فصل: الحيازة كسبب من أسباب الملكيّة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


حوز

ر‏:‏ أرض الحوز‏.‏

حوض

التّعريف

1 - الحوض في اللّغة‏:‏ مجتمع الماء، والجمع أحواض وحياض‏.‏

وحوض الرّسول صلى الله عليه وسلم هو الّذي يسقي منه أمّته يوم القيامة‏.‏

حكى أبو زيد‏:‏ سقاك اللّه بحوض الرّسول صلى الله عليه وسلم ومن حوضه، والتّحويض‏:‏ عمل الحوض، والاحتياض‏:‏ اتّخاذه‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الحوض عن هذا المعنى‏.‏

التّفرقة بين القليل والكثير

2 - فرّق الفقهاء بين القليل والكثير في الماء الرّاكد، فالكثير يجوز به التّوضّؤ والاغتسال فيه، ولا يتنجّس جميعه بوقوع النّجاسة في طرف منه، إلاّ أن يتغيّر لونه، أو طعمه، أو ريحه، والقليل عكسه‏.‏ وأمّا نجاسة مكان الوقوع فاختلفوا فيه على أقوال‏.‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العبرة في قلّة الماء وكثرته هي بالقلّتين فما دونهما فهو قليل‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا حدّ للكثرة في المذهب‏.‏

أمّا الحنفيّة فذهب بعضهم إلى أنّ الحوض‏:‏ إذا كان بحال إذا اغتسل إنسان في جانب منه، لا يرتفع ولا ينخفض الطّرف الّذي يقابله، فهو كبير، وما دون ذلك صغير‏.‏

وقال عامّة مشايخهم‏:‏ الحوض إذا كان مربّعاً فالكبير ما كان عشراً في عشر، وإذا كان مدوّرًا فما كان حوله ثمانية وأربعون ذراعاً، وقيل ستّة وثلاثون ذراعاً‏.‏

وإذا كان مثلّثاً فما كان من كلّ جانب خمسة عشر ذراعاً، وربعاً أو خمساً من الذّراع‏.‏

وأمّا الصّغير فقيل‏:‏ ما كان أربعًا في أربع‏.‏ وقيل‏:‏ خمسًا في خمس‏.‏ وقيل‏:‏ أقلّ من عشر في عشر‏.‏ والمراد بالذّراع في تحديد الحوض في الصّحيح من المذهب هو ذراع المساحة‏.‏ وهو سبع قبضات فوق كلّ قبضة أصبع، لأنّ ذراع المساحة بالممسوحات أليق‏.‏

وفي ابن عابدين‏:‏ أنّ المختار عشر في عشر بذراع الكرباس، وهو سبع قبضات فقط‏.‏ فيكون ثمانياً في ثمان بذراع زماننا‏.‏ وذكر نقلاً عن الهداية أنّ عليه الفتوى‏.‏

وقيل‏:‏ إنّه يعتبر في كلّ زمان ومكان ذراعهم‏.‏ قال في النّهر‏:‏ هو الأنسب‏.‏

واختلفوا كذلك في قدر عمقه على أقوال‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ إن كان بحال لو رفع الماء بكفّه لا ينحسر ما تحته من الأرض فهو عميق‏.‏

وقال البعض الآخر‏:‏ العميق ما كان بحال لو اغترف لا تصيب يده وجه الأرض‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏طهارة، ومياه، ونجاسة‏)‏‏.‏

حوقلة

التّعريف

1 - من معاني الحوقلة في اللّغة‏:‏ سرعة المشي، ومقاربة الخطو‏.‏

وأمّا في العرف فهي‏:‏ قول‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه، كما عبّر عنها الأزهريّ والأكثرون، قال ابن السّكّيت‏:‏ يقال‏:‏ قد أكثرت من الحولقة‏:‏ إذا أكثرت من قول‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏.‏ وقال الجوهريّ‏:‏ الحولقة لا الحوقلة، واختاره الحريريّ‏.‏

فعلى الأوّل ‏"‏ الحوقلة ‏"‏ وهو المشهور‏:‏ الحاء والواو من الحول‏.‏ والقاف من القوّة، واللّام من اسم اللّه تعالى‏.‏ قال الإسنويّ‏:‏ وهذا أحسن، لتضمينه جميع الألفاظ‏.‏

وعلى الثّاني‏:‏ ‏"‏ الحولقة ‏"‏ الحاء واللّام من الحول، والقاف من القوّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحيعلة‏:‏

1 م - الحيعلة قول حيّ على الصّلاة، أو حيّ على الفلاح والبسملة قول بسم اللّه، والحمدلة قول الحمد للّه، والهيللة قول لا إله إلاّ اللّه، والسّبحلة قول سبحان اللّه‏.‏

معنى الحوقلة

2 - قال النّوويّ في شرح مسلم‏:‏ قال أبو الهيثم‏:‏ الحول‏:‏ الحركة من حال الشّيء إذا تحرّك، أي لا حركة ولا استطاعة إلاّ بمشيئة اللّه، وبه قال ثعلب وآخرون‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ معناه‏:‏ لا حول عن معصية اللّه إلاّ بعصمته، ولا قوّة على طاعته إلاّ بمعونته، قال الخطّابيّ‏:‏ هذا أحسن ما جاء فيه‏.‏

وفي أسنى المطالب‏:‏ لا حول لي عن المعصية، ولا قوّة لي على ما دعوتني إليه إلاّ بك‏.‏

أحكام الحوقلة

أ - عند سماع المؤذّن‏:‏

3 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة كما قال الأمير، بأنّه يستحبّ لسامع الآذان أن يحوقل عند قول المؤذّن‏:‏ حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، أي أن يقول‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏.‏

والقول الآخر المشهور للمالكيّة، أنّه لا يحوقل ولا يحكي عند الحيعلتين‏.‏

وقد روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا قال المؤذّن‏:‏ اللّه أكبر، اللّه أكبر، فقال أحدكم‏:‏ اللّه أكبر، اللّه أكبر‏.‏ ثمّ قال‏:‏ حيّ على الصّلاة فقال‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه، ثمّ قال‏:‏ حيّ على الفلاح، قال‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه، مخلصاً من قلبه، دخل الجنّة» رواه مسلم‏.‏

فهذا الحديث مقيّد لإطلاق حديث أبي سعيد الخدريّ الّذي جاء فيه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا سمعتم النّداء فقولوا مثل ما يقول المؤذّن»‏.‏ متّفق عليه‏.‏

ولأنّ المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السّامع بالحوقلة، فإنّه لمّا دعي إلى ما فيه الفوز والفلاح والنّجاة، وإصابة الخير، ناسب أن يقول‏:‏ هذا أمر عظيم، لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلاّ إذا وفّقني اللّه بحوله وقوّته، ولأنّ ألفاظ الأذان ذكر اللّه، فناسب أن يجيب بها، إذ هو ذكر اللّه تعالى، وأمّا الحيعلة فإنّما هي دعاء إلى الصّلاة، والّذي يدعو إليها هو المؤذّن، وأمّا السّامع فإنّما عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه، وإجابته في ذكر اللّه لا فيما عداه‏.‏ وقيل يجمع السّامع بين الحيعلتين والحوقلة عملاً بالحديثين‏.‏

ويرى الخرقيّ من الحنابلة أنّه يستحبّ لمن سمع المؤذّن أن يقول كما يقول، واستدلّ في ذلك بظاهر ما رواه أبو سعيد الخدريّ السّابق ذكره‏.‏

وصرّح في المجموع أنّه يحوقل أربعةً، ونقل عن ابن الرّفعة أنّه يحوقل مرّتين‏.‏

وكذلك بالنّسبة للمقيم فقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أن يستحبّ أن يقول في الإقامة‏:‏ مثل ما يقول في الأذان، لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلمّا أن قال‏:‏ قد قامت الصّلاة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقامها اللّه وأدامها» وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان‏.‏

ب - الحوقلة في الصّلاة‏:‏

4 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المصلّي لو حوقل في الصّلاة لأمور الدّنيا تفسد الصّلاة، وإن كان لأمور الآخرة، أو لدفع الوسوسة لا تفسد‏.‏

ويرى المالكيّة أنّه إن قالها في الصّلاة لحاجة فلا حرج‏.‏

والمتبادر من كلام الشّافعيّة - وكذا الحنابلة - أنّ الحوقلة في الصّلاة غير مبطلة إذا قصد بها الذّكر، لأنّ الأذكار والتّسبيحات والأدعية بالعربيّة لا يضرّ عندهم سواء المسنون وغيره‏.‏

موارد ذكر الحوقلة

5 - الحوقلة من الأذكار الّتي ورد ذكرها في مواضع كثيرة منها‏:‏ إذا وقع الشّخص في هلكة، أو إذا مرض، أو أعجبه شيء وخاف أن يصيبه بعينه‏.‏

وإذا تطيّر بشيء وأثناء خروجه من بيته، وإذا استيقظ من اللّيل، وإذا استيقظ في اللّيل وأراد النّوم بعده، وبعد كلّ صلاة ففي جميع هذه الحالات وغيرها ورد ذكر الحوقلة ضمن أدعية أخرى، ذكرها الإمام النّوويّ في كتابه الأذكار، مستدلّاً بالأحاديث النّبويّة الشّريفة، وكذلك ورد ذكر الحوقلة ضمن أذكار الصّباح والمساء وضمن دعوات مستحبّة في جميع الأوقاف غير مختصّة بوقت، أو حال مخصوص‏.‏

كما روي عن أبي موسى الأشعريّ قال‏:‏ «قال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة‏؟‏ فقلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه، قال‏:‏ قل‏:‏ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه»‏.‏

حوْل

التّعريف

1 - الحول في اللّغة‏:‏ السّنة، ويأتي بمعنى القوّة والتّغيّر، والانقلاب، وبمعنى الإقامة، والحول من حال الشّيء حولاً‏:‏ إذا دار‏.‏ وسمّيت السّنة حولاً لانقلابها ودوران الشّمس في مطالعها، ومغاربها، وهو تسمية بالمصدر، والجمع‏:‏ أحوال، وحؤول، وحوول، بالهمزة، وبغير الهمزة، والحوليّ‏:‏ كلّ ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره‏.‏

يقال جمل حوليّ، ونبت حوليّ‏.‏ وأحول الصّبيّ، فهو محول‏:‏ أتى عليه حول من مولده‏.‏ والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن هذا المعنى‏.‏

الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالحول

أ - الحول في الزّكاة‏:‏

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحول شرط لوجوب الزّكاة في نصاب السّائمة من بهيمة الأنعام، وفي الأثمان، وهي الذّهب، والفضّة، وفي عروض التّجارة لحديث‏:‏ «لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول»‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ هذه الأموال مرصدة للنّماء، فالماشية مرصدة للدّرّ والنّسل، وعروض التّجارة مرصدة للرّبح وكذا الأثمان، فاعتبر في الكلّ الحول، لأنّ النّماء شرط لوجوب الزّكاة في المال، وهو لا يحصل إلاّ بالاستنماء، ولا بدّ لذلك من مدّة، وأقلّ مدّة يستنمى المال فيها بالتّجارة والإسامة عادةً‏:‏ الحول، فصار مظنّة النّماء فاعتبر في وجوب الزّكاة، وإنّما لم يعتبر حقيقة النّماء، لأنّه غير منضبط، ولكثرة اختلافه، وكلّ ما اعتبر مظنّته، لم يلتفت إلى حقيقته كالحكم مع الأسباب‏.‏ ولأنّ الزّكاة في هذه الأموال تتكرّر فلا بدّ من ضابط كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزّمن الواحد مرّات فينفد مال المالك‏.‏ أمّا الزّرع والثّمار فلا يشترط فيها حول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتُوا حَقَّهُ يَومَ حَصَادِهِ‏}‏‏.‏

ولأنّها نماء بنفسها متكاملة عند إخراج الزّكاة منها، فتؤخذ زكاتها حينئذ، ثمّ تأخذ في النّقص لا في النّماء، فلا تجب فيها زكاة ثانية، لعدم إرصادها للنّماء‏.‏

والمعدن المستخرج من الأرض كالزّرع لا يشترط فيه حول فيما يجب فيه من زكاة أو خمس باتّفاق الفقهاء‏.‏ فيؤخذ زكاته عند حصوله، قالوا‏:‏ إلاّ أنّه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزّكاة عند كلّ حول، لأنّه مظنّة النّماء من حيث إنّ الأثمان قيم الأموال، ورأس مال التّجارة، وبها تحصل المضاربة والشّركة‏.‏ والتّفصيل، في مصطلحات ‏(‏زكاة، ركاز، معدن‏)‏‏.‏

ابتداء الحول

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إن ملك نصابًا من مال الزّكاة ممّا يعتبر له الحول، ولا مال له سواه‏:‏ انعقد حوله من حين حصول الملك باتّفاق الفقهاء‏.‏

وإن كان له مال لا يبلغ نصاباً، فملك مالاً آخر بلغ به نصاباً، ابتدأ الحول من حين بلوغ النّصاب‏.‏ وإن كان عنده نصاب فاستفاد في خلال الحول مالاً من جنس ما عنده، فإن كان المستفاد من نماء ما عنده كربح التّجارة، ونتاج السّائمة فإنّه يضمّ في الحول إلى ما عنده من أصله، فيزكّى بحول الأصل باتّفاق الفقهاء، لأنّه متولّد من ماله فيتبعه في الحول، ولأنّه ملك بملك الأصل وتولّد منه فيتبعه في الحول‏.‏ أمّا إذا استفاد بعد الحول والتّمكّن من أداء الزّكاة من الأصل لم يضمّ في الحول الأوّل ويضمّ في الحول الثّاني‏.‏

وإن كان المستفاد من جنس ما عنده، ولم يكن من نمائه كالمشترى، والمتّهب والموصى به فقد اختلف الفقهاء في ضمّه إلى الأصل في الحول‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه يضمّ إلى ما عنده في الحول فيزكّي بحول الأصل عيناً كان أو ماشيةً‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ عمومات الزّكاة تقتضي الوجوب مطلقًا عن شرط الحول إلاّ ما خصّ بدليل، ولأنّ المستفاد من جنس الأصل تبع له، لأنّه زيادة عليه، إذ الأصل يزداد به‏.‏

والزّيادة تبع للمزيد عليه، والتّبع لا ينفرد بالشّرط كما لا ينفرد بالسّبب لئلاّ ينقلب التّبع أصلاً، فتجب فيه الزّكاة بحول الأصل‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يضمّ إلى الأصل في الحول إن كان المال عيناً، أمّا إن كان ماشيةً فيضمّ‏.‏ وقال الشّافعيّة، والحنابلة‏:‏ لا يضمّ الثّانية إلى الأولى، بل ينعقد لها حول بسبب مستقلّ‏.‏ لخبر‏:‏ «لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول»‏.‏

والمستفاد مال لم يحل عليه الحول فلا زكاة فيه‏.‏ ولأنّ المستفاد ملك بملك جديد فليس مملوكاً بما ملك به ما عنده، ولا تفرّع عنه، فلم يضمّ إليه في الحول‏.‏

وإن كان المستفاد من غير جنس ما عنده، كأن تكون عنده أربعون من الغنم، فاستفاد في الحول خمساً من الإبل، فللمستفاد حكم نفسه، ولا يضمّ إلى ما عنده في الحول، بل إن كان نصاباً استقبل به حولاً، وإلاّ فلا شيء عليه عند جمهور الفقهاء‏.‏

ما يقطع حكم الحول

4 - مذهب الجمهور من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة - من غير عروض التّجارة - أنّه يشترط في وجوب الزّكاة وجود النّصاب في جميع الحول، فإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول‏.‏ أمّا في عروض التّجارة فإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول عند الحنابلة، وفي قول عند الشّافعيّة‏.‏

ولا ينقطع عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر عندهم، وقول زفر من الحنفيّة بل الشّرط وجود النّصاب في آخر الحول فقط،إذ هو حال الوجوب فلا يعتبر غيره لكثرة اضطراب القيم‏.‏ وللشّافعيّة قول ثالث في عروض التّجارة‏:‏ إنّ المعتبر طرفا الحول، كغير عروض التّجارة‏.‏ ولا يعتبر ما بينهما إذ تقويم العروض في كلّ لحظة يشقّ ويحوج إلى ملازمة السّوق ومراقبة دائمة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ يشترط وجود النّصاب، في أوّل الحول وفي آخره، حتّى لو انتقص النّصاب في أثناء الحول ثمّ كمل في آخره تجب الزّكاة، سواء أكان من السّوائم أو من الذّهب، والفضّة، أو مال التّجارة‏.‏ أمّا إذا هلك كلّه في أثناء الحول، ينقطع الحول عند الجميع‏.‏

استبدال مال الزّكاة في الحول بمثله

5 - إذا باع نصابًا للزّكاة ممّا يعتبر فيه الحول بجنسه كالإبل بالإبل، أو البقر بالبقر، أو الغنم بالغنم، أو الثّمن بالثّمن لم ينقطع الحول، وبنى حول الثّاني على حول الأوّل، وإلى هذا ذهب المالكيّة والحنابلة وقالوا‏:‏ إنّه نصاب يضمّ إليه نماؤه في الحول، فيبنى حول بدله من جنسه على حوله كالعروض، وحديث‏:‏ «لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول» مخصوص بالنّماء والرّبح، وعروض التّجارة، فتقيس عليه محلّ النّزاع‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة، إلى أنّ الحول الأوّل ينقطع فيستأنف كلّ من المتبايعين الحول على ما أخذه من حين المبادلة في السّائمة‏.‏

أمّا الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة فكذلك عند الشّافعيّة يستأنف الحول إن لم يكن صيرفيّاً يبدّلها للتّجارة، وكذا إن كان صيرفيّاً على الأصحّ‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ استبدال الدّنانير بالدّنانير، أو بالدّراهم، لا يقطع الحول‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ الوجوب في الدّراهم والدّنانير متعلّق بالمعنى لا بالعين، والمعنى قائم بعد الاستبدال فلا يبطل حكم الحول كعروض التّجارة، بخلاف السّائمة، لأنّ الحكم فيها متعلّق بالعين، وقد تبدّلت العين، فبطل الحول على الأوّل، فيستأنف للثّاني حولاً‏.‏ والتّفصيل في باب ‏(‏الزّكاة‏)‏‏.‏

أمّا إذا استبدل نصاب الزّكاة بغير جنسه، بأن يبيع نصاب السّائمة بدنانير أو بدراهم، أو بادل الإبل ببقر، أو غنم، في خلال الحول، فإنّ حكم الحول ينقطع ويستأنف حولاً آخر باتّفاق الفقهاء‏.‏

هذا إذا لم يفعل ذلك فراراً من الزّكاة، أمّا إذا فعل ذلك فراراً منها، لم تسقط الزّكاة، وتؤخذ في آخر الحول إذا كان الإبدال عند قرب الوجوب، وإلى هذا ذهب المالكيّة والحنابلة، وقالوا‏:‏ إنّه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، فلم يسقط كما لو طلّق امرأته في مرض موته، ولأنّه قصد قصدًا فاسداً فاقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده‏.‏

وقال الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ لا فرق في انقطاع الحول بالمبادلة في أثناء الحول بين من يفعله محتاجًا إليه، وبين من قصد الفرار من الزّكاة، وفي الصّورتين ينقطع الحول‏.‏ هذا في المبادلة الصّحيحة‏.‏ أمّا المبادلة الفاسدة فلا تقطع الحول، وإن اتّصلت بالقبض ويبنى على الحول الأوّل، لأنّها لا تزيل الملك‏.‏

وإن باع النّصاب قبل تمام الحول، وردّت عليه بعيب أو إقالة، استأنف الحول من حين الرّدّ لانقطاع الحول الأوّل بالبيع، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة، وقال المالكيّة‏:‏ يبني على الحول الأوّل‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

علف السّائمة في خلال الحول

6 - يرى جمهور الفقهاء أنّه إذا أعلف السّائمة في معظم الحول ينقطع الحول‏.‏

وقال المالكيّة لا يقطع الحول، بناءً على ما ذهبوا إليه من عدم اشتراط السّوم في وجوب الزّكاة على بهيمة الأنعام‏.‏ والتّفصيل في باب ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

الحول في مدّة الرّضاع

7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مدّة الرّضاع حولان كاملان، وبناءً على ذلك فإنّ فطام الصّبيّ قبل تمام الحولين حقّ للأبوين معاً، بشرط عدم الإضرار بالرّضيع وليس لأحدهما الاستقلال بالفطام قبل تمام الحولين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏‏.‏

والتّفاصيل في مصطلحي ‏(‏رضاع، وحضانة‏)‏‏.‏

اشتراط الحولين في الرّضاع المؤثّر في التّحريم

8 - اختلف الفقهاء في تحديد مدّة الرّضاع المؤثّر في تحريم النّكاح وثبوت المحرميّة المفيدة لجواز النّظر والخلوة‏:‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان‏:‏ أبو يوسف، و4محمّد‏:‏ يشترط ألاّ يبلغ المرتضع حولين، فمتى بلغ حولين فلا أثر لارتضاعه‏.‏ لخبر‏:‏ «لا رضاع إلاّ ما فتق الأمعاء، وكان قبل حولين»‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يضرّ زيادة شهرين‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ هو حولان، ونصف‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏رضاع‏)‏‏.‏

حوَل

التّعريف

1 - الحول بفتحتين‏:‏ أن يظهر البياض في العين في مؤخرها، ويكون السّواد من قبل الماق وطرف العين من قبل الأنف‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العور‏:‏

2 - العور ذهاب بصر إحدى العينين‏.‏ يقال عور الرّجل‏:‏ ذهب بصر إحدى عينيه فهو أعور والأنثى عوراء‏.‏

ب - العشى‏:‏

3 - العشى هو سوء البصر باللّيل والنّهار‏.‏ وقيل من يبصر بالنّهار ولا يبصر باللّيل‏.‏

ج - الظّفر‏:‏

4 - الطّفر بياض يبدو في إنسان العين، وذلك يمكن ضعفاً في البصر‏.‏

وعدّه صاحب المبسوط من عيوب العين‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالحول

أ - فسخ النّكاح بالحول‏:‏

5 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الحول لا يثبت به حقّ فسخ النّكاح لأحد الزّوجين ما لم يشترط السّلامة منه، لأنّه لا يفوت به مقصود النّكاح، والمقصود من النّكاح المصاهرة والاستمتاع بخلاف اللّون والطّول والقصر ونحو ذلك‏.‏

والزّوج قد رضي رضاً مطلقاً وهو لم يشترط صفةً فظهر عدمها‏.‏

قال ابن القيّم - ونقله ابن مفلح وأقرّه -‏:‏ كلّ عيب يفرّ الزّوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النّكاح من المودّة والرّحمة‏:‏ يوجب الخيار‏.‏

وإنّ النّكاح أولى من البيع، وإنّما ينصرف الإطلاق إلى السّلامة فهو كالمشروط عرفاً‏.‏

أمّا إذا اشترط أحد الزّوجين على صاحبه السّلامة من الحول ونحوه، كالعور والعرج - حتّى ولو كان شرط السّلامة بوصف الوليّ أو وصف غيره بحضرته وسكت بأنّها صحيحة العينين أو سليمة من الحول ونحو ذلك - فبان خلاف ذلك فيرى المالكيّة والحنابلة على أحد القولين - وهو ما صوّبه ابن مفلح - أنّ له الفسخ‏.‏

ويؤخذ من عبارات الشّافعيّة أنّه إن كان المشروط سلامة الزّوج من الحول فبان دون المشروط فلها الخيار، وإن شرطت السّلامة في الزّوجة ففي ثبوت الخيار للزّوج قولان لتمكّنه من الطّلاق‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ والأظهر ثبوته‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّه لو اشترط أحدهما على صاحبه السّلامة من الحول، بل وممّا هو أفحش منه كالعمى، والشّلل، والزّمانة، وكذلك لو شرط الجمال والبكارة، فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار،لأنّ فوت زيادة مشروطة ليست بمنزلة العيب في إثبات الخيار كما في البيع‏.‏

ب - التّضحية بالحولاء‏:‏

6 - لا خلاف بين الفقهاء في إجزاء التّضحية بالشّاة الحولاء، ما لم يمنع الحول النّظر، لعدم فوات المقصود من البصر، وللتّفصيل ر‏:‏ أضحيّة ‏(‏ف / 28‏)‏‏.‏

ج - ما يجب في الأحوال‏:‏

7 - الجناية على العين إذا أدّت إلى الحول تجب فيها حكومة عدل‏.‏

بهذا قال الشّافعيّة والحنابلة وهو مقتضى قواعد المالكيّة - وهو ما يؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة حيث قالوا‏:‏ لو ضرب العين ضربةً فابيضّت أو أصابها قرح أو شيء ممّا يهيّج بالعين فنقص من ذلك لم يكن فيه قصاص، وإنّما تجب فيه حكومة عدل‏.‏

هذا وأمّا الأحكام المتعلّقة بالجناية على العين الحولاء والاقتصاص من الأحول إذا فقأ عيناً سليمةً فتنظر في ‏(‏جناية، حكومة عدل، قصاص، دية، وعين‏)‏‏.‏

حياء

التّعريف

1 - الحياء لغةً مصدر حيي، وهو‏:‏ تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذمّ‏.‏ وفي الشّرع‏:‏ خلق يبعث على اجتناب القبيح من الأفعال والأقوال، ويمنع من التّقصير في حقّ ذي الحقّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخجل‏:‏

2 - الخجل‏:‏ وهو‏:‏ الاسترخاء من الحياء، ويكون من الذّلّ، يقال‏:‏ به خجلة أي حياء، وهو التّحيّر والدّهش من الاستحياء‏.‏ يقال‏:‏ خجل الرّجل خجلاً‏:‏ فعل فعلاً فاستحى منه‏.‏ وقال أبو هلال العسكريّ‏:‏ الفرق بين الخجل والحياء، أنّ الخجل معنىً يظهر في الوجه لغمّ يلحق القلب عند ذهاب حجّة، أو ظهور على ريبة وما أشبه ذلك فهو شيء تتغيّر به الهيئة، والحياء هو الارتداع بقوّة الحياء، ولهذا يقال فلان يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال يخجل أن يفعله في هذه الحال، لأنّ هيئته لا تتغيّر منه قبل أن يفعله، فالخجل ممّا كان والحياء ممّا يكون، وقد يستعمل الحياء موضع الخجل توسّعاً‏.‏

وقال الأنباريّ‏:‏ أصل الخجل في اللّغة‏:‏ الكسل والتواني وقلّة الحركة في طلب الرّزق ثمّ كثر استعمال العرب له حتّى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام، وفي الحديث «إذا جعتنّ وقعتنّ وإذا شبعتنّ خجلتنّ»‏.‏ وقعتنّ أي ذللتنّ وخجلتنّ كسلتنّ، وقال أبو عبيدة‏:‏ الخجل هاهنا الأشر، وقيل‏:‏ هو سوء احتمال العناء، وقد جاء عن العرب الخجل بمعنى الدّهش‏.‏ قال الكميت‏:‏

فلم يدفعوا عندنا ما لهم *** لوقع الحروب ولم يخجلوا‏.‏

أي لم يبقوا دهشين مبهوتين‏.‏

ب - البذاءة‏:‏

3 - البذاءة لغةً‏:‏ السّفاهة والفحش في المنطق وإن كان الكلام صدقاً، وفي الحديث‏:‏

«الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النّار» فجعل البذاءة مقابلةً للحياء‏.‏ وقريب من البذاءة الفحش وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما كان الفحش في شيء إلاّ شانه وما كان الحياء في شيء إلاّ زانه»‏.‏

ج - الوقاحة‏:‏

4 - الوقاحة والقحة أن يقلّ حياء الرّجل ويجترئ على اقتراف القبائح ولا يعبأ بها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالحياء

5 - الحياء من خصائص الإنسان، وغريزة فيه، وإن كان استعماله على وفق الشّرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونيّة، فإنّه يردع عن ارتكاب كلّ ما يشتهيه فلا يكون كالبهيمة‏.‏ وإذا ورد نصّ فيه وصف اللّه تعالى بالحياء‏:‏ فهو حياء محمول على معنًى يليق به سبحانه وتعالى‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ وما رواه سلمان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه حييّ كريم يستحيي إذا رفع الرّجل إليه يديه أن يردّهما صفراً خائبتين»‏.‏

والحياء بمعناه الشّرعيّ مطلوب، وقد حثّ عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورغّب فيه، لأنّه باعث على أفعال الخير ومانع من المعاصي، ويحول بين المرء والقبائح، ويمنعه ممّا يعاب به ويذمّ، فإذا كان هذا أثره فلا شكّ أنّه خلق محمود، لا ينتج إلاّ خيراً، فالّذي يهمّ بفعل فاحشة فيمنعه حياؤه من اجتراحها، أو يعتدي عليه سفيه فيمنعه حياؤه من مقابلة السّيّئة بالسّيّئة، أو يسأله سائل فيمنعه حياؤه من حرمانه، أو يضمّه مجلس فيمسك الحياء بلسانه عن الكلام، والخوض فيما لا يعنيه، فالّذي يكون للحياء في نفسه هذه الآثار الحسنة، فهو ذو خلق محمود، فقد ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل يعظ أخاه في الحياء، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعه فإنّ الحياء من الإيمان»‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحياء لا يأتي إلاّ بخير» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإيمان بضع وسبعون شعبةً أفضلها قول‏:‏ لا إله إلاّ اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق، والحياء شعبة من الإيمان» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ لكلّ دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء» وفي الصّحيحين‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه»، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النّبوّة الأولى‏:‏ إذا لم تستح فاصنع ما شئت»‏.‏

قال العلماء‏:‏ الحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوّة خلق الحياء، وقلّة الحياء من موت القلب والرّوح، وأولى الحياء‏:‏ الحياء من اللّه، والحياء منه ألاّ يراك حيث نهاك، ويكون ذلك عن معرفة ومراقبة، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإحسان‏:‏ أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»‏.‏

وروى التّرمذيّ من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهما مرفوعاً‏:‏ «استحيوا من اللّه حقّ الحياء‏.‏ قال‏:‏ قلنا‏:‏ إنّا نستحيي والحمد للّه، قال‏:‏ ليس ذاك ولكن الاستحياء من اللّه حقّ الحياء أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتتذكّر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء» قال الجنيد رحمه الله‏:‏ الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التّقصير فيتولّد بينهما حالة تسمّى‏:‏ الحياء‏.‏ وقال ابن القيّم‏:‏ ومن كلام الحكماء أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيى منه، وعمارة القلب بالهيبة والحياء، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير‏.‏

6 - ويجري في الحياء الأحكام التّكليفيّة‏:‏ فإن كان المستحيي منه محرّماً، فالحياء منه واجب، وإن كان الحياء منه مكروه فهو مندوب، وإن كان المستحيي منه واجباً فالحياء منه حرام، وإن كان من مباح فهو عرفيّ أو جائز‏.‏

فالحياء من تعلّم أمور الدّين وما يجب على الإنسان العلم به ليس بحياء شرعيّ‏.‏ فعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ نعم النّساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين وعن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «جاءت أمّ سليم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ، هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم، إذا رأت الماء»‏.‏

والحياء من مواجهة الظّلمة، والفسّاق وزجرهم، وترك الجهر بالمعروف، والنّهي عن المنكر حياءً ليس بحياء، وإنّما هو عجز ومهانة، وتسميته حياءً‏:‏ من إطلاق بعض أهل العرف‏:‏ أطلقوه مجازاً لمشابهته الصّوريّة للحياء الشّرعيّ‏.‏

أخذ مال الغير بسبب الحياء

7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه‏:‏ إذا أخذ مال غيره بالحياء كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط، أو أهدي إليه حياءً هديّةً يعلم المهدى له‏:‏ أنّ المهدي أهدى إليه حياءً لم يملكه، ولا يحلّ له التّصرّف فيه، وإن لم يحصل طلب من الآخذ، فالمدار مجرّد العلم بأنّ صاحب المال دفعه إليه حياءً، ولا مروءةً، ولا لرغبة في خير، ومن هذا‏:‏ لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً، وسألوه أن يأكل معهم، وعلم أنّ ذلك لمجرّد حيائهم، لا يجوز له أكله من طعامهم، كما يحرم على الضّيف أن يقيم في بيت مضيفه مدّةً تزيد على مدّة الضّيافة الشّرعيّة وهي ثلاثة أيّام فيطعمه حياءً‏.‏

فللمأخوذ بالحياء حكم المغصوب، وعلى الآخذ ردّه، أو التّعويض عنه، ويجب أن يكون التّعويض بقيمة ما أخذ أو أكل من زادهم، وقال ابن الجوزيّ‏:‏ هذا كلام حسن لأنّ المقاصد في العقود معتبرة‏.‏ ولم نطّلع على مذهب الحنفيّة والمالكيّة في ذلك‏.‏

حياة

التّعريف

1 - الحياة في اللّغة نقيض الموت، والحيّ من كلّ شيء نقيص الميّت‏.‏ وهي عبارة عن قوّة مزاجيّة تقتضي الحسّ والحركة، وفي حقّ اللّه تعالى هي صفة تليق به جلّ شأنه‏.‏ وعرّف الجرجانيّ الحياة‏:‏ بأنّها صفة توجب للموصوف بها أن يعلم ويقدر‏.‏

وعلى هذا لا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للحياة عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّوح‏:‏

2 - قال الفرّاء‏:‏ الرّوح، هو الّذي يعيش به الإنسان،لم يخبر اللّه تعالى به أحداً من خلقه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏‏.‏

ب - النّفس‏:‏

3 - قال أبو بكر بن الأنباريّ‏:‏ من اللّغويّين من سوّى بين النّفس والرّوح، وقال‏:‏ هما شيء واحد، وقال غيرهم‏:‏ الرّوح هو الّذي به الحياة والنّفس هي الّتي بها العقل‏.‏

ج - الاستهلال‏:‏

4 - الاستهلال مصدر استهلّ، يقال‏:‏ استهلّ الصّبيّ بالبكاء أي رفع صوته وصاح عند الولادة، وكلّ شيء ارتفع صوته فقد استهلّ‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا استهلّ المولود ورث»‏.‏ والاستهلال أمارة من أمارات الحياة‏.‏

د - الموت‏:‏

5 - الموت‏:‏ صفة وجوديّة خلقت ضدّاً للحياة‏.‏ وقيل‏:‏ صفة عدميّة‏.‏

والصّلة بين الموت والحياة التّضادّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالحياة

أوّلاً‏:‏ بدء الحياة

6 - بدء الحياة الآدميّة الأولى كان نفخةً من روح اللّه تعالى في الصّورة الّتي سوّاها اللّه عزّ وجلّ من طين لآدم عليه السلام، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ بدء الحياة الحقيقيّة المعتبرة في ذرّيّة آدم عليه السلام يكون بنفخ الرّوح في الجنين، لما روى عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ «حدّثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو الصّادق المصدوق قال‏:‏ إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يومًا، ثمّ يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون في ذلك مضغةً مثل ذلك ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله وشقيّ أو سعيد»‏.‏ واختلف الفقهاء في موعد نفخ الرّوح‏:‏ هل هو بعد أربعين ليلةً، أو بعد اثنتين وأربعين، أو بعد مائة وعشرين، وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏جنين، وروح‏)‏‏.‏

واختلفوا في الجنين قبل نفخ الرّوح‏:‏ هل يعتبر حيّاً، أو أصلاً للحيّ، أو لا يعتبر كذلك‏:‏ فذهب الجمهور إلى أنّ حياة الجنين تبدأ ويعتدّ بها منذ نفخ الرّوح، أمّا قبلها فلا تكون حياته حقيقيّةً بل حياة اعتباريّة يظهر أثرها في بعض الأحكام والتّصرّفات، كتعلّق حقّه بالإرث، وصحّة الإيصاء له بشرطه إلى غير ذلك، واستدلّوا بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ‏}‏ أي بنفخ الرّوح حيث يبدأ في الجنين الإحساس والتّأثّر، قال القرطبيّ‏:‏ اختلف النّاس في الخلق الآخر، فقال ابن عبّاس والشّعبيّ وأبو العالية والضّحّاك وابن زيد‏:‏ هو نفخ الرّوح فيه بعد أن كان جماداً‏.‏

واستدلّوا كذلك بحديث ابن مسعود السّابق الّذي يدلّ على أنّ تعلّق الرّوح بالجنين إنّما يكون بعد الأربعين الثّالثة، وأنّ الجنين يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفةً، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك، ثمّ تنفخ فيه الرّوح وبها يكون حيّاً، وأفاض ابن القيّم في الاستدلال بهذا الحديث ثمّ قال‏:‏ إنّ الجنين قبل نفخ الرّوح كان فيه حركة نموّ واغتذاء كالنّبات، ولم تكن حركة نموّه واغتذائه بالإرادة، فلمّا نفخت فيه الرّوح انضمّت حركة حسّيّته وإرادته إلى حركة نموّه واغتذائه‏.‏

وذهب بعض الفقهاء إلى أنّ حياة الجنين تبدأ من حين تلقيح ماء المرأة بماء الرّجل واستقرار ما حصل من ذلك في الرّحم، ولكنّهم لا يعتبرون حياة الجنين في تلك المرحلة حياةً كاملةً لإنسان حيّ بالفعل، وإنّما الإنسان كائن بالقوّة، حياته حياة اعتباريّة، قال الغزاليّ‏:‏ أوّل مراتب الوجود أن تقع النّطفة في الرّحم ويختلط بماء المرأة وتستعدّ لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغةً وعلقةً كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الرّوح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التّفاحش في الجناية بعد الانفصال حيّاً، وإنّما قلنا‏:‏ مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المنيّ في الرّحم لا من حيث الخروج من الإحليل لأنّ الولد لا يخلق من منيّ الرّجل وحده بل من الزّوجين جميعاً‏.‏

ويتّفق الفقهاء على أنّ الحياة الإنسانيّة الكاملة المعتبرة اعتباراً كاملاً في الأحكام الشّرعيّة تبدأ بولادة الشّخص حيّاً‏.‏

ثانياً‏:‏ انتهاء الحياة

7 - تنتهي حياة الإنسان بنزع الرّوح، أي بالموت‏.‏

وأمارات الموت معروفة، ورد بعضها في حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه، ثمّ قال‏:‏ إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر»‏.‏ قال الزّركشيّ‏:‏ وشخوص البصر هو الحالة الّتي يشاهد فيها الميّت ملك الموت، وهذه الحالة هي الّتي لا تقبل منها التّوبة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏‏.‏ وذكر الفقهاء من أمارات انتهاء الحياة‏:‏ شخوص البصر، وانقطاع النّفس، وانفراج الشّفتين، وسقوط القدمين، وانفصال الزّندين، وميل الأنف، وامتداد جلدة الوجه، وانخساف الصّدغين، وتقلّص الخصيتين مع تدلّي جلدتهما‏.‏

ثالثًا‏:‏ الحفاظ على الحياة

8 - يكون الحفاظ على الحياة بفعل ما يمسكها والكفّ عمّا يهلكها أو يضرّها، والمكلّف مأمور بإحياء نفسه وعدم إلقائها إلى التّهلكة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏، وقرّر الفقهاء أنّ حفظ النّفوس آكد الضّروريّات الّتي تجب مراعاتها بعد حفظ الدّين‏.‏ وقال الشّاطبيّ‏:‏ تكاليف الشّريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد ثلاثة أقسام‏:‏ ضروريّة، وحاجيّة وتحسينيّة، والضّروريّة‏:‏ هي الّتي لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا‏.‏ والحفظ لها يكون بأمرين‏:‏ أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك مراعاتها من جانب الوجود، والثّاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها وذلك مراعاتها من جانب العدم‏.‏ وحفظ النّفس والعقل من جانب الوجود كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات ممّا يتوقّف عليه بقاء الحياة، ومجموع الضّروريّات خمسة‏:‏ حفظ الدّين، والنّفس والعقل، والنّسل، والمال‏.‏

ويجب على المسلم فعل ما يمسك حياته من أكل وشرب ولباس وسكن ونحو ذلك، وممّا ورد في ذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏‏.‏

قال القرطبيّ في تفسير هذه الآية‏:‏ قال ابن عبّاس‏:‏ أحلّ اللّه في هذه الآية الأكل والشّرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلةً، فأمّا ما تدعوا إليه الحاجة هو ما سدّ الجوعة وسكّن الظّمأ فمندوب إليه عقلًا وشرعًا، لما فيه من حفظ النّفس وحراسة الحواسّ، ولذلك ورد الشّرع بالنّهي عن الوصال، لأنّه يضعف الجسد ويميت النّفس ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشّرع ويدفعه العقل‏.‏ والمضطرّ في المخمصة الّذي لا يجد إلاّ محرّماً كالميتة، أو مال الغير، ويغلب على ظنّه الهلاك إن لم يأكل من هذا المحرّم، يلزمه منه بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك لقول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏‏.‏

على تفصيل في ذلك يرجع إليه في ‏(‏مخمصة، ومضطرّ، وميتة‏)‏‏.‏

والمكلّف مأمور شرعاً بالكفّ عمّا يتلف الحياة أو يضرّها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ وقد «احتجّ عمرو بن العاص رضي الله عنه بهذه الآية، حين امتنع عن الاغتسال بالماء البارد، حين أجنب في غزوة ذات السّلاسل خوفاً على نفسه من الهلاك، فأقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك»‏.‏

رابعًا‏:‏ الجناية على الحياة

وهي قسمان‏:‏ جناية الشّخص على حياته، وجناية على حياة غيره‏.‏

أ - جناية الشّخص على حياته‏:‏

9 - حرّم الشّرع تحريمًا قاطعًا أن يجني الشّخص على حياته، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكّيناً فجزّ بها يده، فما رقأ عنه الدّم حتّى مات، قال اللّه تعالى‏:‏ بادرني عبدي بنفسه حرّمت عليه الجنّة»‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً»‏.‏

وحرّم الشّرع أن يقتل الإنسان نفسه ويجني على حياته، لأنّ نفسه الّتي يزهقها ليست ملكاً له، فالأنفس ملك للّه تعالى‏.‏

ب - جناية الشّخص على حياة غيره‏:‏

10 - الحياة الّتي يجنى عليها، إمّا أن تكون حياةً حقيقيّةً مستقرّةً، أو مستمرّةً لشخص حيّ، وإمّا أن تكون حياةً اعتباريّةً وهي حياة الجنين‏.‏

الجناية على حياة شخص حيّ

11 - الجناية على حياة شخص حيّ تكون بالقتل أي بفعل ما يكون سبباً لزهوق النّفس وهو مفارقة الرّوح للجسد، قال أبو البقاء‏:‏ إذا اعتبر بفعل المتولّي لذلك يقال‏:‏ قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال‏:‏ موت‏.‏

والقتل عند جمهور الفقهاء ثلاثة أقسام‏:‏ عمد، وشبه عمد، وخطأ، وعند بعضهم أربعة أقسام، وعند آخرين خمسة أقسام، بإضافة ما جرى مجرى الخطأ، والقتل بسبب، وفي بيان كلّ من هذه الأقسام وموجبه تفصيل ينظر في ‏(‏دية، وقتل، وقود، وجناية‏)‏‏.‏

وقد أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حقّ، والأصل فيه الكتاب والسّنّة والإجماع، أمّا الكتاب فمنه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً‏}‏‏.‏ وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً‏}‏‏.‏

وأمّا السّنّة فمنها قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه إلاّ بإحدى ثلاث‏:‏ الثّيّب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه المفارق للجماعة»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قتل المؤمن أعظم عند اللّه من زوال الدّنيا»‏.‏

والحياة عند الجناية عليها إمّا أن تكون مستمرّةً، أو مستقرّةً، أو حياة عيش المذبوح‏.‏ والحياة المستمرّة‏:‏ هي الّتي تبقى إلى انقضاء الأجل بموت أو قتل‏.‏

والحياة المستقرّة‏:‏ تكون بوجود الرّوح في الجسد ومعها الحركة الاختياريّة والإدراك دون الحركة الاضطراريّة‏.‏ كم لو طعن إنسان وقطع بموته بعد ساعة أو يوم أو أيّام وحركته الاختياريّة موجودة‏.‏

وحياة عيش المذبوح‏:‏ هي الّتي لا يبقى معها إبصار ولا نطق ولا حركة اختيار‏.‏

ويختلف حكم الجناية على الحياة باختلاف هذه الأحوال‏.‏

وفي ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏قود، وجناية، وقصاص‏)‏‏.‏

الجناية على حياة الجنين

12 - إذا ضرب بطن امرأة حامل فألقت - بسبب ذلك - جنينها وهي حيّة، فإمّا أن تلقيه ميّتاً أو حيّاً‏:‏

أ - إن ألقته ميّتاً ففيه غرّة باتّفاق الفقهاء، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ دية جنينها غرّة عبد أو وليدة، وقضى أنّ دية المرأة على عاقلتها»‏.‏

والغرّة‏:‏ العبد أو الأمّة في هذه الجناية، سمّيا بذلك لأنّهما من أنفس الأموال، ويستوي في ذلك أن يكون الجنين الملقى ميّتاً ذكراً أو أنثى لإطلاق الخبر، ولئلاّ يكثر التّنازع في الذّكورة والأنوثة لعدم الانضباط‏.‏ وتتعدّد الغرّة بتعدّد الجنين الملقى‏.‏

وتجب مع الغرّة الكفّارة عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ الجنين المجنيّ عليه آدميّ معصوم، ولأنّ الكفّارة حقّ اللّه تعالى‏.‏

خلافاً للحنفيّة والمالكيّة الّذين قالوا‏:‏ إنّ الكفّارة مندوبة لا واجبة‏.‏

13 - واختلف الفقهاء في الجنين الملقى الّذي يجب فيه ما سبق‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّ ما استبان بعض خلقه كظفر وشعر فهو كمن كان تامّ الخلق فيما ذكر من الأحكام، وأضاف ابن عابدين‏:‏ أنّه لا يستبين خلقه إلاّ بعد مائة وعشرين يوماً، وظاهر ما قدّمه عن الذّخيرة أنّه لا بدّ من وجود الرّأس، وفي الشّمنّيّ‏:‏ لو ألقت مضغةً ولم يتبيّن شيء من خلقه فشهد ثقات من القوابل أنّه مبدأ خلق آدميّ ولو بقي لتصوّر فلا غرّة فيه، وتجب فيه عندنا حكومة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ في الجنين ما سبق من الأحكام وإن كان علقةً أي دماً مجتمعاً إذا صبّ عليه ماء حارّ لا يذوب‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا ألقت المرأة بالجناية عليها لحماً، قال القوابل‏:‏ - أي أربع منهنّ، أو رجل وامرأتان، أو رجلان - فيه صورة خفيّة - أي تخفى على غير القوابل - كنحو يد أو رجل لا يعرفها غيرهنّ ففيه الغرّة والكفّارة‏.‏ ولو قلن‏:‏ ليس فيه صورة ظاهرة ولا خفيّة ولكنّه أصل آدميّ لو بقي لتصوّر فلا غرّة فيه ولا كفّارة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن ألقت مضغةً فشهد ثقات من القوابل أنّ فيه صورةً خفيّةً ففيه غرّة، وإن شهدن أنّه مبتدأ خلق آدميّ لو بقي تصوّر ففيه وجهان‏:‏ أصحّهما‏:‏ لا شيء فيه لأنّه لم يتصوّر فلم يجب فيه كالعلقة، ولأنّ الأصل براءة الذّمّة فلا تشغل بالشّكّ، والثّاني‏:‏ فيه غرّة لأنّه مبتدأ خلق آدميّ أشبه ما لو تصوّر‏.‏

ب - إن ألقت المرأة الحامل - بسبب الجناية عليها - جنينها حيّاً ثمّ مات بسبب ذلك بعد تمام انفصاله حيّاً ففيه الدّية كاملةً لتيقّن حياته وموته بالجناية، وفيه مع الدّية الكفّارة‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجنين إن استهلّ صارخاً بعد انفصاله ثبتت حياته وترتّب عليها الأحكام الشّرعيّة المنوطة بها، لكنّهم اختلفوا فيما تثبت به الحياة من الأمور الأخرى كالعطاس والارتضاع والتّنفّس والحركة‏.‏ وينظر التّفصيل في ‏(‏استهلال‏)‏‏.‏

وإن ضرب بطن امرأة حامل فلم تلق جنينها وماتت وهو في بطنها فلا شيء فيه بخصوصه‏.‏ وفي جناية المرأة الحامل على حياة جنينها تفصيل في ‏(‏إجهاض‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ الحياة المعتبرة في الإرث‏:‏

14 - من شروط الإرث تحقّق موت المورث أو إلحاقه بالموتى حكماً، وتحقّق حياة الوارث بعده أو إلحاقه بالأحياء‏.‏ والحكم باستحقاق الإرث واضح متّفق عليه في حالة التّحقّق من موت المورث ومن حياة الوارث بعده، بأن كانا حيّين ثمّ مات المورث موتاً حقيقيّاً وتحقّقت حياة الوارث بعده، لكن هناك صوراً أخرى لا يكون فيها الحكم واضحاً أو متّفقاً عليه، منها‏:‏ الحمل الّذي له حقّ في الإرث، والّذين يموتون معًا في وقت واحد ولا يعلم السّابق منهم‏.‏ أمّا الحمل فإنّ حياته تلحق - تقديراً - بالحيّ عند وفاة مورثه، وقد اشترط الفقهاء للحكم بتوريث الحمل شرطين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يعلم أنّه كان موجوداً حال موت المورث‏.‏

الثّاني‏:‏ أن ينفصل كلّه حيّاً حياةً مستقرّةً‏.‏

على تفصيل ينظر في ‏(‏إرث‏:‏ ف / 109 / 115‏)‏‏.‏

وأمّا الّذين يموتون معًا في وقت واحد ولا يعلم سابق منهم وهم في الأصل يتوارثون‏.‏

فقد اتّفق جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد على أنّهم في هذه الحالة لا يتوارثون، وتركة كلّ منهم لباقي الورثة الأحياء، لما روى الحاكم بسند صحيح أنّ أمّ كلثوم بنت عليّ رضي الله عنهما توفّيت هي وابنها زيد بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في يوم واحد فلم يدر أيّهما مات قبل فلم ترثه ولم يرثها، ولأنّ من شروط الإرث تحقّق حياة الوارث بعد موت المورث وهو هنا منتف، ولا توارث بالشّكّ، ولأنّا إن ورّثنا أحدهم فقط فهو تحكّم، وإن ورّثنا كلًّا من الآخر تيقّنّا الخطأ‏.‏ والرّواية الأخرى عن أحمد‏:‏ يرث بعضهم من بعض من تلاد ما له، أي قديمه دون طارفه وهو ما ورثه ممّن مات معه‏.‏

وإن علم أنّ أحدهم مات قبل صاحبه بعينه ثمّ أشكل، أعطي كلّ وارث اليقين، ووقف الباقي المشكوك فيه، حتّى يتبيّن الأمر، أو يصطلحوا، لأنّ الحقّ لا يعدوهم، والمرء يملك التّصرّف في خالص حقّه، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة، وقال الشّافعيّة‏:‏ يوقف الميراث حتّى يتبيّن الأمر أو يصطلحوا، لأنّ التّذكّر غير ميئوس منه‏.‏

سادساً‏:‏ الحياة المعتبرة في الصّيد والذّبائح‏:‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الذّكاة الشّرعيّة بأنواعها من ذبح أو نحر أو عقر أو صيد لا بدّ منها لإباحة ما يؤكل لحمه من الحيوان أو الطّير‏.‏

واتّفقوا على أنّ من شروط الذّكاة الشّرعيّة أن تكون بالحيوان أو الطّير عند الذّبح أو الصّيد حياةً، وإلاّ كان ميتةً ولم تعمل الذّكاة عملها من حيث الإباحة، لكنّهم اختلفوا في الحياة المعتبرة شرعًا عند الذّبح أو الصّيد‏.‏

وقد اتّفقوا على أنّه إذا كانت فيه حياة مستقرّة فيحلّ بالذّكاة، أمّا إذا لم يبق فيه إلاّ مثل عيش المذبوح فقد اختلفوا في أنّ الذّكاة تحلّه أو لا، على تفصيل ينظر في ‏(‏ذبائح‏)‏‏.‏

كما اختلف فيما إذا ذبحت شاة مثلاً وكان في بطنها جنين، هل تعتبر ذكاتها ذكاةً له من حيث إنّ حياته تابعة لحياتها أو مستقلّة عنها، وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏ذبائح‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ الحياة المعتبرة في غسل السّقط وتكفينه والصّلاة عليه‏:‏

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ السّقط إذا استهلّ ثبتت له أحكام الحيّ وحقوقه، ومنها وجوب غسله وتكفينه والصّلاة عليه، لما روى جابر بن عبد اللّه رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا استهلّ الصّبيّ ورث وصلّي عليه»‏.‏

ولأنّه قد ثبت له حكم الدّنيا في الإسلام والميراث والدّية فغسّل وصلّي عليه كغيره‏.‏

واختلفوا في السّقط إن لم يستهلّ‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ السّقط إن لم يستهلّ غسّل وسمّي - في الأصحّ المفتى به على خلاف ظاهر الرّواية - إكراماً لبني آدم، وأدرج في خرقة ودفن ولم يصلّ عليه سواء أكان تامّ الخلق أم لا‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يكره غسل سقط لم يستهلّ صارخاً، ولو تحرّك أو عطس أو بال أو رضع، إلاّ أن تتحقّق الحياة بعلامة من علاماتها فيجب غسله، ويغسل دم السّقط الّذي لم يستهلّ ويلفّ بخرقة ويوارى‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن لم يستهلّ السّقط ولم يتحرّك، فإن لم يكن له أربعة أشهر كفّن بخرقة ودفن، وإن تمّ له أربعة أشهر ففيه قولان‏:‏ قال في القديم‏:‏ يصلّى عليه لأنّه نفخ فيه الرّوح فصار كمن استهلّ، وقال في الأمّ‏:‏ لا يصلّى عليه، وهو الأصحّ لأنّه لم يثبت له حكم الدّنيا في الإرث وغيره فلم يصلّ عليه، فإن قلنا يصلّى عليه غسّل كغير السّقط، وإن قلنا لا يصلّى عليه ففي غسله قولان‏:‏ قال البويطيّ‏:‏ في مختصره لا يغسّل، لأنّه لا يصلّى عليه فلا يغسّل كالشّهيد، وقال في الأمّ‏:‏ يغسّل لأنّ الغسل قد ينفرد عن الصّلاة كما نقول في الكافر‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ السّقط إن خرج ميّتًا فقال أحمد‏:‏ إذا أتى له أربعة أشهر غسّل وصلّي عليه لما روى المغيرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «والسّقط يصلّى عليه» ولأنّه نسمة نفخ فيها الرّوح فيصلّى عليه كالمستهلّ‏.‏ فأمّا من لم يبلغ أربعة أشهر فلا يغسّل ولا يصلّى عليه ويلفّ في خرقة ويدفن لعدم وجود الحياة‏.‏

ثامناً‏:‏ الحياة المعتبرة في قبول التّوبة‏:‏

17 - يقبل اللّه تعالى توبة العبد المذنب المكلّف - كرماً منه تعالى وفضلاً - ما لم يغرغر، كما جاء في الحديث الشّريف‏:‏ «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أي ما لم تصل روحه حلقومه، من الغرغرة وهي جعل الشّراب في الفم وإدارته إلى أصل الحلقوم فلا يبلع، وهذا مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏‏.‏ الآية، وفسّر ابن عبّاس حضوره بمعاينة ملك الموت، وقال غيره‏:‏ المراد تيقّن الموت لا خصوص رؤية ملكه لأنّ كثيرًا من النّاس لا يراه‏.‏

وقيل‏:‏ السّرّ في عدم قبول التّوبة حين اليأس من الحياة أنّ من شروطها عزم التّائب على أن لا يعود إلى الذّنب، وذلك إنّما يتحقّق مع تمكّن التّائب من الذّنب وبقاء الاختيار‏.‏

قال ابن علّان‏:‏ والحاصل أنّه متى فرض الوصول لحالة لا تمكن الحياة بعدها عادةً لا تصحّ منه حينئذ توبة ولا غيرها، وهذا مراد الحديث بقوله‏:‏ «يغرغر»‏.‏ ومتى لم يصل لذلك صحّت منه التّوبة وغيرها‏.‏

حيازة

التّعريف

1 - الحوز لغةً الجمع وضمّ الشّيء، وكلّ من ضمّ شيئاً إلى نفسه من مال أو غيره فقد حازه حوزاً وحيازةً واحتازه احتيازاً‏.‏

وفي الاصطلاح قال الدّردير‏:‏ الحيازة‏:‏ هي وضع اليد على الشّيء والاستيلاء عليه‏.‏ والحيازة بهذا التّعريف بمعنى القبض‏.‏

يؤيّده قول ابن أبي زيد القيروانيّ‏:‏ ولا تتمّ هبة ولا صدقة ولا حبس إلاّ بالحيازة‏.‏

فإن مات قبل أن تحاز عنه فهي ميراث‏.‏ وفي القوانين الفقهيّة‏:‏ القبض‏:‏ هو الحوز‏.‏

وفي كتب المالكيّة استعمال كلمة ‏"‏ حوز ‏"‏ بدل ‏"‏ حيازة ‏"‏‏.‏

قال صاحب البهجة‏:‏ الحوز وضع اليد على الشّيء المحوز‏.‏

بم تكون الحيازة

2 - قال الحطّاب‏:‏ الحيازة تكون بثلاثة أشياء‏:‏ أضعفها‏:‏ السّكنى والازدراع، ويليها‏:‏ الهدم، والبناء، والغرس، والاستغلال، ويليها التّفويت بالبيع والهبة، والصّدقة، والنّحلة، والعتق، والكتابة، والتّدبير، والوطء، وكلّ ما يفعله الشّخص في ماله‏.‏

وفي كون الحيازة سنداً للملكيّة خلاف بين الفقهاء، يتّضح من خلال البحث‏.‏

وتطلق الحيازة على الحيازة الصّحيحة والباطلة، سواء كانت اليد الحائزة متعدّيةً أو مأذونةً من المالك الحقيقيّ، أو مدّعيةً الملك، فكلّها حيازة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القبض‏:‏

3 - القبض لغةً‏:‏ مصدر قبضت الشّيء قبضاً‏:‏ أخذته، وهو في قبضته، أي‏:‏ في ملكه، وقبض عليه بيده ضمّ عليه أصابعه‏.‏

والقبض في الاصطلاح‏:‏ هو حيازة الشّيء والتّمكّن منه‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ ومعنى القبض هو التّمكين والتّخلّي وارتفاع الموانع عرفاً وعادةً حقيقةً‏.‏ وقد تقدّم قول ابن جزيّ‏:‏ القبض‏:‏ هو الحوز‏.‏ فتبيّن أنّ القبض والحيازة شيء واحد‏.‏

ر‏:‏ مصطلح ‏(‏تقابض‏)‏‏.‏

ب - وضع اليد‏:‏

4 - يقال في اللّغة‏:‏ الأمر بيد فلان أي‏:‏ في تصرّفه، والدّار في يد فلان أي‏:‏ في ملكه‏.‏ وأمّا في الاصطلاح فقد قال القرافيّ في الفروق‏:‏ اليد عبارة عن القرب والاتّصال، وأعظمها ثياب الإنسان الّتي عليه ونعله ومنطقته، ويليه البساط الّذي هو جالس عليه، والدّابّة الّتي هو راكبها، وتليه الدّابّة الّتي هو سائقها أو قائدها، والدّار الّتي هو ساكنها، فهي دون الدّابّة لعدم الاستيلاء على جميعها‏.‏

وتقدّم بيّنة ذي اليد المعتبرة، وأمّا اليد الّتي لا تعتبر في التّرجيح ألبتّة فعبارة عن حيازة بطريق تقتضي عدم الملك بحقّ، كالغصب والعاريّة‏.‏ إذا علمنا ذلك بأنفسنا أو بالبيّنة‏.‏ واليد بهذين المعنيين نفس معنى الحيازة بمعنييها‏.‏

ج - التّقادم‏:‏

4 م - التّقادم لغةً‏.‏ مصدر تقادم، يقال‏:‏ تقادم الشّيء أي‏:‏ صار قديماً‏.‏

وفي الاصطلاح يعبّر عن التّقادم بمرور الزّمان‏.‏ كما في مجلّة الأحكام العدليّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏تقادم‏)‏ من الموسوعة‏.‏

أحكام الحيازة

5 - تقدّم أنّ الحيازة تكون عن طريق مشروع وعن طريق، غير مشروع، فالطّرق غير المشروعة كالغصب، والسّرقة، والحرابة، هي من الكسب غير المشروع، وتنظر في مصطلحاتها‏.‏ وهذه الحيازة ليست مشروعةً ولا عبرة بها شرعاً‏.‏ لأنّ الشّيء المحوز هنا لا يكون للّذي بيده بل لمالكه الأصليّ‏.‏ وأمّا الطّرق المشروعة فتكون بحيازة بيت المال للأرض، الّتي مات أربابها بلا وارث وآلت إلى بيت المال، أو فتحت عنوةً أو صلحاً، ولم تملك لأهلها بل أبقيت رقبتها للمسلمين إلى يوم القيامة‏.‏

وتكون بإحياء الموات، والاصطياد، واحتشاش الكلأ من الأرض المباحة، واستخراج ما في باطن الأرض من المعدن والرّكاز، واللّقطة‏.‏ وتنظر في مصطلحاتها‏.‏

وتكون أيضاً عن طريق العقد، سواء أكان عن طريق الإرادة المنفردة أم عن طريق إرادتين، وينظر كلّ عقد في مصطلحه‏.‏

ثمّ الحيازة بمعنى القبض تنظر أحكامها في مصطلح ‏(‏قبض‏)‏‏.‏

الحيازة كدليل على الملكيّة

6 - الأصل أنّ الإنسان يتصرّف فيما يملكه بوجه شرعيّ، فساكن الدّار، وسائق السّيّارة، أو الدّرّاجة وصاحب الدّكّان الغالب أنّهم يملكون ما يتصرّفون فيه، ولكن قد يمكّن المالك غيره من التّصرّف، إمّا بعوض أو بدون عوض - وقد يكون المتصرّف متعدّياً كالغاصب والسّارق - فاحتمال الفصل بين الملكيّة والتّصرّف احتمال قائم، ولكن كلّما طالت مدّة التّصرّف دلّ ذلك على أنّ المتصرّف مالك إلى أن يحصل الاطمئنان بملكيّة الحائز للشّيء حسبما يشهد به العرف‏.‏

ومن هنا كانت علاقة الحائز بمدّعي ملكيّة الشّيء المحوز لها تأثير حسبما يشهد به العرف من التّسامح أو المشاحّة‏.‏ فالعرف يشهد أنّ الأجنبيّ لا يسكت عن تصرّف الأجنبيّ في عقاره عشر سنوات وأكثر وهو حاضر ساكت، بينما يشهد العرف أنّ الأب يتسامح مع ابنه في تصرّفه في مال الأب عشرين سنةً أو أكثر‏.‏

فكانت الصّلة بين الحائز وبين مدّعي الملكيّة مؤثرةً في مدّة الحيازة كما أنّ حضور مدّعي الملكيّة وبعده والمسافة الفاصلة بين المتنازع فيه وبين القائم بالحقّ لها تأثيرها، وكذلك الشّيء المحوز فحيازة الدّور والأرضين ليست كحيازة الثّياب والحيوان، فإذا كان المالك قد يتسامح في سكنى داره الخمس سنوات مثلاً فإنّه لا يتسامح في استعمال دابّته مثل هذه المدّة‏.‏ كما أنّ أنواع التّصرّف مختلفة فهناك التّصرّف بالسّكنى، وأقوى منها التّصرّف بالهدم والبناء وقلع الشّجر وغراسة الأرض، وأقوى من ذلك التّصرّف بالبيع والهبة والصّدقة من وجوه التّفويت فكانت أحكام الحيازة تتأثّر بهذه الاعتبارات‏.‏

وذهب الحنفيّة وأحمد - في الرّواية المشهورة عنه - إلى أنّ من ادّعى شيئًا في يد غيره فأنكره وكان لكلّ واحد منهما بيّنة، فبيّنته على المدّعي ‏(‏الخارج‏)‏ تقدّم على بيّنة المدّعى عليه ‏(‏الدّاخل‏)‏‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ لا تسمع بيّنة المدّعى عليه بحال‏.‏ واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» فجعل حبس البيّنة في جانب المدّعي، فلا يبقى في جانب المدّعى عليه بيّنة‏.‏ ولأنّ بيّنة المدّعي أكثر فائدةً فوجب تقديمها، كتقديم بيّنة الجرح على التّعديل، ودليل كثرة فائدتها‏:‏ أنّها تثبت شيئاً لم يكن، وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهراً تدلّ اليد عليه فلم تكن مفيدةً، ولأنّ الشّهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتّصرّف، فإنّ ذلك جائز عند كثير من أهل العلم، فصارت البيّنة بمنزلة اليد المفردة، فتقدّم عليها بيّنة المدّعي على المدّعى عليه ‏"‏ صاحب اليد ‏"‏ كما أنّ شاهدي الفرع لمّا كانا مبنيّين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزيّة‏.‏

وعن أحمد رواية ثانية‏:‏ إن شهدت بيّنة الدّاخل بسبب الملك، وقالت‏:‏ نتجت في ملكه أو اشتراها، أو نسجها، أو كانت بيّنته أقدم تاريخاً قدّمت، وإلاّ قدّمت بيّنة المدّعي، وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور في النّتاج والنّسّاج فيما لا يتكرّر نسجه‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عليه إلى الحائز باتّفاق ولكنّها تدلّ عليه، فيكون القول معها قول الحائز‏:‏ إنّه يملكه بيمينه‏.‏

فإذا كانت للمدّعي بيّنة وللمدّعى عليه بيّنة قدّم صاحب اليد ببيّنته، لأنّهما استويا في إقامة البيّنة، وترجّحت بيّنته بيده كالخبرين اللّذين مع أحدهما قياس فيقضى له بها‏.‏

لما روي عن جابر بن عبد اللّه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابّة أو بعير، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له أنتجها فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي هي في يده»‏.‏ وبتقديم بيّنة المدّعى عليه بكلّ حال، قال شريح والشّعبيّ والحكم وأبو عبيد، وقال‏:‏ هو قول أهل المدينة وأهل الشّام، وروي عن طاوس‏.‏

وللتّفصيل ينظر في ‏(‏دعوى، شهادة، تقادم‏)‏‏.‏

هذا، وللمالكيّة تفصيلات انفردوا بها في مسائل الحيازة، ولا سيّما بمعنى دليل الملك أو سببه، بيانها فيما يلي‏:‏

يقول ابن رشد‏:‏ إنّ الحيازة على ستّ مراتب‏:‏

أ - أضعفها حيازة الأب على ابنه، وحيازة الابن على أبيه‏.‏

ب - ويليها حيازة الأقارب الشّركاء بالميراث أو بغير الميراث بعضهم على بعض‏.‏

ج - تليها حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه، والأختان، والموالي الأشراك بمنزلتهم‏.‏

د - ويليها حيازة الموالي والأختين بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه‏.‏

هـ – وتليها حيازة الأجنبيّين الأشراك بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه‏.‏

و – حيازة الأجنبيّين الّذين لا شركة بينهم فيه‏.‏

وكلّما كانت الرّابطة قويّةً وجب أن تكون الحيازة ضعيفة التّأثير في ادّعاء الملك، فلا بدّ له من قوّة تسندها، إمّا طول مدّة، وإمّا نوع قويّ من التّصرّف على ما سيتبيّن بعد‏.‏

أنواع الحيازة

7 - الحيازة تكون بنوع من الأنواع الآتية‏:‏

أ - في العقار‏:‏ السّكنى، الازدراع ونحو ذلك‏.‏ وفي المنقول‏:‏ الرّكوب في الدّوابّ‏.‏ اللّبس في الثّياب‏.‏ الانتفاع في الأواني ونحو ذلك‏.‏

ب - النّوع المتوسّط في العقار‏:‏ الهدم والبناء فيما لا يحتاج إليه لبقاء الأصل، والغرس للأشجار ونحو ذلك، وفي المنقول الاستغلال وهو إيجار الدّوابّ، والثّياب، وقبض الأجرة ونحو ذلك‏.‏

ج - النّوع الأقوى‏:‏ التّفويت بالبيع، والهبة والصّدقة، والنّحل، وما أشبه ذلك ممّا لا يفعله الرّجل إلاّ في ماله‏.‏

أثر الحيازة

8 - يقول ابن رشد‏:‏ إنّ مجرّد الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عليه إلى الحائز، ولكنّه يدلّ على الملك كإرخاء السّتور، ومعرفة العفاص والوكاء، وما أشبه ذلك من الأشياء‏.‏ معنى هذا أنّ الحائز لا ينتفع بالحيازة إلاّ إذا جهل الوجه الّذي حاز به أو ادّعى شراءً، وأمّا إذا عرف وجه دخوله في حوزه ككراء، أو عمرى، أو إسكان، أو إرفاق، أو إجارة ونحو ذلك، فإنّ طول الحوز لا ينقل الملك‏.‏

شروط الحيازة بين الأجانب غير الشّركاء

9 - يقول خليل‏:‏ إن حاز أجنبيّ غير شريك وتصرّف ثمّ ادّعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع دعواه، ولا بيّنته إلاّ بإسكان ونحوه‏.‏ فالحوز عند المالكيّة يكون دالّاً على ملك الحائز إذا توفّر ما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ أن يتصرّف الحائز‏:‏ والتّصرّف المجمع عليه هو ما كان كالهدم والبناء فيما لا ضرورة داعية إليه‏.‏ أمّا السّكنى ونحوها، فقد اختلف فيها والمشهور أنّه حيازة‏.‏

يقول ابن رشد‏:‏ وأمّا حيازة الأجنبيّين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فالمشهور في المذهب أنّ الحيازة تكون بينهم في العشرة أعوام‏.‏ وإن لم يكن هدم ولا بنيان، وفي كتاب الجدار لابن القاسم أنّها لا تكون حيازةً إلاّ مع الهدم والبنيان، وهو قول ابن القاسم في رواية حسن بن عاصم عنه، ويشهد لهذا القول ما أخرجه مالك في الموطّأ بلاغاً أنّ عبد الرّحمن بن عوف تكارى أرضاً‏.‏ فلم تزل في يديه بكراء حتّى قال ابنه وهو أبو سلمة أو حميد‏:‏ فما كنت أراها إلاّ لنا من طول ما مكثت في يديه حتّى ذكرها لنا عند موته فأمر بقضاء شيء كان عليه من كرائها ذهب أو ورق‏.‏

10 - ثانياً‏:‏ أن يكون المدّعي حاضراً عالماً، فلو كان المدّعي غائباً غيبةً بعيدةً فهو باق على حقّه ويختلف تقدير الغيبة بين الرّجل والمرأة، والبعد والقرب، وتقدير الغيبة عند فقهاء المالكيّة هو بالمراحل‏.‏

فإذا كان المدّعي على سبعة مراحل فأكثر فهو باق على حجّته ولو طال أمد غيابه ما طال، فالغائب في مثل هذا البعد معذور، سواء أكان رجلاً أم امرأةً، وإذا كان على ثلاث أو أربع مراحل فالمرأة معذورة بلا خلاف، وكذلك الرّجل إن أبدى عذره في عدم القيام، وإن لم يتبيّن عذره، فقال ابن القاسم‏:‏ هو على حقّه له القيام معلّلاً بأنّه كم ممّن لا يتبيّن عذره للنّاس وهو معذور‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ من كان على ثلاث مراحل لا قيام له بعد الأجل إن لم يتبيّن عذره،فابن القاسم جعله معذوراً‏:‏ وابن حبيب جعله غير معذور حتّى يثبت خلاف ذلك‏.‏ وحدّد ابن عرفة موطن الخلاف قائلاً‏:‏ الخلاف في القريب هو إذا علم، وأمّا إذا لم يعلم فلا حيازة عليه وإن كان حاضرًا، غير أنّه في الغالب محمول على غير العلم حتّى يثبت علمه، وفي الحاضر محمول على العلم حتّى يتبيّن أنّه لم يعلم‏.‏

واستحبّ مطرّف وأصبغ للغائب إذا علم ومنعه مانع من الحضور لطلب حقّه أن يشهد أنّه علم، وأنّ سكوته عن المطالبة إنّما هو لأجل العذر مع تأكيدهما على أنّه إذا علم ولم يشهد لم يوهن ذلك حجّته إلاّ أن يطول الزّمان جدّاً، مثل السّبعين والثّمانين سنةً وما قاربها، ويكون مع ذلك سماع مستفيض بأنّها ملك للّذين هي بأيديهم تداولوها هم ومن كان قبلهم بما يحاز به الملك، فيكون ذلك كالحيازة على الحاضر، وإن كانت الغيبة بعيدةً، قال ابن حبيب‏:‏ وبقولهما أقول‏.‏

فالغائب يكون على حجّته إذا اجتمع أمران‏:‏ أن يطول ذلك جدّاً فيما تهلك فيه البيّنات، وتتعاقب الأجيال كالسّبعين والثّمانين، وأن يتأيّد الحوز بشهادة سماع أنّ الحائز ومن سبقه مالكون لما تحت أيديهم‏.‏ وإذا كانت الغيبة على مسافة يوم فالرّجل هو كالحاضر، وأمّا المرأة فهي على حقّها‏.‏ قال ابن فرحون‏:‏ فرع‏:‏ وفي الطّرر لابن عات ومغيب المرأة على مسيرة اليوم لا يقطع حجّتها لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلاّ مع ذي محرم عليها»‏.‏ قاله بعض الشّيوخ المتأخّرين‏.‏

والمراد بالعلم هو العلم الشّامل لأمرين‏.‏ العلم بأنّ الحائز يتصرّف في ملكه، وأن يعلم أنّ المحوز ملكه، فإذا جهل أنّ المحوز ملكه فإن كان وارثًا حلف على عدم علمه وقضي له ببيّنته، وإذا قال علمت بالملك ولكنّي لم أجد الوثيقة المثبتة للملك إلاّ الآن، فقد اختلف فيه، ورجّح ابن العربيّ أنّه غير معذور بذلك فلا تسمع دعواه، وكذلك إذا ادّعى أنّ سكوته إنّما كان من أجل عدم وجود البيّنة الّتي تشهد له‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن يسكت المحوز عنه الحاضر طوال المدّة ولا يطالب بحقّه، فإن نازع في أثناء المدّة ولم يزل يخاصم ويطلب فهو على حقّه، وإن نازع اليوم واليومين لم يفده، ويكون كمن هو ساكت، قال ابن سحنون عن أبيه‏:‏ فيمن أثبت بيّنةً في أرض أنّها له، وأثبت الّذي في يده أنّه يحوزها عشر سنين بمحضر الطّالب، فأقام الطّالب بيّنةً أنّه طلبها ونازع فيها هذا، قال‏:‏ إن قالوا إنّه لم يزل يخاصم ويطلب ليس أن يخاصم يوماً أو يومين ثمّ يمسك نفعه ذلك، وإلاّ لم ينفعه، ولا بدّ أن يكون الطّلب عند الحاكم‏.‏

قال أبو الحسن الصّغير الطّلب النّافع إنّما يكون عند الحاكم‏.‏

11 - رابعاً‏:‏ أن لا يمنعه من المطالبة مانع‏:‏ والموانع كثيرة ومتنوّعة لم يقع استقصاؤها، وإنّما وقع التّنبيه على بعضها احتياطاً لحقّ المالك‏.‏

فمن الموانع، الخوف من الحائز كما إذا كان الحائز ذا سلطة وظالماً‏.‏ أو كان مستنداً إلى سلطان جائر وكأن يكون الطّالب مدينًا معسرًا وحلّ أجل الدّين، والحائز ربّ الدّين يخشى إن هو طالبه بالتّخلّي عن الحوز أن يطالب بأداء الدّين، ومثله إذا كان المدّعي سفيهاً أو صغيراً أو بكرًا لم تعنّس من كان هذا حاله، فإنّ أجل الحوز معتبر بعد ارتفاع المانع، وفي وثائق ابن العطّار لا يقطع قيام البكر غير العانس ولا قيام الصّغير، ولا قيام المولّى عليه في رقاب الأملاك، ولا في إحداث الاعتمار بحضرتهم إلاّ أن يبلغ الصّغير ويملك نفسه من الوليّ، وتعنّس الجارية ويحاز عليهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر فينقطع حينئذ قيامهم وما لم يعرفوا لا ينقطع قيامهم‏.‏

فأصحاب الأعذار هؤلاء يعتبر أمد السّكوت المسقط لحقّهم بعد حصول أمرين‏.‏ حصول علمهم بأنّ الحائز يحوز ملكهم وسكوتهم بعد العلم عشر سنين بغير عذر‏.‏

ومن الأعذار المقبولة الّتي يبقى معها المدّعي على حقّه وإن طال كون المحوز عنه من أهل الثّراء والفضل، من شأنه إرفاق النّاس والتّوسعة عليهم، فقد سئل أبو زكريّا يحيى السّرّاج عن أناس لهم أملاك عديدة في بلاد شتّى وبكلّ موطن، وجرت عادتهم مع النّاس أنّهم يتفضّلون معهم في أملاكهم بالبناء والحرث والغراسة، وغير ذلك من أنواع العمارة، وذلك كلّه على وجه الفضل لكثرة ذمّتهم وغناهم وعلوّ همّتهم ومحاسنهم مع النّاس، ثمّ إنّ بعض السّاكنين أنكروا الفضل والإحسان والخير، وأرادوا بزعمهم أن يمتازوا ببعض الأملاك بسبب العمارة وينسبوها لأنفسهم من غير أن تقوم بيّنة على ذلك، فهل تجوز العمارة على أصحاب الأملاك أم لا تجوز على الوجه المذكور إلاّ إذا قامت بيّنة عادلة بانتقال الأملاك ببيع، أو هبة، أو صدقة‏؟‏ فأجاب أنّها لا تجوز على الوجه المذكور إلاّ إذا قامت بيّنة مقبولة بانتقال الأملاك، إمّا ببيع أو هبة، أو صدقة، وأمّا مجرّد العمارة العاريّة عن ذلك فلغو، ولا عبرة بها ولا معوّل عليها‏.‏

ودقّق عبد الرّحمن الحائك فقال‏:‏ إنّ فتوى السّرّاج هي فيما إذا كانت الأرض المذكورة معروفةً للقائم ومنسوبةً إليه، وأمّا إذا لم تكن كذلك فلا تنزع من يد حائزها‏.‏

12 - خامساً‏:‏ أن تستمرّ الحيازة عشر سنين فأكثر‏:‏ إذا حاز الأجنبيّ غير الشّريك عقاراً وتوفّرت الشّروط المذكورة قبل هذا فإنّه لا ينتفع بحيازته إلاّ إذا طال أمد الحيازة‏.‏

والطّول المعتبر دليلاً على الملكيّة قد اختلف الفقهاء في تحديده هل يؤقّت بزمن، أو مرجع ذلك إلى اقتناع الحاكم‏.‏

ففي المدوّنة‏:‏ ما سمعت مالكاً يحدّد فيه عشر سنين ولا غير ذلك، ولكن على قدر ما يرى أنّ هذا قد حازها دون الآخر فيما يكرى ويهدم ويبنى ويسكن‏.‏

وذهب ربيعة إلى أنّه إذا كان الرّجل حاضرًا وماله في يد غيره فمضت له عشر سنين وهو على ذلك، كان المال للّذي هو في يده بحيازته إيّاه عشر سنين، إلاّ أن يأتي الآخر ببيّنة على أنّه أكرى، أو أسكن، أو أعار عاريّةً، أو صنع شيئاً من هذا، وإلاّ فلا شيء له‏.‏ وعمدة التّقدير بعشر سنين الحديث الّذي رواه في المدوّنة عن عبد الجبّار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن عن سعيد بن المسيّب يرفعه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من حاز شيئاً عشر سنين فهو له»‏.‏

قال عبد الجبّار وحدّثني عبد العزيز بن المطّلب عن زيد بن أسلم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله‏.‏ ورواه زيد بن أسلم مرفوعاً‏:‏ «من احتاز شيئاً عشر سنين فهو له»‏.‏

كما ذكره أبو داود في باب الأقضية‏.‏

قال في التّوضيح‏:‏ وبالعشر سنين أخذ ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ‏.‏

ولابن القاسم كما في الموّازيّة أنّ السّبع والثّمان وما قارب العشر مثل العشرة‏.‏

ويقول ابن رشد في شرحه لكلام المستخرجة العشر سنين وما قاربها يريد واللّه أعلم‏.‏ والشّهرين والثّلاثة وما قارب منها ثلث العام وأقلّ‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ ما قرب من العشرة الأعوام بالعام والعامين حيازة‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ فتحصّل في مدّة الحيازة ثلاثة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ قول مالك إنّها لا تحدّ بسنين مقدّرة بل باجتهاد الإمام‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ المدّة عشر سنين وهو القول المعتمد بناءً على الحديث ووجّهه أيضاً ابن سحنون بأنّ اللّه لمّا أمر نبيّه بالقتال بعد عشر سنين كان أبلغ في الإعذار‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّ مدّة الحيازة سبع سنين فأكثر وهو قول ابن القاسم الثّاني‏.‏

وإذا كانت الحيازة في إرفاق ففي المسائل الملقوطة المنسوبة لولد ابن فرحون ‏"‏ مسألة ‏"‏ في قناة تجري منذ أربع سنين في أرض رجل، والّذي تجري عليه ساكت لا تكون السّنة حيازةً للتّغافل عن مثلها وسكوت أربع سنين طول‏.‏ أمّا إذا كانت الحيازة في منقول فقال أصبغ‏:‏ إنّ السّنة والسّنتين في الثّياب حيازة إذا كانت تلبس وتمتهن، وإنّ السّنتين والثّلاث حيازة في الدّوابّ إذا كانت تركب، وفي الإماء إذا كنّ يستخدمن، وفي العبيد والعروض فوق ذلك ولا تبلغ في شيء من ذلك كلّه بين الأجنبيّين إلى عشرة أعوام كما يصنع في الأصول ‏"‏ العقار ‏"‏‏.‏ وجاء في المدوّنة ما ظاهره أنّه لا فرق في الأجل بين الثّياب والعروض والحيوان، وبين الدّور، ونصّ المدوّنة قلت‏:‏ أرأيت الدّوابّ والثّياب والعروض كلّها والحيوان كلّه، هل كان مالك يرى أنّها إذا حازها رجل بمحضر من رجل فادّعاها الّذي حيزت عليه أنّه لا حقّ له فيها، لأنّ هذا قد حازها دونه، وهل كان يقول في هذه الأشياء مثل ما يقوله في الدّور والحيازة‏؟‏ قال لم أسمع من مالك في هذا شيئًا إلاّ أنّ ذلك عندي مثل ما قال مالك في الدّور إذا كانت الثّياب تلبس وتمتهن، والدّوابّ تكرى وتركب‏.‏

ويجب حمل نصّ المدوّنة على أنّ التّحديد ليس قارّاً، وإنّما هو لاجتهاد الحاكم ينظر في الظّروف المحيطة بالقضيّة ويعطي لكلّ حالة ما يناسبها حسب اختلاف الأعراف والأشخاص‏.‏

13 - وتضاف مدّة حيازة الوارث إلى مدّة حيازة المورث، فإذا حاز المورث الشّيء خمس سنين وحازه الوارث خمس سنين ضمّت مدّة هذا إلى مدّة ذاك وسقط حقّ القائم في الدّعوى‏.‏

14 - سابعاً‏:‏ ألاّ يكون المحوز وقفاً‏:‏ إذا كان المحوز حبساً فإنّه لا تسقط الدّعوى ولو طال الزّمان، ففي نوازل ابن رشد‏:‏ سئل عن جماعة واضعين أيديهم على أملاكهم ومورثهم ومورث مورثهم نحوًا من سبعين عاماً يتصرّفون فيه بالبناء والغرس والتّعويض والقسمة وكثير من وجوه التّفويت، فادّعى عليهم بوقفيّتها شخص حاضر عالم بالتّفويت المذكور والتّصرّف هو ومورثه من قبله‏.‏ فأجاب بما نصّه‏.‏ لا يجب القضاء بالحبس إلاّ بعد أن يثبت التّحبيس وملك المحبّس لما حبسه يوم التّحبيس وبعد أن تتعيّن الأملاك المحبّسة بالحيازة لها على ما تصحّ فيه الحيازة، فإذا ثبت ذلك كلّه على وجهه وأعذر إلى المقوم عليهم فلم يكن لهم حجّة إلاّ من ترك القائم وأبيه قبله عليهم وطول سكوتهما عن طلب حقّهما مع علمهما بتفويت الأملاك فالقضاء بالحبس واجب، والحكم به لازم‏.‏

ومن باب أولى الحبس العامّ بما يشمله من مسجد وطريق ومصالح عامّة‏.‏

قال الزّرقانيّ‏:‏ ومن شروطها - أي الحيازة - أن يدّعي الحائز ملك الشّيء المحوز، أي ولو مرّةً، وأمّا إن لم يكن له حجّة إلاّ مجرّد الحوز فلا ينفعه‏.‏

ولا ينفع الحائز المدّعي الملكيّة بحيازته إلاّ مع جهل المدخل في هذا الأصل المحوز، ولم يتحقّق هل بعاريّة مثلاً أو لا‏؟‏ أعني هل دخل بوجه لا يقتضي نقل الملك كالعاريّة والإسكان ونحوهما أم لا‏.‏ لأنّه لو تحقّق أنّ دخوله كان بشيء منها ما نفعته حيازته ولو طالت‏.‏

ما توجبه الحيازة

15 - يقول ابن الحاجب‏:‏ إنّ الدّعوى تنقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أ - الدّعوى المشبّهة‏:‏ وهي الدّعوى الّتي توجب اليمين على المدّعى عليه بمجرّدها من غير إثبات خلطة، وهي الدّعوى اللّائقة بالمدّعي والمدّعى عليه‏.‏ وذلك كالدّعاوى على الصّنّاع المنتصبين للصّناعة والتّجارة في الأسواق والمسافر على رفقته‏.‏

ب - الدّعوى البعيدة‏:‏ وهي الّتي لا تشبه فلا تسمع ولا يلتفت إليها، كدعوى دار بيد حائز يتصرّف فيها بالهدم، والبنيان، والعمارة مدّةً طويلةً، والمدّعي شاهد ساكت ولا مانع من خوف ولا قرابة ولا صهر وشبهة‏.‏

ج - الدّعوى المتوسّطة بين المشبّهة والبعيدة، فتسمع من مدّعيها، ويمكّن من إقامة البيّنة، فإن عجز عنها حلف المدّعى عليه في غير ما فيه معرّة‏.‏

وأمّا الدّعوى بما فيه معرّة على غير لائق به فلا يمين فيها‏.‏

فابن الحاجب كما يدلّ النّصّ أعلاه يعتبر الحيازة بشروطها، كالشّهادة القاطعة الّتي تثبت الحقّ لصاحبها بدون يمين، وبناءً على ذلك فدعوى القائم ‏(‏المدّعي‏)‏ باطلة من أصلها، وطول المدّة كاف في إثبات الحائز لشهادة العرف، وابن الحاجب يعتبر العرف كشاهدين‏.‏

16 - وذهب ابن رشد إلى التّفصيل، فقال‏:‏ إنّ الدّعوى على الحائز تنقسم إلى أقسام، ولكلّ قسم حكمه‏:‏

أ - أن لا تتأيّد دعوى المدّعي على الحائز ببيّنة ولا إقرار من الحائز، ولم تتضمّن الدّعوى الوجه الّذي يتصرّف به الحائز، وكانت بعد عشر سنين فهذه الدّعوى من أصلها لا توجب سؤال الحائز ولا تلزمه اليمين لردّ دعوى المدّعي‏.‏

ب - مثل الصّورة الأولى إلاّ أنّ القائم يدّعي أنّ الحائز إنّما كان يتصرّف في الحوز كراءً، أو إسكاناً، أو إعارةً، فتجب يمين الحائز لردّ دعوى المدّعي‏.‏

ج - أن يقوم القائم قبل أن تنقضي مدّة الحيازة ولم يؤيّد دعواه فتتوجّه اليمين على الحائز‏.‏

هـ – أن تتأيّد دعوى المدّعي ببيّنة، أو بإقرار الحائز بعد أمد الحيازة، وهنا يسأل الحائز عن الوجه الّذي صار به إليه المحوز، فإن بيّن وجهاً قبل مع يمينه، وتسقط دعوى المدّعي سواء أذكر أنّه صار إليه بشراء من القائم، أو من مورثه، أو بهبة، أو بصدقة منه، ونقل ابن رشد أنّ ابن القاسم يقول بالتّفرقة بين ادّعاء الشّراء وادّعاء التّبرّع فقد سئل عن الّذي يكون بيده المسكن أو الأرض فيقيم رجل عليه بيّنةً أنّه مسكنه أو أرضه، أو يقرّ له بذلك الّذي هو بيده، ويدّعي الّذي هو بيده أنّه باعه منه، أو تصدّق به عليه، أو وهبه، أو ما أشبه ذلك، ولا يأتي ببيّنة على شيء من دعواه‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ القول قول الّذي هو بيده، إذا كان قد حازه الزّمان الّذي يعلم في مثله أن قد هلكت البيّنة على البيع مع يمينه، وأمّا الصّدقة والهبة والنّزول ‏(‏أي الإسكان‏)‏ فإنّي أرى أن يحلف صاحب المنزل باللّه الّذي لا إله إلاّ هو ما وهب ولا تصدّق ولا أنزل ولا كان ذلك منه إلاّ على وجه التماس الرّفق به‏.‏ فيردّ إليه بعد أن يدفع قيمة ما أحدث عليه نقضاً إن أحبّ، وإن أبى أسلم إليه نقضه مقلوعاً، ووجه التّفرقة بين البيع والتّبرّع أنّ الأصل في نقل الأملاك هو البيع، وأمّا التّبرّع فنادر بالنّسبة للبيع فضعفت دعوى مدّعيه‏.‏

وإذا أقام المدّعي البيّنة أنّه اشتراها من الحائز وصادقه الحائز على ذلك إلاّ أنّه ادّعى الإقالة بعد البيع فيصدق الحائز بيمينه قال ابن عاصم‏:‏

وإن يكن مدّعياً إقالةً *** فمع يمينه له المقالة

الحيازة بين الأجانب الشّركاء

17 - حكم هذه المرتبة كحكم المرتبة السّابقة في كلّ التّفصيلات، إلاّ أنّ الحيازة لا تكون مؤثّرةً إلاّ إذا كانت من النّوع الثّاني، أعني الغرس والقلع في الأشجار، والبناء والهدم في الدّور، وكراء الحيوان وأخذ أجرة ذلك، أمّا لو ضعفت الحيازة فكانت بالسّكنى أو الزّراعة أو الاستخدام، فإنّ المدّعي يبقى على حقّه ولو مضت المدّة‏.‏

وروي عن مطرّف أنّ الشّركاء الأجانب بمنزلة غير الشّركاء، ووهّن ابن رشد هذا القول لأنّ إلغاء تأثير علاقة الشّركة في التّسامح بعيد، ثمّ رجّح أن يكون حكم الأشراك الأجنبيّين حكم القرابة من غير أهل الميراث الّذين ليسوا بأشراك وهذا الاختيار يبيّنه البند التّالي‏.‏

الحيازة بين الأقارب غير الشّركاء، والأقارب الشّركاء

18 - الحيازة بين الأقارب غير الشّركاء، والأقارب الشّركاء، حصّل ابن رشد في هاتين المرتبتين ثلاثة أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّ الحيازة بينهم إذا كانت بالهدم والبنيان واستمرّت عشرة أعوام، فهي قاطعة لحجّة القائم‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّها لا تكون حيازةً بينهم إلاّ فيما جاوز الأربعين سنةً‏.‏

الثّالث‏:‏ التّفرقة بين الأقارب الشّركاء وغير الشّركاء، فغير الشّركاء تكفي مدّة السّنوات العشر مع الهدم والبناء، والشّركاء لا بدّ من أربعين سنةً‏.‏

والمعتمد من هذه الأقوال هو القول الثّاني‏.‏

يقول الزّرقانيّ في تحليل قول خليل‏:‏ وفي الشّريك القريب مع الهدم والبنيان وما يقوم مقام كلّ قولان، أحدهما‏:‏ عشر سنين، والثّاني‏:‏ زيادة على أربعين عامًا معهما وهو المعتمد‏.‏ وذلك إذا لم تكن عداوة بين الأقارب شركاء كانوا أو لا، أمّا إذا حصلت بينهم عداوة فحكمهم حكم الأجانب السّابق‏.‏ يقول ابن عاصم‏.‏

والأقربون حوزهم مختلف *** بحسب اعتمارهم يختلف

فإن يكن بمثل سكنى الدّار *** والزّرع للأرض والاعتمار

فهو بما يجوز الأربعين *** وذو تشاجر كالأبعدين

ومثله ممّا إذا كان عرف البلد عدم التّسامح‏.‏ ذكره ابن سلمون في وثائقه‏.‏

الحيازة بين الأب وابنه

19 - بما أنّ التّسامح بين الأب وابنه ممّا جرى به العرف في الأقطار المختلفة، فإنّ حيازة أحدهما على الآخر إن كانت من النّوع الأوّل فهي غير مؤثّرة، وللقائم منهما الحقّ في المطالبة بدون تحديد أمد، وإن كانت من النّوع الثّاني، أعني الهدم، أو البناء، أو الغرس، أو الإيجار، وقبض الأجرة فلا تكون الحيازة مؤثّرةً إلاّ إذا طال أمدها طولاً تهلك فيه البيّنات، وينقطع العلم بحقيقة ما يدّعيه كلّ منهما‏.‏

فإذا بلغت الحيازة مثل هذا الطّول، انقطعت حجّة المدّعي وقضي للحائز المدّعي الملكيّة - ولم يحدّد الزّرقانيّ المدّة بأجل وإنّما ربطها بسنّ الشّهود - ونقل عن مختصر المتيطيّ، أنّه ذكر في محلّ عشرين سنةً، وفي محلّ أكثر من أربعين سنةً، ثمّ استشكل ذلك بأنّ الأقارب بغير علاقة البنوّة والأبوّة تكون الحيازة بينهم بما يجاوز الأربعين، فكيف تكون بين الأب وابنه دون ذلك على القول بعشرين سنةً، أو كيف تكون مساويةً على القول بأربعين‏.‏

وحدّد الدّردير في شرحه على خليل أقلّ المدّة بستّين سنةً بين الابن وأبيه‏.‏

الحيازة بين الأختان والأصهار والموالي

20 - ويشمل المولى الأعلى والأسفل إذا لم تكن بينهم قرابة، واختلف في هذه المرتبة على ثلاثة أقوال كلّها لابن القاسم‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّهم كالأقارب فلا تحصل الحيازة بينهم إلاّ مع الطّول جدًّا، بأن تزيد مدّتها على أربعين سنةً سواء كان التّصرّف بالهدم والبنيان أو ما يقوم مقامهما، أو كان بالاستغلال بالكراء، أو الانتفاع بنفسه بسكنى أو ازدراع‏.‏

وقيل إنّهم كالأجانب غير الشّركاء فيكفي في الحيازة عشر سنين مع التّصرّف مطلقاً، أي سواء كان بالهدم، أو البناء، أو ما يقوم مقام كلّ منهما، أو بالإجارة أو بالاستغلال بنفسه بسكنى أو ازدراع، وقيل كالأجانب الشّركاء، فيكفي في الحيازة عشر سنين مع التّصرّف بالهدم، أو البناء، وما يقوم مقام كلّ، لا باستغلال أو سكنى أو ازدراع‏.‏

وأمّا إذا كان بين الأصهار قرابة يجري فيهم ما يجري في الأقارب‏.‏

الحيازة في غير العقار في المراتب الخمسة

21 - سبق أنّ الحيازة بين الأجانب في المنقولات أقلّ مدّة من الرّباع والعقارات، وأمّا غيرهم فإنّ حيازة المنقولات لا تختلف عن حيازة العقارات، يقول خليل‏:‏ وإنّما تفترق الدّار من غيرها في حيازة الأجنبيّ، ومفهوم هذا أنّ الحيازة بين الأقارب لا تفترق فيها حيازة العقار عن حيازة المنقول فلا بدّ من الزّيادة على أربعين عاماً، والرّاجح أنّ المنقول كالعروض الّتي تطول مدّتها كالنّحاس والبسط ونحوها ممّا يستعمل، فيكفي فيها العشر سنين بخلاف ما لا تطول مدّتها كالثّياب تلبس فينبغي أقلّ من ذلك بالاجتهاد‏.‏

ويوضّح الزّرقانيّ ذلك بقوله‏:‏ لا كثياب مع لبس فينبغي حيازته دون تلك المدّة لعدم بقائه فيها فيبعد تحديده بذلك‏.‏

التّصرّف من النّوع الثّالث

22 - سبق أنّ التّصرّف بسبب الحيازة أنواع‏:‏ وأنّ أقوى الأنواع هو التّصرّف بالبيع والهبة والصّدقة والنّحل، وما أشبه ذلك من التّصرّفات المفوّتة عن المالك حقوق الملكيّة، وهذا التّفويت من الحائز لا يخلو وضعه، إمّا أن يفوت الكلّ، أو البعض، فإن فوّت الكلّ فله أحوال‏.‏

أ - الحالة الأولى‏:‏ أن يفوت الحائز بالبيع بحضور المحوز عنه فيعترض على البيع فلا ينفذ البيع‏.‏

ب - الثّانية‏:‏ أن يسكت وقت مجلس البيع بدون عذر ثمّ يقوم عقب المجلس مطالباً بحقّه فينفذ البيع ويستحقّ الثّمن، وإن سكت حتّى مضى العام ونحوه نفذ البيع واستحقّ البائع الثّمن مع يمينه في بيان الوجه الّذي انفرد به من شراء أو مقاسمة‏.‏

ج - الحالة الثّالثة‏:‏ أن لا يكون حاضراً مجلس البيع فيعلم به بعد وقوعه ويقوم بمجرّد ما يبلغه الخبر فهو على حقّه، إن شاء أنفذ البيع وأخذ الثّمن، وإن شاء ردّ البيع‏.‏

د - الحالة الرّابعة‏:‏ أن لا يكون حاضراً مجلس العقد فيعلم به بعد وقوعه ولا يقوم إلاّ بعد العام ونحوه، فالبيع نافذ وليس له إلاّ الثّمن‏.‏

هـ - الحالة الخامسة‏:‏ أن لا يكون حاضراً ويبلغه الخبر ويسكت حتّى تمضي مدّة الحيازة فلا يستحقّ شيئاً‏.‏

و - الحالة السّادسة‏:‏ أن يقع التّفويت بالهبة أو الصّدقة، وقد كان حاضراً مجلس التّفويت واعترض فهو على حقّه‏.‏

ز - الحالة السّابعة‏:‏ مثل سابقتها إلاّ أنّه سكت في مجلس التّفويت، ثمّ أبدى اعتراضه بعد ذلك فليس له شيء‏.‏

ح - الحالة الثّامنة‏:‏ أن يكون غائبًا عن مجلس التّفويت فيقوم بمجرّد ما يبلغه الخبر فهو على حقّه‏.‏

ط - الحالة التّاسعة‏:‏ أن يقوم بعد العام ونحوه فالقول للحائز‏.‏

تفويت البعض وله أحوال

وكذلك إذا فوّت البعض له أحوال‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ إذا فوّت الأكثر، فما فات حكمه على التّفصيل السّابق والقليل قد اختلف فيه، فروى يحيى عن ابن القاسم أنّ الأقلّ يتبع الأكثر يستحقّه الحائز بيمينه، وفهم من كلام سحنون أنّ ابن القاسم لا يرى أنّ الأقلّ تبع للأكثر، فيكون للمحوز عليه حقّه بعد يمينه‏.‏ الحالة الثّانية‏:‏ إذا فوّت الأقلّ فقد روي أيضاً عن ابن القاسم روايتان أنّ الأقلّ قد تمّت حيازته ويبقى الأكثر على حاله يطبّق فيه مقاييس الحيازة السّابقة، وروي أنّ الأقلّ يكون تبعاً للأكثر فلا يرتفع حقّ المطالبة ويأخذ المحوز عليه حقّه‏.‏

وإذا فوّت النّصف فلكلّ حكمه، ولا يكون بعض ذلك تبعاً للبعض‏.‏

تأخّر الحيازة عن ثبوت حقّ الملكيّة

23 - إذا ملك شخص مالاً بوجه شرعيّ وتأخّر حوزه له فهل يعتبر هذا الحوز مسقطاً لحقّه‏؟‏ أنّه إن أعلم وجه التّملّك وتأخّر الحوز، فإنّ المدّة لا تؤثّر على الملكيّة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يبطل حقّ امرئ مسلم وإن قدم» وبناءً على هذا فإذا عيّن لامرأة صداقها حقولًا فقبضت البعض من يد الزّوج أو والده، وبقي قسم لم تقبضه إلى أن مات المالك الأصليّ واليد للزّوج فإنّ طول المدّة لا يؤثّر في مطالبتها بحقّها وتستحقّه حتّى يعلم أنّها فوّتت صداقها بمفوّت‏.‏ وكذلك ما ذكره ابن الحاجّ أنّ من قام بعقد شراء من المقوم عليه أو من أبيه قبله، وتاريخ الشّراء أكثر من عشرين سنةً، وقال لم يعلم بشراء أبيه ولا جدّه إلى الآن فليحلف على ذلك ويأخذ الأملاك‏.‏ ا هـ‏.‏ علّق عليه الرّهونيّ ولا يعترض هذا ما ذكره من أنّ رسوم الأشرية لا ينزع بها من يد حائز، لأنّ محلّ ذلك إذا لم يكن عقد الشّراء من المقوّم عليه، لأنّ علّة عدم الانتزاع بعقود الأشربة أنّ الإنسان قد يبيع ما لا يملك، ولمّا كانت هذه العلّة منتفيةً إذا كان المقوّم عليه هو البائع، كان رسم الشّراء مؤيّداً للقائم تأييداً يوجب رفع يد الحائز، وكذلك إذا حكم الحاكم بالحقّ ولم يحز المحكوم عليه حقّه، فإنّ المقضيّ عليه لا ينتفع بطول الحيازة، والقائم يكون على حقّه متى قام به‏.‏ وورثة المقضيّ عليه بمنزلته، وذلك لأنّ الحيازة لا ينتفع بها إلاّ مع جهل أصل الدّخول فيها، والطّول المذكور قيل‏:‏ عشرون سنةً على ما وقع في سماع عيسى في كتاب القسمة، وحدّه ابن حبيب خمسين سنةً وحكاه عن مطرّف وأصبغ ودقّق ابن رشد بأنّ محلّ ذلك إذا ادّعى الحائز بعد طول المدّة أنّه صار إليه بعد الحكم بوجه عيّنه ممّا يصحّ به انتقال الأملاك، وأمّا طول بقائه وحده بيده فلا يعتبر ناقلًا للملك‏.‏

الحيازة كسبب من أسباب الملكيّة

24 - تكون الحيازة مفيدةً للملكيّة إذا كان موضوعها المال المباح الّذي ليس في ملك أحد وقت وضع اليد عليه، ولم يوجد مانع شرعيّ يمنع من تملّكه ويشمل أنواعاً أربعةً‏:‏

أ - إحياء الموات ‏(‏ر‏:‏ إحياء الموات، وأرض‏)‏‏.‏

ب - الاصطياد ‏(‏ر‏.‏ صيد‏)‏‏.‏

ج - أخذ الكلأ ونحوه ‏(‏ر‏:‏ احتشاش، وكلأ‏)‏‏.‏

د - أخذ ما يوجد في باطن الأرض ‏(‏ر‏.‏ معادن، ركاز‏)‏‏.‏

هذا، وهناك مسائل أخرى تتعلّق بالحيازة، كضرورتها في عقد الهبة، وعدم تمام التّبرّع بدونها، وأثرها في عقد الرّهن وتعيين المدّعي والمدّعى عليه، وأثر شهادة السّماع على الحيازة وغيرها من المسائل الفقهيّة، تنظر في مصطلحات‏:‏ ‏(‏تبرّع، دعوى، رهن، شهادة، قبض، هبة‏)‏‏.‏