - نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن مهر البغيّ، لحديث ابن مسعودٍ قال‏:‏ ‏{‏نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن‏}‏ فإنّ من البغايا من كنّ يأخذن عوضاً عن البغاء، ومن ذلك ما روى مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏}‏ قال‏:‏ كانوا يأمرون ولائدهم فيباغين، فكنّ يفعلن ذلك فيصبن، فيأتينهم بكسبهنّ‏.‏ وكانت لعبد اللّه بن أبيٍّ ابن سلول جارية كانت تباغي، فكرهت ذلك، وحلفت ألاّ تفعله، فأكرهها، فانطلقت فباغت ببردٍ أخضر، فأتتهم به، فأنزل اللّه الآية‏.‏ والمراد بمهر البغيّ‏:‏ ما تؤجر به المرأة نفسها على الزّنى، ولا خلاف بين العلماء في تحريمه‏.‏ وتفصيل بقيّة الأحكام المتعلّقة بالبغاء محلّها مصطلح‏:‏ ‏(‏زنى‏)‏‏.‏

بغاة

التّعريف

1 - يقال في اللّغة‏:‏ بغى على النّاس بغياً‏:‏ أي ظلم واعتدى، فهو باغٍ والجمع بغاة، وبغى‏:‏ سعى بالفساد، ومنه الفئة الباغية‏.‏ والفقهاء لا يخرجون في الجملة عن هذا المعنى إلاّ بوضع بعض قيودٍ في التّعريف فقد عرّفوا البغاة بأنّهم‏:‏ الخارجون من المسلمين عن طاعة الإمام الحقّ بتأويلٍ، ولهم شوكة‏.‏ ويعتبر بمنزلة الخروج‏:‏ الامتناع من أداء الحقّ الواجب الّذي يطلبه الإمام، كالزّكاة‏.‏ ويطلق على من سوى البغاة اسم ‏(‏أهل العدل‏)‏ وهم الثّابتون على موالاة الإمام‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخوارج‏:‏

2 - يقول الجرجانيّ‏:‏ هم الّذي يأخذون العشر من غير إذن السّلطان‏.‏ وهم في الأصل كانوا في صفّ الإمام عليٍّ رضي الله عنه في القتال، وخرجوا عليه لمّا قبل التّحكيم‏.‏ قالوا‏:‏ لم تحكّم وأنت على حقٍّ‏.‏ ويقول ابن عابدين‏:‏ إنّهم يرون عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه على باطلٍ بقبوله التّحكيم، ويوجبون قتاله، ويستحلّون دماء أهل العدل، ويسبون نساءهم وذراريّهم، لأنّهم في نظرهم كفّار‏.‏ وأكثر الفقهاء يرون أنّهم بغاة، ولا يرون تكفيرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنّهم كفّار مرتدّون‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم، وذكر ابن عبد البرّ أنّ الإمام عليّاً رضي الله عنه سئل عنهم‏:‏ أكفّار هم ‏؟‏ قال‏:‏ من الكفر فرّوا‏.‏ قيل‏:‏ فمنافقون ‏؟‏ قال‏:‏ إنّ المنافقين لا يذكرون اللّه إلاّ قليلاً‏.‏ قيل فما هم ‏؟‏ قال‏:‏ هم قوم أصابتهم فتنة، فعموا وصمّوا، وبغوا علينا، وقاتلوا فقاتلناهم‏.‏ وقال لهم‏:‏ لكم علينا ثلاث‏:‏ لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسم اللّه، ولا نبدؤكم بقتالٍ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا‏.‏ ويقول الماورديّ‏:‏ إن تظاهر الخوارج باعتقادهم، وهم على اختلاطٍ بأهل العدل، جاز للإمام أن يعزّرهم‏.‏ وتفصيل الكلام في مصطلح ‏(‏فرق‏)‏‏.‏

ب - المحاربون‏:‏

3 - المحاربون‏:‏ لفظ مشتقّ من الحرابة مصدر حرب، وحرّبه يحرّبه‏:‏ إذا أخذ ماله، والحارب‏:‏ الغاصب النّاهب‏.‏ وعبّر عنها الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ بقطع الطّريق، وقالوا‏:‏ إنّه الخروج على المارّة لأخذ المال على سبيل المغالبة، على وجهٍ يمنع المارّة من المرور، فينقطع الطّريق، سواء أكان القطع من جماعةٍ أم واحدٍ، بعد أن يكون له قوّة القطع، وسواء أكان القطع بسلاحٍ أم بغيره من العصا والحجر ونحو ذلك‏.‏ وتسمّى الحرابة بالسّرقة الكبرى‏.‏ أمّا كونها سرقةً، فباعتبار أنّ قاطع الطّريق يأخذ المال خفيةً عن عين الإمام الّذي عليه حفظ الأمن‏.‏ وأمّا كونها كبرى، فلأنّ ضرره يعمّ، حيث يقطع الطّريق على الجماعة بزوال الأمن‏.‏ فالفرق بين الحرابة والبغي هو أنّ البغي يستلزم وجود تأويلٍ، أمّا الحرابة فالغرض منها الإفساد في الأرض‏.‏

الحكم التّكليفيّ للبغي

4 - البغي حرام، والبغاة آثمون، ولكن ليس البغي خروجاً عن الإيمان، لأنّ اللّه سمّى البغاة مؤمنين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم‏}‏، ويحلّ قتالهم، ويجب على النّاس معونة الإمام في قتالهم‏.‏ ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد‏.‏ ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر اللّه، ويقول الصّنعانيّ‏:‏ إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم يخلّى وشأنه، إذ مجرّد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال المخالف‏.‏ وفي حديثٍ رواه الحاكم وغيره قال النّبيّ عليه الصلاة والسلام لابن مسعودٍ‏:‏ ‏{‏يا ابن مسعودٍ‏:‏ أتدري ما حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة ‏؟‏ قال ابن مسعودٍ‏:‏ اللّه ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ حكم اللّه فيهم ألاّ يتّبع مدبرهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يذفّف على جريحهم‏}‏‏.‏ ويرى الشّافعيّة أنّ البغي ليس اسم ذمٍّ، لأنّ البغاة خالفوا بتأويلٍ جائزٍ في اعتقادهم، لكنّهم مخطئون فيه، فلهم نوع عذرٍ، لما فيهم من أهليّة الاجتهاد‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ ما ورد في ذمّهم، وما وقع في كلام الفقهاء في بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق محمول على من لا أهليّة فيه للاجتهاد، أو لا تأويل له‏.‏ وكذلك إن كان تأويله قطعيّ البطلان‏.‏

5 - وقد بيّن الفقهاء أنواع البغاة من حيث جواز فعلهم، أو كونه صغيرةً أو كبيرةً كما يلي‏:‏

أ - البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين، وإنّما هم مخطئون في تأويلهم، كالمجتهدين من الفقهاء، يقول ابن قدامة‏:‏ لا أعلم خلافاً في قبول شهادتهم‏.‏ وسيأتي بيانه‏.‏ وكذا إن تكلّموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد، فليس للإمام أن يتعرّض لهم، لأنّ العزم على الجناية لم يوجد‏.‏ ومثال ذلك‏:‏ ما وقع لبعض الصّحابة، ممّن عصى الإمام لا على سبيل المغالبة، من أنّه مكث أشهراً لم يبايع الخليفة ثمّ بايعه‏.‏ يقول القرطبيّ‏:‏ ولم يوجب ذلك لعن البغاة والبراءة منهم وتفسيقهم‏.‏

ب - إن خالط البغاة أهل العدل، وتظاهروا باعتقادهم، دون مقاتلتهم جاز للإمام تعزيرهم، إذ التّظاهر باعتقادهم، ونشره بين أهل العدل دون قتالٍ يعتبر من الصّغائر‏.‏

ج - إذا اجتمع المسلمون على إمامٍ، وصاروا آمنين به، فخرج عليه طائفة من المؤمنين، ولم يكن ذلك لظلمٍ ظلمهم إيّاه، ولكن لدعوى الحقّ والولاية‏.‏ فقالوا‏:‏ الحقّ معنا، ويدّعون الولاية، ولهم تأويل ومنعة، فهم أهل بغيٍ، فعلى كلّ من يقوى على القتال مناصرة الإمام عليهم‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ومن البغاة الخوارج‏.‏ ويقول ابن قدامة‏:‏ إذا خرجوا على الإمام فهم فسّاق‏.‏

شروط تحقّق البغي‏:‏

6 - يتحقّق البغي بما يلي‏:‏

أ - أن يكون الخارجون على الإمام جماعةً من المسلمين لهم شوكة، وخرجوا عليه بغير حقٍّ لإرادة خلعه بتأويلٍ فاسدٍ‏.‏ فلو خرج عليه أهل الذّمّة لكانوا حربيّين لا بغاةً‏.‏ ولو خرجت عليه طائفة من المسلمين بغير تأويلٍ ولا طلب إمرةٍ لكانوا قطّاع طريقٍ، وكذا لو لم يكن لهم قوّة ومنعة، ولا يخشى قتالهم، ولو كانوا متأوّلين‏.‏ ولو خرجوا على الإمام بحقٍّ - كدفع ظلمٍ - فليسوا ببغاةٍ، وعلى الإمام أن يترك الظّلم وينصفهم، ولا ينبغي للنّاس معونة الإمام عليهم، لأنّ فيه إعانةً على الظّلم، ولا أن يعينوا تلك الطّائفة الخارجة، لأنّ فيه إعانةً على خروجهم، واتّساع الفتنة، وقد لعن اللّه من أيقظ الفتنة‏.‏ وأمّا من خرجوا على الإمام بمنعةٍ، بتأويلٍ يقطع بفساده، مستحلّين دماء المسلمين وأموالهم، ممّا كان قطعيّ التّحريم، كتأويل المرتدّين، فليسوا ببغاةٍ، لأنّ الباغي تأويله محتمل للصّحّة والفساد، ولكنّ فساده هو الأظهر، وهو متّبع للشّرع في زعمه، والفاسد منه ملحق بالصّحيح، إذا ضمّت إليه المنعة في حقّ الدّفع‏.‏

ب - أن يكون النّاس قد اجتمعوا على إمامٍ وصاروا به آمنين، والطّرقات به آمنة، لأنّه إذا لم يكن كذلك يكون عاجزاً، أو جائراً ظالماً يجوز الخروج عليه وعزله، إن لم يلزم منه فتنة، وإلاّ فالصّبر أولى من التّعرّض لإفساد ذات البين‏.‏

ج - أن يكون الخروج على سبيل المغالبة، أي بإظهار القهر‏.‏ وقيل‏:‏ بالمقاتلة، وذلك لأنّ من يعصي الإمام لا على سبيل المغالبة لا يكون من البغاة، فمن خرج عن طاعة الإمام من غير إظهار القهر لا يكون باغياً‏.‏

د - وصرّح الشّافعيّة باشتراط أن يكون للخارجين مطاع فيهم، يصدرون عن رأيه، وإن لم يكن إماماً منصوباً، إذ لا شوكة لمن لا مطاع لهم‏.‏ وقيل‏:‏ بل يشترط أن يكون لهم إمام منصوب منهم، هذا ولا يشترط لتحقّق البغي انفرادهم بنحو بلدٍ ولكنّ ذلك شرط لمقاتلتهم‏.‏

الإمام الّذي يعتبر الخروج عليه بغياً‏:‏

7 - من اتّفق، المسلمون على إمامته وبيعته، وثبتت إمامته، وجبت طاعته ومعونته، ومثله من تثبت إمامته بعهد إمامٍ قبله إليه، إذ الإمام يصير إماماً بالمبايعة أو بالاستخلاف ممّن قبله‏.‏ ولو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب النّاس بسيفه، حتّى أذعنوا له وتابعوه، صار إماماً يحرم قتاله والخروج عليه‏.‏ وينظر للتّفصيل بحث ‏(‏الإمامة الكبرى‏)‏‏.‏

أمارات البغي‏:‏

8 - إذا تكلّم جماعة في الخروج على الإمام ومخالفة أوامره، وأظهروا الامتناع، وكانوا متحيّزين متهيّئين لقصد القتال، لخلع الإمام وطلب الإمرة لهم، وكان لهم تأويل يبرّر في نظرهم مسلكهم دون المقاتلة، فإنّ ذلك يكون أمارة بغيهم‏.‏ وينبغي إذا ما بلغ الإمام أمرهم، وأنّهم يشترون السّلاح ويتأهّبون للقتال، أن يأخذهم ويحبسهم حتّى يقلعوا عن ذلك، ويحدثوا توبةً، دفعاً للشّرّ بقدر الإمكان، لأنّه لو انتظر أن يبدءوه بالقتال، فربّما لا يمكنه الدّفع، لتقوّي شوكتهم وتكثّر جمعهم، خصوصاً والفتنة يسرع إليها أهل الفساد‏.‏ ويختلف الفقهاء في بدئهم بالقتال على ما سيأتي بيانه‏.‏ وكذلك فإنّ مخالفتهم للإمام لمنع حقّ اللّه، أو لآدميٍّ كزكاةٍ، وكأداء ما عليهم ممّا جبوه لبيت مال المسلمين خراج الأرض، مع التّحيّز والتّهيّؤ للخروج على الإمام على وجه المغالبة، وعدم المبالاة به، فإنّ ذلك يكون أمارة بغيهم‏.‏ أمّا لو أظهروا رأي الخوارج، كتكفير فاعل الكبيرة وترك الجماعات واستباحة دماء المسلمين وأموالهم، ولكن لم يرتكبوا ذلك، ولم يقصدوا القتال، ولم يخرجوا عن طاعة الإمام، فإنّ ذلك لا يكون أمارة البغي، حتّى لو امتازوا بموضعٍ يتجمّعون فيه، لكن إن حصل منهم ضرر تعرّضنا لهم إلى زوال الضّرر‏.‏

بيع السّلاح لأهل الفتنة

9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع السّلاح للبغاة وأهل الفتنة، لأنّ هذا سدّ لذريعة الإعانة على المعصية، وكذا ما كان في معنى البيع من إجارةٍ أو معاوضةٍ، وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ‏{‏نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع السّلاح في الفتنة‏}‏‏.‏ وصرّح الحنفيّة بكراهة بيع السّلاح لهم كراهةً تحريميّةً، لأنّه إعانة على معصيةٍ، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏، ولأنّ الواجب أخذ سلاحهم بما أمكن، حتّى لا يستعملوه في الفتنة، فمنع بيعه لهم أولى‏.‏ والّذي يكره هو بيع السّلاح نفسه المعدّ للاستعمال‏.‏ وإن لم يدر أنّ طالب السّلاح من أهل الفتنة لا يكره البيع له، لأنّ الغلبة في دار الإسلام لأهل الصّلاح، والأحكام تبنى على الغالب‏.‏ وأمّا ما لا يقاتل به إلاّ بصنعةٍ كالحديد، فلا يكره بيعه، لأنّ المعصية تقع بعين السّلاح، بخلاف الحديد، وقاسوه على الخشب الّذي يتّخذ منه المعازف، فإنّه لا يكره بيعه، لأنّ عينه ليس منكراً، وإنّما المنكر في استعماله المحظور‏.‏ والحديد وإن كان يكره تحريماً بيعه لأهل الحرب، فإنّه يجوز بيعه لأهل البغي، لأنّهم لا يتفرّغون لاستعمال الحديد سلاحاً، لأنّ فسادهم في الغالب يكون على شرف الزّوال بالتّوبة، أو بتفريق جمعهم، بخلاف أهل الحرب‏.‏ واستظهر ابن عابدين أنّ الكراهة تنزيهيّة، وقال‏:‏ ولم أر من تعرّض لهذا‏.‏

واجب الإمام نحو البغاة‏:‏

أ - قبل القتال‏:‏

10 - ينبغي للإمام أن يدعو البغاة الخارجين عليه إلى العودة إلى الجماعة، والدّخول في طاعته رجاء الإجابة، وقبول الدّعوة، لعلّ الشّرّ يندفع بالتّذكرة، لأنّه ترجى توبتهم، ويسألهم عن سبب خروجهم، فإن كان لظلمٍ منه أزاله، وإن ذكروا علّةً يمكن إزالتها أزالها، وإن ذكروا شبهةً كشفها، لأنّ اللّه سبحانه بدأ الأمر بالإصلاح قبل القتال فقال‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏ ولأنّ المقصود كفّهم ودفع شرّهم، لا قتلهم‏.‏ فإذا أمكن بمجرّد القول كان أولى من القتال، لما فيه من الضّرر بالفريقين‏.‏ ولا يجوز قتالهم قبل ذلك إلاّ أن يخاف شرّهم‏.‏ وإن طلبوا الإنظار - وكان الظّاهر من قصدهم الرّجوع إلى الطّاعة - أمهلهم‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم‏.‏ وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ‏:‏ ينظرهم إلى مدّةٍ قريبةٍ كيومين أو ثلاثةٍ‏.‏ وإن أصرّوا على بغيهم، بعد أن بعث إليهم أميناً ناصحاً لدعوتهم، نصحهم ندباً بوعظٍ ترغيباً وترهيباً، وحسّن لهم اتّحاد كلمة الدّين وعدم شماتة الكافرين، فإن أصرّوا آذنهم بالقتال‏.‏ وإن قاتلهم بلا دعوةٍ جاز، لأنّ الدّعوة ليست بواجبةٍ‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يجب إنذارهم ودعوتهم ما لم يعاجلوه‏.‏ وكون المبعوث إليهم عارفاً فطناً واجب، إن بعث للمناظرة وكشف الشّبهة، وإلاّ فمستحبّ‏.‏ وفصّل الكاسانيّ فقال‏:‏ إن علم الإمام أنّهم يجهّزون السّلاح ويتأهّبون للقتال، فينبغي له أن يأخذهم، ويحبسهم حتّى يتوبوا، وإن لم يعلم بذلك حتّى تعسكروا وتأهّبوا للقتال، فينبغي له أن يدعوهم إلى الرّجوع إلى رأي الجماعة أوّلاً، فإنّ الإمام عليّاً رضي الله عنه لمّا خرج عليه أهل حروراء، ندب إليهم عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما ليدعوهم إلى العدل، فإن أجابوا كفّ عنهم وإن أبوا قاتلهم‏.‏‏.‏‏.‏ وإن قاتلهم قبل الدّعوة لا بأس بذلك، لأنّ الدّعوة قد بلغتهم، فهم مسلمون في دار الإسلام‏.‏ وقد أسند النّسائيّ في سننه الكبرى إلى ابن عبّاسٍ قال‏:‏ لمّا خرجت الحروريّة اعتزلوا في دارٍ، وكانوا ستّة آلافٍ، فقلت لعليٍّ أمير المؤمنين‏:‏ لعلّي أكلّم هؤلاء القوم‏.‏ قال إنّي أخافهم عليك‏.‏ قلت‏:‏ كلّاً‏.‏ فلبست ثيابي، ومضيت إليهم، حتّى دخلت عليهم وهم مجتمعون‏.‏ وقلت‏:‏ أتيتكم من عند أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عند ابن عمّ النّبيّ وصهره وعليهم نزل القرآن، وهم أعرف بتأويله منكم‏.‏ وليس فيكم منهم أحد‏.‏ وقلت‏:‏ هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول اللّه وختنه‏.‏ قالوا‏:‏ ثلاث‏.‏ أنّه حكّم الرّجال في دين اللّه، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلاّ للّه‏}‏ وأنّه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفّاراً فقد حلّت لنا نساؤهم وأموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم‏.‏ وأنّه محا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنّه يكون أمير الكافرين‏.‏ قلت‏:‏ أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اللّه، وحدّثتكم من سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يردّ قولكم هذا، ترجعون ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ أمّا قولكم‏:‏ إنّه حكّم الرّجال في دين اللّه، فأنا أقرأ عليكم أن قد صيّر اللّه حكمه إلى الرّجال في أرنبٍ ثمنها ربع درهمٍ، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم‏}‏ إلى قوله ‏{‏يحكم به ذوا عدلٍ منكم‏}‏ وقال اللّه تعالى في المرأة وزوجها‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها‏}‏ أنشدكم اللّه أحكم الرّجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات البين أحقّ، أم في أرنبٍ ثمنها ربع درهمٍ ‏؟‏‏.‏ وأمّا قولكم‏:‏ إنّه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمّكم عائشة، فتستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها، وهي أمّكم ‏؟‏ لئن فعلتم لقد كفرتم‏.‏ فإن قلتم‏:‏ ليست أمّنا فقد كفرتم، لأنّ اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم‏}‏‏.‏ وأمّا قولكم‏:‏ إنّه محا نفسه من أمير المؤمنين‏.‏ فإنّ ‏{‏رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية، على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال لكاتبه‏:‏ اكتب‏:‏ هذا ما قضى عليه محمّد رسول اللّه‏.‏ فقالوا‏:‏ واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب‏:‏ محمّد بن عبد اللّه‏.‏ فقال‏:‏ واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني‏.‏ يا عليّ اكتب‏:‏ محمّد بن عبد اللّه‏}‏، فرسول اللّه خير من عليٍّ، وقد محا نفسه ولم يكن محو ذلك محواً من النّبوّة‏.‏ فرجع منهم ألفان وبقي سائرهم، فقوتلوا‏.‏ ويصرّح الألوسيّ أنّه يجب قبل القتال إزالة الشّبهة بالحجج النّيّرة والبراهين القاطعة، ودعوة البغاة إلى الرّجوع إلى الجماعة والدّخول في طاعة الإمام‏.‏

ب - قتال البغاة‏:‏

11 - إذا ما دعا الإمام البغاة إلى الدّخول في طاعته، وكشف شبهتهم، فلم يستجيبوا وتحيّزوا مجتمعين، وكانوا متهيّئين للقتال فإنّه يحلّ قتالهم‏.‏ ولكن هل نبدؤهم بالقتال، أم لا نقاتلهم إلاّ إذا أظهروا المغالبة ‏؟‏ هناك اتّجاهان‏:‏ الاتّجاه الأوّل‏:‏ جواز البدء بالقتال، لأنّه لو انتظرنا قتالهم ربّما لا يمكن الدّفع، وهو ما نقله خواهر زاده، قال الزّيلعيّ‏:‏ وهو المذهب عند الحنفيّة، لأنّ النّصّ جاء غير مقيّدٍ بالبداءة منهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وقول عليٍّ رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏سيخرج قوم في آخر الزّمان، حداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرّيّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة‏}‏، ولأنّ الحكم يدار على علامته، وهي هنا التّحيّز والتّهيّؤ، فلو انتظرنا حقيقة قتالهم لصار ذريعةً لتقويتهم‏.‏ فيدار الحكم على الإمارة ضرورة دفع شرّهم، ولأنّهم بالخروج على الإمام صاروا عصاةً فجاز قتالهم، إلى أن يقلعوا عن ذلك‏.‏ وما نقل عن عليٍّ رضي الله عنه من قوله في الخوارج لن نقاتلكم حتّى تقاتلونا معناه‏:‏ حتّى تعزموا على قتالنا‏.‏ ولو أمكن دفع شرّهم بالحبس بعدما تأهّبوا فعل ذلك، ولا نقاتلهم، لأنّه أمكن دفع شرّهم بأهون منه‏.‏ وإلى القول بحلّ بدئهم بالقتال اتّجه فقهاء الحنابلة، جاء في كشّاف القناع‏:‏ إن أبوا الرّجوع وعظهم وخوّفهم بالقتال، فإن رجعوا إلى الطّاعة تركهم، وإلاّ لزمه قتالهم إن كان قادراً، لإجماع الصّحابة على ذلك‏.‏ الاتّجاه الثّاني‏:‏ نقل القدوريّ أنّه لا يبدؤهم بالقتال حتّى يبدءوه، وهو ما رواه الكاسانيّ والكمال‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ لأنّ قتالهم لدفع شرّهم، لا لشرّ شركهم، لأنّهم مسلمون، فما لم يتوجّه الشّرّ منهم لا يقاتلهم الإمام، إذ لا يجوز قتال المسلم إلاّ دفعاً، بخلاف الكافر، لأنّ نفس الكفر قبيح‏.‏ وهو ما استظهره بعض المالكيّة، وهو مذهب الشّافعيّة، وقول أحمد بن حنبلٍ، لأنّ عليّاً أمر أصحابه ألاّ يبدءوا من خرجوا عليه بالقتال، وإن أمكن دفعهم دون القتل لم يجز القتل‏.‏ ولا يجوز قتالهم قبل ذلك إلاّ أن يخاف شرّهم كالصّائل‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ «الأفضل تركه حتّى يبدءوه ‏"‏ أي القتال‏.‏

المعاونة في مقاتلة البغاة‏:‏

12 - من دعاه الإمام إلى مقاتلة البغاة افترض عليه إجابته، لأنّ طاعة الإمام فيما ليس بمعصيةٍ فرض‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ يجب على كلّ من أطاق الدّفع أن يقاتل مع الإمام، إلاّ إن كان سبب الخروج ظلم الإمام بما لا شبهة فيه، إذ يجب معونتهم لإنصافهم إن كان ذلك ممكناً‏.‏ ومن لم يكن قادراً لزم بيته‏.‏ وعليه يحمل ما روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم قعدوا في الفتنة، وربّما كان بعضهم في تردّدٍ من حلّ القتال‏.‏ وما روي عن أبي حنيفة من قوله‏:‏ «إذا وقعت الفتنة بين المسلمين، فالواجب على كلّ مسلمٍ أن يعتزل الفتنة، ويقعد في بيته ‏"‏ فإنّه محمول على ما إذا لم يكن إمام‏.‏ أمّا ما روي من حديث‏:‏ ‏{‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار‏}‏ فإنّه محمول على اقتتالهما حميّةً وعصبيّةً، أو لأجل الدّنيا والملك‏.‏ ولو كان السّلطان ظالماً، وبغت عليه طائفة لرفع الظّلم، وطلب منه ذلك فلم يستجب، فلا ينبغي للنّاس معاونة السّلطان ولا معاونة البغاة، إذ غير العدل لا تجب معاونته‏.‏ قال مالك‏:‏ دعه وما يراد منه، ينتقم اللّه من الظّالم بظالمٍ، ثمّ ينتقم من كليهما‏.‏ وينصّ الشّافعيّة على من خرجوا على الإمام - ولو جائراً - يجب على المسلمين إعانته ممّن قرب منهم، حتّى تبطل شوكتهم‏.‏ ويدلّ على وجوب معونة الإمام لدفع البغاة ما رواه عبد اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر‏}‏ ولأنّ كلّ من ثبتت إمامته وجبت طاعته، للحديث السّابق ‏{‏يخرج قوم في آخر الزّمان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

شروط قتال البغاة وما يتميّز به‏:‏

13 - إذا لم يجد مع البغاة النّصح، ولم يستجيبوا للرّجوع إلى طاعة الإمام والدّخول في الجماعة، أو لم يقلبوا الاستتابة - إن كانوا في قبضة الإمام - ورأوا مقاتلتنا وجب قتالهم‏.‏ بشرط أن يتعرّضوا لحرمات أهل العدل، أو يتعطّل جهاد المشركين بهم، أو يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم، أو يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم، أو يتظاهروا على خلع الإمام الّذي انعقدت له البيعة‏.‏ على ما قاله الماورديّ‏.‏ وقال الرّمليّ‏:‏ الأوجه وجوب قتالهم مطلقاً، لأنّ ببقائهم - وإن لم يوجد ما ذكر - تتولّد مفاسد، قد لا تتدارك ما داموا قد خرجوا عن قبضة الإمام وتهيّئوا للقتال‏.‏ ولو اندفع شرّهم بما هو أهون وجب بقدر ما يندفع، إذ يشترط لمقاتلتهم أن يتعيّن القتال لدفع شرّهم، وإذا أمكن ذلك بمجرّد القول كان أولى من القتال‏.‏

كيفيّة قتال البغاة‏:‏

14 - الأصل أنّ قتالهم إنّما يكون درءاً لتفريق الكلمة، مع عدم التّأثيم، لأنّهم متأوّلون، ولذا فإنّ قتالهم يفترق عن قتال الكفّار بأحد عشر وجهاً‏:‏ أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم، وأن يكفّ عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا تقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريّهم، ولا يستعان عليهم بمشركٍ، ولا يوادعهم على مالٍ، ولا تنصب عليهم العرّادات ‏(‏المجانيق ونحوها‏)‏، ولا تحرّق مساكنهم، ولا يقطع شجرهم‏.‏ وإذا تحيّز البغاة إلى جهةٍ مجتمعين، أو إلى جماعةٍ ولم يمكن دفع شرّهم إلاّ بالقتال، حلّ قتالهم حتّى يتفرّق جمعهم، ولو أمكن دفع شرّهم بالحبس بعدما تأهّبوا فعل ذلك، إذ الجهاد معهم واجب بقدر ما يندفع به شرّهم على ما سبق‏.‏ وقد قاتل عليّ رضي الله عنه أهل حروراء بالنّهروان بحضرة الصّحابة، تصديقاً لقوله عليه الصلاة والسلام له ‏{‏أنا أقاتل على تنزيل القرآن، وعليّ يقاتل على تأويله‏}‏ والقتال مع التّأويل هو القتال مع البغاة، وذلك كقتال أبي بكرٍ رضي الله عنه مانعي الزّكاة‏.‏ وإذا قاتلهم الإمام فهزمهم، وولّوا مدبرين، وأمن جانبهم، أو تركوا القتال بإلقاء السّلاح أو بالهزيمة أو بالعجز، لجراحٍ أو أسيرٍ، فإنّه لا يجوز لأهل العدل أن يتّبعوهم، ولا يجهزوا على جريحهم، ولا يقلتوا أسيرهم، لوقوع الأمن عن شرّهم، ولا تسبى لهم ذرّيّة، ولا يقسم له مال، لقول عليٍّ رضي الله عنه لا يقتل بعد الهزيمة مقبل ولا مدبر، ولا يفتح باب، ولا يستحلّ فرج ولا مال بل قال لهم‏:‏ من اعترف شيئاً فليأخذه، أي من عرف من البغاة متاعه استردّه، وقال يوم الجمل‏:‏ لا تتّبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريحٍ، ولا تقتلوا أسيراً، وإيّاكم والنّساء، ولأنّ قتالهم للدّفع والرّدّ إلى الطّاعة دون القتل‏.‏ ويقول ابن قدامة‏:‏ أمّا غنيمة أموالهم وسبي ذرّيّتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافاً، لأنّهم معصومون، وإنّما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم، وما عداه يبقى على أصل التّحريم‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كانت لهم فئة بعيدة ينحازون إليها، ولا يتوقّع في العادة مجيئها إليهم والحرب قائمة، وغلب على الظّنّ عدم وصولها لهم، فإنّه لا يقاتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، لأمن غائلته إلاّ إذا كان متحرّفاً لقتالٍ‏.‏ وأمّا إذا كان لهم فئة قريبة تسعفهم عادةً، والحرب قائمة، فإنّه يجوز اتّباعهم والإجهاز على جريحهم‏.‏ أو كانت لهم فئة بعيدة يتوقّع في العادة مجيئها إليهم والحرب قائمة، وغلب على الظّنّ ذلك فالمتّجه أن يقاتل‏.‏ وقريب منه ما ذهب إليه المالكيّة، فقد صرّحوا بأنّه إذا أمن جانبهم بالظّهور عليهم، لم يتبع منهزمهم، ولم يذفّف على جريحهم‏.‏ أمّا الحنابلة فينصّون على أنّ أهل البغي إذا تركوا القتال، بالرّجوع إلى الطّاعة، أو بإلقاء السّلاح، أو بالهزيمة إلى فئةٍ، أو إلى غير فئةٍ، أو بالعجز لجراحٍ أو مرضٍ أو أسرٍ فإنّه يحرم قتلهم واتّباع مدبرهم‏.‏ وساق ابن قدامة الآثار الواردة في النّهي عن قتل المدبر والإجهاز على الجريح وقتل الأسير، وهي عامّة‏.‏ ثمّ قال‏:‏ لأنّ المقصود كفّهم وقد حصل، فلم يجز قتلهم كالصّائل، ولا يقتلون لما يخاف في التّالي - إن كان لهم فئة - كما لو لم تكن لهم فئة‏.‏ أمّا الحنفيّة‏:‏ فقد نصّوا على أنّه إذا كانت لهم فئة ينحازون إليها - مطلقاً - فإنّه ينبغي لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم، ويجهزوا على جريحهم، لئلاّ ينحازوا إلى الفئة، فيمتنعوا بها، فيكرّوا على أهل العدل‏.‏ والمعتبر في جواز القتل أمارة قتالهم لا حقيقته، ولأنّ قتلهم إذا كان لهم فئة، لا يخرج عن كونه دفعاً، لأنّه يتحيّز إلى الفئة ويعود شرّه كما كان‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ ما قاله عليّ رضي الله عنه على تأويل إذا لم تكن لهم فئة‏.‏

المرأة المقاتلة من أهل البغي‏:‏

15 - ذهب جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ إلى أنّ المرأة من البغاة - إن كانت تقاتل - فإنّها تحبس، ولا تقتل إلاّ في حال مقاتلتها، وإنّما تحبس للمعصية، ولمنعها من الشّرّ والفتنة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن لم يكن قتالهنّ إلاّ بالتّحريض والرّمي بالحجارة، فإنّهنّ لا يقتلن‏.‏

أموالهم بالنّسبة لاغتنامها وإتلافها وضمانها‏:‏

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ أموال البغاة لا تغنم، ولا تقسّم، ولا يجوز إتلافها، وإنّما يجب أن تردّ إليهم‏.‏ لكن ينبغي أن يحبس الإمام أموالهم دفعاً لشرّهم بكسر شوكتهم حتّى يتوبوا، فيردّها إليها لاندفاع الضّرورة، ولأنّها لا استغنام فيها، وإذا كان في أموالهم خيل ونحوها - ممّا يحتاج في حفظه إلى إنفاقٍ - كان الأفضل بيعه وحبس ثمنه‏.‏ وفي ضمان إتلاف مالهم كلام‏.‏ فإنّ العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله حال القتال بسبب القتال أو ضرورته لا يضمن، إذ لا يمكن أن يقتلهم إلاّ بإتلاف شيءٍ من أموالهم كالخيل، فيجوز عقر دوابّهم إذا قاتلوا عليها، وإذا كانوا لا يضمنون الأنفس فالأموال أولى‏.‏ أمّا في غير حال القتال وضرورته فلا تحرّق مساكنهم، ولا يقطع شجرهم، لأنّ الإمام إذا ظفر لهم بمالٍ حال المقاتلة فإنّه يحبسه حتّى يردّ إليهم، فلا تؤخذ أموالهم، لأنّ مواريثهم قائمة، وإنّما قوتلوا بما أحدثوا من البدع، فكان ذلك كالحدّ يقام عليهم‏.‏ وقيّد الماورديّ الضّمان بما إذا كان الإتلاف خارج القتال بقصد التّشفّي والانتقام، أمّا إذا كان لإضعافهم أو هزيمتهم فلا ضمان‏.‏ واستظهر الزّيلعيّ وابن عابدين حمل الضّمان على ما قبل تحيّزهم وخروجهم، أو بعد كسرهم وتفرّق جمعهم‏.‏

ما أتلفه أهل العدل للبغاة‏:‏

17 - نقل الزّيلعيّ عن المرغينانيّ‏:‏ أنّ العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم، لأنّه مأمور بقتالهم دفعاً لشرّهم‏.‏ وفي المحيط‏:‏ إذا أتلف مال الباغي يؤخذ بالضّمان، لأنّ مال الباغي معصوم في حقّنا، وأمكن إلزام الضّمان، فكان في إيجابه فائدة

ما أتلفه البغاة لأهل العدل‏:‏

18 - إذا أتلف أهل البغي لأهل العدل مالاً فلا ضمان عليهم، لأنّهم طائفة متأوّلة فلا تضمن كأهل العدل، ولأنّه ذو منعةٍ في حقّنا، وأمّا الإثم فإنّه لا منعة له في حقّ الشّارع، ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرّجوع إلى الطّاعة، لما رواه عبد الرّزّاق بإسناده عن الزّهريّ، أنّ سليمان بن هشامٍ كتب إليه يسأله عن امرأةٍ خرجت من عند زوجها، وشهدت على قومها بالشّرك، ولحقت بالحروريّة فتزوّجت، ثمّ إنّها رجعت إلى أهلها تائبةً، قال فكتب إليه‏:‏ أمّا بعد، فإنّ الفتنة الأولى ثارت، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - ممّن شهد بدراً - كثير، فاجتمع رأيهم على ألاّ يقيموا على أحدٍ حدّاً في فرجٍ استحلّوه بتأويل القرآن، ولا قصاصاً في دمٍ استحلّوه بتأويل القرآن، ولا يردّ مال استحلّوه بتأويل القرآن، إلاّ أن يوجد شيء بعينه فيردّ على صاحبه، وإنّي أرى أن تردّ إلى زوجها، وأن يحدّ من افترى عليها‏.‏ وفي قولٍ للشّافعيّ‏:‏ يضمنون، لقول أبي بكرٍ تدون قتلانا، ولا ندي - من الدّية - قتلاكم ولأنّها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حقٍّ ولا ضرورة دفع مباحٍ، فوجب ضمانه، كالّتي أتلفت في غير حال الحرب‏.‏ وإذا تاب البغاة ورجعوا أخذ منهم ما وجد بأيديهم من أموال أهل الحقّ، وما استهلكوه لم يتبعوا به، ولو كانوا أغنياء، لأنّهم متأوّلون‏.‏ وإذا قتل الباغي أحداً من أهل العدل في غير المعركة يقتل به، لأنّه قتل بإشهار السّلاح والسّعي في الأرض بالفساد كقاطع الطّريق، وقيل‏:‏ لا يتحتّم قتله، وهو الصّحيح عند الحنابلة‏:‏ لقول عليٍّ رضي الله عنه‏:‏ إن شئت أن أعفو، وإن شئت استقدت‏.‏

التّمثيل بقتلى البغاة‏:‏

19 - التّمثيل بقتلى البغاة مكروه تحريماً عند الحنفيّة، حرام عند المالكيّة، أمّا نقل رءوسهم، فقد قال الحنفيّة‏:‏ يكره أخذ رءوسهم، فيطاف بها في الآفاق، لأنّه مثلة‏.‏ وجوّزه بعض متأخّري الحنفيّة، إذا كان فيه طمأنينة قلوب أهل العدل، أو كسر شوكة البغاة‏.‏ وجوّز المالكيّة رفع رءوس قتلى البغاة في محلّ قتلهم‏.‏

أسرى البغاة‏:‏

20 - أسرى البغاة يعاملون معاملةً خاصّةً، لأنّ قتالهم كان لمجرّد دفع شرّهم، فلا يستباح دمهم إلاّ بقدر ما يدفع القتال، ولذا فإنّهم لا يقتلون إذا لم تكن لهم فئة اتّفاقاً، للتّعليل السّابق، ولذا لا يسترقّون مطلقاً، سواء أكانت لهم فئة أم لا اتّفاقاً، لأنّهم أحرار مسلمون، ولا تسبى لهم نساء ولا ذرّيّة‏.‏ أمّا إن كانت لهم فئة، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهم لا يقتلون أيضاً‏.‏ غير أنّ عبد الملك من المالكيّة قال‏:‏ إن أسر منهم أسير وقد انقطعت الحرب لا يقتل، وإن كانت الحرب قائمةً فللإمام قتله، إذا خاف منه الضّرر‏.‏ وفي بعض كتب المالكيّة‏:‏ أنّه إذا أسر بعد انقضاء الحرب يستتاب، فإن لم يتب قتل، وقيل‏:‏ يؤدّب ولا يقتل‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إن قتله ضمنه بالدّية، لأنّه بالأسر صار محقون الدّم، وقيل‏:‏ فيه قصاص‏.‏ وقيل‏:‏ لا قصاص فيه، لأنّ أبا حنيفة يجيز قتله فصار ذلك شبهةً‏.‏ وإن كان أسير بالغاً فدخل في الطّاعة أطلقه، وإن لم يدخل في الطّاعة حبسه إلى أن تنتهي الحرب‏.‏ وإن كان عبداً أو صبيّاً لم يحبس، لأنّه ليس من أهل البيعة، وقال بعض الشّافعيّة‏:‏ يحبس لأنّ في حبسه كسراً لقلوبهم‏.‏ وهذا ما قاله الحنابلة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إذا كانت للأسير فئة، فالإمام بالخيار إن شاء قتله، وإن شاء حبسه دفعاً لشرّه بقدر الإمكان، ويحكم الإمام بنظره فيما هو أحسن في كسر الشّوكة‏.‏

فداء الأسرى‏:‏

21 - نصّ الفقهاء على جواز فداء أسارى أهل العدل بأسارى البغاة، وقالوا‏:‏ إن قتل أهل البغي أسرى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أسراهم، لأنّهم لا يقتلون بجناية غيرهم، وإن أبى البغاة مفاداة الأسرى الّذين معهم وحبسوهم، قال ابن قدامة‏:‏ احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصّلوا إلى تخليص أسراهم بذلك، ويحتمل ألاّ يجوز حبسهم، ويطلقون، لأنّ الذّنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم‏.‏ وتفصيل الكلام عن أسرى البغاة في مصطلح ‏(‏أسرى‏)‏‏.‏

موادعة البغاة

22 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز موادعة البغاة على مالٍ‏.‏ فإن وادعهم الإمام على مالٍ بطلت الموادعة‏.‏ ولو طلبوا الموادعة - أي الصّلح على ترك المقاتلة بغير مالٍ - أجيبوا إليها إن كان ذلك خيراً‏.‏ فإن بان له أنّ قصدهم الرّجوع إلى الطّاعة ومعرفة الحقّ أمهلهم‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم‏.‏ فإن كان قصدهم الاجتماع على قتاله وانتظار مددٍ، أو ليأخذوا الإمام على غرّةٍ عاجلهم ولم ينظرهم‏.‏ وإذا وقعت الموادعة فأعطى كلّ فريقٍ رهناً على أيّهما غدر يقتل الآخرون الرّهن، فغدر أهل البغي وقتلوا الرّهن، لا يحلّ لأهل العدل قتل الرّهن، بل يحبسونهم حتّى يهلك أهل البغي أو يتوبوا، لأنّهم صاروا آمنين بالموادعة، أو بإعطائه الأمان لهم حين أخذناهم رهناً‏.‏ والغدر من غيرهم لا يؤاخذون به، لكنّهم يحبسون مخافة أن يرجعوا إلى فئتهم فيكونون لهم قوّةً تغريهم على المقاتلة‏.‏

23 - وإن بذل البغاة لأهل العدل رهائن على إنظارهم لم يجز أخذها لذلك، لأنّ الرّهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم، وإن كان في أيديهم أسرى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن منهم قبلهم الإمام، واستظهر لأهل العدل‏.‏ فإن أطلقوا أسرى أهل العدل الّذين عندهم أطلق رهائنهم‏.‏ وإن قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم، لأنّهم لا يقتلون بقتل غيرهم، لأنّهم صاروا آمنين‏.‏ فإذا انقضت الحرب خلّي الرّهائن كما تخلّى الأسرى منهم‏.‏

من لا يجوز قتله من البغاة‏:‏

24 - يتّفق الفقهاء على أصل قاعدةٍ‏:‏ أنّ من لا يجوز قتله من أهل الحرب - كالنّساء والشّيوخ والصّبيان والعميان - لا يجوز قتله من البغاة ما لم يقاتلوا، لأنّ قتلهم لدفع شرّ قتالهم، فيختصّ ذلك بأهل القتال‏.‏ وهؤلاء ليسوا من أهل القتال عادةً، فلا يقتلون إلاّ إذا قاتلوا ولو بالتّحريض، لوجود القتال من حيث المعنى، فيباح قتلهم إلاّ الصّبيّ والمعتوه‏.‏ فالأصل أنّهما لا يقصدان القتل‏.‏ فيحلّ قتلهما حال القتال إن قاتلا حقيقةً أو معنًى‏.‏ أمّا الحنفيّة، فعلى مذهبهم في تخيير الإمام بين قتل أسرى البغاة أو حبسهم، يرون جواز قتل من قاتل أو حرّض من الشّيوخ ونحوهم، فيقتلون حال القتال أو بعد الفراغ منه‏.‏ لكن لا يقتل الصّبيّ والمعتوه بعد الفراغ من القتال، لأنّ القتل بعد الفراغ والأسر بطريق العقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة‏.‏ وأمّا قتلهما حال الحرب فدفعاً لشرّهم كدفع الصّائل‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إن حضر مع البغاة عبيد ونساء وصبيان قوتلوا مقبلين، وتركوا مدبرين كغيرهم من الأحرار والذّكور البالغين، لأنّ قتالهم للدّفع، ولو أراد أحد هؤلاء قتل إنسانٍ جاز دفعه وقتاله‏.‏ وقد نصّ المالكيّة على أنّ البغاة لو تترّسوا بذرّيّتهم تركوا، إلاّ أن يترتّب على تركهم تلف أكثر المسلمين‏.‏

حضور من لا يقاتل من القادرين على القتال مع البغاة‏:‏

25 - إذا حضر مع البغاة من لا يقاتل - برغم قدرته على القتال - لم يجز أن يقصد بالقتل، لأنّ القصد من قتالهم كفّهم، وهذا قد كفّ نفسه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم‏}‏ فإنّه يدلّ على تحريم قتل المؤمن عمداً على وجه العموم، وإنّما خصّ من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصّائل، ففيما عداه يبقى على العموم، فمن لا يقاتل تورّعاً عنه - مع قدرته عليه - ولا يخاف منه القتال بعد ذلك، وهو مسلم لا يحتاج لدفعٍ فلا يحلّ دمه‏.‏ وفي وجهٍ عند الشّافعيّة يجوز قتله، لأنّ عليّاً نهاهم عن قتل محمّدٍ السّجّاد بن طلحة بن عبيد اللّه ولم يكن يقاتل، وإنّما كان يحمل راية أبيه، فقتله رجل وأنشد شعراً، فلم ينكر عليّ قتله، ولأنّه صار ردءاً لهم‏.‏

حكم قتال المحارم من البغاة‏:‏

26 - اتّفق الفقهاء في الجملة على عدم جواز قتل العادل لذي رحمه المحرّم من أهل البغي، وقصر المالكيّة ذلك على الأبوين فقط‏.‏ بل منهم من قال بجواز قتل أبويه، وكذا في روايةٍ عند الحنابلة ذكرها القاضي‏.‏ ومنهم من صرّح بالكراهة، وهو الأصحّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفاً‏}‏ ولما روى الشّافعيّ أنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّ أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه‏}‏‏.‏ وصرّح بعضهم بعدم الحلّ، لأنّ اللّه أمر بالمصاحبة بالمعروف، والأمر يقتضي الوجوب‏.‏ وللفقهاء تفصيل وأدلّة‏.‏ يقول الحنفيّة‏:‏ لا يجوز للعادل أن يبتدئ بقتل ذي رحمٍ محرمٍ من أهل البغي مباشرةً، إذ اجتمع فيه حرمتان‏:‏ حرمة الإسلام وحرمة القرابة‏.‏ وإذا أراد الباغي قتل العادل فله أن يدفعه، وإن كان لا يندفع إلاّ بالقتل فيجوز له أن يتسبّب ليقتله غيره، لأنّ الإسلام في الأصل عاصم‏:‏ ‏{‏فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والباغي مسلم، إلاّ أنّه أبيح قتل غير ذي الرّحم المحرّم من أهل البغي لدفع شرّهم، لا لشركهم، ودفع الشّرّ يحصل بالدّفع والتّسبّب ليقتله غيره‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ كره للرّجل قتل أبيه الباغي، ومثل أبيه أمّه، بل هي أولى، لما جبلت عليه من الحنان والشّفقة، ولا يكره قتل جدّه وأخيه وابنه‏.‏ وقال ابن سحنونٍ‏:‏ ولا بأس أن يقتل الرّجل في قتال البغاة أخاه وقرابته، فأمّا الأب وحده فلا أحبّ قتله عمداً، وروى ابن عبد السّلام جواز قتل الابن الباغي، وهو غير المشهور‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يكره أن يقصد قتل ذي رحمٍ محرمٍ، كما يكره في قتال الكفّار، فإن قاتله لم يكره‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ الأصحّ كراهة قتل ذي الرّحم المحرّم الباغي، ونقل ابن قدامة عن القاضي أنّه لا يكره، لأنّه قتل بحقٍّ، فأشبه إقامة الحدّ عليه‏.‏

إرث العادل من الباغي الّذي قتله والعكس‏:‏

27 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة - وهو قول لأبي بكرٍ من الحنابلة - إلى أنّ العادل إذا قتل قريبه الباغي ورثه، لأنّه قتل بحقٍّ، فلم يمنع الميراث كالقصاص، ولأنّ قتل الباغي واجب، ولا إثم على القاتل بقتله، ولا يجب الضّمان عليه‏.‏ فكذا لا يحرم من الإرث‏.‏ وكذا لو قتل الباغي ذا رحمه العادل عند المالكيّة وأبي بكرٍ من الحنابلة، لقولهم ‏"‏ ومواريثهم قائمة»‏.‏ أمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ لو قتل الباغي قريبه العادل وقال‏:‏ أنا على حقٍّ ورثه عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، خلافاً لأبي يوسف‏.‏ وإن قال‏:‏ قتلته وأنا على الباطل لا يرث اتّفاقاً بين الإمام وصاحبيه‏.‏ واستدلّ - أبو حنيفة - بأنّه أتلف ما أتلف عن تأويلٍ فاسدٍ، والفاسد منه ملحق بالصّحيح إذا انضمّت إليه منعة، وهو إن كان فاسداً في نفسه فإنّه يسقط به الضّمان، فكذا لا يوجب الحرمان، كما أنّ التّأويل في اعتقاده هو صحيح‏.‏ وذهب الشّافعيّة، وهو قول ابن حامدٍ من الحنابلة إلى أنّه لا يرث لعموم حديث‏:‏ ‏{‏ليس لقاتلٍ شيء‏}‏ وكذا بالنّسبة للباغي إذا قتل العادل، ونصّ الشّافعيّة‏:‏ لا يرث قاتل من مقتوله مطلقاً‏.‏

ما يجوز قتال البغاة به‏:‏

28 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة قتال البغاة - إذا تحصّنوا - بكلّ ما يقاتل به أهل الحرب، بالسّيف والرّمي بالنّبل وبالمنجنيق والحريق والتّغريق، وقطع الميرة ‏(‏المؤن‏)‏ والماء عنهم، وكذا إذا فعل البغاة معهم مثل ذلك، لأنّ قتالهم لدفع شرّهم وكسر شوكتهم، فيقاتلون بكلّ ما يحصل به ذلك‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إلاّ أن يكون فيهم نسوة أو ذراريّ، فلا نرميهم بالنّار‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة بعدم جواز قتالهم بالنّار والرّمي بالمنجنيق، ولا بكلّ عظيمٍ يعمّ، كالتّغريق وإرسال سيولٍ جارفةٍ، ولا يجوز محاصرتهم وقطع الطّعام والشّراب عنهم إلاّ لضرورةٍ، بأن قاتلوا به، أو أحاطوا بنّا ولم يندفعوا إلاّ به، ويكون فعل ذلك بقصد الخلاص منهم لا بقصد قتلهم، لأنّه لا يجوز قتل من لا يقاتل، وما يعمّ إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل‏.‏

مقاتلة البغاة بسلاحهم الّذي في أيدينا‏:‏

29 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو وجه عند الحنابلة، قتالهم بسلاحهم وخيلهم وكلّ أدوات القتال الّتي استولينا عليها منهم، إن احتاج أهل العدل إلى هذا، لأنّ عليّاً رضي الله عنه قسّم ما استولى عليه من سلاح البغاة بين أصحابه بالبصرة، وكانت قسمةً للحاجة لا للتّمليك، ولأنّ للإمام أن يفعل ذلك في مال أهل العدل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى‏.‏ ونقل ابن قدامة عن القاضي أنّ أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب، ومنعه في غير قتالهم، لأنّ هذه الحالة يجوز فيها إتلاف نفوسهم، وحبس سلاحهم وكراعهم، فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب‏.‏ وقال أبو الخطّاب‏:‏ في هذه المسألة وجهان‏.‏ أمّا الشّافعيّة، وهو الوجه الآخر عند الحنابلة الّذي ذكره أبو الخطّاب، فيرون أنّه لا يجوز لأحدٍ استعمال شيءٍ ممّا استولينا عليه من سلاح البغاة وخيلهم إلاّ لضرورةٍ، ويلزم دفع أجرة المثل لهم، كمضطرٍّ لأكل طعام غيره يلزمه ثمنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ منه‏}‏ ولأنّ من لا يجوز أخذ ماله لم يجز الانتفاع بماله من غير إذنه ومن غير ضرورةٍ، ولأنّ الإسلام عصم أموالهم، وإنّما أبيح قتالهم لردّهم إلى الطّاعة، فيبقى المال على عصمته، ومتى انقضت الحرب وجب ردّه إليهم كسائر أموالهم، ولا يردّ إليهم قبل ذلك لئلاّ يقاتلونا به‏.‏

الاستعانة في قتالهم بالمشركين‏:‏

30 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على تحريم الاستعانة بالكفّار في قتال البغاة، لأنّ القصد كفّهم لا قتلهم، والكفّار لا يقصدون إلاّ قتلهم، وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فإن كان من الممكن القدرة على كفّ هؤلاء الكفّار المستعان بهم جاز، وإن لم يقدر لم يجز‏.‏ كما نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يجوز الاستعانة على قتالهم بمن يرى من أهل العدل ‏(‏وهم فقهاء الحنفيّة‏)‏ قتل البغاة وهم مدبرون، على ما سبق بيانه‏.‏ ويتّفق الحنفيّة مع الجمهور في أنّه لا يحلّ الاستعانة بأهل الشّرك إذا كان حكم أهل الشّرك، هو الظّاهر، أمّا إذا كان حكم أهل العدل هو الظّاهر فلا بأس بالاستعانة بالذّمّيّين وصنفٍ من البغاة، ولو لم تكن هناك حاجة، لأنّ أهل العدل يقاتلون لإعزاز الدّين، والاستعانة على البغاة بهم كالاستعانة عليهم بأدوات القتال‏.‏

قتلى معارك البغاة وحكم الصّلاة عليهم‏:‏

31 - من قتل من أهل العدل كان شهيداً، لأنّه قتل في قتالٍ أمر اللّه به، وذلك بقوله جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏فقاتلوا الّتي تبغي‏}‏ ولا يغسّل، ولا يصلّى عليه، لأنّه شهيد معركةٍ أمر بالقتال فيها، فأشبه شهيد معركة الكفّار‏.‏ وفي روايةٍ عند الحنابلة‏:‏ يغسّل ويصلّي عليه، وهو قول الأوزاعيّ وابن المنذر، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه‏}‏ واستثنى قتيل الكفّار في المعركة، ففيما عداه يبقى على الأصل‏.‏ أمّا قتلى البغاة، فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّهم يغسّلون ويكفّنون ويصلّى عليهم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏صلّوا على من قال‏:‏ لا إله إلاّ اللّه‏}‏ ولأنّهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشّهادة، فيغسّلون ويصلّى عليهم‏.‏ ومثله الحنفيّة، سواء أكانت لهم فئة، أم لم تكن لهم فئة على الرّأي الصّحيح عندهم‏.‏ وقد روي‏:‏ أنّ عليّاً رضي الله عنه لم يصلّ على أهل حروراء، ولكنّهم يغسّلون ويكفّنون ويدفنون‏.‏ ولم يفرّق الجمهور بين الخوارج وغيرهم من البغاة في حكم التّغسيل والتّكفين والصّلاة‏.‏

تقاتل أهل البغي‏:‏

32 - إن اقتتل فريقان من أهل البغي، فإن قدر الإمام على قهرهما، لم يعاون واحداً منهما، لأنّ الفريقين على خطأٍ، وإن لم يقدر على قهرهما، ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله، ضمّ إلى نفسه أقربهما إلى الحقّ‏.‏ فإن استويا في ذلك اجتهد رأيه في ضمّ أحدهما، ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر، بل يقصد الاستعانة به على الآخر، فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الّذي ضمّه إلى نفسه حتّى يدعوه إلى الطّاعة، لأنّه بالاستعانة به حصل على الأمان، نصّ على هذا الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ولم يوجد فيما رجعنا إليه من كتب الحنفيّة والمالكيّة حكم هذه الصّورة‏.‏ وجاء في كتب الحنفيّة‏:‏ لو قتل باغٍ مثله عمداً في عسكرهم، ثمّ ظهر أهل العدل على البغاة، فلا شيء على القاتل، لكون المقتول مباح الدّم، إذ لو قتله العادل لا يجب عليه شيء، فلا يجب على الباغي القاتل دية ولا قصاص، ولا إثم عليه أيضاً، ولأنّه لا ولاية لإمام العدل حين القتل، فلم ينعقد موجباً للجزاء، كالقتل في دار الحرب‏.‏ وقالوا‏:‏ لو غلب أهل البغي على بلدٍ، فقاتلهم آخرون من أهل البغي، فأرادوا أن يسبوا ذراريّ أهل المدينة، وجب على أهل البلد أن يقاتلوا دفاعاً عن ذراريّهم‏.‏ وقال الحنفيّة أيضاً‏:‏ لو قتل تاجر من أهل العدل تاجراً آخر من أهل العدل في عسكر أهل البغي، أو قتل الأسير من أهل العدل أسيراً آخر، ثمّ ظهر عليه فلا قصاص عليه، لأنّ الفعل لم يقع موجباً للجزاء، لتعذّر الاستيفاء وانعدام الولاية، كما لو فعل ذلك في دار الحرب، لأنّ عسكر أهل البغي في حقّ انقطاع الولاية ودار الحرب سواء‏.‏

استعانة البغاة بالكفّار‏:‏

33 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا استعان البغاة بالحربيّين وأمّنوهم، أو عقدوا لهم ذمّةً، لم يعتبر الأمان بالنّسبة لنا إن ظفرنا بهم، لأنّ الأمان من شرط صحّته إلزام كفّهم عن المسلمين، وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين، فلا يصحّ الأمان لهم‏.‏ ولأهل العدل قتالهم، وحكم أسرهم في يد أهل العدل حكم الأسير الحربيّ‏.‏ أمّا ما إذا استعان البغاة بالمستأمنين، فمتى أعانوهم كانوا ناقضين للعهد، وصاروا كأهل الحرب، لأنّهم تركوا الشّرط، وهو كفّهم عن المسلمين، وعهدهم مؤقّت بخلاف الذّمّيّين، فإن فعلوا ذلك مكرهين، وكانت لهم منعة، لم ينتقض عهدهم‏.‏ وإن استعانوا بأهل الذّمّة فأعانوهم، وقاتلوا معهم، فعند الشّافعيّة والحنابلة وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ ينتقض عهدهم، لأنّهم قاتلوا أهل الحقّ فينتقض عهدهم، كما لو انفردوا بقتالهم، وعلى هذا يكونون كأهل الحرب، فيقتلون مقبلين ومدبرين، ويجهز على جريحهم، ويسترقّون، وغير ذلك من أحكام قتال الحربيّين‏.‏ والوجه الثّاني‏:‏ أنّه لا ينقض عهدهم، لأنّ أهل الذّمّة لا يعرفون المحقّ من المبطل، فيكون ذلك شبهةً لهم‏.‏ وعلى هذا يكونون كأهل البغي في الكفّ عن قتل أسرهم ومدبرهم وجريحهم‏.‏ والحنفيّة والمالكيّة يتّفقون مع الشّافعيّة والحنابلة في أنّ معونة الذّمّيّين للبغاة استجابة لطلبهم لا تنقض عهد الذّمّة، كما أنّ هذا الفعل من أهل البغي ليس نقضاً للأمان‏.‏ فالّذين انضمّوا إليهم من أهل الذّمّة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام في المعاملات، وأن يكونوا من أهل الدّار‏.‏ وإن أكرههم البغاة على معونتهم لم ينقض عهدهم - قولاً واحداً - ويقبل قولهم، لأنّهم تحت أيديهم وقدرتهم‏.‏ ونصّ الحنفيّة على أنّهم يأخذون حكم البغاة، وأطلقوا هذه العبارة ممّا يفيد أنّهم كالبغاة في عدم ضمان ما أتلفوه لأهل العدل أثناء القتال، وهو ما صرّح به المالكيّة، إذ قالوا بالنّسبة للذّمّيّ الخارج مع البغاة المتأوّلين استجابةً لطلبهم‏:‏ لا يضمن نفساً ولا مالاً‏.‏ لكنّ الشّافعيّة والحنابلة نصّوا على أنّهم يضمنون ما أتلفوا على أهل العدل حال القتال وغيره، إذ لا تأويل لهم‏.‏

إعطاء الأمان للباغي من العادل‏:‏

34 - صرّح الحنفيّة أنّه إذا أمّن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغي جاز أمانه، لأنّه ليس أعلى شقاقاً من الكافر الّذي يجوز إعطاء الأمان له‏.‏ فكذا هذا، بل هو أولى وأحقّ، لأنّه مسلم، وقد يحتاج إلى مناظرته ليتوب، ولا يتأتّى ذلك ما لم يأمن كلّ الآخر‏.‏ ولو دخل باغٍ بأمانٍ، فقتله عادل عمداً، لزمته الدّية‏.‏

تصرّفات إمام البغاة

إذا استولى البغاة على بلدٍ في دار الإسلام، ونصّبوا لهم إماماً، وأحدث الإمام تصرّفاتٍ باعتباره حاكماً، كالجباية من جمع الزّكاة والعشور والجزية والخراج، واستيفاء الحدود والتّعازير وإقامة القضاة، فهل تنفذ هذه التّصرّفات، وتترتّب عليها آثارها في حقّ أهل العدل ‏؟‏ بيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أ - جباية الزّكاة والجزية والعشور والخراج‏:‏

35 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ما جباه أهل البغي من البلاد الّتي غلبوا عليها، من الزّكاة والجزية والعشور والخارج، يعتدّ به، لأنّ ما فعلوه أو أخذوه كان بتأويلٍ سائغٍ، فوجب إمضاؤه، كالحاكم إذا حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه، ولا حرج على النّاس في دفع ذلك إليهم، فقد كان ابن عمر إذا أتاه ساعي نجدة الحروريّ دفع إليه زكاته، وكذلك سلمة بن الأكوع‏.‏ وليس لإمام أهل العدل إذا ظهر على هذه البلاد أن يطالب بشيءٍ ممّا جبوه، ولا يرجع به على من أخذ منه، وقد روي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع، ولأنّ ولاية الأخذ كانت له باعتبار الحماية، ولم يحمهم، ولأنّ في ترك الاحتساب بها ضرراً عظيماً ومشقّةً كبيرةً، فإنّهم قد يغلبون على البلاد السّنين الكثيرة، فلو لم يحتسب ما أخذوه، أدّى إلى أخذ الصّدقات منهم عن كلّ تلك المدّة‏.‏ وقال أبو عبيدٍ‏:‏ على من أخذوا منه الزّكاة الإعادة، لأنّه أخذها من لا ولاية له صحيحة، فأشبه ما لو أخذها آحاد الرّعيّة‏.‏ وذهب فقهاء الحنفيّة إلى أنّه إذا كان إمام أهل البغي صرف ما أخذه في مصرفه أجزأ من أخذ منه، ولا إعادة عليه، لوصول الحقّ إلى مستحقّه‏.‏ وإن لم يكن صرفه في حقّه فعلى من أخذ منهم أن يعيدوا دفعه فيما بينهم وبين اللّه تعالى، لأنّه لم يصل إلى مستحقّه‏.‏ وقال الكمال ابن الهمام‏:‏ قال المشايخ‏:‏ لا إعادة على الأرباب في الخراج، لأنّ البغاة مقاتلة، وهم مصرف الخراج وإن كانوا أغنياء، وكذلك في العشر إن كانوا فقراء، أمّا إن كانوا أغنياء فقد أفتوا بالإعادة، وذلك في زكاة الأموال كلّها‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن عاد بلد البغاة إلى أهل العدل، فادّعى من عليه الزّكاة أنّه دفعها إلى أهل البغي قبل قوله‏.‏ وفي استحلافه وجهان عند الشّافعيّة، وقال أحمد‏:‏ لا يستحلف النّاس على صدقاتهم‏.‏ وإن ادّعى من عليه الجزية أنّه دفعها إليهم لم يقبل قوله، لأنّها عوض، فلم يقبل قوله في الدّفع، كالمستأجر إذا ادّعى دفع الأجرة‏.‏ وعند الحنابلة يحتمل قبول قولهم إذا مضى الحول، لأنّ الظّاهر أنّ البغاة لا يدّعون الجزية لهم، فكان القول قولهم، لأنّ الظّاهر معهم، ولأنّه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شقّ عليهم إقامة البيّنة على مدّعيهم، فيؤدّي ذلك إلى تغريمهم الجزية مرّتين‏.‏ وإن ادّعى من عليه الخراج أنّه دفعه إليهم، ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يقبل قوله، لأنّه مسلم، فقبل قوله في الدّفع لمن عليه الزّكاة‏.‏ والثّاني‏:‏ لا يقبل، لأنّ الخراج ثمن أو أجرة، فلم يقبل قوله في الدّفع، كالثّمن في البيع والأجرة في الإجارة‏.‏ ويصحّ تفريقهم سهم المرتزقة على جنودهم، لاعتقادهم التّأويل المحتمل، فأشبه الحكم بالاجتهاد، ولما في عدم الاعتداد به من الإضرار بالرّعيّة، ولأنّ جندهم من جند الإسلام، ورعب الكفّار قائم بهم، وسواء أكانت الزّكاة معجّلةً أم لا، واستمرّت شوكتهم على وجوبها أم لا، وقيل‏:‏ لا يعتدّ بتفرقتهم لئلاّ يتقوّوا به علينا، وإن كان من عليه الخراج ذمّيّاً فهو كالجزية، لأنّه عوض على غير المسلم‏.‏

ب - قضاء البغاة وحكم نفاذه‏:‏

36 - لو ظهر أهل البغي على بلدٍ فولّوا فيه قاضياً من أهله، وليس من أهل البغي صحّ اتّفاقاً، وعليه أن يقيم الحدود‏.‏ أمّا إن كان منهم، فإذا ظهر أهل العدل على هذا البلد، فرفعت أقضيته إلى قاضي أهل العدل نفذ منها ما هو عدل، وكذا ما قضاه برأي بعض المجتهدين، لأنّ قضاء القاضي في المجتهدات نافذ، وإن كان مخالفاً لرأي قاضي أهل العدل‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إذا كان الباغي متأوّلاً، وأقام قاضياً، فحكم بشيءٍ فإنّه ينفذ، ولا تتصفّح أحكامه، بل تحمل على الصّحّة، ويرتفع بها الخلاف‏.‏ قال الموّاق‏:‏ هذا في ظاهر المذهب‏.‏ أمّا غير المتأوّل فأحكامه تتعقّب‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا يجوز قضاؤهم‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن كان ممّن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لم تنفذ أحكامه، لأنّ من شرط القضاء العدالة والاجتهاد، وهذا ليس بعدلٍ ولا مجتهدٍ، وإن كان ممّن لا يستبيح ذلك نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم أهل العدل، لأنّ لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد، فلم ينقض من حكمه ما يسوغ الاجتهاد فيه، ولأنّه اختلاف في الفروع بتأويلٍ سائغٍ، فلم يمنع صحّة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء، وإذا حكم بما لا يخالف إجماعاً نفذ حكمه، وإن خالف الإجماع نقض، وإن حكم بسقوط الضّمان عن أهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه، لأنّه موضع اجتهادٍ، وإن كان فيما أتلفوه قبل الحرب لم ينفذ، لأنّه مخالف للإجماع، وإن حكم على أهل العدل بالضّمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للإجماع، وإن حكم عليهم بوجوب الضّمان فيما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه‏.‏

ج - كتاب قاضي البغاة إلى قاضي أهل العدل‏:‏

37 - لا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضي البغاة عند الحنفيّة، لأنّهم فسقة‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجوز الحكم بكتابهم إلينا بسماع البيّنة في الأصحّ، ويستحبّ عدم تنفيذه والحكم به، استخفافاً بهم حيث لا ضرر على المحكوم له‏.‏ فإن قبله جاز، لأنّه ينفذ حكمه، فجاز الحكم بكتابه، كقاضي أهل العدل، لأنّه حكم والحاكم من أهله‏.‏ بل لو كان الحكم لواحدٍ منّا على واحدٍ منهم، فالمتّجه وجوب التّنفيذ‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز اعتبار كتابه، لما فيه من إعلاءٍ لمنصبه‏.‏ ولم نقف على نصٍّ للمالكيّة في هذا، لكنّهم اشترطوا في القاضي الّذي يقبل كتابه‏:‏ العدالة، سواء أكان تولّى القضاء من قبل الوالي المتغلّب أو من قبل الكافر، رعايةً لمصالح العباد، ممّا يفيد جواز قبول كتاب قاضي أهل البغي‏.‏

د - إقامتهم للحدّ، ووجوبه عليهم‏:‏

38 - الحدّ الّذي يقيمه إمام أهل البغي يقع موقعه، ويكون مجزئاً، ولا يعاد ثانياً على المحدود إن كان غير قتلٍ، ولا دية عليه إن كان قتلاً، لأنّ عليّاً رضي الله عنه قاتل أهل البصرة، ولم يلغ ما فعلوه، لأنّهم فعلوه بتأويلٍ سائغٍ، فوجب إمضاؤه، وهذا ما صرّح به كلّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إذا كان القاضي الّذي أقامه إمام أهل البغي من أهل البلد الّتي تغلّبوا عليها، وليس من البغاة، وجب عليه إقامة الحدّ وأجزأ‏.‏ وأمّا إذا كان من أهل البغي، وكانوا امتنعوا بدار الحرب، فإنّ الحدّ لا يجب، إذ الفعل لم يقع موجباً أصلاً لوقوعه في غير دار الإسلام، لعدم الولاية على مكان وقوع الجريمة وقت وقوعها‏.‏ ولو رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحدّ أيضاً‏.‏ وعلى هذا لو تغلّبنا عليهم لا يقام‏.‏ ولو كانوا أقاموه فإنّه لا تجب إعادته، لعدم وجوبه أصلاً‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا ارتكبوا حال امتناعهم ما يوجب حدّاً، ثمّ قدر عليهم - ولم يكن أقيم الحدّ - أقيمت فيهم حدود اللّه، ولا تسقط الحدود باختلاف الدّار‏.‏ وهو قول ابن المنذر لعموم الآيات والأخبار، ولأنّ كلّ موضعٍ تجب فيه العبادة في أوقاتها تجب الحدود فيه عند وجود أسبابها كدار أهل العدل، ولأنّه زانٍ أو سارق لا شبهة في زناه وسرقته، فوجب عليه الحدّ كالذّمّيّ في دار العدل‏.‏

شهادة البغاة‏:‏

39 - الأصل قبول شهادتهم‏.‏ فقد نصّ الحنفيّة على قبول شهادة أهل الأهواء إن كانوا عدولاً في أهوائهم، إلاّ بعض الرّافضة كالخطابيّة، ومن كانت بدعته تكفّر، أو كان صاحب عصبيّةٍ، أو فيه مجانة، فإنّ شهادته لا تقبل لكفره ولفسقه‏.‏ ويقول المالكيّة‏:‏ تقبل شهادة البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين، ولا تقبل إذا كانوا مبتدعين والعبرة بوقت الأداء‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ تقبل شهادة البغاة لتأويلهم، إلاّ أن يكونوا ممّن يشهدون لموافقيهم بتصديقهم، فلا تقبل حينئذٍ لبعضهم‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين، وإنّما هم يخطئون في تأويلهم، فهم كالمجتهدين، فمن شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلاً‏.‏ ونقل عن أبي حنيفة أنّهم يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام، ولكن تقبل شهادتهم، لأنّ فسقهم من جهة الدّين فلا تردّ به الشّهادة‏.‏

بغي

انظر‏:‏ بغاة