فصل: المفاضلة بين المسجد الحرام وغيره من المساجد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


المسْجِد الحَرَام

التّعريف

1 - المسجد - بكسر الجيم - في اللغة‏:‏ موضع السجود من بدن الإنسان‏,‏ وبيت الصّلاة‏.‏ والمسجد شرعاً هو كل موضع من الأرض لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم « جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً »‏,‏ ثمّ إنّ العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس‏.‏ والمسجد الحرام في الاصطلاح - كما قال النّووي - قد يراد به الكعبة فقط‏,‏ وقد يراد به المسجد حولها معها‏,‏ وقد يراد به مكّة كلها مع الحرم حولها‏,‏ وقد جاءت نصوص الشّرع بهذه الأقسام‏.‏

وسمّي المسجد حراماً لأنّه لا يحل انتهاكه فلا يصاد عنده ولا حوله ولا يختلى ما عنده من الحشيش‏.‏

قال العلماء‏:‏ وأريد بتحريم البيت سائر الحرم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المسجد النّبوي‏:‏

2 - المسجد النّبوي هو المسجد الّذي بناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في موقعه المعروف بالمدينة حين قدم مهاجراً إليها من مكّة‏,‏ وهو ثاني الحرمين الشّريفين‏.‏

والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد النّبويّ من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر‏.‏

ب - المسجد الأقصى‏:‏

3 - المسجد الأقصى هو المسجد المعروف في مدينة القدس وقد بني على سفح الجبل‏,‏ ويسمّى بيت المقدس أي البيت المطهّر الّذي يتطهّر فيه من الذنوب‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ المسجد الأقصى ‏)‏‏.‏

والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد الأقصى من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر‏.‏

بناء المسجد الحرام

4 - أوّل مسجد وضع على الأرض المسجد الحرام‏,‏ وهو مسجد مكّة‏,‏ كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ‏}‏‏,‏ وعن « أبي ذر رضي اللّه عنه قال قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أوّل فقال‏:‏ المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال‏:‏ المسجد الأقصى قلت وكم بينهما قال أربعون عاماً »‏.‏

قال ابن الجوزيّ‏:‏ إنّ المسجد الحرام كان صغيراً ولم يكن عليه جدار إنّما كانت الدور محدقةً به‏,‏ وبين الدور أبواب يدخل النّاس من كلّ ناحية فضاق على النّاس المسجد فاشترى عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه دوراً فهدمها‏,‏ ثمّ أحاط عليه جداراً قصيراً‏,‏ ثمّ وسّع المسجد عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه واشترى من قوم‏,‏ ثمّ زاد ابن الزبير رضي اللّه عنهما في المسجد واشترى دوراً وأدخلها فيه‏,‏ وأوّل من نقل إليه أساطين الرخام وسقفه بالسّاج المزخرف الوليد بن عبد الملك‏,‏ ثمّ زاد المنصور في شقّه الشّاميّ ثمّ زاد المهدي‏,‏ وكانت الكعبة في جانب فأحبّ أن تكون وسطاً فاشترى من النّاس الدور ووسطها‏.‏

ثمّ توالت الزّيادات فيه إلى يومنا هذا‏.‏

المفاضلة بين المسجد الحرام وغيره من المساجد

5 - صرّح الحنفيّة بأنّ أعظم المساجد حرمةً المسجد الحرام ثمّ مسجد المدينة ثمّ مسجد بيت المقدس ثمّ الجوامع ثمّ مساجد المحالّ ثمّ مساجد الشّوارع ثمّ مساجد البيوت‏.‏

ويرى المالكيّة على المشهور أنّ مسجد المدينة أفضل المساجد ويليه مسجد مكّة ويليه مسجد بيت المقدس‏.‏

شد الرّحال إلى المسجد الحرام

6 - المسجد الحرام هو أحد المساجد الثّلاثة الّتي تشد إليها الرّحال‏,‏ وفي الحديث‏:‏ « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام‏,‏ ومسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمسجد الأقصى »‏.‏

هذا الحديث يدل على فضيلة هذه المساجد ومزيّتها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام‏,‏ ولأنّ المسجد الحرام قبلة النّاس وإليه حجهم‏,‏ ومسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم أسّس على التّقوى والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السّابقة‏,‏ وأولى القبلتين‏.‏

تحيّة المسجد الحرام

7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ أوّل ما يبدأ به داخل المسجد الحرام الطّواف محرماً أو غير محرم دون الصّلاة إلّا أن يكون عليه فائتة‏,‏ أو خاف فوت الوقتيّة ولو الوتر‏,‏ أو سنّةً راتبةً‏,‏ أو فوت الجماعة‏,‏ فيقدّم الصّلاة في هذه الصور على الطّواف‏.‏

قال المنلا علي‏:‏ من دخل المسجد الحرام لا يشتغل بتحيّة لأنّ تحيّة هذا المسجد الشّريف هي الطّواف لمن عليه الطّواف أو أراده‏,‏ بخلاف من لم يرده‏,‏ أو أراد أن يجلس فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين تحيّة المسجد إلّا أن يكون الوقت مكروهاً‏.‏

واستظهر ابن عابدين أنّه لا يصلّي مريد الطّواف للتّحيّة أصلاً لا قبله ولا بعده‏,‏ ولعلّ وجهه اندراجها في ركعتيه‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ تحيّة المسجد الحرام في حقّ الآفاقيّ‏,‏ وكذلك المكّي المأمور بالطّواف الطّواف‏,‏ وأمّا المكّي الّذي لم يؤمر بطواف ولم يدخله لأجل الطّواف‏,‏ بل للمشاهدة أو للصّلاة أو لقراءة القرآن‏,‏ فتحيّة المسجد في حقّه الصّلاة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ تحيّة المسجد الصّلاة وتحيّة البيت الطّواف‏,‏ وليس الطّواف تحيّة المسجد‏,‏ ولكن تدخل التّحيّة في ركعتيه وإن لم ينوها‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ تحيّة المسجد الحرام الصّلاة وتجزئ عنها الرّكعتان بعد الطّواف‏.‏

ونقل ابن مسدي في ‏"‏ إعلام النّاسك ‏"‏ عن أحمد وغيره أنّه يحيّي المسجد أوّلاً بركعتين ثمّ يقصد الطّواف‏.‏

فضل الصّلاة في المسجد الحرام

8 - إنّ صلاةً في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد‏,‏ روى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه »‏.‏

ثمّ إنّ التّضعيف المذكور يرجع إلى الثّواب ولا يتعدّى إلى الإجزاء باتّفاق العلماء كما نقله النّووي وغيره فلو كان عليه صلاتان فصلّى في أحد المسجدين ‏"‏ المسجد الحرام أو المسجد النّبويّ ‏"‏ صلاةً لم تجزئ إلّا عن واحدة‏.‏

9 - والفقهاء متّفقون على فضيلة الفرض في المسجد الحرام على الفرض في غيره وإنّما اختلفوا في شمول هذا الفضل الفرض والنّفل‏.‏

قال الفاسي المالكي‏:‏ إنّ الفضل يختص بالفرض وهو مشهور مذهبنا ومذهب أبي حنيفة‏,‏ ونقل ابن عابدين قول الفاسيّ من غير أن يعقّب عليه‏,‏ ونسب العيني هذا القول إلى الطّحاويّ أيضاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة في المذهب والحنابلة إلى أنّ المضاعفة لا تختص بالفريضة بل تعم النّفل والفرض‏,‏ قال الزّركشي بعد أن ذكر مذهب الشّافعيّة في المسألة‏:‏ وهو لازم للأصحاب من استثنائهم النّفل بمكّة من الوقت المكروه لأجل زيادة الفضيلة‏.‏

وقال الشّيخ مجد الدّين الحنبلي‏:‏ ظاهر الأخبار أنّ النّفل في البيت أفضل‏,‏ قال عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة »‏,‏ قال‏:‏ وينبغي أن يكون مرادهم إلّا النّساء لأنّ صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل‏,‏ والأخبار مشهورة في ذلك وهو ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم‏.‏

المراد بالمسجد الحرام الّذي تضاعف فيه الصّلاة

10 - ذهب الحنفيّة في المشهور والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المضاعفة تعم جميع حرم مكّة‏,‏ فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ « بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة قال عطاء فكأنّه مائة ألف قال قلت يا أبا محمّد هذا الفضل الّذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم قال بل في الحرم فإنّ الحرم كلّه مسجد »‏.‏

وقال ابن مفلح‏:‏ ظاهر كلامهم في المسجد الحرام أنّه نفس المسجد‏,‏ ومع هذا فالحرم أفضل من الحلّ‏,‏ فالصّلاة فيه أفضل‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ يتحصّل في المراد بالمسجد الحرام الّذي تضاعف فيه الصّلاة سبعة أقوال‏.‏ الأوّل‏:‏ أنّه المكان الّذي يحرم على الجنب الإقامة فيه‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّه مكّة‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّه الحرم كله إلى الحدود الفارقة بين الحلّ والحرم‏,‏ قاله عطاء وقد سبق مثله عن الماورديّ وغيره‏,‏ وقال الروياني‏:‏ فضّل الحرم على سائر البقاع فرخّص في الصّلاة فيه في جميع الأوقات لفضيلة البقعة وحيازة الثّواب المضاعف‏,‏ وقال الزّركشي‏:‏ وهذا فيه تصريح بهذا القول‏.‏

الرّابع‏:‏ أنّه الكعبة‏,‏ قال الزّركشي وهو أبعدها‏.‏

الخامس‏:‏ أنّه الكعبة والمسجد حولها‏,‏ وهو الّذي قاله النّووي في استقبال القبلة‏.‏

السّادس‏:‏ أنّه جميع الحرم وعرفة‏,‏ قاله ابن حزم‏.‏

السّابع‏:‏ أنّه الكعبة وما في الحجر من البيت‏,‏ وهو قول صاحب البيان من أصحاب الشّافعيّة‏.‏

وحكى المحب الطّبريّ خلاف الفقهاء في مكان المضاعفة بالنّسبة إلى الصّلاة‏,‏ ورجّح أنّ المضاعفة تختص بمسجد الجماعة‏.‏

تقدم المأموم على الإمام في المسجد الحرام

11 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه إذا صلّى الإمام خارج الكعبة وتحلّق المقتدون حولها جاز لمن في غير جهته أن يكون أقرب إليها منه‏,‏ لا لمن كان في جهته‏,‏ لأنّ التّقدم والتّأخر إنّما يظهر عند اتّحاد الجهة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يستحب للإمام أن يقف خلف المقام‏,‏ ويقف المأمومون مستديرين بالكعبة‏,‏ بحيث يكون الإمام أقرب إلى الكعبة منهم‏,‏ فإن كان بعضهم أقرب إليها منه وهو في جهة الإمام ففي صحّة صلاته قولان‏:‏ الجديد بطلانها‏,‏ والقديم صحّتها‏.‏

وإن كان في غير جهته فطريقان‏:‏ المذهب‏:‏ القطع بصحّتها وهو نصه في الأمّ وبه قطع الجمهور‏.‏

والثّاني فيه القولان‏,‏ حكاه الأصحاب عن أبي إسحاق المروزيّ‏.‏

المرور بين يدي المصلّي في المسجد الحرام

12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يمنع المار داخل المسجد الحرام‏,‏ لما روي عن المطّلب ابن أبي وداعة رضي اللّه عنه‏:‏ « أنّه رأى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي ممّا يلي باب بني سهم والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة »‏,‏ وهو محمول على الطّائفين فيما يظهر لأنّ الطّواف صلاة فصار كمن بين يديه صفوف من المصلّين‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن كان في المسجد الحرام حرم المرور إن كان له مندوحة وصلّى لسترة‏,‏ وإلّا جاز‏,‏ هذا إذا كان المار غير طائف‏,‏ وأمّا هو فلا يحرم عليه مطلقاً‏,‏ ثمّ إن كان له سترة كره حيث كان للطّائف مندوحة‏.‏

ونصّ الرّملي على أنّه لو قصّر المصلّي‏,‏ بأن وقف في قارعة الطّريق أو بشارع أو درب ضيّقٍ أو نحو باب مسجد كالمحلّ الّذي يغلب مرور النّاس به في وقت الصّلاة ولو في المسجد كالمطاف‏,‏ وكأن ترك فرجةً في صفّ إمامه فاحتيج للمرور بين يديه لفرجة قبله فلا يحرم المرور في جميع ذلك‏,‏ ولو في حريم المصلّى وهو قدر إمكان سجوده‏,‏ خلافاً للخوارزميّ‏,‏ بل ولا يكره عند التّقصير‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ المصلّي بمكّة المشرّفة لا يرد المارّ بين يديه‏,‏ قال أحمد‏:‏ لأنّ مكّة ليست كغيرها لأنّ النّاس يكثرون بها ويزدحمون فمنعهم تضييق عليهم‏,‏ ولأنّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بمكّة والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما ستر‏.‏

وألحق الموفّق بمكّة سائر الحرم لمشاركته لها في الحرمة‏.‏

وقال الرّحيباني‏:‏ إنّما يتمشّى كلام الموفّق في زمن حاج لكثرة النّاس واضطرارهم إلى المرور‏,‏ وأمّا في غير أيّام الحجّ فلا حاجة للمرور بين يدي المصلّي للاستغناء عنه‏,‏ وكلام أحمد يمكن حمله على الصّلاة في المطاف أو قريباً منه وهو متّجهٌ‏.‏

أفضليّة صلاة العيد بالمسجد الحرام

13 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى ندب إيقاع صلاة العيد بالمصلّى في الصّحراء‏,‏ وقيّد الشّافعيّة أفضليّة الصّلاة في الصّحراء بما إذا كان مسجد البلد ضيّقاً‏.‏

واستثنى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة من هذا الحكم صلاة العيد بمكّة‏,‏ فمن كان بمكّة فإيقاعه صلاة العيد بالمسجد الحرام أفضل للمزايا الّتي تقع فيه لمن يصلّي العيد وهي النّظر والطّواف المعدومان في غيره‏,‏ لخبر « ينزّل اللّه على أهل المسجد مسجد مكّة كلّ يوم عشرين ومائة رحمةً ستّين منها للطّائفين وأربعين للمصلّين وعشرين منها للنّاظرين »‏.‏

نذر الإتيان إلى المسجد الحرام

14 - ذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد والحنابلة والشّافعيّة في أصحّ الطّريقين إلى أنّ من نذر إتيان المسجد الحرام ينعقد نذره بحجّ أو عمرة لحديث عقبة بن عامر‏:‏ « نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه وأمرتني أن أستفتي لها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاستفتيته فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لتمش ولتركب »‏,‏ ولأنّ مطلق كلام النّاذرين محمول على ما ثبت له أصل في الشّرع‏,‏ والعرف قصد المسجد الحرام بالحجّ والعمرة فيحمل نذره عليه‏.‏

وقيّد المالكيّة لزوم المشي إلى المسجد الحرام بما إذا نذر النّاذر المشي له لحجّ أو عمرة‏,‏ أو لصلاة فيه فرضاً كانت أو نفلاً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا لزمه المشي مشى من حيث نذر المشي منه‏,‏ وإن لم ينو محلاً مخصوصاً فمن المكان المعتاد لمشي الحالفين بالمشي‏,‏ وإن لم يكن مكاناً معتاداً للحالفين فمن حيث حلف أو نذر وأجزأ المشي من مثله في المسافة‏,‏ وجاز ركوب لحاجة كأن يرجع لشيء نسيه أو احتاج إليه كما يجوز له الركوب في الطّريق لبحر أعتيد ركوبه للحالفين أو أضطرّ إلى ركوبه‏,‏ ويستمر ماشياً لتمام طواف الإفاضة أو تمام السّعي إن كان سعيه بعد الإفاضة‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّ من قال‏:‏ عليّ المشي إلى المسجد الحرام لا شيء عليه لأنّ التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف عليه‏,‏ ولا يمكن إيجابه باعتبار اللّفظ فامتنع أصلاً‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ ر‏:‏ نذر ‏)‏‏.‏

حاضر المسجد الحرام

15 - قال القرطبي‏:‏ اختلف النّاس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أنّ أهل مكّة وما اتّصل بها من حاضريه - وقال الطّبريّ‏:‏ بعد الإجماع على أهل الحرم‏.‏

قال ابن عطيّة‏:‏ وليس كما قال - فقال بعض العلماء‏:‏ من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري‏,‏ ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي‏,‏ فجعل اللّفظة من الحضارة والبداوة‏.‏

وعند أبي حنيفة وأصحابه‏:‏ هم أهل مكّة ومن في حكمهم من أهل داخل المواقيت‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ المعتمد المختار إلى أنّ حاضري المسجد الحرام من مساكنهم دون مرحلتين من الحرم‏.‏

وفي القول المقابل للأصحّ‏:‏ حاضرو المسجد الحرام من مساكنهم دون مرحلتين من مكّة‏.‏ وقال ابن المنذر في الإشراف‏:‏ حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكّة وأهل ذي طوًى‏:‏ وقال مجاهد وطاووس‏:‏ هم أهل الحرم‏.‏

دخول الكافر المسجد الحرام

16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن الشّيباني إلى أنّ الكافر ليس له دخول المسجد الحرام بحال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ‏}‏‏.‏

ويقرب من هذا ما ذهب إليه المالكيّة إذ أنّهم يرون أنّ الكافر يمنع من دخول المسجد مطلقاً وإن أذن له مسلم ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة‏,‏ وقالوا‏:‏ إنّ الآية‏:‏ ‏{‏ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ‏}‏ عامّة في سائر المشركين وسائر المساجد‏,‏ وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله‏,‏ ونزع في كتابه بهذه الآية‏,‏ ويؤيّد ذلك قوله تعالى ‏{‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ‏}‏‏,‏ ودخول الكفّار فيها مناقض لترفيعها‏.‏

وصرّح الحنفيّة بأنّه لا بأس بدخول أهل الذّمّة المسجد الحرام وسائر المساجد‏.‏

المسْجِد النّبوِيّ

التّعريف

1 - المسجد - لغةً - بكسر الجيم - الموضع الّذي يسجد فيه‏,‏ قال الزّجّاج‏:‏ كل موضع يُتَعبَّد فيه فهو مَسْجِد‏,‏ والمسجَد بالفتح موضع وقوع الجبهة على الأرض‏.‏

وشرعاً‏:‏ عرّفه الزّركشي بأنّه‏:‏ كل موضع من الأرض لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم « جُعلت لي الأرض مسجداً » قال‏:‏ وهذا من خصائص هذه الأمّة‏,‏ ثمّ قال‏:‏ إنّ العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس حتّى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه‏.‏

والمسجد النّبوي‏:‏ هو المسجد الّذي بناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في موقعه المعروف بالمدينة حين قدم مهاجراً إليها من مكّة‏,‏ وهو ثاني الحرمين الشّريفين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المسجد الحرام‏:‏

2 - وهو المسجد الّذي بناه إبراهيم عليه السّلام ومعه ابنه إسماعيل‏,‏ في مكّة المكرّمة‏,‏ وهو المقصود بقوله تعالى‏:‏‏{‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ‏}‏‏.‏

ب - المسجد الأقصى‏:‏

3 - ويسمّى بيت المقدس‏,‏ وهو المقصود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ‏}‏‏.‏

والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد النّبويّ والمسجد الأقصى من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر‏.‏

تأسيس المسجد النّبويّ

4 - قدم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة مهاجراً إليها من مكّة حين اشتدّ الضحى من يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلةً مضت من شهر ربيع الأوّل - على ما صحّحه ابن الجوزيّ وجزم به ابن النّجّار والنّووي فمكث في بني عمرو بن عوف أيّام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وبنى فيهم مسجد قباء وصلّى فيه إلى بيت المقدس‏,‏ ثمّ ركب يوم الجمعة فمرّ على بني سالم فجمع بهم وبمن كان معه من المسلمين في مسجدهم فكانت أوّل جمعة صلّاها النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة وأصبح ذلك المسجد يسمّى مسجد الجمعة إلى اليوم‏,‏ ثمّ ركب من بني سالم فجعل كلّما مرّ داراً من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون يا رسول اللّه هلمّ إلى القوّة والمنعة فيقول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « خلوا سبيلها يعني ناقته القصواء فإنّها مأمورة »‏,‏ وقد أرخى زمامها وما يحرّكها وهي تنظر يميناً وشمالاً حتّى إذا أتت موضع المسجد بركت - وهو يومئذ مربد للتّمر لغلامين يتيمين - ثمّ ثارت النّاقة والنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليها حتّى بركت على باب دار أبي أيوب الأنصاريّ رضي اللّه عنه ثمّ ثارت منه وبركت في مبركها الأوّل وألقت جرانها - أي باطن عنقها - بالأرض وأرزمت أي صوّتت من غير أن تفتح فاها - فنزل عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال‏:‏ « هذا المنزل إن شاء اللّه تعالى »‏,‏ واحتمل أبو أيوب رحله صلّى اللّه عليه وسلّم وأدخله في بيته‏,‏ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « المرء مع رحله »‏.‏ ونقل السيوطيّ عن ابن سعد في الطّبقات عن الزهريّ قال‏:‏ « بركت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند موضع المسجد - وهو يومئذ يصلّي فيه رجال من المسلمين‏,‏ وكان مربداً لسهل وسهيل - غلامين يتيمين من الأنصار وكانا في حجر أبي أمامة‏:‏ أسعد بن زرارة‏,‏ فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجداً‏,‏ فقالا‏:‏ بل نهبه لك يا رسول اللّه‏,‏ فأبى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك‏,‏ فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالنّخل الّذي في الحديقة وبالغرقد الّذي فيه أن يقطع‏,‏ وأمر باللّبن فضرب‏,‏ وكان في المربد قبور جاهليّة فأمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنبشت‏,‏ وأمر بالعظام أن تغيّب‏,‏ وأسّسوا المسجد فجعلوا طوله ممّا يلي القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع‏,‏ وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربّع‏,‏ ويقال كان أقلّ من المائة وجعلوا الأساس قريباً من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثمّ بنوه باللّبن‏,‏ وبناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وجعل ينقل الحجارة معهم بنفسه ويقول‏:‏

« اللّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة »‏.‏

وجعل له ثلاثة أبواب‏,‏ باباً في مؤخّره‏,‏ وباباً يقال له باب الرّحمة وهو الباب الّذي يدعى باب عاتكة‏,‏ والباب الثّالث الّذي يدخل منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الباب الّذي يلي آل عثمان وجعل طول الجدار بسطةً‏,‏ وعمده الجذوع‏,‏ وسقفه جريداً فقيل له ألا تسقفه‏؟‏ فقال‏:‏ عريشٌ كعريش موسى خشيبات وتمام الشّأن أعجل من ذلك‏,‏ وبنى بيوتاً إلى جنبه باللّبن وسقفها بجذوع النّخل والجريد وكانت تلك البيوت مكان حجرته اليوم‏,‏ فلمّا توفّيت أزواجه خلطت البيوت والحجر بالمسجد في زمن عبد الملك بن مروان »‏.‏

توسعة المسجد وعمارته

5 - قال الزّركشي‏:‏ روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال‏:‏ « كان المسجد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مبنياً باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل » فلم يزد فيه أبو بكر رضي اللّه عنه شيئاً‏,‏ وزاد فيه عمر رضي اللّه عنه وبناه على بنائه في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم باللّبن والجريد وأعاد عمده خشباً‏,‏ ثمّ غيّره عثمان رضي اللّه عنه فزاد فيه زيادةً كبيرةً وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة‏,‏ وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالسّاج‏,‏ وقال خارجة بن زيد‏:‏ بنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسجده سبعين ذراعاً في ستّين ذراعاً أو يزيد‏,‏ قال أهل السّير‏:‏ جعل عثمان طول المسجد مائةً وستّين ذراعاً وعرضه مائةً وخمسين ذراعاً وجعل أبوابه ستّةً كما كانت في زمن عمر ثمّ زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدّمه مائتين وفي مؤخّره مائةً وثمانين ثمّ زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشّام فقط دون الجهات الثّلاث‏.‏

الرّوضة الشّريفة

6 - ورد في فضل الرّوضة الشّريفة عدّة أحاديث‏,‏ من ذلك ما رواه الشّيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة‏,‏ ومنبري على حوضي »‏,‏ وما أخرجه أحمد عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « ما بين منبري إلى حجرتي روضة من رياض الجنّة وإنّ منبري على ترعة من ترع الجنّة » وفي رواية من حديث عبد اللّه بن زيد‏:‏ « ما بين هذه البيوت - يعني بيوته صلّى اللّه عليه وسلّم - إلى منبري روضة من رياض الجنّة »‏.‏

قال النّووي‏:‏ ذكروا في معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة » قولين‏:‏ أحدهما أنّ ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنّة‏,‏ والثّاني أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة‏,‏ وقال محب الدّين الطّبريّ قال بعض العلماء‏:‏ لمّا كان جلوسه وجلوس النّاس إليه يتعلّمون القرآن والدّين والإيمان هناك شبّه ذلك الموضع بالرّوضة لكرم ما يجتنى فيه‏,‏ وأضافه إلى الجنّة لأنّها تؤوّل إلى الجنّة‏,‏ كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏

« الجنّة تحت ظلال السيوف »‏.‏

أساطين المسجد النّبويّ الأصليّ

7 - من أساطين المسجد النّبويّ أسطوانة المخلَّق الّتي هي علم على المصلّى الشّريف‏,‏ فعن سلمة بن الأكوع رضي اللّه تعالى عنه قال‏:‏ « رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتحرّى الصّلاة عندها »‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة القرعة وتعرف بأسطوانة عائشة رضي اللّه تعالى عنها وبأسطوانة المهاجرين أيضاً‏,‏ روي عن ابن زبّالة أنّ عبد اللّه بن الزبير واثنين معه دخلوا على عائشة رضي اللّه تعالى عنها فتذاكروا المسجد فقالت عائشة إنّي لأعلم ساريةً من سواري المسجد لو يعلم النّاس ما في الصّلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان‏,‏ فخرج الرّجلان وبقي ابن الزبير‏,‏ ثمّ خرج ابن الزبير مسرعاً فصلّى إلى هذه السّارية‏,‏ وعن ابن زبّالة أيضاً‏:‏ وبلغنا أنّ الدعاء فيها مستجاب‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة التّوبة وتعرف بأسطوانة أبي لبابة رضي اللّه تعالى عنه وهي الّتي ربط أبو لبابة نفسه إليها حتّى نزلت توبته‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة السّرير وهي الّتي كان يوضع عندها سرير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا اعتكف‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة الحرس وهي الّتي كان يجلس علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه في صفحتها الّتي تلي القبر ممّا يلي باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحرس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة الوفود وهي الّتي كان يجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليها لوفود العرب إذا جاءته‏.‏

ومنها‏:‏ أسطوانة التّهجد وهي الّتي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرج إذا انكفّت النّاس فيصلّي عندها صلاة اللّيل‏.‏

حجرات أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم

8 - قال ابن النّجّار‏:‏ لمّا بنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسجده بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة - رضي اللّه عنهما - على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النّخل‏,‏ ولمّا تزوّج صلّى اللّه عليه وسلّم نساءه بنى لهنّ حجراً وهي تسعة أبيات وهي ما بين بيت عائشة رضي اللّه عنها إلى الباب الّذي يلي باب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ وقال أهل السّير‏:‏ ضرب النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشّرق إلى الشّاميّ ولم يضربها غربيّه‏,‏ وكانت خارجةً من المسجد مديرةً به إلّا من المغرب وكانت أبوابها شارعةً في المسجد‏.‏

وكان بيت فاطمة بنت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خلف بيته عن يسار المصلّى إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « وكان إذا قام من اللّيل إلى المخرج اطّلع منها يعلم خبرهم‏,‏ وكان يأتي بابها كلّ صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول‏:‏ الصّلاة‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏}‏ »‏.‏

منبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم

9 - وردت عدّة روايات من طرقٍ متعدّدة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن يخطب وأطال القيام يسند ظهره إلى إحدى سواري مسجده - صلّى اللّه عليه وسلّم - الّتي كانت من جذوع النّخل‏,‏ وكان يشقّ عليه طول قيامه فأتي بجذع فحفر له فصار يخطب إلى جنبه وإذا طال قيامه - صلّى اللّه عليه وسلّم - استند فاتّكأ عليه‏,‏ ولمّا رأى الصّحابة أنّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - يشكو ضعفاً في رجليه ويشقّ عليه طول القيام عملوا له منبراً من خشب الطّرفاء وكان بمرقاتين - أي درجتين أو ثلاثٍ « فلمّا تحوّل صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المنبر يخطب عليه سمع لذلك الجذع حنين كصوت العشار فأتى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليه فاحتضنه وضمّه فسكن »‏.‏

موضع قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وصاحبيه

10 - قال ابن هشام‏:‏ لمّا فرغ من جهاز النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل ندفنه في مسجده‏,‏ وقال قائل بل ندفنه مع أصحابه‏,‏ فقال أبو بكر إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول‏:‏ « ما قبض نبي إلّا دفن حيث قبض »‏,‏ فرفع فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي توفّي عليه فحفر له تحته ثمّ دخل النّاس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلون عليه أرسالاً - جماعةً بعد جماعة -‏.‏

وقال ابن كثير‏:‏ قد علم بالتّواتر أنّه عليه الصّلاة والسّلام دفن في حجرة عائشة الّتي كانت تختص بها شرقيّ مسجده في الزّاوية الغربيّة القبليّة من الحجرة‏,‏ ثمّ دفن بعده فيها أبو بكر ثمّ عمر رضي اللّه عنهما‏.‏

مكان أهل الصُفَّة

11 - الصُفّةُ‏:‏ بضمّ الصّاد المشدّدة وتشديد الفاء - مكان مظلّل في مؤخّر المسجد النّبويّ وإليها ينسب أهل الصفّة‏,‏ وهم أناس من فقراء المسلمين‏,‏ وأكثرهم من المهاجرين ممّن لم يكن لهم منازل ولا مأوىً‏,‏ أنزلهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم المسجد وسمّاهم أهل الصفّة‏,‏ وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يجالسهم ويأنس بهم‏,‏ وكان إذا جاءته هديّة أصاب منها وبعث إليهم منها‏,‏ وإذا جاءته الصّدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها‏.‏

قال ابن النّجّار‏:‏ روى البخاري في الصّحيح أنّ أصحاب الصفّة كانوا فقراء‏,‏ وروي - أيضاً- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ « رأيت سبعين من أهل الصفّة ما منهم رجل عليه رداء‏,‏ إمّا إزار وإمّا كساء قد ربطوه في أعناقهم‏,‏ فمنها ما يبلغ نصف السّاقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهة أن ترى عورته »‏.‏

آداب دخول المسجد النّبويّ

12 - يستحب لمن دخل المسجد النّبويّ أن يقول الذّكر الوارد في ذلك عند دخول المساجد‏,‏ فيقدّم رجله اليمنى ويقول‏:‏ ‏"‏ بسم اللّه اللّهمّ صلّ على محمّد ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ‏"‏‏.‏

وعند الخروج يقدّم رجله اليسرى ويقول ذلك‏,‏ ولكن بلفظ‏:‏ ‏"‏ وافتح لي أبواب فضلك ‏"‏‏,‏ ويصلّي عند الدخول ركعتين تحيّة المسجد والمسجد النّبوي وغيره من المساجد في ذلك سواء إلّا المسجد الحرام فإنّ تحيّته الطّواف‏.‏

ثمّ يقصد الحجرة الشّريفة الّتي فيها قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيستقبل القبر ويستدبر القبلة‏,‏ ويدعو بالدعاء الوارد في ذلك‏.‏

ر‏:‏ مصطلح ‏(‏ زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ف / 7 ‏)‏‏.‏

الأحكام الخاصّة بمسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم

للمسجد النّبويّ ما للمساجد من أحكام‏,‏ ويختص بأحكام منها‏:‏

أ - شد الرّحال إليه‏:‏

13 - فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « لا تُشَدَّ الرّحالُ إلّا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام‏,‏ ومسجد الرّسول - صلّى اللّه عليه وسلّم - ومسجد الأقصى »‏.‏

وفي الحديث دليل على أنّ المسجد النّبويّ أحد المساجد الثّلاثة الّتي تختص بمزيّة جواز شدّ الرّحال إليها‏.‏

وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيّتها على غيرها لكونها مساجدَ الأنبياء‏,‏ ولأنّ الأوّل قبلة النّاس وإليه حجهم والثّاني كان قبلة الأمم السّالفة‏,‏ والثّالث أسّس على التّقوى‏.‏ واختلف في شدّ الرّحال إلى غيرها كالذّهاب إلى زيارة الصّالحين أحياءً وأمواتاً‏,‏ وإلى المواضع الفاضلة لقصد التّبرك بها والصّلاة فيها‏,‏ فقال أبو محمّد الجويني‏:‏ يحرم شد الرّحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث وبه قال عياض وطائفة‏.‏

والصّحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشّافعيّة أنّه لا يحرم‏.‏

ب - ثواب الصّلاة في المسجد النّبويّ فرضاً ونفلاً‏:‏

14 - عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام »‏.‏

ولا خلاف بين العلماء في حصول هذه الأفضليّة ومضاعفة الثّواب الواردة في الحديث لصلاة الفرض‏.‏

أمّا في صلاة النّفل فيرى الحنفيّة والمالكيّة - على الصّحيح - والحنابلة‏:‏ أنّ الأفضليّة ومضاعفة الثّواب الواردة في الحديث خاصّة بالفرائض دون النّوافل‏,‏ لأنّ صلاة النّافلة في البيت أفضل وأقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرّياء‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلّا المكتوبة »‏,‏ وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إذا قضى أحدكم الصّلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإنّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً »‏.‏

لكنّ المالكيّة فرّقوا بين من كان من أهل المدينة وبين من كان من الغرباء عنها‏,‏ فقالوا إنّ صلاة أهل المدينة النّفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعلها في المسجد بخلاف الرّواتب وما تسن له الجماعة فإنّ فعلها في المسجد أفضل‏.‏

أمّا الغرباء عن المدينة فإنّ صلاتهم النّافلة في مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم أفضل من صلاتهم لها في بيوتهم وسواء أكانت النّافلة من الرّواتب أم كانت نفلاً مطلقاً‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ المراد بالغريب عن المدينة وهو من لا يعرف فيها‏,‏ وإنّ المجاور بها حكمه حكم أهلها حيث كان يعرف‏.‏

ويرى الشّافعيّة - ومطرّف من المالكيّة - أنّ التّفضيل الوارد بالحديث يعم صلاة الفرض وصلاة النّفل‏.‏

قال النّووي‏:‏ واعلم أنّ مذهبنا أنّه لا يختص هذا التّفضيل بالصّلاة في هذين المسجدين - أي المسجد الحرام والمسجد النّبويّ - بالفريضة بل يعم الفرض والنّفل جميعاً‏,‏ وبه قال مطرّف من أصحاب مالكٍ‏,‏ وقال الزّركشي‏:‏ ذكر في شرح المهذّب أنّ التّحقيق‏:‏ أنّ صلاة النّفل في بيته أفضل من المسجد‏.‏

ج - حكم ما زيد في بناء المسجد النّبويّ‏:‏

15 - طرأت على بناء المسجد النّبويّ توسعة وزيادات في بنائه عمّا كان عليه في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ وقد بحث العلماء حكم هذه الزّيادة من جهة نيل الثّواب‏,‏ فمنهم من قال إنّ الفضل الثّابت لمسجده صلّى اللّه عليه وسلّم ثابت لما زيد فيه‏.‏

قال محب الدّين الطّبريّ‏:‏ عن ابن عمر قال زاد عمر بن الخطّاب في المسجد من شاميّه وقال‏:‏ ‏"‏ لو زدنا فيه حتّى تبلغ الجبّانة كان مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ‏"‏‏,‏ وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي »‏,‏ وكان أبو هريرة رضي اللّه عنه يقول‏:‏ ظهر المسجد كقعره‏.‏

وإلى هذا ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو اختيار ابن تيميّة‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ ‏"‏ ومعلوم أنّه قد زيد في المسجد النّبويّ‏,‏ فقد زاد فيه عمر ثمّ عثمان ثمّ الوليد ثمّ المهدي‏,‏ والإشارة بهذا إلى المسجد المضاف إليه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ ولا شكّ أنّ جميع المسجد الموجود الآن يسمّى مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ فقد اتّفقت الإشارة والتّسمية على شيء واحد فلم تلغ التّسمية فتحصل المضاعفة المذكورة في الحديث‏,‏ فيما زيد فيه ‏"‏‏.‏

ونقل الجراعي عن ابن رجب مثل ذلك‏,‏ وأنّه قد قيل إنّه لا يعلم عن السّلف في ذلك خلاف‏.‏ وروي عن الإمام أحمد التّوقّف‏.‏

ورجّح السّمهودي - من المالكيّة - أنّ ما زيد في المسجد النّبويّ داخل في الأفضليّة الواردة بالحديث‏,‏ ونقل عن الإمام مالكٍ أنّه سئل عن حدّ المسجد الّذي جاء فيه الخبر هل هو على ما كان في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو هو على ما عليه الآن‏؟‏ فقال بل هو على ما هو الآن‏,‏ وقال لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض فأري مشارق الأرض ومغاربها‏,‏ وتحدّث بما يكون بعده فحفظ ذلك من حفظه في ذلك الوقت ونسي ذلك من نسيه‏,‏ ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الرّاشدون المهديون أن يزيدوا فيه بحضرة الصّحابة ولم ينكر عليهم ذلك منكر‏.‏

لكن قال الأبي في شرح الحديث‏:‏ « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة‏.‏‏.‏‏.‏ » إنّ التّفضيل مختصٌّ بمسجده الّذي كان في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم دون ما زيد فيه بعد ذلك‏,‏ فلا يتناول التّفضيل ما زاد فيه عثمان لأنّه من اتّخاذه‏,‏ ويدل على أنّه من اتّخاذه احتجاجه حين أنكر عليه فيه الزّيادة بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من بنى مسجداً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة »‏,‏ فجعله من بنائه لنفسه‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ هذه الفضيلة مختصّة بنفس مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده‏.‏

وإلى هذا ذهب ابن عقيل وابن الجوزيّ وجمع من الحنابلة‏.‏

د - نذر المشي إلى المسجد النّبويّ‏:‏

16 - اختلف الفقهاء في حكم الوفاء على من نذر المشي إلى مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ فيرى الحنفيّة أنّه لا يلزمه الوفاء به‏,‏ لأنّ من شروط النّذر عندهم أن يكون قربةً مقصودةً وأن يكون من جنسه واجب أو فرض‏,‏ والذّهاب إلى المسجد النّبويّ غير واجب بخلاف ما لو نذر المشي إلى المسجد الحرام فإنّه يلزمه الوفاء به‏.‏

وإلى ذلك ذهب الشّافعيّة‏.‏

ويرى المالكيّة وجوب الوفاء بالنّذر إن نوى صلاةً أو صوماً أو اعتكافاً‏,‏ لكن لا يلزمه المشي وله أن يذهب راكباً‏.‏

ويرى الحنابلة لزوم الوفاء بالنّذر ماشياً‏,‏ واستدلوا بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام ومسجدي هذا‏,‏ والمسجد الأقصى »‏.‏ وقالوا إنّه يلزمه - حينئذ - أن يصلّي في المسجد ركعتين لأنّ القصد بالنّذر القربة والطّاعة‏,‏ وإنّما يكون تحصيل ذلك بالصّلاة فتضمّن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت اللّه الحرام أحد النسكين‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ نذر ‏)‏

هـ - زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم

17 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مستحبّة‏,‏ وقالت طائفة إنّها سنّة مؤكّدة تقرب من درجة الواجبات‏,‏ وهو المفتى به عند طائفة من الحنفيّة‏.‏ وذهب الفقيه المالكي أبو عمران موسى بن عيسى الفاسي إلى أنّها واجبة‏.‏

ومن أدلّة مشروعيّتها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ‏}‏‏,‏ وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي »‏.‏

وللتّفصيل‏:‏ ر‏:‏ مصطلح ‏(‏ زيارة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ف / 2 ‏)‏‏.‏

آداب وداع المسجد النّبويّ

18 - يستحب لمن عزم على الرجوع إلى بلده أن يودّع المسجد بصلاة ويدعو بعدها بما أحبّ وأن يأتي القبر الشّريف فيسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ويدعو اللّه بما أحبّ ويسأله سبحانه أن يوصله إلى أهله سالماً غانماً ويقول‏:‏ غير مودّع يا رسول اللّه‏,‏ ويسأل اللّه تعالى أن يردّه إلى حرمه وحرم نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم في عافية‏.‏

مَسْح

التّعريف

1 - للمسح في اللغة معان يقال مسح الشّيء المتلطّخ أو المبتلّ مسحاً‏:‏ أمرّ يده عليه لإذهاب ما عليه من أثر ماء ونحوه‏,‏ ومسح على الشّيء بالماء أو الدهن‏:‏ أمرّ يده عليه به‏,‏ ويقال‏:‏ مسح بالشّيء‏,‏ وفي التّنزيل العزيز‏:‏ ‏{‏ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ‏}‏‏,‏ ومسح اللّه العلّة عن العليل‏:‏ شفاه‏,‏ وغير ذلك‏.‏

والمسح في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الغسل‏:‏

2 - الغسل لغةً‏:‏ بفتح الغين‏,‏ مصدر غسل‏,‏ والاسم‏:‏ الغُسْل وهو تمام غسل الجسد كلّه‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ قال الشّربيني الخطيب‏:‏ هو سيلان الماء على جميع البدن بنيّة‏.‏

ب - التّيمم‏:‏

3 - التّيمم التّيمم لغةً‏:‏ القصد والتّوخّي والتّعمد‏,‏ يقال‏:‏ تيمّمه بالرمح‏,‏ تقصّده وتوخّاه وتعمّده دون من سواه‏,‏ ومثله تأمّمه‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ‏}‏‏.‏

وأمّا في الاصطلاح‏:‏ فهو مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجهٍ مخصوصٍ كما قال الحنابلة‏.‏

والمسح أعم من التّيمم‏.‏

أحكام المسح‏:‏

للمسح أحكام منها‏:‏

أوّلاً‏:‏ مسح الرّأس في الوضوء

الكلام على مسح الرّأس في مواضع كما يلي‏:‏

أ - مسح الرّأس في الوضوء

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مسح الرّأس مطلقاً من فرائض الوضوء‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ‏}‏‏.‏

ب - القدر المجزئ في مسح الرّأس‏:‏

5 - اختلف الفقهاء في مسح القدر المجزئ‏,‏ فذهب الحنفيّة في أشهر الرّوايات عندهم إلى أنّ القدر المجزئ هو مسح ربع الرّأس‏,‏ كما رواه الحسن عن أبي حنيفة‏,‏ وهو قول زفر أيضاً‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ إنّ المعتمد رواية الربع وعليه مشى المتأخّرون‏.‏

ووجه التّقدير بالربع أنّه قد ظهر اعتبار الربع في كثير من الأحكام كما في حلق ربع الرّأس أنّه يحل به المحرم‏,‏ ولا يحل بدونه‏.‏

والرّواية الثّانية‏:‏ مقدار النّاصية‏,‏ ذكرها الكرخي والطّحاوي وبه قال القاضي من الحنابلة‏,‏ واختاره القدوري‏,‏ وفي الهداية‏:‏ وهي الربع‏,‏ والتّحقيق أنّ النّاصية أقل من الربع‏.‏

ووجه التّقدير بالنّاصية‏,‏ أنّ مسح جميع الرّأس ليس بمراد من الآية بالإجماع‏,‏ فلا يمكن حمل الآية على جميع الرّأس‏,‏ ولا على بعض مطلقٍ‏,‏ فلا بدّ من الحمل على مقدار يسمّى المسح عليه مسحاً في المتعارف‏,‏ وذلك غير معلوم‏,‏ لكن بيّنه النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ بفعله وهو ما ورد عن المغيرة بن شعبة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « أنّه بال وتوضّأ ومسح على ناصيته »‏.‏ فصار فعله عليه الصّلاة والسّلام بياناً لمجمل الكتاب‏.‏

والرّواية الثّالثة‏:‏ مقدار ثلاثة أصابع‏,‏ رواها هشام‏,‏ وقيل هي ظاهر الرّواية‏,‏ وذكر في الظّهيريّة أنّ عليها الفتوى‏.‏

ووجه هذه الرّواية‏:‏ أنّ الأمر بالمسح يقتضي آلةً‏,‏ إذ المسح لا يكون إلّا بالآلة‏,‏ وآلة المسح هي أصابع اليد عادةً‏,‏ وثلاث أصابع اليد أكثرها‏,‏ وللأكثر حكم الكلّ‏,‏ فصار كأنّه نصّ على الثّلاث‏.‏

وذهب المالكيّة في المشهور والحنابلة في المذهب إلى أنّ الواجب مسح جميع الرّأس‏.‏ واستدلّ المالكيّة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ‏}‏‏.‏

والباء في الآية زائدة للتّأكيد‏,‏ والمعنى وامسحوا رءوسكم‏.‏

كما استدلّ الحنابلة بنفس الآية وقالوا‏:‏ إنّ الآية تفيد الاستيعاب‏,‏ وفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقع بياناً للآية‏,‏ والباء في الآية للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجزئ في فرض الوضوء مسمّى مسح لبعض بشرة رأسه أو بعض شعر ولو واحدةً أو بعضها في حدّ الرّأس بأن لا يخرج الشّعر بالمدّ عنه فلو خرج به عنه من جهة نزوله لم يكف‏,‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ‏}‏ وورد « أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسح بناصيته وعلى العمامة »‏,‏ واكتفى بمسح البعض لأنّه المفهوم من المسح عند إطلاقه‏.‏

وللفقهاء في كيفيّة مسح الرّأس وتكرار المسح وغسل الرّأس بدل المسح وغير ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏ وضوء ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ مسح الأذنين

6 - اختلف الفقهاء في مسح الأذنين هل هو سنّة أو فريضة‏,‏ وهل يجدّد لهما الماء على تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏ وضوء ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ مسح الرّقبة

7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة ما عدا الرّافعيّ إلى أنّه لا يندب مسح الرّقبة بل يكره‏,‏ لأنّه من الغلوّ في الدّين‏,‏ وقال النّووي‏:‏ إنّه بدعة‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّه يستحب مسح الرّقبة‏,‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ رقبة ف / 2 ‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ المسح على العمامة

8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز المسح على العمامة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ‏}‏‏,‏ ولأنّه لا تلحقه المشقّة في نزعها فلم يجز المسح عليها كالكمّين‏,‏ لأنّ المسح على الخفّين للحرج ولا حرج في نزع العمامة‏,‏ وقال محمّد في موطّئه‏:‏ بلغنا أنّ المسح على العمامة كان ثمّ ترك‏,‏ وبهذا قال عروة‏,‏ والنّخعيّ‏,‏ والشّعبي‏,‏ والقاسم‏.‏

وعند المالكيّة لا يجوز المسح على العمامة إلّا إذا خيف بنزعها ضرر ولم يقدر على مسح ما هي ملفوفة عليه كالقلنسوة‏,‏ ولو أمكنه مسح بعض الرّأس أتى به وكمّل على العمامة وجوباً على المعتمد‏.‏

وعند الشّافعيّة لا يجوز المسح على العمامة لأداء فرض مسح الرّأس في الوضوء بل لا بدّ من مسح شيء من شعر الرّأس والأفضل أن لا يقتصر على أقلّ من النّاصية‏,‏ ثمّ يجوز لأداء سنّة مسح كلّ الرّأس مسح ما ذكر والتّكميل على العمامة بشروط ذكرها الجمل هي‏:‏ أن لا يكون عليها نحو دم البراغيث‏,‏ وأن لا يمسح منه ما حاذى القدر المسموح من الرّأس وأن لا يكون عاصياً بلبس العمامة‏.‏

ويرى الحنابلة جواز المسح على العمامة‏,‏ قال ابن المنذر‏:‏ وممّن مسح على العمامة أبو بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه‏,‏ وبه قال عمر بن عبد العزيز‏,‏ والحسن وقتادة ومكحول‏,‏ والأوزاعي‏,‏ وأبو ثور‏,‏ واستدلوا بما ورد عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ « توضّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومسح على الخفّين والعمامة »‏,‏ ولأنّه حائل في محلّ ورود الشّرع بمسحه‏,‏ فجاز المسح عليه كالخفّين‏,‏ ولأنّ الرّأس عضوٌ يسقط فرضه في التّيمم‏,‏ فجاز المسح على حائله كالقدمين‏,‏ والمذهب أنّه يجزئ مسح أكثر العمامة لأنّها أحد الممسوحين على وجه البدل‏.‏

شروط المسح على العمامة

9 - ويشترط لجواز المسح على العمامة عند من يقول به ما يلي‏:‏

أ - أن تكون ساترةً لجميع الرّأس إلّا ما جرت العادة بكشفه كمقدّم الرّأس والأذنين‏,‏ لأنّ هذا الكشف جرت العادة به لمشقّة التّحرز عنه‏,‏ وإذا كان بعض الرّأس مكشوفاً ممّا جرت العادة بكشفه أستحبّ أن يمسح عليه مع العمامة‏,‏ نصّ عليه أحمد لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مسح على عمامته وناصيته في حديث المغيرة بن شعبة رضي اللّه عنه‏.‏

وهل الجمع بينهما واجب‏؟‏ توقّف أحمد عنه‏,‏ فيخرّج في المسألة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وجوبه للخبر‏,‏ ولأنّ العمامة نابت عمّا استتر‏,‏ فبقي الباقي على مقتضى الأصل كالجبيرة‏,‏ والثّاني‏:‏ لا يجب‏:‏ لأنّ العمامة نابت عن الرّأس‏,‏ فتعلّق الحكم بها‏,‏ وانتقل الفرض إليها‏,‏ فلم يبق لما ظهر حكم‏,‏ ولأنّ وجوبهما معاً يفضي إلى الجمع بين بدل ومبدل في عضوٍ واحد‏,‏ فلم يجز من غير ضرورة كالخفّ‏.‏

فإن كان تحت العمامة قلنسوة يظهر بعضها‏,‏ فالظّاهر جواز المسح عليهما لأنّهما صارا كالعمامة الواحدة‏.‏

ب - أن تكون على صفة عمائم المسلمين‏,‏ بأن تكون تحت الحنك منها شيء‏,‏ لأنّ هذه عمائم العرب‏,‏ وهي أكثر ستراً من غيرها ويشقّ نزعها‏,‏ فيجوز المسح عليها‏,‏ سواء كانت لها ذؤابة‏,‏ أو لم يكن تحت الحنك منها شيء‏.‏

ج - أن لا تكون العمامة محرّمةً كعمامة الحرير والمغصوبة‏.‏

د - أن يكون لابس العمامة رجلاً‏,‏ فلا يجوز للمرأة المسح على العمامة لأنّها منهيّة عن التّشبه بالرّجال‏,‏ فكانت محرّمةً في حقّها‏,‏ وإن كان لها عذر فهذا يندر‏,‏ ولا يرتبط الحكم بالنّادر‏.‏

التّوقيت في مسح العمامة

10 - التّوقيت في مسح العمامة كالتّوقيت في مسح الخفّ‏,‏ لما روى أبو أمامة‏:‏ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « يمسح على الخفّين والعمامة ثلاثاً في السّفر ويوماً وليلةً للمقيم »‏,‏ ولأنّه ممسوح على وجه الرخصة فتوقّت بذلك كالخفّ‏.‏

نزع العمامة بعد المسح

11 - نصّ الحنابلة على أنّه إن نزع العمامة بعد المسح عليها بطلت طهارته‏,‏ وكذلك إن انكشف رأسه‏,‏ إلّا أن يكون يسيراً‏,‏ وكذلك إن انتقضت بعد مسحها‏,‏لأنّ ذلك بمنزلة نزعها‏.‏ وإن انتقض بعضها ففيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ لا تبطل طهارته‏,‏ لأنّه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستوراً‏,‏ فلم تبطل الطّهارة ككشط الخفّ مع بقاء البطانة‏.‏

والأخرى تبطل طهارته‏,‏ قال القاضي‏:‏ ولو انتقض منها كور واحد بطل المسح‏,‏ لأنّه زال الممسوح عليه‏,‏ فأشبه نزع الخفّ‏.‏

خامساً‏:‏ المسح على القلنسوة في الوضوء

12 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز المسح في الوضوء على القلنسوة بدلاً من الرّأس لعدم الحرج في نزعها‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز المسح على القلنسوة إن خيف من نزعها ضرر‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن عسر رفع قلنسوة أو لم يرد ذلك كمّل بالمسح عليها وحصل له سنّة مسح جميع الرّأس وإن لبسها على حدثٍ‏.‏

سادساً‏:‏ المسح على القفّازين

13 - نصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز المسح على القفّازين لأنّ المسح شرع دفعاً للحرج لتعذر النّزع‏,‏ ولا حرج في نزع القفّازين‏.‏

سابعاً‏:‏ مسح المرأة على الخمار

14 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في رواية إلى أنّه لا يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها‏,‏ لما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها « أنّها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم »‏,‏ وبه قال نافع والنّخعيّ وحمّاد بن أبي سليمان‏,‏ والأوزاعي‏,‏ وسعيد بن عبد العزيز‏,‏ لأنّه ملبوس لرأس المرأة‏,‏ فلم يجز المسح عليه كالوقاية والوقاية لا يجزئ المسح عليها بلا خلاف كالطّاقيّة للرّجل‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم فيه خلافاً لأنّ الوقاية لا يشقّ نزعها‏,‏ إلّا إذا كان الخمار رقيقاً ينفذ الماء إلى شعرها‏,‏ فيجوز عند الحنفيّة لوجود الإصابة‏.‏

وعند الحنابلة يصح المسح على خمر النّساء المدارة تحت حلوقهنّ « لأنّ أمّ سلمة كانت تمسح على خمارها »‏,‏ وعن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « أنّه أمر بالمسح على الخفّين والخمار »‏,‏ ولأنّه ملبوس للرّأس معتاد يشقّ نزعه فأشبه العمامة‏.‏

ثامناً‏:‏ المسح على الجبيرة

15 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة المسح على الجبائر في حالة العذر نيابةً عن الغسل أو المسح الأصليّ في الوضوء أو الغسل أو التّيمم‏.‏

والأصل في ذلك ما روي عن عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه أنّه قال‏:‏ « كسر زندي يوم أحد فسقط اللّواء من يدي فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم اجعلوها في يساره فإنّه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة فقلت يا رسول اللّه ما أصنع بالجبائر فقال امسح عليها »‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏ جبيرة ف / 4 وما بعدها ‏)‏‏.‏

كيفيّة المسح في التّيمم

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ مسح الوجه واليدين من أركان التّيمم‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ‏}‏‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ تيمم فقرة / 11 ‏)‏‏.‏

ما يطهر بالمسح

أ - الجسم الصّقيل‏:‏

17 - في طهارة الجسم الصّقيل بالمسح إذا أصابه نجاسة خلاف وتفصيل على النّحو التّالي‏:‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة في قول نقله الباجي عن مالكٍ إلى أنّه يطهر بالمسح كل صقيل لا مسامّ له كمرآة‏,‏ وظفر‏,‏ وعظم‏,‏ وزجاج‏,‏ وآنية مدهونة‏,‏ سواء أصابه نجس له جرم أو لا‏,‏ رطباً كان أو يابساً‏,‏ لأنّه لصلابتها لا يتداخلها شيء من النّجاسة‏,‏ فيزول بالمسح‏,‏ ولأنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يقتلون الكفّار بسيوفهم‏,‏ ثمّ يمسحونها‏,‏ ويصلون معها‏,‏ ولأنّه لا تتداخلها النّجاسة‏,‏ وما على ظاهره يزول بالمسح‏.‏ وأمّا الحديد إذا كان عليه صدأ أو كان منقوشاً فلا يطهر بالمسح لأنّه غير صقيل‏,‏ وكذلك الثّوب الصّقيل لا يطهر بالمسح لأنّ له مساماً‏.‏

والمعتمد عند المالكيّة أنّه يعفى ما أصاب كلّ صقيل لا مسامّ له كسيف‏,‏ ومرآة وجوهر سواء مسحه من الدّم أم لا‏,‏ وعلّلوا الحكم بفساد هذه الأشياء بالغسل‏,‏ وبكون الدّم مباحاً كدم جهاد وقصاصٍ وذبح وعقر صيد فإذا كان دم عدوان يجب الغسل‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أصابت النّجاسة شيئاً صقيلاً كسيف وسكّين ومرآة لم يطهر بالمسح بل لا بدّ من غسله‏.‏

ب - موضع الحجامة‏:‏

18 - صرّح الحنفيّة بأنّه يطهر بالمسح موضع الحجامة إذا مسحها بثلاث خرقٍ رطبات نظاف‏,‏ وقاس صاحب الفتح عليه ما حول محلّ الفصد إذا تلطّخ‏,‏ ويخاف من الإسالة السّريان إلى الثقب‏.‏

ويقرب من هذا ما صرّح به المالكيّة في موضع الحجامة بقولهم‏:‏ يعفى عن أثر دم موضع الحجامة أو الفصادة إذا كان ذلك الموضع مسح عنه الدّم‏,‏ لتضرر المحتجم من وصول الماء لذلك المحلّ‏,‏ ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع‏,‏ فإذا برئ غسل الموضع‏,‏ ثمّ إنّ محلّ العفو إذا كان أثر الدّم الخارج أكثر من درهم‏,‏ وإلّا فلا يعتبر في العفو مسح‏.‏‏؟‏

ج - الخف والنّعل‏:‏

19 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن أصاب الخفّ والنّعل نجاسة‏:‏ فإن كانت رطبةً لا تزول إلّا بالغسل كيفما كانت‏,‏ وروي عن أبي يوسف أنّه يطهر بالمسح على التراب كيفما كانت‏:‏ متجسّدةً أو مائعةً‏,‏ وإن كانت يابسةً‏:‏ فإن لم يكن لها جرم كالبول‏,‏ والخمر‏,‏ والماء النّجس‏,‏ لا يطهر إلّا بالغسل‏,‏ وإن كان لها جرم كثيف‏:‏ فإن كان منياً فإنّه يطهر بالحتّ بالإجماع‏,‏ وإن كان غيره كالعذرة والدّم الغليظ‏,‏ والرّوث يطهر بالمسح عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمّد لا يطهر إلّا بالغسل‏.‏

وللفقهاء في المسألة تفصيل وخلاف ينظر في‏:‏ ‏(‏ طهارة ف / 24 ‏)‏‏.‏

مَسْح على الخُفّين

التّعريف

1 - المسح لغةً مصدر مسح‏,‏ ومعناه‏:‏ إمرار اليد على الشّيء بسطاً‏.‏

والمسح على الخفّين‏:‏ إصابة البلّة لخفّ مخصوصٍ في محل مخصوصٍ وزمن مخصوصٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الغسل‏:‏

2 - الغسل لغةً بفتح الغين مصدر غسل‏,‏ وهو سيلان الماء على الشّيء مطلقاً‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ إفاضة الماء الطّهور على الشّيء على وجهٍ مخصوصٍ‏.‏

والصّلة أنّ كلاً من المسح على الخفّين والغسل يكون سبباً لإزالة الحدث‏.‏

مشروعيّة المسح على الخفّين

2 - ثبتت مشروعيّة المسح على الخفّين بالسنّة النّبويّة المطهّرة‏,‏ ومنها‏:‏ ما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه‏,‏ « وقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمسح على ظاهر خفّيه »‏.‏

وما رواه جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه تعالى عنه « أنّه بال ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه فقيل له أتفعل هذا فقال نعم رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بال ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه »‏,‏ وإسلام جرير كان بعد نزول المائدة الّتي فيها قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ‏}‏‏,‏ والّتي قيل إنّها ناسخة للمسح‏.‏

وقد روى مشروعيّة المسح على الخفّين أكثر من ثمانين من الصّحابة رضوان اللّه عليهم منهم العشرة‏.‏

الحكم التّكليفي للمسح على الخفّين

4 - الأصل في المسح على الخفّين الجواز‏,‏ والغسل أفضل عند جمهور الفقهاء‏,‏ وهو رخصة من الشّارع‏,‏ واللّه سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب نواهيه‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ الأفضل المسح على الخفّين أخذاً بالرخصة ولأنّ كلاً من الغسل والمسح أمر مشروع‏.‏

وقد يجب المسح على الخفّين كأن خاف فوت عرفة أو إنقاذ أسير أو انصبّ ماؤُه عند غسل رجليه ووجد برداً لا يذوب يمسح به‏,‏ أو ضاق الوقت ولو اشتغل بالغسل لخرج الوقت‏,‏ أو خشي أن يرفع الإمام رأسه من الركوع الثّاني في الجمعة‏,‏ أو تعيّن عليه الصّلاة على ميّت وخيف انفجاره لو غسل أو كان لابس الخفّ بشرطه محدثاً ودخل الوقت وعنده ما يكفي المسح فقط‏.‏

حكمة المسح على الخفّين

5 - الحكمة من المسح على الخفّين التّيسير والتّخفيف عن المكلّفين الّذين يشقّ عليهم نزع الخفّ وغسل الرّجلين خاصّةً في أوقات الشّتاء والبرد الشّديد‏,‏ وفي السّفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السّفر‏.‏

مدّة المسح على الخفّين في الحضر والسّفر

6 - اختلف الفقهاء في توقيت مدّة المسح على رأيين‏:‏

الأوّل‏:‏ يرى جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة توقيت مدّة المسح على الخفّين بيوم وليلة في الحضر‏,‏ وثلاثة أيّام ولياليها للمسافر‏,‏ واستدلوا بما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال‏:‏ « جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » وسواء كان سفر طاعة أو سفر معصية عند الحنفيّة أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أنّ المسافر سفر معصية يمسح يوماً وليلةً فقط كالمقيم‏,‏ لأنّ ما زاد يستفيده بالسّفر وهو معصية فلا يجوز أن يستفاد بها رخصة‏.‏

الثّاني‏:‏ يرى المالكيّة أنّه يجوز المسح على الخفّين في الحضر والسّفر ولو لمعصية على المعتمد من غير توقيت بزمان‏,‏ فلا ينزعهما إلّا لموجب الغسل‏,‏ ويندب للمكلّف نزعهما في كلّ أسبوع مرّةً يوم الجمعة ولو لم يرد الغسل لها‏,‏ ونزعهما مرّةً في كلّ أسبوع في مثل اليوم الّذي لبسهما فيه‏,‏ فإذا نزعهما لسبب أو لغيره وجب غسل الرّجلين‏.‏

واستدلوا بما رواه أبي بن عمارة قال‏:‏ « قلت يا رسول اللّه أمسح على الخفّين قال نعم قلت يوماً قال يوماً قلت يومين قال يومين قلت وثلاثةً‏:‏ قال وما شئت »‏.‏

ولأنّه مسح في طهارة فلم يتوقّت بوقت كمسح الرّأس في الوضوء والمسح على الجبائر‏,‏ ولأنّ التّوقيت لا يؤثّر في نقض الطّهارة‏,‏ إنّما النّاقض للطّهارة الحدث من البول والغائط والجنابة‏.‏

شروط المسح على الخفّين

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز المسح على الخفّين لمن وجب عليه الغسل‏,‏ بل يجب عليه نزع الخفّ والاغتسال‏,‏ كما ذهبوا إلى جواز المسح على الخفّين من الحدث الأصغر بشروط معيّنة‏,‏ وهذه الشروط تنقسم إلى قسمين‏,‏ شروط متّفق عليها‏,‏ وشروط مختلف فيها‏,‏ اشترطها البعض‏,‏ ولم يشترطها البعض الآخر‏.‏

الشروط المتّفق عليها

8 - أ - أن يلبس الخفّين على طهارة كاملة‏,‏ لحديث المغيرة بن شعبة قال‏:‏ « كنت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر فأهويت لأنزع خفّيه فقال دعهما فإنّي أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما »‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في بعض جزئيّات هذا الشّرط‏,‏ فالجمهور غير الشّافعيّة يشترطون أن تكون الطّهارة بالماء من وضوء أو غسل‏,‏ أما الشّافعيّة فيجوّزون أن تكون الطّهارة بالماء أو بالتّيمم‏,‏ ولكن ليس لفقد الماء مثلاً‏,‏ بل لعدم القدرة على استعماله‏.‏

ويرى الجمهور غير الحنفيّة أن تكون الطّهارة كاملةً بأن يلبسهما بعد تمام الطّهارة بالوضوء أو بالغسل‏,‏ بينما يرى الحنفيّة أن تكون الطّهارة كاملةً ولو لم يراع فيها التّرتيب وقت الحدث بعد اللبس‏,‏ إذ أنّ التّرتيب في الوضوء ليس شرطاً عندهم‏,‏ وهو شرط عند الجمهور‏,‏ فلو غسل رجليه أوّلاً ثمّ مسح رأسه‏,‏ وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثمّ لبس الخفّ فيجوز له المسح عند انتقاض وضوئه عند الحنفيّة دون الجمهور‏.‏

ب - أن يكون الخف طاهراً‏,‏ فلا يجوز المسح على خف نجس كجلد الميتة قبل الدّبغ عند الحنفيّة والشّافعيّة‏,‏ ولا بعد الدّبغ عند المالكيّة والحنابلة‏,‏ لأنّ الدّباغ مطهّر عند الأوّلين غير مطهّر عند الآخرين‏,‏ والنّجس منهي عنه‏.‏

ج - أن يكون الخف ساتراً للمحلّ المفروض غسله في الوضوء فلا يجوز المسح على خف غير ساتر للكعبين مع القدم‏.‏

د - إمكانيّة متابعة المشي فيهما‏,‏ وتفصيل هذا الشّرط على النّحو التّالي‏:‏

يرى الحنفيّة إمكانيّة متابعة المشي المعتاد فيهما فرسخاً فأكثر‏,‏ وفي قول‏:‏ مدّة السّفر الشّرعيّ للمسافر‏,‏ فلا يجوز المسح على الخفّ الرّقيق الّذي يتخرّق من متابعة المشي في هذه المسافة‏,‏ كما لا يجوز اتّخاذ الخفّ من الخشب أو الزجاج أو الحديد‏,‏ كما لا يجوز المسح على الخفّ الّذي لا يستمسك على الرّجل من غير شد‏.‏

ويرى المالكيّة لجواز المسح على الخفّين إمكانيّة متابعة المشي فيه عادةً فلا يجوز المسح على خف واسع لا يستمسك على القدم‏.‏

ويرى الشّافعيّة لجواز المسح على الخفّين إمكانيّة التّردد فيهما لقضاء الحاجات مدّة المسح المقرّرة في الحضر والسّفر سواء في ذلك المتّخذ من جلد أو غيره كلبد وزجاج ونحوهما‏.‏ ويرى الحنابلة أن يكون الخفّان من جلد أو خشب أو نحوه‏,‏ بشرط إمكانيّة متابعة المشي فيهما عرفاً‏,‏ بشرط أن يستمسك على القدم‏.‏

الشروط المختلف فيها

9 - أ - أن يكون الخف سليماً من الخروق‏,‏ وقد اختلفوا بعد ذلك في مقدار الخرق الّذي منع من المسح على النّحو التّالي‏:‏

يرى الحنفيّة والمالكيّة جواز المسح على الخفّ الّذي به خرق يسير دفعاً للحرج عن المكلّفين‏,‏ إذ أنّ الخفاف لا تخلو عن خرقٍ في العادة‏,‏ ومقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم أو قدر ثلث القدم مقدار معفوٌّ عنه عندهما على التّوالي‏:‏

ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يجوز المسح على خف به خرق مهما كان صغيراً لأنّه عندئذ لا يكون ساتراً لجميع القدم‏,‏ وما انكشف من القدم حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح‏,‏ ولا يجوز الجمع بين الغسل والمسح في آن واحد‏.‏

ب - أن يكون الخف من الجلد‏,‏ وهذا الشّرط عند المالكيّة فقد تمسّكوا بهذا الشّرط فلا يجوز عندهم المسح على الخفّ المتّخذ من القماش كما لا يصح المسح على الجوارب المصنوعة من الصوف أو القطن أو نحو ذلك إلّا إذا كسيت بالجلد‏,‏ كما اشترطوا أن يكون الجلد مخروزاً أو مخيطاً‏,‏ فلا يجوز المسح على الّذي يتماسك باللّزق‏.‏

ويرى الجمهور غير المالكيّة جواز المسح على الخفّ المصنوع من الجلد أو من غيره‏,‏ بشرط أن يكون الخف مانعاً من وصول الماء إلى القدم مع بقيّة الشروط الأخرى‏,‏ لأنّ الغالب في الخفّ كونه كذلك‏,‏ سواء كان يستمسك على القدم بنفسه أو بالشّدّ بواسطة العرى والسيور والرّباط‏.‏

ج - أن يكون الخف مفرداً‏,‏ بأن يلبسه وحده‏,‏ فلو لبس فوقه غيره كما هو الحال بالنّسبة للجرموق - وهو الشّيء الّذي يلبس فوق الخفّ - ففي ذلك تفصيل عند الفقهاء‏.‏

يرى الحنفيّة وهو الرّاجح عند المالكيّة جواز المسح على الجرموق لحديث رؤية بلال بن رباح رضي اللّه عنه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يمسح على موقيه وهو الجرموق عندهم‏.‏ ويشترط الحنفيّة ثلاثة شروطٍ لصحّة المسح على الجرموق‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يكون الأعلى من الجلد‏,‏ فإن كان غير جلد صحّ المسح عليه إن وصل الماء إلى الأسفل‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يكون الأعلى صالحاً للمشي فيه وحده‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يلبسا على طهارة‏,‏ فكما لبس الأسفل على طهارة يجب أن يلبس الأعلى على طهارة كذلك‏.‏

وعند الشّافعيّة قال النّووي‏:‏ الجرموق‏:‏ هو الّذي يلبس فوق الخفّ لشدّة البرد غالباً - فإذا لبس خفاً فوق خف‏,‏ فله أربعة أحوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون الأعلى صالحاً للمسح عليه دون الأسفل‏,‏ لضعفه أو لخرقه‏,‏ فالمسح على الأعلى خاصّةً‏.‏

الثّاني‏:‏ عكسه‏,‏ فالمسح على الأسفل خاصّةً‏,‏ فلو مسح الأعلى فوصل البلل إلى الأسفل‏,‏ فإن قصد مسح الأسفل أجزأه‏,‏ وكذا إن قصدهما على الصّحيح‏,‏ وإن قصد الأعلى لم يجز‏.‏ وإن لم يقصد واحداً‏,‏ بل قصد المسح في الجملة‏,‏ أجزأه على الأصحّ‏,‏ لقصده إسقاط فرض الرّجل بالمسح‏.‏

الثّالث‏:‏ أن لا يصلح واحد منهما فيتعذّر المسح‏.‏

الرّابع‏:‏ أن يصلحا كلاهما‏,‏ ففي المسح على الأعلى وحده قولان‏:‏ القديم جوازه‏,‏ والجديد منعه‏.‏

قلت‏:‏ الأظهر عند الجمهور الجديد‏,‏ وصحّح القاضي أبو الطّيّب في شرح ‏"‏ الفروع ‏"‏ القديم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وإن لبس خفاً فلم يحدث حتّى لبس عليه آخر وكان الخفّان صحيحين مسح أيّهما شاء‏,‏ إن شاء مسح الفوقانيّ لأنّه خف ساتر ثبت بنفسه‏,‏ أشبه المنفرد‏,‏ وإن شاء مسح التّحتانيّ‏,‏ بأن يدخل يده من تحت الفوقانيّ فيمسح عليه لأنّ كلّ واحد منهما محل للمسح فجاز المسح عليه‏,‏ ولو لبس أحد الجرموقين في أحد الرّجلين فوق خفّها دون الرّجل الأخرى فلم يلبس فيها جورباً بل الخفّ فقط جاز المسح على الجورب الّذي لبسه فوق الخفّ وعلى الخفّ الّذي في الرّجل الأخرى لأنّ الحكم تعلّق به وبالخفّ الّذي في الرّجل الأخرى‏,‏ فهو كما لو لم يكن تحته شيء‏,‏ فإن كان أحد الخفّين صحيحاً والآخر مفتّقاً جاز المسح على الفوقانيّ لأنّهما كخفّ واحد‏,‏ وكذا إن لبس على صحيح مخرّقاً نصّ عليه‏,‏ ولا يجوز المسح على الخفّ التّحتانيّ إذا كان أحد الخفّين صحيحاً والآخر مفتّقاً إلّا أن يكون التّحتاني هو الصّحيح فيصح المسح عليه‏,‏ لأنّه ساتر بنفسه أشبه ما لو انفرد‏,‏ بخلاف ما إذا كان الفوقاني هو الصّحيح فلا يصح المسح على التّحتانيّ‏,‏ لأنّه غير ساتر بنفسه‏,‏ قال في الإنصاف‏:‏ وكل من الخفّ الفوقانيّ والتّحتانيّ بدل مستقل من الغسل على الصّحيح‏,‏ وإن كان الخفّان مخرّقين وليس أحدهما فوق الآخر وسترا محلّ الفرض لم يجز المسح عليهما ولا على أحدهما‏,‏ لأنّ كلّ واحد منهما غير صالح للمسح على انفراده‏,‏ كما لو لبس مخرّقاً فوق لفافة وإن نزع الفوقانيّ قبل مسحه لم يؤثّر كما لو انفرد‏,‏ وإن توضّأ ولبس خفاً ثمّ أحدث ثمّ لبس الخفّ الآخر لم يجز المسح عليه‏,‏ لأنّه لبسه على غير طهارة‏,‏ بل يمسح على الأسفل أو مسح الخفّ الأوّل بعد حدثه ثمّ لبس الخفّ الثّاني ولو على طهارة لم يجز المسح على الثّاني‏,‏ لأنّ الخفّ الممسوح بدل عن غسل ما تحته‏,‏ والبدل لا يجوز له بدل آخر‏,‏ بل يمسح على الأسفل لأنّ الرخصة تعلّقت به‏,‏ وإن لبس خفاً على آخر قبل الحدث ومسح الأعلى‏,‏ ثمّ نزع الممسوح الأعلى لزمه نزع التّحتانيّ وإعادة الوضوء‏,‏ لأنّه محل المسح‏,‏ ونزعه كنزعهما‏,‏ والرخصة تعلّقت بهما‏,‏ فصار كانكشاف القدم‏.‏

د - أن يكون لبس الخفّ مباحاً‏:‏ وهذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏,‏ فهم لا يجوّزون المسح على الخفّ المغصوب أو المسروق أو المتّخذ من جلد الخنزير أو الحرير‏,‏ ولو كان لبس المحرّم لضرورة البرد والثّلج كما يرى ذلك الحنابلة‏,‏ وعند الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ يجوز المسح على الخفّ ولو لم يكن مباحاً‏,‏ ولا يجوز عند الحنابلة المسح للمحرم بحجّ أو عمرة لأنّه منهي عن لبس المخيط‏.‏

هـ - أن لا يكون شفّافاً تظهر القدم من خلاله على تفصيل بين الفقهاء في ذلك على النّحو التّالي‏.‏

يشترط الحنفيّة في الخفّ أن يكون مانعاً من وصول الماء إلى القدم سواء أكان رقيقاً أم سميكاً‏,‏ لأنّ الأصل عدم وصول الماء‏.‏

ويرى المالكيّة أنّه لا بدّ أن يكون الخف من جلد كما سبق‏.‏

ويرى الحنابلة أنّه يشترط في الخفّ أن لا يصف البشرة لصفائه أو خفّته‏.‏

و - أن يبقى من محلّ الغسل في الوضوء من القدم شيء‏.‏

قال الحنابلة‏:‏ من له رجل واحدة لم يبق من فرض الرّجل الأخرى شيء فلبس ما يصح المسح عليه في الباقية جاز له المسح عليه لأنّه ساتر لفرضه‏.‏

قال البهوتي‏:‏ وعلم منه أنّه لو لبس خفاً في إحدى رجليه مع بقاء الأخرى أو بعضها وأراد المسح عليه وغسل الأخرى أو ما بقي منها لم يجز له ذلك‏,‏ بل يجب غسل ما في الخفّ تبعاً للّتي غسلها ‏;‏ لئلّا يجمع بين البدل والمبدل في محل واحد‏.‏

كيفيّة المسح على الخفّين ومقداره

10 - يرى الحنفيّة أنّ الواجب المسح بقدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر الخفّ فقط مرّةً واحدةً‏.‏

وكيفيّته أن يبدأ بالمسح على الخفّين من أصابع القدم خطوطاً إلى جهة السّاق‏,‏ فيضع أصابع يده اليمنى على مقدّم خفّ رجله اليمنى‏,‏ ويضع أصابع يده اليسرى على مقدّم خفّ رجله اليسرى‏,‏ ويفرّج بين أصابع يده قليلاً‏,‏ بحيث يعم المسح أكبر قدر ممكن من الخفّ‏,‏ ولذلك لا يصح المسح على باطن القدم ولا على جوانبه ولا على عقبه ولا ساقه‏,‏ كما لا يسن تكرار المسح‏.‏

ويرى المالكيّة وجوب مسح جميع ظاهر الخفّ‏,‏ كما يستحب مسح أسفله أيضاً‏,‏ فيضع أصابع يده اليمنى فوق أطراف أصابع رجله اليمنى ويضع أصابع يده اليسرى تحت أصابع رجله اليمنى‏,‏ ويمر بكلتا يديه على خفّ رجله اليمنى باتّجاه الكعبين‏,‏ ويضع أصابع يده اليسرى فوق أطراف رجله اليسرى ويده اليمنى تحت أصابعها‏,‏ ويمر بكلتا يديه على خفّ رجله اليسرى باتّجاه الكعبين كذلك‏,‏ فيكون قد مسح جميع الخفّ ظاهره وباطنه‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّ المسح الواجب هو ما يصدق عليه مسمّى مسح في محلّ الفرض‏,‏ وهو مسح ظاهر الخفّ‏,‏ فلا يمسح أسفله ولا عقبه ولا جوانبه‏,‏ لإطلاق المسح بدون تقدير‏,‏ فيكتفى بما يطلق عليه اسم المسح‏,‏ إلّا أنّ السنّة أن يعمّم المسح على ظاهر وباطن الخفّ خطوطاً‏,‏ كالمالكيّة‏.‏

ويرى الحنابلة أنّ الواجب في مسح الخفّ هو مسح أكثر مقدّم ظاهر الخفّ خطوطاً بالأصابع‏,‏ ولا يسن مسح أكثر من ذلك من باطن الخفّ أو جوانبه أو عقبه أو ساقه‏,‏ لأنّ لفظ المسح ورد مطلقاً في الأحاديث وفسّره النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بفعله في حديث المغيرة بن شعبة رضي اللّه عنه قال‏:‏ « توضّأ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومسح على الخفّين فوضع يده اليمنى على خفّه الأيمن ووضع يده اليسرى على خفّه الأيسر ثمّ مسح أعلاهما مسحةً واحدةً حتّى كأنّي انظر إلى أثر أصابعه على الخفّين »‏.‏

نواقض المسح على الخفّين

11 - ينتقض المسح على الخفّين في الحالات التّالية‏:‏

أ - نواقض الوضوء‏,‏ فكل ما ينقض الوضوء ينقض المسح على الخفّين‏,‏ لأنّ المسح بدل عن بعض الوضوء‏,‏ والبدل ينقضه ناقض الأصل‏,‏ فإذا انتقض وضوء من مسح على الخفّين توضّأ من جديد ومسح على خفّيه إن كانت مدّة المسح باقيةً‏,‏ وإلّا خلع خفّيه وغسل رجليه‏.‏

ب - وجود موجب للغسل كالجنابة والحيض والنّفاس‏,‏ فإذا وجد أحد هذه الموجبات انتقض المسح على الخفّين ووجب نزعهما وغسل جميع البدن‏,‏ ويجدّد المسح على خفّيه بعد لبسهما بعد تمام الطّهارة إن أراد ذلك‏.‏

ج - نزع الخفّين أو أحدهما‏,‏ فإذا خرجت رجلاه أو إحداهما بنزع الخفّ أو بخروج قدميه أو إحداهما أو خروج أكثر القدم خارج الخفّ انتقض المسح‏,‏ وذلك لمفارقة محلّ المسح - القدمين - مكانه‏,‏ والأكثر له حكم الكلّ من باب التّغليب‏,‏ وفي هذه الحالة يجب غسل قدميه جميعاً عند الجمهور غير الحنابلة لبطلان طهرهما بزوال البدل وهو المسح‏,‏ وبزوال البدل نرجع إلى الأصل وهو الغسل‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إذا نزع خفّيه أو أحدهما أو خرجت قدماه أو إحداهما أو أكثرها من الخفّ وجب إعادة الوضوء كلّه‏,‏ لأنّ المسح أقيم مقام الغسل فإذا أزال الممسوح بطلت الطّهارة في القدمين فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعّض‏.‏

د - مضي المدّة‏:‏ فإذا مضت مدّة المسح وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيّام بلياليها للمسافر‏,‏ انتقض المسح على الخفّين‏,‏ ووجب نزعهما وغسل الرّجلين فقط عند الحنفيّة والشّافعيّة إذا ظلّ متوضّئاً ومسح على الخفّين‏,‏ لأنّ الحدث اقتصر على موضع الخفّ وهو القدمان فقط‏.‏

وعند الحنابلة يجب إعادة الوضوء كلّه إذا انقضت مدّة المسح الّتي ينتقض معها الوضوء لانتقاضه في القدمين‏,‏ لأنّ الحدث كل لا يتبعّض‏,‏ وهو أحد القولين عند الشّافعيّة‏.‏

هـ - ظهور الرّجلين أو بعضهما بتخرق الخفّين أو بسقوطهما عن موضوع المسح‏,‏ وينتقض كذلك بظهور قدر ثلاث أصابع من أصابع أحد الرّجلين كما يرى ذلك الحنفيّة‏,‏ أو بظهور قدر ثلث القدم كما يرى ذلك المالكيّة‏,‏ وفي هذه الحالة يجب غسل الرّجلين عند الجمهور غير الحنابلة لاقتصار النّقض على محلّه وهو الرّجلين‏.‏

وعند الحنابلة يجب إعادة الوضوء كلّه لأنّه كل لا يتبعّض‏.‏

و - إصابة الماء للرّجلين معاً أو لأكثر إحداهما في الخفّ‏,‏ فيعتبر ذلك ناقضاً للمسح على الخفّين عند الحنفيّة‏,‏ ويجب نزعهما وغسل الرّجلين إذا ظلّ متوضّئاً‏,‏ للاقتصار على محلّ الحدث‏.‏

وعند المالكيّة والشّافعيّة لا يعتبر وصول الماء إلى القدم أو إلى كليهما ناقضاً للمسح إذا كان الماء طاهراً‏.‏

مكروهات المسح على الخفّين

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه تكره الزّيادة على المرّة الواحدة في المسح لأنّ الأحاديث النّبويّة حدّدت المسح بمرّة واحدة‏,‏ كما يكره غسل الخفّين‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجزئ غسل الخفّين بدل مسحهما إذا نوى بذلك رفع الحدث عن رجليه ولو مع نيّة إزالة الوسخ‏,‏ أما إذا نوى قلع نجاسة علقت بالخفّ من غير أن ينوي رفع الحدث فلا يجزئه‏.‏

أما عند الحنفيّة فإن غسل الخفّ لقلع النّجاسة يجزئ عن المسح عليه ولو لم ينو المسح لإتيانه بالواجب من المسح وزيادة في محلّه‏.‏

المسح على الجوربين

13 - الجورب هو ما يلبسه الإنسان في قدميه سواء كان مصنوعاً من الصوف أو القطن أو الكتّان أو نحو ذلك‏.‏

وقد ذهب جمهور الفقهاء على جواز المسح على الجوربين في حالتين‏.‏

أ - أن يكون الجوربان مجلّدين‏,‏ يغطّيهما الجلد لأنّهما يقومان مقام الخفّ في هذه الحالة‏.‏ ب - أن يكون الجوربان منعّلين‏,‏ أي لهما نعل وهو يتّخذ من الجلد‏,‏ وفي الحالتين لا يصل الماء إلى القدم‏,‏ لأنّ الجلد لا يشف الماء‏.‏

ويرى الإمام أحمد بن حنبل والصّاحبان من الحنفيّة جواز المسح على الجورب بشرطين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يكون ثخيناً لا يبدو منه شيء من القدم‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يمكن متابعة المشي فيه وأن يثبت بنفسه من غير شد بالعرى ونحوها‏,‏ ولم يشترط الحنابلة أن يكونا منعولين‏.‏

واستدلوا بالآتي‏:‏

أ - ما رواه المغيرة بن شعبة‏:‏ « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مسح على الجوربين والنّعلين »‏.‏

وهذا يدل على أنّ النّعلين لم يكونا عليهما‏,‏ لأنّهما لو كانا كذلك لم يذكر النّعلين فإنّه لا يقال مسحت على الخفّ ونعله‏.‏

واستدلوا كذلك على جواز المسح على الجوربين بأنّ الصّحابة مسحوا على الجوارب ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً‏.‏

مُسَخَّر

التّعريف

1 - المسخّر اسم مفعول من الفعل سخَّر‏,‏ يقال‏:‏ سخَّره تسخيراً‏:‏ كلّفه عملاً بلا أجرة‏,‏ ورجل سُخْر يسخّر في الأعمال‏.‏

والسُخرة - وزان غرفة - ما سخَّرت من خادم أو دابّة بلا أجر ولا ثمن‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفه ابن عابدين نقلاً عن البحر فقال‏:‏ المسخّر‏:‏ هو أن ينصب القاضي وكيلاً عن الغائب ليسمع الخصومة عليه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الوكيل‏:‏

2 - الوكيل في اللغة‏:‏ من وكّلت الأمر إلى فلان‏:‏ فوّضته إليه واكتفيت به‏,‏ ووكيل الرّجل هو الّذي يقوم بأمره‏,‏ ووكّل إليه الأمر‏:‏ أسلمه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين الوكيل والمسخّر هي أنّ الوكيل أعم‏,‏ لأنّه قد يكون بنصب القاضي وقد يكون بنصب آحاد النّاس‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - ينبني حكم نصب المسخّر عن الغائب في الخصومة على حكم القضاء على الغائب‏.‏ فعند الحنفيّة لا يجوز القضاء على الغائب إلّا بحضور نائبه كوكيله ووصيّه ومتولّي الوقف أو نائبه شرعاً كوصيّ نصبه القاضي‏.‏

وأفتى خواهر زاده بجواز القضاء على الغائب‏,‏ ولذلك أجاز القضاء على المسخّر الّذي ينصبه القاضي وكيلاً عن الغائب‏,‏ لأنّ القضاء على المسخّر هو عين القضاء على الغائب‏.‏ لكن المعتمد عند الحنفيّة أنّه لا يجوز القضاء على المسخّر إلّا لضرورة وذلك في خمس مسائل‏.‏

الأولى‏:‏ اشترى بالخيار وأراد الرّدّ في المدّة‏,‏ فاختفى البائع فطلب المشتري من القاضي أن ينصب خصماً عن البائع ليردّه عليه‏,‏ وهذا أحد قولين عزاهما في جامع الفصولين إلى الخانية‏.‏

الثّانية‏:‏ كفل بنفسه على أنّه إن لم يواف به غداً فدينه على الكفيل‏,‏ فغاب الطّالب في الغد فلم يجده الكفيل‏,‏ فرفع الأمر إلى القاضي فنصب وكيلاً عن الطّالب وسلّم إليه المكفول عنه‏,‏ فإنّه يبرأ‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وهو خلاف ظاهر الرّواية‏,‏ إنّما هو في بعض الرّوايات عن أبي يوسف‏,‏ قال أبو اللّيث‏:‏ لو فعل به قاض علم أنّ الخصم تغيّب لذلك فهو حسن‏.‏

الثّالثة‏:‏ حلف المدين ليوفين الدّائن اليوم‏,‏ وعلّق العتق أو الطّلاق على عدم قضائه اليوم‏,‏ ثمّ غاب الطّالب وخاف الحالف الحنث‏,‏ فإنّ القاضي ينصب وكيلاً عن الغائب ويدفع الدّين إليه ولا يحنث الحالف‏,‏ وعليه الفتوى‏,‏ وفي حاشية مسكين عن شرف الدّين الغزّيّ‏:‏ أنّه لا حاجة إلى نصب الوكيل لقبض الدّين‏,‏ فإنّه إذا دفع إلى القاضي برّ في يمينه على المختار المفتى به كما في كثير من كتب المذهب المعتمدة‏,‏ ولو لم يكن ثمّة قاض حنث على المفتى به‏.‏

الرّابعة‏:‏ جعل الزّوج أمر زوجته بيدها إن لم تصلها نفقتها‏,‏ فتغيّبت‏,‏ لإيقاع الطّلاق عليه فإنّ القاضي ينصب من يقبض لها‏.‏

الخامسة‏:‏ لو قال رجل للقاضي‏:‏ لي على فلان حق وقد توارى عنّي في منزله‏,‏ فأتى بشاهدين أنّه في منزله وطلب المدّعي أن ينصب له وكيلاً يعذره القاضي فإن لم يحضر نصب له القاضي وكيلاً وسمع شهود المدّعي‏,‏ وحكم عليه بمحضر وكيله‏.‏

4 - أمّا المالكيّة فإنّهم يجيزون الحكم على الغائب في الجملة‏,‏ لكنّهم يختلفون هل يقدّم القاضي له وكيلاً أو لا‏؟‏

فيرى ابن الماجشون وأصبغ‏:‏ أنّه لا ترجى حجّة لغائب‏,‏ وذلك أنّ من أصلهما أن يقدّم القاضي له وكيلاً يقوم بحجّته ويعذر إليه‏,‏ فهو عندهما كالحاضر‏,‏ ويرى ابن القاسم إرجاء الحجّة للغائب‏,‏ لأنّ من أصله أنّه لا يقيم له وكيلاً‏,‏ وفي المدوّنة من كتاب القسمة‏:‏ ليس للقاضي أن يوكّل للغائب من يعذر إليه في شهادة الّذين شهدوا عليه‏,‏ ولا يقيم لصبيّ ولا لغائب وكيلاً يقوم بحجّتهما‏,‏ وفي الواضحة خلافه من قول عبد الملك‏.‏

5 - وذكر الشّافعيّة نصب المسخّر من قبل القاضي في مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ القضاء على الغائب‏:‏

يجوز القضاء على الغائب إن كان عليه بيّنة وادّعى المدّعي جحوده‏,‏ فإن قال‏:‏ هو مقر لم تسمع بيّنته ولغت دعواه‏,‏ وإن أطلق أي لم يتعرّض لجحوده ولا إقراره فالأصح أنّ بيّنته تسمع‏.‏

والأصح أنّه لا يلزم القاضي نصب مسخّر ينكر عن الغائب لأنّه قد لا يكون منكراً‏.‏

ومقابل الأصحّ‏:‏ يلزمه نصب مسخّر لتكون البيّنة على إنكار منكر‏.‏

قال القليوبي‏:‏ والمعتمد أنّ نصب المسخّر مستحب‏.‏

الثّانية‏:‏ الرّد بالعيب‏:‏

الرّد بالعيب يكون على الفور‏,‏ فإن كان البائع بالبلد ردّه عليه أو على وكيله بالبلد‏,‏ وإن كان البائع غائباً عن البلد ولم يكن له وكيل بالبلد رفع الأمر إلى الحاكم‏,‏ قال القاضي حسين‏:‏ فيدّعي شراء ذلك الشّيء من فلان الغائب بثمن معلوم قبضه‏,‏ ثمّ ظهر العيب‏,‏ وأنّه فسخ البيع‏,‏ ويقيم البيّنة على ذلك في وجه مسخّر ينصبه الحاكم‏,‏ ويحلف المدّعي‏:‏ أنّ الأمر جرى كذلك‏,‏ ويحكم بالرّدّ على الغائب‏,‏ ويبقى الثّمن ديناً عليه‏,‏ ويأخذ المبيع ويضعه عند عدل‏,‏ ويقضي الدّين من مال الغائب‏,‏ فإن لم يجد له سوى المبيع باعه فيه‏.‏

الثّالثة‏:‏ القسامة‏:‏

إذا ثبتت القسامة فإنّ مستحقّ الدّم يحلف خمسين يميناً وتوزّع بحسب الإرث وإن كان الوارث واحداً‏,‏ وكان لا يحوز جميع التّركة‏,‏ كما إذا كان الوارث زوجةً فقط مع بيت المال‏,‏ فإنّ الزّوجة تحلف خمسين يميناً وتأخذ الربع‏,‏ ولا يثبت حقّ بيت المال بحلفها بل ينصب الإمام مسخّراً يدّعي على المنسوب إليه القتل ويحلف المدّعى عليه خمسين يميناً‏,‏ فإن حلف لم يطالب بغير حصّة الزّوجة‏,‏ وإن امتنع من الحلف حبس إلى أن يحلف أو يقرّ‏,‏ لأنّ المسخّر لا يحلف‏.‏

فإن لم يكن للقتيل وارث أصلاً فلا قسامة فيه‏,‏ وإن كان هناك لوث لعدم المستحقّ المعيّن لأنّ ديته لعامّة المسلمين‏,‏ وتحليفهم غير ممكن‏,‏ لكن ينصب القاضي من يدّعي على من نسب القتل إليه‏,‏ ويحلّفه‏,‏ فإن نكل فهل يقضى عليه بالنكول أو لا‏؟‏ وجهان‏,‏ جزم في الأنوار بالأوّل‏,‏ ومقتضى ما صحّحه الشّيخان - فيمن مات بلا وارث فادّعى القاضي أو منصوبه ديناً له على آخر فأنكر ونكل أنّه لا يقضى له بالنكول‏,‏ بل يحبس ليحلّف أو يقرّ - ترجيح الثّاني وهو أوجه‏.‏

6 - وعند الحنابلة يجوز القضاء على الغائب‏:‏ فمن ادّعى على ممتنع من الحضور لمجلس الحكم - أي مستتر - إمّا في البلد أو دون مسافة قصر بلا بيّنة لم تسمع دعواه‏,‏ ولم يحكم له‏,‏ وإن كان له بيّنة سمعها الحاكم وحكم بها في حقوق الآدميّين‏,‏ ولا يلزم القاضي نصب من ينكر أو يحبس بغيره عن الغائب‏,‏ لأنّ تقدم الإنكار ليس بشرط‏.‏

مُسْرِف

انظر‏:‏ إسراف‏.‏

مَسّ

التّعريف

1 - المس في اللغة‏:‏ من مسِسْته من باب تعب‏,‏ وفي لغة مَسسته مساً من باب قتل‏:‏ أفضيت إليه بيدي من غير حائل هكذا قيّدوه - والاسم‏:‏ المسيس مثل كريم‏.‏

ومسّ امرأته من باب تعب مساً ومسيساً‏:‏ كناية عن الجماع‏,‏ وماسّها مماسّةً‏.‏

وتماسّا‏:‏ مسَّ كلّ واحد الآخر‏,‏ والمس‏:‏ مسك الشّيء بيدك‏.‏

والمس‏:‏ الجنون‏,‏ ورجل ممسوس‏:‏ به مس من الجنون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ‏}‏‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ المس ملاقاة جسم لآخر على أيّ وجهٍ كان‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - اللّمس‏:‏

2 - اللّمس لغةً‏:‏ الجس من بابي قتل وضرب أفضى إليه باليد‏.‏

واللّمس في الاصطلاح‏:‏ ملاقاة جسم لجسم لطلب معنىً فيه كحرارة أو برودة أو صلابة أو رخاوة أو علم حقيقة ليعلم هل هو آدمي أو لا‏.‏

والصّلة بين اللّمس والمسّ هي أنّ اللّمس أخص من المسّ‏.‏

ج - المباشرة‏:‏

3 - المباشرة في اللغة من باشر الرّجل زوجته‏:‏ تمتّع ببشرتها وباشر الأمر‏:‏ تولّاه ببشرته وهي يده وباشر الرّجل امرأته‏:‏ أي جامعها ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ‏}‏‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ المباشرة أن تكون بتماسّ الفرجين مع الانتشار ولو بلا بلل‏.‏

والمس أعم من المباشرة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمسّ

مس المحدث والجنب المصحف

4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم مس المصحف لغير الطّاهر طهارةً كاملةً من الحدثين الأصغر والأكبر‏,‏ لكن تختلف عباراتهم في الشروط والتّفصيل‏.‏

فقال الحنفيّة‏:‏ يحرم مس المصحف كلّه أو بعضه أي مسّ المكتوب منه‏,‏ ولو آيةً على نقود درهم أو غيره أو جدار‏,‏ لأنّ حرمة المصحف كحرمة ما كتب منه فيستوي فيه الكتابة في المصحف وعلى الدّراهم‏,‏ كما يحرم مس غلاف المصحف المتّصل به‏,‏ لأنّه تبع له‏,‏ فكان مسه مسّاً للقرآن‏.‏

ولا يحرم مس الغلاف المنفصل عن القرآن كالكيس والصندوق‏,‏ ويجوز مس المصحف بنحو عود أو قلم أو غلاف منفصل عنه‏,‏ ويكره لمسه بالكمّ والحائل كالخريطة في الصّحيح‏,‏ والمقصود بالخريطة الوعاء من جلد أو غيره‏,‏ ولا تحرم كتابة آية على ورقة‏,‏ لأنّ المحرّم هو مس المكتوب باليد‏,‏ أمّا القلم فهو واسطة منفصلة كالثّوب المنفصل الّذي يمس به القرآن‏,‏ لأنّ المفتى به جواز مسّ المصحف بغلاف منفصل أو بصرّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز مس المصحف‏,‏ سواء كان مصحفاً جامعاً معاً أو جزءاً أو ورقةً فيها بعض سورة أو لوحاً أو كتفاً مكتوبةً‏,‏ ويمنع غير الطّاهر من حمل المصحف ولو على وسادة أو بعلّاقة أو ثوب أو كرسيٍّ تحته‏,‏ ويحرم المس ولو كان المس بحائل أو عود‏,‏ وإن قصد حمل المصحف مع الأمتعة حرم الحمل‏,‏ وإن قصد الأمتعة بالحمل جاز‏.‏

ويجوز المس والحمل لمعلّم ومتعلّم بالغ وإن كان حائضاً أو نفساء لعدم قدرتهما على المانع‏,‏ ولا يجوز ذلك للجنب لقدرته على إزالة المانع بالغسل أو التّيمم‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء حمله بعلّاقته أو في كمّه أو على رأسه‏,‏ وحكى القاضي والمتولّي وجهاً أنّه يجوز حمله بعلّاقته وهو شاذ في المذهب وضعيف وسواء مسّ نفس الأسطر أو ما بينها أو الحواشي أو الجلد فكل ذلك حرام‏.‏

وفي مسّ الجلد وجهٌ ضعيف أنّه يجوز‏,‏ وحكى الدّارمي وجهاً شاذّاً بعيداً أنّه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ولا ما بين الأسطر ولا يحرم إلّا نفس المكتوب‏,‏ والصّحيح الّذي قطع به جمهور الشّافعيّة تحريم الجميع‏.‏

وفي مسّ العلّاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران‏:‏

أصحهما يحرم وبه قطع المتولّي والبغوي لأنّه متّخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد‏.‏

والثّاني‏:‏ يجوز في مسّ الصندوق‏.‏

وأمّا حمل الصندوق وفيه المصحف فاتّفقوا على تحريمه‏.‏

وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان‏.‏

وأمّا إذا تصفّح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران أصحهما يجوز والثّاني لا يجوز ورجّحه الخراسانيون لأنّه حمل الورقة وهي بعض المصحف‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يحرم مس المصحف على الصّحيح من المذهب‏,‏ ويحرم مس كتابته وجلده وبعضه وحواشيه لشمول اسم المصحف ولو آيةً منه‏,‏ ولا يجوز مسه بشيء من جسده لأنّه من جسده فأشبه يده‏,‏ ويجوز مسه بحائل أو عود طاهرين‏,‏ وحمله بعلّاقة أو وعاء‏,‏ ولو كان المصحف مقصوداً بالحمل‏,‏ وكتابته ولو لذمّيّ من غير مس‏,‏ وحمله بحرز ساتر طاهر‏,‏ وإن احتاج المحدث إلى مسّ المصحف عند عدم الماء‏,‏ تيمّم وجاز مسه وما يحرم على المحدث حدثاً أصغر يحرم على المحدث حدثاً أكبر ‏"‏ الجنب‏,‏ والحائض‏,‏ والنفساء ‏"‏ بطريق الأولى لأنّ الحدث الأكبر أغلظ من الحدث الأصغر‏.‏

واستدلّ الفقهاء على حرمة مسّ المصحف بالكتاب والسنّة‏.‏

أمّا الكتاب فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ‏}‏‏,‏ دلّت الآية الكريمة على أنّ اللّه تعالى نهى عن مسّ المصحف لغير الطّاهر‏.‏

وأنّ المحدث ليس بطاهر‏,‏ فدلّ على عدم جواز مسّه‏,‏ ثمّ إنّ اللّه تعالى وصف القرآن بالتّنزيل‏.‏

وظاهره أنّ المقصود هو القرآن الموجود بين أيدينا فلا يصرف عن ظاهره إلّا بصارف شرعيٍّ‏,‏ وأنّ الخبر فيه النّهي عن مسّه‏.‏

وأمّا السنّة فحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏

« لا يمس القرآن إلّا طاهر » ولأنّ تعظيم القرآن واجب وليس من التّعظيم مس المصحف بيد حلّها الحدث‏,‏ وكتاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرو بن حزم رضي اللّه عنه‏:‏ « أن لا تمسّ القرآن إلّا على طهر »‏.‏

واتّفقوا على جواز تلاوة القرآن لمن كان محدثاً حدثاً أصغر بغير مس وانظر مصطلح‏:‏

‏(‏ مصحف‏,‏ حدث‏,‏ ف / 26‏,‏ 27 ‏)‏‏.‏

وما سبق من أحكام مسّ المصحف بالنّسبة للمحدث إنّما هو إذا كان مكتوباً بالعربيّة أمّا التّرجمات غير العربيّة للقرآن الكريم فقد اختلف الفقهاء في حكم مسّها على أقوال‏.‏

تنظر في مصطلح ‏(‏ ترجمة ف / 7 ‏)‏‏.‏

مس الصّبيّ المصحف بغير طهارة

5 - ذهب الفقهاء إلى جواز مسّ الصّبيان القرآن بغير طهارة‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ يجوز للصّبيّ مس القرآن أو لوح فيه قرآن للضّرورة من أجل التّعلم والحفظ ولأنّ الصّبيان لا يخاطبون بالطّهارة ولكن أمروا به تخلقاً واعتياداً‏.‏

وقال مالك في المختصر‏:‏ أرجو أن يكون مس الصّبيان للمصاحف للتّعليم على غير وضوء جائزاً‏,‏ وقيل‏:‏ إنّ الصّغير لا يمس المصحف الكامل وهو قول ابن المسيّب‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يمنع صبي مميّز من مسّ وحمل مصحف أو لوح يتعلّم منه لحاجة تعلمه ومشقّة استمراره متطهّراً‏,‏ وقال النّووي‏:‏ أبيح حمل الصّبيان الألواح للضّرورة للحاجة وعسر الوضوء لها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وفي مسّ صبيان الكتاتيب ألواحهم الّتي فيها القرآن وجهان أحدهما‏:‏ الجواز لأنّه موضع حاجة فلو اشترطنا الطّهارة أدّى إلى تنفيرهم من حفظه‏,‏ قال في الإنصاف‏:‏ وفي مسّ الصّبيان كتابة القرآن روايتان واقتصر عليه‏,‏ وعنه‏:‏ لا يجوز وهو وجهٌ‏.‏

قال في الفروع‏:‏ ويجوز في رواية مس صبيٍّ لوحاً كتب فيه قرآن‏,‏ قال ابن رزين وهو أظهر‏.‏

كتابة المحدث المصحف

6 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا يجوز للمحدث كتابة المصحف لكن تختلف عباراتهم في الشروط والتّفصيل‏.‏

فقال الحنفيّة‏:‏ يكره للمحدث الكتابة ومس الموضع المكتوب من القرآن وأسماء اللّه تعالى على ما يفرش لما فيه من ترك التّعظيم‏,‏ وكذا على المحاريب والجدران لما يخاف من سقوط الكتابة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز للمحدث كتبه على الرّاجح أي ليس للنّاسخ أن يكتب ويمسّ المصحف محدثاً‏,‏ وقيل‏:‏ يجوز كتابة المحدث لمشقّة الوضوء كلّ ساعة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز كتابة القرآن بشيء نجس وإذا كتب المحدث أو الجنب مصحفاً نظر إن حمله أو مسّه في حال كتابته حرم‏,‏ وإلّا فالصّحيح جوازه لأنّه غير حامل ولا ماس‏,‏ وفيه وجهٌ مشهور يحرم‏,‏ ووجهٌ ثالث يحرم على الجنب دون المحدث‏.‏

وإذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه وحمله على البالغ المحدث هذا هو المذهب الصّحيح وبه قطع الأكثرون‏,‏ وفيه وجهٌ مشهور أنّه لا يحرم لأنّه لا يراد للدّوام بخلاف المصحف فعلى هذا يكره ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلاً أو كثيراً فيحرم على الصّحيح قال إمام الحرمين‏:‏ لو كان على اللّوح آية أو بعض آية كتب للدّراسة حرم مسه وحمله‏,‏ ويكره نقش الحيطان والثّياب بالقرآن وبأسماء اللّه تعالى قال القاضي حسين والبغوي وإذا كتب قرآناً على حلوى فلا بأس بأكله‏.‏ وإن كان على خشبة كره إحراقها‏.‏ وقال الحنابلة كما في الإنصاف‏:‏ يجوز كتابة المصحف من غير مس على الصّحيح من المذهب جزم به المصنّف وهو مقتضى كلام الخرقيّ‏.‏

وقاله القاضي وغيره‏,‏ وعنه يحرم وأطلقهما في الفروع‏.‏ وقيل‏:‏ هو كالتّقليب بالعود‏.‏ وقيل لا يجوز وإن جاز التّقليب بالعود‏.‏ وللمجد احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب‏.‏

مس المحدث كتب التّفسير

7 - اختلف الفقهاء في مسّ المحدث كتب التّفسير‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ لا يجوز مس كتب التّفسير لأنّه يصير بمسّه ماساً للقرآن وقال في الفتاوى الهنديّة‏:‏ ويكره مس كتب التّفسير والفقه والسنّة ولا بأس بمسّها بالكمّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز مس كتب التّفسير وحملها والمطالعة فيها للمحدث ولو كان جنباً‏,‏ لأنّ المقصود من التّفسير معاني القرآن لا تلاوته وظاهره ولو كتبت فيه آيات كثيرة متوالية وقصدها‏,‏ خلافاً لابن عرفة القائل بمنع مسّ تلك التّفاسير الّتي فيها الآيات الكثيرة متوالية مع قصد الآيات بالمسّ‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ بحرمة حمل التّفسير ومسّه إذا كان القرآن أكثر من التّفسير‏,‏ وكذلك إن تساويا على الأصحّ‏,‏ ويحل مسه إذا كان التّفسير أكثر على الأصحّ‏,‏ وفي رواية‏:‏ يحرم لإخلاله بالتّعظيم‏,‏ وقال النّووي‏:‏ إن كان التّفسير أكثر ففيه أوجهٌ أصحها لا يحرم‏,‏ لأنّه ليس بمصحف‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ بجواز مسّ كتاب التّفسير ونحوه على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب وحكى القاضي روايةً بالمنع والصّحيح جواز مسّ كتب التّفسير بدليل « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية »‏,‏ ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف ولا تثبت لها حرمته‏.‏

مس المحدث كتب الفقه وغيرها

8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ إلى جواز مسّ المحدث كتب الفقه وغيرها وإن كان فيها آيات من القرآن الكريم‏.‏

وهو أصح وجهين مشهورين عند الشّافعيّة‏.‏

غير أنّ أبا حنيفة قال‏:‏ والمستحب له أن لا يفعل‏.‏

واستدلوا بحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً قال فيه آيةً »‏,‏ ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف‏,‏ ولا تثبت لها حرمته‏.‏

مس المحدث كتب الحديث

9 - ذهب الفقهاء إلى جواز مسّ المحدث كتب الحديث وإن كان فيها آيات من القرآن في الجملة‏.‏

جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ ويكره للجنب والحائض مس كتب التّفسير والفقه والسنن‏,‏ ولا بأس بمسّها بالكمّ لأنّها لا تخلو عن آيات القرآن‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز مس كتب الحديث والتّفسير والفقه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ وأمّا كتب حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأطلق الماورديّ والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسّها وحملها مع الحدث‏,‏ وقال المتولّي والروياني‏:‏ يكره‏,‏ والمختار ما قاله آخرون‏:‏ إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز‏,‏ والأولى أن لا يفعل إلّا بطهارة‏,‏ وإن كان فيها قرآن فعلى الوجهين‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يجوز مس كتب الحديث وإن كان فيها آيات من القرآن على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب‏,‏ وحكى القاضي روايةً بالمنع‏.‏

واستدلّ الجمهور لجواز مسّ كتب الحديث « بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية »‏,‏ ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف ولا تثبت لها حرمته‏.‏

مس المحدث للنقود المكتوب عليها شيء من القرآن

10 - اختلف الفقهاء في حكم مسّ المحدث الدّراهم والدّنانير الّتي عليها شيء من القرآن فأجاز ذلك المالكيّة وهو الأصح عند الشّافعيّة‏,‏ وفي وجهٍ عند الحنابلة وهو الرّاجح عندهم‏.‏ واستدلوا بحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما‏,‏ « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب كتاباً إلى هرقل وفيه آية ‏{‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ ‏}‏ »‏,‏ ولم يأمر حاملها بالمحافظة على الطّهارة ولأنّ هذه الأشياء لا تقصد بإثبات القرآن فيها قراءته فلا تجري عليها أحكام القرآن‏,‏ ولأنّ الدّراهم لا يقع عليها اسم المصحف فأشبهت كتب الفقه‏,‏ ولأنّ في الاحتراز منها مشقّةً أشبهت ألواح الصّبيان وقال في الفروع‏:‏ لا يجوز مس الدّراهم بيده وإن كانت في صرّة فلا بأس‏.‏

وذهب الحنفيّة والحنابلة في الوجه الثّاني إلى عدم جواز مسّ شيء مكتوب فيه شيء من القرآن من لوح أو دراهم أو غير ذلك إذا كان آيةً تامّةً‏,‏ ولو كان القرآن مكتوباً بالفارسيّة يكره لهم مسه عند أبي حنيفة وكذا عندهما على الصّحيح‏,‏ لأنّ حرمة المصحف كحرمة ما كتب فيه فيستوي فيه الكتابة في المصحف وعلى الدّراهم‏,‏ وكره ذلك عطاء والقاسم والشّعبي‏,‏ لأنّ القرآن مكتوب عليها فأشبهت الورق‏.‏

مس الكافر المصحف

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى منع الكافر من مسّ المصحف لأنّ الكافر نجس فيجب تنزيه المصحف عن مسّه‏.‏

وخالف في ذلك محمّد من أصحاب أبي حنيفة فقال‏:‏ لا بأس أن يمسّ القرآن إذا اغتسل لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل‏,‏ وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده‏.‏

مس المحدث التّوراة والإنجيل

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز مسّ المحدث التّوراة والإنجيل والزّبور في الجملة‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ لا مانع من مسّ الكتب السّماويّة الأخرى المبدّلة‏,‏ لكن يكره للحائض والجنب قراءة التّوراة والإنجيل والزّبور لأنّ الكلّ كلام اللّه تعالى إلّا ما بدّل منها‏,‏ وما بدّل منها غير معيّن‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز للمحدث مس التّوراة والإنجيل والزّبور ولو كانت غير مبدّلة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز للمحدث مس التّوراة والإنجيل وحملهما وكذا قطع به الجمهور وذكر الماورديّ والروياني فيه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز‏,‏ والثّاني‏:‏ قالا - وهو قول جمهور أصحابنا -‏:‏ يجوز لأنّها مبدّلة منسوخة‏,‏ قال المتولّي‏:‏ فإن ظنّ أنّ فيها شيئاً غير مبدّل كره مسه ولا يحرم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وله مس التّوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم إن وجدت لأنّها ليست قرآناً‏,‏ وقال في الإنصاف‏:‏ يجوز مس المنسوخ تلاوته والمأثور عن اللّه تعالى والتّوراة والإنجيل على الصّحيح من المذهب‏,‏ وقيل‏:‏ لا يجوز ذلك‏.‏

مس الطّيب للمحرم

13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم مسّ الطّيب للمحرم بمعنى استعماله بأيّة صفة كانت‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ إحرام ف / 74 وما بعدها ‏)‏‏.‏

المس والإنزال للصّائم

14 - ذهب الفقهاء إلى فساد الصّوم بالإنزال بالمسّ‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ يفسد الصّوم بالإنزال عن المسّ ولا يفسد بالإنزال عن النّظر إلى الفرج‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن مسّ أو قبّل أو باشر فسلم فلا شيء عليه‏,‏ وإن أنزل فثلاثة أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّ عليه القضاء والكفّارة مطلقاً‏,‏ والثّاني‏:‏ قول أشهب - وهو أصح الأقوال - لا كفّارة عليه إلّا أن ينزل‏,‏ والثّالث‏:‏ الفرق بين المسّ والقبلة والمباشرة فيكفّر مطلقاً‏,‏ وبين التّذكر والنّظر فلا كفّارة عليه‏,‏ وقال في المدوّنة‏:‏ إن أمذى من مس أو قبلة يفسد صومه وعليه القضاء‏.‏ وقال أشهب‏:‏ والمس باليد أيسر منها‏,‏ والقبلة أيسر من المباشرة‏,‏ والمباشرة أيسر من العبث بالفرج‏,‏ وترك ذلك كلّه أحب إلينا‏,‏ وقال في مواهب الجليل‏:‏ إن أمذى فسد صومه ويقضي‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يحرم المس في الصّيام لأنّ المسّ أبلغ في إثارة الشّهوة إذ لو أنزل به أفطر وفسد صومه وإن خرج المني بمسّ أو قبلة أو مضاجعة بلا حائل يفطر به الصّائم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا مسّ أو قبّل فأمذى فسد صومه‏.‏ هذا الصّحيح من المذهب نصّ عليه وعليه أكثر الأصحاب‏,‏ وقال في الإنصاف‏:‏ لو هاجت شهوته فأمنى أو أمذى ولم يمسّ ذكره لم يفطر على الصّحيح من المذهب‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إذا قبّل أو لمس فأمنى فسد صومه‏,‏ هذا المذهب وعليه الأصحاب‏.‏ ووجهٌ في الفروع احتمالاً بأنّه لا يفطر‏.‏

أثر المسّ في وجوب الصّداق

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّداق يجب كله بالدخول أو الموت‏,‏ واختلفوا في وجوب المهر بالمسّ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ مهر ‏)‏‏.‏

أثر المسّ في حرمة المصاهرة

16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المسّ بغير شهوة لا يؤثّر في حرمة المصاهرة فمن مسّ امرأةً بغير شهوة أو قبّلها فله أن يتزوّج بنتها أو أمّها ويجوز لها الزّواج بأصوله أو فروعه‏,‏ وكذلك من مسّ أمّ امرأته أو قبّلها بغير شهوة لا تحرم عليه امرأته‏.‏

أمّا المس بشهوة فاختلفوا في انتشار الحرمة به فقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ المسّ والمباشرة في غير الفرج والتّقبيل ولو بشهوة لا يحرّم أصول من مسّها أو قبّلها ولا فروعها‏,‏ زوجةً كانت أم أجنبيّةً لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ‏}‏‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ المسّ بشهوة يوجب حرمة المصاهرة فمن مسّته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها‏,‏ ولا تحل له أصولها ولا فروعها‏,‏ وحرم عليها أصوله وفروعه‏,‏ ومن مسّ أو قبّل أمّ امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ الأسباب الدّاعية إلى الوطء في إثبات الحرمة كالوطء في إثباتها‏,‏ وإنّ المسّ والنّظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه في موضع الاحتياط ثمّ المس بشهوة أن تنتشر الآلة ثمّ شرط الحرمة بالنّظر أو المسّ أن لا ينزل‏,‏ فإن أنزل لا تثبت الحرمة‏,‏ واشترط الحنفيّة الشّهوة حال المسّ‏,‏ فلو مسّ بغير شهوة ثمّ اشتهى بعد ذلك المسّ لا تحرم عليه‏,‏ إذ تبيّن أنّ المسّ بالإنزال غير مفض إلى الوطء‏,‏ والمس المفضي إليه هو المحرّم‏,‏ ومعنى قولهم‏:‏ المس بشهوة لا يوجب الحرمة بالإنزال هو أنّ الحرمة عند ابتداء المسّ بشهوة كان حكمها موقوفاً إلى أن تبيّن بالإنزال فإن أنزل لم تثبت وإلّا ثبتت‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم ‏}‏‏,‏ قالوا‏:‏ المراد من النّكاح الوطء‏,‏ والمس والتّقبيل بشهوة داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطاً للحرمة‏.‏

أثر المسّ في الظّهار

17 - ذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد إلى حرمة دواعي الوطء من مس أو مباشرة أو تقبيل قبل التّكفير في الظّهار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ‏}‏‏.‏

دلّت الآية على أنّه أمر المظاهر بالكفّارة قبل التّماسّ‏,‏ والتّماس يصدق على المسّ باليد وغيرها من أجزاء الجسم‏,‏ كما يصدق على الوطء‏,‏ والوطء قبل التّكفير حرام بالاتّفاق‏,‏ فالمس باليد وما في معناه يكون حراماً مثله ولأنّ المسّ والتّقبيل بشهوة والمباشرة دون الفرج تدعو إلى الوطء‏,‏ ومتى كان الوطء حراماً كانت الدّواعي إليه حراماً أيضاً بناءً على القاعدة الفقهيّة ‏"‏ ما أدّى إلى الحرام حرام ‏"‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأظهر وبعض المالكيّة وأحمد في الرّواية الثّانية إلى إباحة الدّواعي في الوطء‏,‏ ووجه ذلك‏:‏ أنّ المراد من المسّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ‏}‏ الجماع‏:‏ وذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ‏}‏‏,‏ فلا يحرم ما عداه من المسّ بشهوة والمباشرة والتّقبيل فيما دون الفرج‏,‏ ولأنّ تحريم الوطء بالظّهار يشبه تحريم الوطء بالحيض من ناحية أنّ كلاً منهما وطء محرّم ولا يخل بالنّكاح‏,‏ وتحريم الوطء في الحيض لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه‏,‏ فكذلك تحريم الوطء بالظّهار لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه بالقياس عليه‏.‏

مس الذّكر في نقض الوضوء

18 - يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية وهو الصّحيح من مذهبه وعليه جماهير أصحابه أنّ مسّ الذّكر ينقض الوضوء‏.‏

وقال مالك والشّافعي‏:‏ لا ينقض مسه إلّا بباطن كفّه ولا ينقض بظهر الكفّ لأنّ ظاهر الكفّ ليس بآلة المسّ فأشبه ما لو مسّه بفخذه‏.‏

ولا فرق عند الحنابلة بين بطن الكفّ وظاهره‏.‏

وللتّفصيل يراجع ‏(‏ مصطلح وضوء ‏)‏‏.‏

مس الأجنبيّ أو الأجنبيّة

19 - ذهب جمهور الفقهاء في الجملة إلى عدم جواز مسّ الرّجل شيئاً من جسد المرأة الأجنبيّة الحيّة‏,‏ سواء كانت شابّةً أم عجوزاً غير أنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ لا بأس بمصافحة العجوز ومسّ يدها لانعدام خوف الفتنة‏.‏

واستدلّ الجمهور بحديث عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ « ما مسّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده امرأةً قط »‏,‏ ولأنّ المسّ أبلغ من النّظر في اللّذّة وإثارة الشّهوة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يحل لرجل مس وجه أجنبيّة وإن حلّ نظره بنحو خطبة أو شهادة أو تعليم‏,‏ ولا لسيّدة مس شيء من بدن عبدها وعكسه وإن حلّ النّظر‏.‏

مس المرأة للعلاج

20 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز للطّبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبيّة المسلمة وينظر منها ويمسّ ما تلجئ الحاجة إلى نظره‏,‏ ومسّه فإن لم توجد طبيبة ولا طبيب مسلم جاز للطّبيب الذّمّيّ ذلك‏,‏ وتقدّم المرأة الكافرة مع وجود طبيب مسلم لأنّ نظر الكافرة ومسّها أخف من الرّجل‏.‏ ويجوز للطّبيبة أن تنظر وتمسّ من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره ومسّه إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض‏,‏ وقد اشترط بعض الفقهاء شروطاً لذلك‏.‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ ويباحان أي النّظر والمس لفصد وحجامة وعلاج للحاجة لكن بحضرة مانع خلوة كمحرم أو زوج أو امرأة ثقة لحلّ خلوة رجل بامرأتين ثقتين‏,‏ وشرط الماورديّ أن يأمن الافتنان ولا يكشف إلّا قدر الحاجة‏.‏

وقال الشّافعيّة كذلك‏:‏ يحرم النّظر دون المسّ كأن أمكن لطبيب معرفة العلّة بالمسّ فقط‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ ولطبيب نظر ومس ما تدعو الحاجة إلى نظره ولمسه نصّ عليه‏,‏ حتّى فرجها وباطنه لأنّه موضع حاجة وظاهره ولو ذمّياً‏,‏ وليكن ذلك مع حضور محرم أو زوج‏,‏ لأنّه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور‏,‏ ويستر منها ما عدا موضع الحاجة لأنّها على الأصل في التّحريم‏,‏ وكالطّبيب من يلي خدمة مريض أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما وكتخليصها من غرق وحرقٍ ونحوهما‏,‏ وكذا لو حلق عانة من لا يحسن حلق عانته‏,‏ وكذا لمعرفة بكارة وثيوبة وبلوغ‏,‏ وأمّا المس لغير شهوة كمسّ يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال‏.‏

مَسْعى

انظر‏:‏ سعي‏.‏

مُسْقطات

انظر‏:‏ إسقاط‏.‏

مِسْك

التّعريف

1 - المسك بكسر الميم وسكون السّين‏:‏ طيب معروف‏,‏ وثوب ممسّك‏:‏ مصبوغ به‏,‏ ودواء ممسَّك‏:‏ فيه مسك‏.‏

قال الجوهري‏:‏ المسك من الطّيب‏,‏ فارسي معرّب قال‏:‏ وكانت العرب تسمّيه المشموم‏.‏ وفي الاصطلاح قال البنانيّ نقلاً عن الحافظ ابن حجر‏:‏ المسك دم يجتمع في سرّة الغزال في وقت معلوم من السّنة‏,‏ فإذا اجتمع ورم الموضع‏,‏ فيمرض الغزال إلى أن يسقط منه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

العنبر‏:‏

2 - العنبر في اللغة‏:‏ مادّة صلبة لا طعم لها ولا ريح إلّا إذا سحقت أو أحرقت‏,‏ يقال‏:‏ إنّه روث دابّة بحريّة‏.‏

وفي الاصطلاح روي عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما أنّ العنبر شيء دسره البحر - أي رمى به - إلى السّاحل‏.‏

والعلاقة بين المسك والعنبر أنّ كلاً منهما طيب‏,‏ ولهما أحكام فقهيّة مشتركة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمسك

أ - طهارة المسك وأكله‏:‏

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المسك طاهر حلال‏,‏ يجوز أكله والانتفاع به بكلّ حال في الأطعمة والأدوية‏,‏ سواء أكان لضرورة أم لا‏,‏ لأنّه وإن كان دماً فقد تغيّر‏,‏ واستحال أصله إلى صلاح‏,‏ فيصير طاهراً‏,‏ ولما ورد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « أنّ المسك أطيب الطّيب »‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ حكى النّووي إجماع المسلمين على طهارته وجواز بيعه‏.‏

وأمّا نافجة المسك فطاهرة عند الفقهاء في الجملة‏,‏ واختلفوا في التّفاصيل‏:‏

فذهب الحنفيّة في الأصحّ إلى طهارتها مطلقاً‏,‏ أي من غير فرق بين رطبها ويابسها‏,‏ وبين ما انفصل من المذبوح أو غيره‏,‏ وقيل‏:‏ إن كانت بحال لو أصابها الماء لم تفسد فهي طاهرة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ فأرة المسك ميتة طاهرة إجماعاً لانتقالها عن الدّم‏,‏ كالخمر للخلّ‏.‏

وهي عند الشّافعيّة‏:‏ إن انفصلت من حيّة أو مذكّاة فطاهرة وتكون كالرّيش‏,‏ وإن انفصلت من ميتة فنجسة كاللّبن‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ المسك وفأرته ‏"‏ وعاؤُه ‏"‏ طاهران‏,‏ لأنّه منفصل بطبعه‏,‏ أشبه الولد‏.‏

ب - زكاة المسك‏:‏

4 - نصّ الشّافعيّة والحنابلة في المذهب على أنّه لا زكاة في المسك‏.‏

ج - بيع المسك وفأرته‏:‏

5 - ذهب الفقهاء إلى جواز بيع المسك في الجملة‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ حكى النّووي إجماع المسلمين على طهارته وجواز بيعه‏.‏

وفصّل الشّافعيّة القول فيه فقالوا‏:‏ لا يصح بيع مسكٍ اختلط بغيره لجهل المقصود‏,‏ ولو كان قدر المسك معلوماً صحّ البيع‏,‏ هذا إذا خالطه لا على وجه التّركيب‏,‏ فإن كان معجوناً بغيره كالغالية‏,‏ والنّدّ‏,‏ صحّ البيع‏,‏ لأنّ المقصود جميعها لا المسك وحده‏.‏

وكذلك نصوا على أنّه لا يصح بيع المسك في فأرته معها‏,‏ أو دونها‏,‏ ولو فتح رأسها كاللّحم في الجلد‏.‏

أمّا لو رأى المسك خارج الفأرة‏,‏ ثمّ اشتراه بعد ردّه إليها‏,‏ أو رأى الفأرة فارغةً‏,‏ ثمّ ملئت مسكاً لم يره‏,‏ ثمّ رأى أعلاه من رأسها جاز‏,‏ وإلّا فلا‏,‏ لأنّه بيع غائب‏.‏

وأمّا لو باع المسك وفأرته كلّ رطل أو قيراطٍ مثلاً بدرهم صحّ البيع وإن اختلفت قيمتهما‏,‏ شريطة أن يعرف وزن كلّ واحد منهما‏,‏ وكان للفأرة قيمة‏,‏ وإلّا فلا يصح لأنّ البيع اشتمل على اشتراط بذل مال في مقابلة ما ليس بمال‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه لا يصح بيع مسكٍ في فأرته ما لم يفتح ويشاهد‏,‏ لأنّه مجهول كاللؤلؤ في الصّدف‏,‏ قال الرّحيباني‏:‏ هذا هو المذهب وعليه أكثر الأصحاب‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا اشترى نافجة مسكٍ‏,‏ وأخرج المسك منها‏,‏ فليس له أن يردّها لرؤية أو عيب‏,‏ لأنّ الإخراج يدخل فيه عيباً‏.‏

د - السّلم في المسك‏:‏

6 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على جواز السّلم في المسك‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يتعيّن وزن فتات المسك‏,‏ ولا يجوز كيلاً لأنّ الكيل لا يعد ضابطاً فيه لعظم خطره ‏;‏ لأنّ يسيره ماليّة كثيرة‏.‏

قال الحنابلة‏:‏ ويصفه‏,‏ ويضبطه باللّون‏,‏ والبلد وما يختلف به‏.‏

هـ - ضمان رائحة المسك المغصوب‏:‏

7 - نصّ الحنابلة على أنّ الغاصب يضمن نقص رائحة المسك أو نحوه كعنبر‏,‏ لأنّ قيمته تختلف بالنّظر إلى قوّة رائحته‏,‏ وضعفها‏,‏ ولأنّه لو فات الجميع لوجب قيمته‏,‏ فإذا فات منه شيء‏,‏ وجب قدره من القيمة‏.‏

و - استعمال المسك للمحرم وغيره‏:‏

8 - ذهب الفقهاء إلى جواز التّطيب بالمسك لغير المحرم‏,‏ لخبر مسلم‏:‏ « المسك أطيب الطّيب »‏.‏

وفي استعماله للمحرم‏,‏ والتّداوي به‏,‏ وأكله‏,‏ وشمّه خلاف‏,‏ وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏ إحرام ف / 74 - 78 ‏)‏‏.‏

ز - استعمال المسك للحائض والنفساء‏:‏

9 - نصّ الحنفيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ بأنّه يسن استعمال المسك لكلّ مغتسلة من حيض أو نفاس‏,‏ فإن لم تجد مسكاً فطيباً آخر‏,‏ واستدلوا بما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها‏:‏ « أنّ امرأةً سألت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل قال خذي فرصةً من مسكٍ فتطهّري بها قالت كيف أتطهّر بها قال تطهّري بها قالت كيف قال سبحان اللّه تطهّري تقول عائشة رضي اللّه تعالى عنها فجذبتها إليّ فقلت تتّبعي بها أثر الدّم »‏.‏

وكيفيّة استعماله كما ذكر بعض الفقهاء أن تأخذ المسك‏,‏ وتجعله في قطن‏,‏ ويقال لها الكرسف أو الفرصة‏,‏ وتدخلها الفرج‏,‏ ليقطع رائحة دم الحيض أو النّفاس‏.‏

ح - إفطار الصّائم بشمّ رائحة المسك‏:‏

10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من شمّ المسك ولو ذاكراً‏,‏ أو شمّ هواءً تطيّب بريح المسك أو شبهه فلا يفطر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ من شمّ رائحة المسك والعنبر والزّباد من غير أن يدخل الحلق فلا قضاء عليه‏,‏ وكذلك إذا وصل إلى الحلق بغير اختياره‏,‏ أمّا لو وصل إلى الحلق باختياره‏,‏ أي باستنشاقه سواء كان المستنشق صانعه أو غيره فيجب عليه القضاء‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يكره للصّائم شم ما لا يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسكٍ وكافور‏,‏ وكبخور‏,‏ وعنبر‏.‏

مُسْكِر

التّعريف

1 - المسكر في اللغة‏:‏ ما أزال العقل‏,‏ يقال‏:‏ أسكره الشّراب‏:‏ أزال عقله‏,‏ فهو مُسكر‏,‏ والاسم منه‏:‏ السُكْرُ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تناول الشّيء المسكر حرام‏,‏ ويجب عند جمهور الفقهاء الحد على شاربه‏,‏ قلّ أم كَثُر‏,‏ إذا كان مسلماً مكلّفاً‏,‏ مختاراً عالماً بأنّ ما شربه مسكر‏,‏ من غير ضرورة‏,‏ لما روته عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « كل شراب أسكر فهو حرام »‏.‏ ولحديث ابن عمر‏:‏ « كل مسكر خمر وكل خمر حرام »‏.‏

ويحد شاربه‏,‏ وإن كان لا يسكر‏,‏ حسماً لمادّة الفساد ولحديث‏:‏ « من شرب الخمر فاجلدوه»‏,‏ وقيس به النّبيذ وغيره‏.‏

والمراد بالشّارب‏:‏ المتعاطي شرباً كان أو غيره‏,‏ وسواء كان ما تعاطاه جامداً أو مائعاً مطبوخاً أو نيئاً‏,‏ وسواء أتناوله معتقداً تحريمه أم إباحته‏,‏ لضعف أدلّة الإباحة‏,‏ وقال أبو ثور‏:‏ من شربه معتقداً تحريمه حدّ‏,‏ ومن شربه متأوّلاً فلا حدّ عليه‏,‏فأشبه النّكاح بلا وليٍّ‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا اشتدّ عصير العنب وقذف زبده‏,‏ أو طبخ فذهب أقل من ثلثيه‏,‏ ونقيع التّمر والزّبيب إذا اشتدّا بغير طبخٍ فهذا حرام قليله وكثيره‏,‏ وحدّ شاربه‏,‏ أمّا إذا طبخ عصير العنب فذهب ثلثاه‏,‏ ونقيع التّمر والزّبيب إذا طبخا وإن لم يذهب ثلثاهما‏,‏ أو نبيذ الحنطة والذرة‏,‏ والشّعير‏,‏ ونحو ذلك وإن لم يطبخ‏,‏ فكل ذلك حلال‏,‏ نقيعاً كان أو مطبوخاً إلّا ما بلغ السكر أو كان بلهو‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ أشربة ف / 5 وما بعدها ‏)‏‏.‏

مَسْكَن

التّعريف

1 - المسكن بفتح الكاف وكسرها في اللغة‏:‏ البيت والمنزل‏,‏ وسكَن فلان مكان كذا أي استوطنه‏,‏ واسم المكان مسكن‏,‏ والجمع مساكن‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المأوى‏:‏

2 - المأوى بفتح الواو في اللغة‏:‏ مصدر أوى يأوي أوياً ومأوًى‏,‏ والمأوى لكلّ حيوان‏:‏ سكنه‏,‏ أي اسم للمكان الّذي يأوي إليه‏,‏ ومنه قوله تعالى في التّنزيل‏:‏ ‏{‏ جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏}‏ وأوى إلى منزله من باب ضرب أوياً‏:‏ أقام وربّما عدّي بنفسه فقيل‏:‏ أوى منزله وآواه‏.‏ غيره يؤويه إيواءً‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ‏}‏‏.‏

والمسكن أخص من المأوى‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمسكن

تتعلّق بالمسكن أحكام منها‏:‏

بيع المسكن للحجّ

3 - اختلف الفقهاء في بيع المسكن للحجّ كسبب من أسباب الاستطاعة‏,‏ فقال المالكيّة والحنابلة وهو الأصح عند الشّافعيّة إلى أنّ المسكن لا يباع للحجّ إذا كان على قدر حاجة الشّخص‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا يلزمه بيع المسكن للحجّ مطلقاً‏,‏ وهذا في الجملة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ سكنى ف / 32 ‏)‏‏.‏

بيع مسكن المفلس

4 - اختلف الفقهاء في بيع مسكن المفلس لتقسيم ثمنه على الغرماء‏.‏

فذهب أبو حنيفة والحنابلة وإسحاق وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة إلى أنّه لا تباع داره الّتي لا غنى له عن سكناها‏,‏ فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ وشريح وابن المنذر ومحمّد وأبو يوسف - وبقولهما يفتى - إلى أنّه يباع مسكنه ويكترى له بدله‏,‏ لأنّ تحصيل السّكن بالكراء يسهل‏.‏

فإن كان له داران يستغني بسكنى إحداهما عن الأخرى فتباع الأخرى‏,‏ وكذا إن كان مسكنه واسعاً لا يسكن مثله في مثله بيع واشتري له مسكن مثله وردّ الفضل على الغرماء‏.‏

ولو كان المسكن الّذي لا يستغني عنه هو عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها‏.‏

مسكن المعتدّة

5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المعتدّة عن طلاقٍ رجعيٍّ والمعتدّة عن طلاقٍ بائن إذا كانت حاملاً فإنّه يجب لكلّ منهما السكنى على مطلّقها‏,‏ أمّا المعتدّة عن طلاقٍ بائن وهي غير حامل وكذا المعتدّة عن وفاة‏,‏ والمعتدّة عن فسخٍ فقد اختلف الفقهاء في وجوب السكنى لكلّ منهنّ أو عدم وجوبها‏,‏ وذلك على تفصيل في مصطلح ‏(‏ سكنى ف / 12 - 15 ‏)‏‏.‏

مسكن الزّوجة

6 - السكنى للزّوجة على زوجها واجبة وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ‏;‏ لأنّ اللّه تعالى جعل للمطلّقة الرّجعيّة السكنى على زوجها فوجوب السكنى للّتي هي في صلب النّكاح أولى‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ سكنى ف / 4 وما بعدها ‏)‏‏.‏

مَسْكُوك

التّعريف

1 - المسكوك في اللغة‏:‏ المضروب من الدّراهم والدّنانير‏,‏ أي المعلّمة بالسّكّة‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّبر‏:‏

2 - التّبر لغةً‏:‏ هو ما كان غير مسكوكٍ من الذّهب‏,‏ فإن ضرب فدنانير‏,‏ قال ابن فارس‏:‏ التّبر ما كان من الذّهب والفضّة غير مصوغ‏,‏ وقال الزّجّاج‏:‏ التّبر كل جوهر قبل استعماله كالنحاس والحديد‏.‏

والتّبر اصطلاحاً‏:‏ اسم للذّهب والفضّة قبل ضربهما أو للأوّل فقط‏.‏

ب - السّكّة‏:‏

3 - من معاني السّكّة في اللغة‏:‏ أنّها حديدة منقوشة تطبع بها الدّراهم والدّنانير وتطلق على المسكوك من النّقدين‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمسكوك

أ - حكم السّكّ‏:‏

4 - سك النقود من ضروريّات التّعامل بها وهي من المصالح العامّة لأنّ النّقد لا يكون معتبراً في المعاملات اليوميّة إلّا إذا خلص من الغشّ‏,‏ فلا تصلح نقار الفضّة وسبائك الذّهب لذلك‏,‏ لأنّه لا يوثق بهما إلّا بالسّكّ والتّصفية‏,‏ والمطبوع موثوق به‏,‏ ولذلك كان هو الثّابت بالذّمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات فلزم سكها‏,‏ لأنّها من ضروريّات الانتفاع بها‏.‏

والمطبوع بالسّكّة السلطانيّة الموثوق بسلامة طبعه المأمون من تبديله وتلبيسه أولى بالوثوق فصار سك النقود من وظيفة الإمام ويكره لغير الإمام من الأفراد سك النقود وإن كانت خالصةً‏,‏ لأنّه من شأن الإمام‏,‏ وفي سكّ غيره افتيات عليه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ دراهم ف / 7 ‏)‏‏.‏

ب - كسر المسكوك‏:‏

5 - اختلف الفقهاء في حكم كسر المسكوك‏:‏

فذهب مالك وأكثر فقهاء أهل المدينة إلى أنّه مكروهٌ‏,‏ لأنّه من جملة الفساد في الأرض وينكر على فاعله‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ دراهم ف / 8 ‏)‏‏.‏

ج - زكاة المسكوك المغشوش‏:‏

6 - اختلف الفقهاء في وجوب الزّكاة في المغشوش‏.‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تجب الزّكاة في المغشوش من النّقدين حتّى يبلغ خالصه نصاباً‏,‏ فإذا بلغه أخرج الواجب خالصاً‏,‏ أو أخرج من المغشوش ما يعلم اشتماله على خالصٍ بقدر الواجب مع مراعاة درجة الجودة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا كان الغالب على الورق المسكوك الفضّة فهو في حكم المضروب‏,‏ فتجب فيها الزّكاة كأنّه كله فضّة‏,‏ ولا تزكّى زكاة العروض‏,‏ أمّا إذا كان الغالب الغشّ فلا يكون لها حكم الفضّيّة بل حكم العروض‏,‏ فلا زكاة فيها إلّا إن نواها للتّجارة وبلغت نصاباً بالقيمة‏.‏ قال المالكيّة إن كانت مسكوك الدّراهم والدّنانير المغشوشة رائجةً كرواج غير المغشوشة فإنّها تعامل كالكاملة‏,‏ فتكون فيها الزّكاة إن بلغ وزنها بما فيها من الغشّ نصاباً‏,‏ وإلّا بأن لم ترج رواج الكاملة حسب الخالص فإن بلغ نصاباً زكّي وإلّا فلا‏.‏

وذكر المالكيّة حكم إخراج غير المسكوك عن المسكوك في الزّكاة فقالوا‏:‏ جاز إخراج ذهب عن ورقٍ وإخراج ورقٍ عن ذهب بلا أولويّة لأحدهما على الآخر باعتبار صرف الذّهب بالورق الجاري بين النّاس في وقت إخراج أحدهما عن الآخر حال كون صرف الوقت مطلقاً عن تقييده بمساواة الصّرف الشّرعيّ‏,‏ وهو كون الدّينار بعشرة دراهم‏,‏ وباعتبار قيمة للسّكّة في النّصاب المزكّى إن أراد أن يخرج عنه غير مسكوكٍ‏,‏ فمن أوجب عليه دينار مسكوك وصرفه في ذلك الوقت عشرة دراهم مسكوكةً وجب عليه أن يزيد على وزن العشرة من الفضّة غير المسكوكة قيمة سكّتها عند أهل المعرفة‏,‏ هذا إذا كان غير المسكوك من غير نوع النّصاب كما في المثال‏,‏ بل ولو كان إخراج غير المسكوك عن المسكوك في نوع واحد‏,‏ وعلى هذا ابن الحاجب وابن بشير وابن عبد السّلام وخليل لا باعتبار قيمة الصّياغة في النّوع الواحد‏,‏ فمن عنده ذهب مصوغ وزنه أربعون ديناراً وقيمته خمسون ديناراً لصياغته فالواجب عليه زكاة الأربعين لا الخمسين‏.‏

وفي إلغاء قيمة الصّياغة في غير النّوع الواحد كمن عنده ذهب مصوغ وزنه أربعون ديناراً وقيمته خمسون ديناراً لأجل الصّياغة وأراد أن يزكّيه بدراهم فهل يلغي قيمة الصّياغة ويخرج صرف دينار أو يعتبرها ويخرج صرف دينار وربع‏,‏ تردد بين أبي عمران وابن الكاتب لعدم نصّ المتقدّمين‏.‏

د - التّعامل بالمسكوك المغشوش‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في حكم التّعامل بالمسكوك من الذّهب والفضّة إذا كان مغشوشاً فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك‏,‏ مع تقييد المالكيّة بأن لا تباع لمن يغش بها النّاس‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كان الغش خافياً لم يجز‏,‏ وإن كان ظاهراً فعلى روايتين‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ دراهم ف / 9 ‏)‏‏.‏

مِسْكِين

التّعريف

1 - المسكين في اللغة‏:‏ بكسر الميم‏,‏ قال الفيروز آبادي‏:‏ وتفتح ميمه‏:‏ من لا شيء له‏,‏ أو له ما لا يكفيه‏,‏ أو أسكنه الفقر‏,‏ أي قلّل حركته‏,‏ والذّليل والضّعيف‏.‏

وأمّا في الاصطلاح‏:‏ فقد اختلف الفقهاء في حدّ المسكين‏.‏

فقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ هو من لا يملك شيئاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ هو من قدر على مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ هو من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الفقير‏:‏

2 - الفقير في اللغة‏:‏ ضد الغنيّ‏,‏ والفقير أيضاً المحتاج‏.‏

وفي الاصطلاح قال الحنفيّة‏:‏ هو من يملك دون نصاب من المال النّامي أو قدر نصاب غير نام مستغرق في حاجته‏.‏

وعرّفه المالكيّة بأنّه‏:‏ من يملك شيئاً لا يكفيه قوت عام وعرّفه الشّافعيّة بأنّه‏:‏ من لا مال ولا كسب يقع موقعاً من حاجته‏.‏

وعرّفه الحنابلة بأنّه‏:‏ من لا يجد شيئاً ألبتّة‏,‏ أو يجد شيئاً يسيراً من الكفاية دون نصفها ممّا لا يقع موقعاً من كفايته‏.‏

والصّلة بين الفقير والمسكين أنّ كلاً منهما اسم ينبئ عن الحاجة‏,‏ وأنّ كليهما من مصارف الزّكاة والصّدقات‏.‏

ما يتعلّق بالمسكين من أحكام

دفع الزّكاة للمسكين وشروطه

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسكين يعتبر مصرفاً من مصارف الزّكاة‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ‏}‏‏.‏

ويشترط في إعطاء الزّكاة له شروط‏,‏ تفصيلها في مصطلح ‏(‏ زكاة ف / 157 وما بعدها ‏)‏‏.‏

دفع الكفّارة والفدية إلى المساكين

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ من عجز عن الصّيام في أداء كفّارة الظّهار‏,‏ وكفّارة الجماع في رمضان‏,‏ لمرض أو غيره من الأعذار‏,‏ كفّر بإطعام ستّين مسكيناً‏.‏

واختلفوا في اشتراط التّمليك في الإطعام‏,‏ وكذلك في مقدار ما يعطى لكلّ مسكين‏,‏ وتكرار الإعطاء لمسكين واحد‏,‏ وغير ذلك من الفروع سبق تفصيلها في مصطلح ‏(‏ كفّارة ف / 7‏,‏ 78 ‏)‏‏.‏

ودفع الكفّارة والفدية إلى المساكين يكون بإطعامهم‏,‏ إلّا أنّه يختلف عدد المساكين الواجب إطعامهم بحسب اختلاف الكفّارات‏.‏

فالإطعام قد يكون لستّين مسكيناً كما في كفّارة الظّهار‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ‏}‏‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح ظهار ف / 8 ‏)‏ وكذلك كفّارة الجماع في نهار رمضان عامداً أو ناسياً على اختلاف الأقوال‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح صوم ف / 68 ‏)‏‏.‏

وقد يكون لعشرة مساكين كما في كفّارة اليمين المنعقدة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ‏}‏‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح كفّارة ف / 8 ‏)‏‏.‏

وقد يكون لستّة مساكين كمن فعل من محظورات الإحرام شيئاً لعذر‏,‏ أو دفع أذًى‏,‏ فإن كان عليه الفدية يتخيّر فيها بين أن يذبح هدياً أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين أو يصوم ثلاثة أيّام‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح إحرام ف / 148 ‏)‏‏.‏

وقد يكون لمسكين واحد كما في الشّيخ الكبير الّذي يجهده الصّوم‏,‏ والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما وأفطروا فعليهم الفدية‏,‏ وهو إطعام مسكين واحد مكان كلّ يوم على اختلاف الأقوال‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح فدية ف / 10 ‏)‏‏.‏

وقد يكون إطعام الطّعام من غير بيان عدد معيّن من المساكين كما في فدية المحرم لقتل الصّيد إذا اشترى بالقيمة طعاماً وتصدّق بها على المساكين‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ مصطلح إحرام ف / 160‏,‏ 163 ‏)‏‏.‏