فصل: بيع الجزاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


بيع الجزاف

التّعريف

1 - الجزاف اسم من جازف مجازفةً من باب قاتل، والجُزاف بالضّمّ خارج عن القياس والقياس بكسر الجيم‏.‏ وهو في اللّغة من الجزف، أي الأخذ بكثرة، وجزف في الكيل جزفاً‏:‏ أكثر منه‏.‏ ويقال لمن يرسل كلامه إرسالاً من غير قانون‏:‏ جازف في كلامه، فأقيم نهج الصّواب في الكلام مقام الكيل والوزن‏.‏

وبيع الجزاف اصطلاحاً‏:‏ هو بيع ما يكال، أو يوزن، أو يُعَدّ، جملةً بلا كيل ولا وزن، ولا عدّ‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - الأصل أنّ من شرط صحّة عقد البيع أن يكون المبيع معلوماً، ولكن لا يشترط العلم به من كلّ وجه، بل يشترط العلم بعين المبيع وقدره وصفته، وفي بيع الجزاف يحصل العلم بالقدر، كبيع صبرة طعام، دون معرفة كيلها أو وزنها، وبيع قطيع الماشية دون معرفة عددها، وبيع الأرض دون معرفة مساحتها، وبيع الثّوب دون معرفة طوله‏.‏

وبيع الجزاف استثني من الأصل لحاجة النّاس واضطرارهم إليه، بما يقتضي التّسهيل في التّعامل‏.‏ قال الدّسوقيّ‏:‏ الأصل في بيع الجزاف منعه، ولكنّه خفّف فيما شقّ علمه من المعدود، أو قلّ جهله في المكيل والموزون‏.‏

ودليله حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - «كنّا نشتري الطّعام من الرّكبان جزافاً، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه»‏.‏ وفي رواية‏:‏ «رأيت النّاس في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطّعام جزافاً يضربون في أن يبيعوه في مكانه، وذلك حتّى يؤووه إلى رحالهم»‏.‏ وفي رواية‏:‏ «يحوّلوه» وفي أخرى‏:‏ أنّ عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما كان يشتري الطّعام جزافاً فيحمله إلى أهله فدلّ على أنّهم كانوا يتعاملون ببيع الجزاف، فيكون هذا دالّاً على جوازه، وألفاظ الرّواية تدلّ على أنّه كان في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم، ممّا يفيد حكم الرّفع‏.‏ ولهذا اتّفق الفقهاء على جوازه من حيث الجملة، والأظهر عند الشّافعيّة جوازه مع الكراهة‏.‏

شروط بيع الجزاف

3 - اشترط المالكيّة لجواز بيع الجزاف ستّة شروط‏:‏

- أ - أن يرى المبيع جزافاً حال العقد، أو قبله إذا استمرّ على حاله إلى وقت العقد دون تغيير، وهذا ما لم يلزم على الرّؤية فساد المبيع، كقلال الخلّ المطيّنة يفسدها فتحها، فيكتفى برؤيتها في مجلس العقد‏.‏

- ب - أن يجهل المتبايعان معاً قدر الكيل أو الوزن أو العدد، فإن كان أحدهما يعلم قدرها فلا يصحّ‏.‏

- ج - أن يحزرا ويقدّرا قدره عند إرادة العقد عليه‏.‏

- د - أن تستوي الأرض الّتي يوضع عليها المبيع‏.‏

- هـ - ألا يكون ما يراد بيعه جزافاً كثيراً جدّاً، لتعذّر تقديره‏.‏ سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً‏.‏ كما يشترط ألا يقلّ جدّاً إن كان معدوداً، لأنّه لا مشقّة في معرفة قدره بالعدّ‏.‏ أمّا إن كان مكيلاً أو موزوناً فيجوز وإن قلّ جدّاً‏.‏

- و-أن يشقّ عدّه ولا تقصد أفراده بالبيع، سواء قلّ ثمنه أو لم يقلّ كالبيض‏.‏

وإذا قصدت أفراده جاز بيعه جزافاً إن قلّ ثمنه بالنّسبة لبعضها مع بعض‏.‏ ومنع من بيعه جزافاً إن لم يقلّ ثمنها كالثّياب‏.‏

أمّا إذا لم يشقّ عدّه لم يجز أن يباع جزافاً، سواء أقصدت أفراده أم لم تقصد، قلّ ثمنها أو لم يقلّ‏.‏ وانفرد المالكيّة في تفصيل الشّروط على هذا النّحو، وإن كان منها ما شاركهم غيرهم في اعتبارها، كما في الشّرط الأوّل والثّاني والرّابع‏.‏ كما سيأتي تفصيله‏.‏

ولبيع الجزاف صور تختلف أحكامها على التّفصيل التّالي‏:‏

بيع الصّبرة جزافاً

4 - الصّبرة هي‏:‏ الكومة المجتمعة من الطّعام ونحوه‏.‏

والصّبرة المجهولة القدر المعلومة بالرّؤية، إمّا أن تباع بثمن إجماليّ، وإمّا أن تباع على أساس السّعر الإفراديّ، كما لو قال‏:‏ كلّ صاع منها بكذا‏.‏

فأمّا النّوع الأوّل، فقد قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم في جوازه خلافاً إن كان ممّا يتساوى أجزاؤه‏.‏ ويشترط عند الجميع أن لا يكون من الأموال الرّبويّة إذا بيع شيء منها بجنسه كما يأتي‏.‏ وأمّا الثّاني‏:‏ وهو بيع الصّبرة الّتي يجهل مقدار كيلها أو وزنها على أساس سعر وحدة الكيل أو الوزن، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن وأبو يوسف من الحنفيّة‏:‏ إلى جواز بيع الصّبرة الّتي يجهل عدد صيعانها مجازفةً، بأن يقول‏:‏ بعتك هذه الصّبرة من الطّعام كلّ صاع بدرهم، لأنّ رؤية الصّبرة تكفي في تقديرها، ولا يضرّ الجهل بجملة الثّمن، لأنّ بالإمكان معرفته بالتّفصيل بكيل الصّبرة، فيرتفع الغرر، وتزول الجهالة‏.‏ وذهب أبو حنيفة‏:‏ إلى أنّ البيع يجوز في قفيز واحد، ولا يجوز في الصّبرة كلّها، إلاّ إذا عرف عدد الصّيعان، وذلك لتعذّر صرف البيع إلى الكلّ للجهالة بالمبيع والثّمن، فيصرف إلى الأقلّ وهو معلوم‏.‏

فإذا زالت الجهالة بتسمية جملة القفزان، أو بأن تكال الصّبرة في مجلس العقد، جاز بيع الصّبرة ويخرج بذلك عن أن يكون جزافاً‏.‏

تساوي موضع صبرة الطّعام عند بيعها جزافاً

5 - لا يحلّ للبائع في بيع صبرة الطّعام جزافاً أن يضعها على موضع ينقصها، كأن تكون على دكّة أو حجر ونحوه، وكذلك السّمن ونحوه من المائعات الّتي تباع بوضعها في ظرف أو إناء، فلا يجوز للبائع - إن باعها جزافاً - أن يكون الظّرف ممّا تختلف أجزاؤه رقّةً وغلظاً، لأنّ هذا غشّ يؤدّي إلى الغرر والجهالة والنّزاع، فلا يمكن معه تقديرها بمجرّد رؤيتها‏.‏ فإذا كانت الصّبرة على دكّة أو ربوة أو حجر لينقصها سواء أقصد البائع أم لم يقصد، فاشتراها المشتري وهو غير عالم بذلك، فالبيع صحيح وملزم للبائع، وللمشتري الخيار في فسخ العقد، أو الرّجوع بالنّقص في الثّمن على البائع، بأن تقوّم الصّبرة مغشوشةً مع وضعها على دكّة أو حجر، وتقوّم بدون ذلك، فما نقص من ثمنها رجع به المشتري على البائع‏.‏ وإن باعه صبرة الطّعام، وظهر أنّ تحتها حفرةً فلا خيار للمشتري، لأنّ ذلك ينفعه ولا يضرّه، لأنّه سيزيد في قدرها‏.‏ وللبائع الخيار إن لم يعلم بالحفرة‏.‏

بيع المذروعات والمعدودات المتفاوتة جزافاً

6 - ذهب الجمهور إلى جواز أن يباع قطيع الماشية مع الجهل بعدده، كلّ رأس بكذا‏.‏

وأن تباع الأرض والثّوب جزافاً، كلّ ذراع بكذا، مع الجهل بجملة الذّرعان‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى عدم الجواز، وهو قول ابن القطّان من الشّافعيّة‏.‏

والفرق بين المكيلات والموزونات، وبين المعدودات والمذروعات‏:‏ أنّ الأولى لا تتفاوت أجزاؤها في العادة تفاوتاً فاحشاً إذا فرّقت، فتكفي رؤيتها جملةً‏.‏ أمّا المعدودات والمذروعات كالماشية والأرض، فتتفاوت أجزاؤها إذا فرّقت، ولا تكفي رؤيتها جملةً‏.‏

البيع جزافاً مع علم أحد المتبايعين بقدر المبيع

7 - يشترط لصحّة بيع الجزاف أن يكون المتبايعان يجهلان قدر المبيع جميعاً، أو يعلمانه جميعاً، ولا يجوز البيع جزافاً مع علم أحد المتعاقدين بقدر المبيع دون الآخر، وذلك عند المالكيّة والحنابلة وفي وجه للشّافعيّة‏.‏

ووجه عدم الجواز عندهم‏:‏ ما فيه من الغرر، فإنّ بيع الجزاف جاز للضّرورة والحاجة فيما يباع تخميناً وحزراً، فإذا عرف قدره لم يجز أن يباع جزافاً إذ لا ضرورة فيه‏.‏

ويترتّب عليه أن يردّ المشتري السّلعة الّتي اشتراها جزافاً، إذا علم بعلم البائع بقدرها، وللبائع فسخ العقد إذا علم بعلم المشتري بقدرها‏.‏

وعند الحنفيّة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يصحّ مع علم أحد المتعاقدين بمقدار المبيع‏.‏ وعن أحمد رواية بكراهته وعدم تحريمه، مراعاةً لخلاف العلماء فيه‏.‏

بيع الرّبويّ بجنسه جزافاً

8 - لا يجوز أن يباع المال الرّبويّ بجنسه مجازفةً‏.‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء‏.‏ يداً بيد‏}‏ فدلّ الحديث على أنّه لا يباع الرّبويّ بجنسه إلاّ بتحقّق المماثلة بينهما، وإلاّ بالتّقابض‏.‏

ولا يمكن أن تتحقّق المماثلة في البيع الجزاف، لأنّه قائم على التّخمين والتّقدير، فيبقى احتمال الرّبا قائماً، وقد «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهي بيع الثّمر الرّطب بالثّمر الجافّ»، وذلك فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرّجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كلّه»‏.‏

وذلك لأنّه ينقص إذا جفّ، فيكون مجهول المقدار‏.‏

والقاعدة في الرّبويّات‏:‏ أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل‏.‏

ضمّ معلوم في البيع أو جزاف إلى جزاف

9 - إذا ضمّ جزاف إلى جزاف في البيع بثمن واحد أو بثمنين لم يمنع ذلك صحّة البيع، لأنّهما في معنى الجزاف الواحد، من حيث تناول الرّخصة لهما‏.‏ كما لو قال‏:‏ بعتك صبرتي التّمر والحبّ هاتين، أو بعتك ثمرة حائطيّ هذين جزافاً بثلاث دنانير، أو قال‏:‏ أولاهما بدينار، والثّانية بدينارين‏.‏ وكذا لو ضمّ إلى الجزاف سلعةً ممّا لا يباع كيلاً أو وزناً، كما لو قال‏:‏ بعتك هذه الصّبرة وهذه الدّابّة بعشرة دنانير‏.‏

أمّا إن ضمّ في البيع إلى الجزاف معلوم بكيل أو وزن أو عدد، فقد يؤدّي ذلك إلى فساد البيع، لأنّ انضمامه إليه يصيّر في المعلوم جهلاً لم يكن‏.‏

وقد قسم المالكيّة انضمام المعلوم القدر بكيل أو وزن أو عدّ إلى أربع صور‏:‏ لأنّ الجزاف إمّا أن يكون الأصل فيه - بحسب العرف - أن يباع جزافاً كالأرض، أو أن يباع بالتّقدير كالكيل للحبوب‏.‏ وكذلك المعلوم القدر المنضمّ إليه، إمّا أن يكون الأصل فيه أن يباع جزافاً، أو أن يباع بالتّقدير‏:‏ فإن كان الجزاف أصله أن يباع جزافاً، والمعلوم القدر أصله أن يباع بالكيل أو الوزن أو العدّ، كجزاف أرض مع مكيل حبّ، صحّ البيع في هذه الصّورة،لأنّ كلاً منهما بيع على أصله‏.‏ ويفسد البيع في الصّور الثّلاث الأخرى، لمخالفة الأصل في كليهما أو في أحدهما، وأمثلتها‏:‏

أ - جزاف حبّ مع مكيل أرض ‏(‏أي أرض مقدرة بالمساحة‏)‏‏.‏

ب - جزاف حبّ مع مكيل حبّ‏.‏

ج - جزاف أرض مع مكيل أرض‏.‏ هذا كلّه في الجزاف إذا بيع على غير كيل أو نحوه‏.‏

أمّا إن بيع الجزاف على كيل أو نحوه فلا يجوز أن يضمّ إليه شيء غيره مطلقاً، كأن قال‏:‏ بعتك هذه الصّبرة كلّ صاع بدرهم، على أنّ مع المبيع سلعة كذا من غير تسمية ثمن لها، بل ثمنها من جملة ما اشترى به الصّبرة، لأنّ ما يخصّ السّلعة من الثّمن حين البيع مجهول، ومعنى مطلقاً‏:‏ أي سواء كانت السّلعة من جنس الصّبرة، أو من غير جنسها، لأنّه إذا سمّى الثّمن فبان أنّه يساوي أكثر، وسامح فيه البائع من أجل إتمام الصّفقة جزافاً، كانت التّسمية كعدمها، لأنّه صار بمثابة الّذي لم يسمّ‏.‏

وإذا لم يسمّ ثمنها، كان ما يخصّ السّلعة من الثّمن مجهولاً‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ لو قال‏:‏ بعتك هذه الصّبرة وقفيزاً من هذه الصّبرة الأخرى بعشرة دراهم صحّ‏.‏ أمّا لو قال‏:‏ بعتك هذه الصّبرة، كلّ قفيز بدرهم، على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصّبرة الأخرى لم يصحّ‏.‏ قالوا‏:‏ لإفضائه إلى جهالة الثّمن في التّفصيل، لأنّه يصير قفيزاً وشيئاً بدرهم، والشّيء لا يعرفانه، لعدم معرفتهما بكمّيّة ما في الصّبرة من القفزان‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى بطلان البيع في صورة ما إذا قال البائع‏:‏ بعتك هذه الصّبرة كلّ صاع بدرهم، على أن أزيدك صاعاً من هذه الصّبرة الأخرى‏.‏ لأنّه يفضي إلى الجهالة في جملة الثّمن وتفصيله، فيصير كأنّه باعه صاعاً وشيئاً بدرهم، والشّيء لا يعرف، للجهالة بكمّيّة ما في الصّبرة من الصّيعان‏.‏ ولم نطّلع على تفصيل للحنفيّة في هذه المسألة‏.‏

10 - لو باع هذه الصّبرة أو نحوها بمائة درهم، كلّ صاع أو رأس أو ذراع بدرهم صحّ البيع، إن خرج ما باعه مائةً، لتوافق الجملة والتّفصيل فلا غرر ولا جهالة‏.‏ وإن لم تخرج مائةً، بأن خرجت أقلّ أو أكثر، لم يصحّ البيع على الصّحيح عند الشّافعيّة، وذلك لتعذّر الجمع بين الجملة والثّمن وتفصيله‏.‏ والوجه الثّاني عندهم أنّه يصحّ تغليباً للإشارة‏.‏

ظهور المبيع أقلّ أو أكثر من المسمّى

11 - من ابتاع صبرة طعام على أنّها مائة قفيز بمائة درهم، فوجدها أقلّ أو أكثر، ومن ابتاع ثوباً على أنّه عشرة أذرع بعشرة دراهم، أو أرضاً على أنّها مائة ذراع بمائة درهم، فوجدها أقلّ أو أكثر، ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة البيع في هذه الصّورة، سواء ظهر المبيع زائداً أم ناقصاً عمّا وقع عليه الاتّفاق في العقد‏.‏

وسواء أكان المبيع ثوباً أم أرضاً من المذروعات، أو صبرة طعام من المكيلات‏.‏ وفي رواية للحنابلة‏:‏ أنّ البيع باطل، إذا كان المعقود عليه أرضاً أو ثوباً، وذلك لاختلال الوصف فيهما، لأنّه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزّيادة، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ البعض، لأنّه اشترى الكلّ‏.‏ كما لا يجبران على الشّركة في القدر الزّائد للضّرر الحاصل بسبب الشّركة‏.‏ واتّفق الفقهاء - من حيث الجملة - على ثبوت الخيار للبائع في حال الزّيادة، وللمشتري في حال النّقصان في الصّورة المتقدّمة‏.‏

وفرّق الحنفيّة والحنابلة بين ما يباع ذرعاً كالثّوب والأرض، وبين ما يباع كيلاً كصبرة الطّعام، ولم يفرّق الشّافعيّة بينهما، بل أثبتوا الخيار لمن عليه الضّرر مطلقاً‏.‏

ففي صورة ما إذا ابتاع صبرةً من طعام على أنّها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقلّ‏.‏

ذهب الحنفيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصّته من الثّمن، وإن شاء فسخ البيع، وذلك لأنّ الثّمن ينقسم على أجزاء المبيع المثليّ مكيلاً أو موزوناً، ولم يتمّ رضا المشتري به لأنّه أقلّ ممّا تمّ العقد عليه، ولهذا كان له خيار أخذ الموجود بحصّته من الثّمن، وكان له خيار الفسخ لأنّه وجد المبيع ناقصاً‏.‏

وفي قول للحنابلة‏:‏ أنّه ليس له خيار الفسخ، لأنّ نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ للمشتري الخيار بين أن يأخذ الموجود بكلّ الثّمن المسمّى، وبين الفسخ‏.‏ وإذا وجد الصّبرة أكثر ممّا تمّ عليه الاتّفاق‏:‏ ردّ المشتري الزّيادة للبائع لأنّه تضرّر بالزّيادة، ولأنّ البيع وقع على مقدار معيّن، فما زاد عليه لا يدخل في البيع‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والحنابلة‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ يثبت الخيار للبائع، ولا يسقط خياره فيما إذا قال المشتري للبائع‏:‏ لا تفسخ، وأنا أقنع بالقدر المشروط، أو أنا أعطيك ثمن الزّائد‏.‏

وإذا كان ما يباع جزافاً مذروعاً كالثّوب والأرض، وظهر أنّه أقلّ ممّا اتّفق عليه في العقد، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ المشتري بالخيار بين أن يأخذ الموجود بجملة الثّمن وبين أن يترك البيع، ولا يسقط خيار المشتري فيما إذا حطّ البائع من الثّمن قدر النّقص‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ المشتري بالخيار بين أن يأخذ الموجود بحصّته من الثّمن، أو أن يترك البيع‏.‏ وإذا ظهر أنّ المبيع أكثر ممّا اتّفق عليه، فذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّيادة للمشتري بالثّمن نفسه، لأنّ الذّرع كالوصف، والأوصاف لا يقابلها شيء من الثّمن، ولا خيار للبائع‏.‏ وذهب الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ البائع بالخيار‏.‏

وللحنابلة تفصيل في مذهبهم‏:‏ فذهبوا إلى تخيير البائع بين تسليم المبيع زائداً، وبين تسليم القدر الموجود‏.‏ فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري، لأنّه زاده خيراً‏.‏ وإن أبى تسليمه زائداً، فللمشتري الخيار بين الفسخ أو الأخذ بجميع الثّمن المسمّى وقسط الزّائد‏.‏ فإن رضي بالأخذ أخذ العشرة، والبائع شريك له في الذّراع‏.‏

وفي تخيير البائع في الفسخ وجهان‏.‏ الأوّل‏:‏ له الفسخ، لأنّ عليه ضرراً في المشاركة‏.‏

الثّاني‏:‏ لا خيار له، لأنّه رضي ببيع الجميع بهذا الثّمن‏.‏ فإذا وصل إليه الثّمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادةً على ما رضي به من الثّمن، فلا يستحقّ بها الفسخ‏.‏ فإن بذلها البائع للمشتري بثمن، أو طلبها المشتري بثمن، لم يلزم الآخر القبول، لأنّها معاوضة يعتبر فيها التّراضي منهما، فلا يجبر واحد منهما عليه‏.‏ وإن تراضيا على ذلك جاز‏.‏

ووجه التّفريق بين المذروعات والمكيلات‏:‏ أنّ المتّفق عليه في العقد على المكيلات هو القدر، أمّا في المذروعات فهو الوصف‏.‏

والقدر يقابله الثّمن، أمّا الوصف فهو تابع للمبيع، ولا يقابله شيء من الثّمن‏.‏ ولهذا يأخذ المبيع بحصّته من الثّمن، إذا فات القدر المتّفق عليه‏.‏ ويأخذ المبيع بالثّمن كاملاً، إذا فات الوصف المتّفق عليه‏.‏ فلو قال البائع‏:‏ بعتك الثّوب على أنّه مائة ذراع بمائة درهم، كلّ ذراع بدرهم، فوجدها ناقصةً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بحصّتها من الثّمن، وإن شاء ترك‏.‏ لأنّ الوصف وإن كان تابعاً للمبيع، إلاّ أنّه صار أصلاً، لأنّه أفرد بذكر الثّمن، فينزّل كلّ ذراع منزله ثوب مستقلّ‏.‏

لأنّه لو أخذ بكلّ الثّمن لم يكن آخذاً لكلّ ذراع بدرهم‏.‏ فإن وجدها زائدةً، فهو بالخيار إن شاء أخذ الجميع كلّ ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع، لأنّه إن حصل له الزّيادة في الذّرع تلزمه زيادة الثّمن، فكان نفعاً يشوبه ضرر، فيخيّر بين أخذ الزّيادة وبين فسخ البيع‏.‏

بيع الحاضر للبادي

التّعريف

1 - الحاضر‏:‏ ضدّ البادي، والحاضرة ضدّ البادية‏.‏

والحاضر‏:‏ من كان من أهل الحضر، وهو ساكن الحاضرة، وهي المدن والقرى، والرّيف وهو أرض فيها - عادةً - زرع وخصب‏.‏

وقال الشّلبيّ‏:‏ الحاضر‏:‏ المقيم في المدن والقرى‏.‏ والبادي‏:‏ ساكن البادية، وهي ما عدا ذلك المذكور من المدن والقرى والرّيف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ يأتِ الأحزابُ يَوَدُّوا لو أَنَّهم بَادُونَ في الأَعْرابِ‏}‏ أي نازلون، وقال الشّلبيّ‏:‏ المقيم بالبادية‏.‏ والنّسبة إلى الحاضرة‏:‏ حضريّ، وإلى البادية بدويّ‏.‏ وعبّر بعض المالكيّة‏:‏ ببيع حاضر لعموديّ، والعموديّ هو البدويّ، نسبةً إلى عمود، لأنّ البدو يسكنون الخيام‏.‏

غير أنّ الحنابلة اعتبروا البدويّ شاملاً للمقيم في البادية، ولكلّ من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء أكان بدويّاً، أم كان من قرية أو بلدة أخرى‏.‏ وهو قول عند المالكيّة‏.‏

2 - والمراد ببيع الحاضر للبادي عند الجمهور‏:‏ أن يتولّى الحضريّ بيع سلعة البدويّ، بأن يصير الحاضر سمساراً للبادي البائع‏.‏

قال الحلوانيّ‏:‏ هو أن يمنع السّمسار الحاضرُ القرويَّ من البيع، ويقول له‏:‏ لا تبع أنت، أنا أعلم بذلك، فيتوكّل له، ويبيع ويغالي، ولو تركه يبيع بنفسه لرخّص على النّاس‏.‏ فالبيع - على هذا - هو من الحاضر للحاضر نيابةً عن البادي، بثمن أغلى‏.‏

وعلى هذا التّفسير، تكون اللّام في «ولا يبيع حاضرٌ لباد» على حقيقتها كما يقول ابن عابدين، وهي‏:‏ التّعليل‏.‏

3 - وذهب بعض الحنفيّة - كصاحب الهداية - إلى أنّ المراد بالحديث‏:‏ أن يبيع الحضريّ سلعته من البدويّ، وذلك طمعاً في الثّمن الغالي، فهو منهيّ عنه، لما فيه من الإضرار بأهل البلد‏.‏ وعلى هذا التّفسير تكون اللّام في «ولا يبيع حاضر لباد» بمعنى من - كما يقول البابرتيّ -‏:‏ فهذا تفسير من قال‏:‏ إنّ الحاضر هو المالك، والبادي هو المشتري‏.‏

قال الخير الرّمليّ‏:‏ ويشهد لصحّة هذا التّفسير، ما في الفصول العماديّة، عن أبي يوسف‏:‏ لو أنّ أعراباً قدموا الكوفة، وأرادوا أن يمتاروا ‏(‏يتزوّدوا من الطّعام‏)‏ منها، ألا ترى أنّ أهل البلدة يمنعون عن الشّراء للحكرة، فهذا أولى‏.‏

وصرّح الحصكفيّ من الحنفيّة، بأنّ الأصحّ - كما في المجتبى - أنّهما‏:‏ السّمسار والبائع ‏(‏وهو التّفسير الأوّل الّذي عليه الجمهور‏)‏ وذلك لوجهين‏:‏

أوّلهما‏:‏ موافقته لآخر الحديث في بعض رواياته‏:‏ «دعوا النّاس، يرزق اللّه بعضهم من بعض» الآخر‏:‏ أنّه عدّي باللام، لا بمن‏.‏

فعلى هذا يكون مذهب الحنفيّة، كالجمهور في تفسير الحديث‏.‏

النّهي عن هذا البيع

4 - لا يختلف الفقهاء في منع هذا البيع‏.‏ فقد ورد النّهي عنه في أحاديث كثيرة منها‏:‏ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه قال‏:‏ «لا تَلَقُّوا الرّكبانَ، ولا يبع بعضُكم على بيعِ بعض، ولا تَنَاجَشُوا، ولا يَبع حاضر لباد، ولا تصرُّوا الغنم» ومنها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يبع حاضر لباد، دعوا النّاس، يرزق اللّه بعضهم من بعض» ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه وأباه» وفي لفظ «وإن كان أخاه لأبيه وأمّه»‏.‏

علّة النّهي عن بيع الحاضر للبادي

اختلف الفقهاء في علّة هذا النّهي‏:‏

5 - أ - فمذهب الجمهور، بناءً على التّفسير الأوّل، أنّ المعنى في النّهي عن ذلك، هو ما يؤدّي إليه هذا البيع من الإضرار بأهل البلد، والتّضييق على النّاس‏.‏ والقصد أن يبيعوا للنّاس برخص‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ لم يختلف أهل العلم في أنّ النّهي عن بيع الحاضر للبادي إنّما هو لنفع الحاضرة، لأنّه متى ترك البدويّ يبيع سلعته، اشتراها النّاس برخص، ويوسّع عليهم السّعر، فإذا تولّى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلاّ بسعر البلد، ضاق على أهل البلد، وقد أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى‏.‏

6- ب - ومذهب بعض الحنفيّة، كالمرغينانيّ - على ما بيّنّا - والكاسانيّ، وكذلك التّمرتاشيّ - فيما يبدو بناءً على التّفسير الثّاني - أنّ المعنى في النّهي عن ذلك، وهو الإضرار بأهل المصر، من جهة أخرى غير الرّخص، وهي‏:‏ أن يكون أهل البلد في حال قحط وعوز إلى الطّعام والعلف، فلا يبيعهما الحضريّ - مع ذلك - إلاّ لأهل البدو، بثمن غال‏.‏

قيود النّهي

قيّد جمهور الفقهاء النّهي عن بيع الحاضر للبادي، بقيود وشروط شتّى منها‏:‏

7 - أن يكون ما يقدم به البادي، ممّا تعمّ الحاجة إليه، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم، فما لا يحتاج إليه إلاّ نادراً، لا يدخل تحت النّهي‏.‏

8- وأن يكون قصد البادي البيع حالاً، وهو ما عبّروا عنه بالبيع بسعر يومه، فلو كان قصده البيع على التّدريج، فسأله البلديّ تفويض ذلك إليه فلا بأس به، لأنّه لم يضرّ بالنّاس، ولا سبيل إلى منع المالك منه‏.‏ وهذان الشّرطان للشّافعيّة والحنابلة‏.‏

9- وأن يكون البيع على التّدريج بأغلى من بيعه حالاً، كما استظهره بعض الشّافعيّة‏.‏

قالوا‏:‏ لأنّه إذا سأل الحضريّ أن يفوّض له بيعه، بسعر يومه على التّدريج، لم يحمله ذلك على موافقته، فلا يكون سبباً للتّضييق، بخلاف ما إذا سأله أن يبيعه بأغلى، فالزّيادة ربّما حملته على الموافقة، فيؤدّي إلى التّضييق‏.‏

10 - وأن يكون البادي جاهلاً بالسّعر، لأنّه إذا علمه لم يزده الحاضر على ما عنده، ولأنّ النّهي لأجل أن يبيعوا للنّاس برخص، وهذه العلّة إنّما توجد إذا كانوا جاهلين بالأسعار، فإذا علموا بالأسعار فلا يبيعون إلاّ بقيمتها كما يبيع الحاضر، فبيع الحاضر حينئذ بمنزلة بيعهم‏.‏ وهذا الشّرط للمالكيّة والحنابلة‏.‏

ومع ذلك فقد أطلق الخرشيّ النّهي، سواء أكان البدويّ جاهلاً بالأسعار أم لا‏.‏

واختلف في المعتمد عند المالكيّة‏:‏ فالمعتمد عند العدويّ‏:‏ شرط الجهل بالأسعار‏.‏ وهو الّذي نصّ عليه ابن جزيّ‏.‏ والمعتمد عند آخرين - كما نقله الدّسوقيّ - هو الإطلاق‏.‏

11 - واشترط الحنابلة أن يكون البادي قد جلب السّلع، وحضر لبيعها، لأنّه إذا حضر لخزنها أو أكلها، فقصده الحاضر، وحضّه على بيعها، كان توسعةً لا تضييقاً‏.‏

12 - واشترط المالكيّة أن يكون البيع لحاضر، فلو باع الحاضر لبدويّ مثله، فإنّه يجوز، لأنّ البدويّ لا يجهل أسعار هذه السّلع، فلا يأخذها إلاّ بأسعارها، سواء اشتراها من حضريّ أم من بدويّ، فبيع الحضريّ له بمنزلة بيع بدويّ لبدويّ‏.‏

13 - واشترط الحنابلة أن يقصد البدويّ حاضر عارف بالسّعر، فإن قصده البادي لم يكن للحاضر أثر في عدم التّوسعة‏.‏

فإن اختلّ شرط من شروط المنع لم يحرم البيع من الحاضر للبادي عند القائل بذلك الشّرط‏.‏

14 - والحنفيّة، الّذين صوّر بعضهم النّهي‏:‏ بأن يبيع الحاضر طعاماً أو علفاً للبادي طمعاً في الثّمن الغالي، قيّدوا التّحريم بأن يضرّ البيع بأهل البلد، بأن يكونوا في قحط من الطّعام والعلف، فإن كانوا في خصب وسعة فلا بأس به لانعدام الضّرر، وعبارة الحصكفيّ‏:‏ وهذا في حال قحط وعوز، وإلاّ لا، لانعدام الضّرر‏.‏

15 - أمّا الّذين صوّروا منهم النّهي‏:‏ بأن يتولّى الحاضر بيع سلعة البدويّ، ويغالي فيها، وهذا هو الأصحّ، فقد قيّدوه‏.‏

بأن تكون السّلعة ممّا تعمّ الحاجة إليها كالأقوات، فإن كانت لا تعمّ، أو كثر القوت واستغني عنه، ففي التّحريم تردّد‏.‏ -وبما إذا كان أهل الحضر يتضرّرون بذلك‏.‏

حكم بيع الحاضر للبادي

16 - أ - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه محرّم مع صحّته، وصرّح به بعض الحنفيّة وعبّر عنه بعضهم بالكراهة، وهي للتّحريم عند الإطلاق‏.‏ كما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لكنّه مع ذلك صحيح عند جمهورهم، كما هو رواية عن الإمام أحمد‏.‏

والنّهي عنه لا يستلزم الفساد والبطلان، لأنّه لا يرجع إلى ذات البيع، لأنّه لم يفقد ركناً، ولا إلى لازمه، لأنّه لم يفقد شرطاً، بل هو راجع لأمر خارج غير لازم، كالتّضييق والإيذاء‏.‏ قال المحلّيّ‏:‏ والنّهي للتّحريم‏:‏ فيأثم بارتكابه العالم به، ويصحّ البيع‏.‏

ب - وفي رواية عن أحمد أنّ البيع صحيح ولا كراهة فيه، وأنّ النّهي اختصّ بأوّل الإسلام لما كان عليهم من الضّيق، قال أحمد‏:‏ كان ذلك مرّةً‏.‏

ج - مذهب المالكيّة، والمذهب عند الحنابلة، والأظهر عندهم، أنّ هذا البيع حرام، وهو باطل أيضاً وفاسد، كما نصّ عليه الخرقيّ، لأنّه منهيّ عنه، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه‏.‏ وكما نصّ عليه البهوتيّ بقوله‏:‏ فيحرم، ولا يصحّ لبقاء النّهي عنه وقال أحمد لمّا سئل عن هذا البيع‏:‏ أكره ذلك، وأردّ البيع في ذلك‏.‏ وفصّل المالكيّة في هذا، وقرّروا‏:‏ أوّلاً‏:‏ أنّه يفسخ البيع ما دامت السّلعة قائمةً لم تفت ببيع، أو عيب، أو موت،أو نحو ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ فإن فاتت مضى البيع بالثّمن ‏(‏الّذي وقع به البيع‏)‏ وهذا هو المعتمد‏.‏ وقيل‏:‏ بالقيمة‏.‏ وفيما يلي بعض الفروع التّفصيليّة عند غير الحنفيّة في هذا البيع‏:‏

17 - أوّلاً‏:‏ نصّ المالكيّة على أنّه - مع فسخ هذا البيع بشرط عدم فوات المبيع - يؤدّب كلّ من المالك والحاضر والمشتري، إن لم يعذر أحد منهم بجهله، بأن كان عالماً بالحرمة، ولا أدب على الجاهل لعذره بالجهل‏.‏ لكن هل يؤدّب مطلقاً، أم يؤدّب إن اعتاد هذا البيع ‏؟‏ قولان للمالكيّة في هذا‏.‏

والشّافعيّة قرّروا الإثم على العالم بالتّحريم، كما قال المالكيّة، وكذا الجاهل المقصّر، ولو فيما يخفى غالباً‏.‏ قالوا‏:‏ وللحاكم أن يعزّر في ارتكاب ما لا يخفى غالباً، وإن ادّعى جهله‏.‏ قال القليوبيّ‏:‏ إنّ الحرمة مقيّدة بالعلم أو التّقصير، وإنّ التّعزير مقيّد بعدم الخفاء‏.‏

غير أنّ القفّال من أئمّة الشّافعيّة، جعل الإثم هنا، على البلديّ دون البدويّ، وقرّر أنّه لا خيار للمشتري‏.‏ ثمّ عمّم الشّافعيّة اشتراط العلم بالحرمة، في كلّ منهيّ عنه‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ ولا بدّ هنا، وفي جميع المناهي، أن يكون عالماً بالنّهي، أو مقصّراً في تعلّمه، كما هو ظاهر، أخذاً من قولهم‏:‏ يجب على من باشر أمراً أن يتعلّم جميع ما يتعلّق به، ممّا يغلب وقوعه‏.‏

18 - ثانياً‏:‏ بما أنّ النّصّ ورد في النّهي عن البيع للبادي، فقد اختلف في حكم الشّراء له‏:‏

أ - مذهب المالكيّة التّفصيل بين الشّراء له بالنّقد أو بالسّلع‏:‏

فمنهم من يرى جواز الشّراء له بالنّقد وبالسّلع مطلقاً، أي سواء أحصّل السّلع بنقد أم بغير نقد، وهو ظاهر كلام الشّيخ خليل‏.‏

وخصّ الخرشيّ جواز الشّراء بالسّلع الّتي حصّلها بثمن ينقد، وأمّا الّتي حصّلها بغير النّقد، فلا يجوز أن يشتري له بها سلعاً، قال‏:‏ لأنّ العلّة الّتي في منع البيع له، تأتي حينئذ‏.‏ وقال آخرون منهم‏:‏ ظاهر كلام الأئمّة أنّه لا يجوز الشّراء له إلاّ بالنّقد، لا بالسّلع مطلقاً، وإلاّ كان بيعاً لسلعه، وهو ممنوع مطلقاً على المعتمد - كما تقدّم - واستوجه هذا الدّسوقيّ‏.‏

19 - ب - ومذهب الشّافعيّة متردّد في التّأثيم به أيضاً، فلو قدم من البدو من يريد الشّراء، فتعرّض له من الحضر من يشتري له رخيصاً‏:‏

- 1 - فابن يونس قال‏:‏ هو حرام، وبحث الأذرعيّ الجزم بالإثم، وله وجه - كما قال ابن حجر - وهو‏:‏ القياس على البيع، قال الشّروانيّ‏:‏ وهو المعتمد، لكن قيّده بأن يكون الثّمن ممّا تعمّ الحاجة إليه‏.‏ والقول بالمنع نقله أيضاً ابن هانئ من الحنابلة‏.‏

- 2 - وجمع من المتأخّرين اختاروا عدم الإثم في الشّراء، وفرّقوا بين البيع وبين الشّراء للبدويّ، بأنّ الشّراء غالباً بالنّقد، وهو لا تعمّ الحاجة إليه‏.‏

- 3 - أمّا ابن حجر، فذهب مذهب التّوفيق بين القولين، فحمل القول الأوّل بالإثم على ما إذا كان الشّراء بمتاع تعمّ الحاجة إليه، وحمل القول بعدم الإثم على خلافه، وهو ما إذا كان الشّراء بمتاع لا تعمّ الحاجة إليه‏.‏

20 - ج - ومذهب الحنابلة في الشّراء للبادي‏:‏ أنّه صحيح روايةً واحدةً، وذلك لأنّ النّهي غير متناول للشّراء بلفظه، ولا هو في معناه، فإنّ النّهي عن البيع للرّفق بأهل الحضر، ليتّسع عليهم السّعر ويزول عنهم الضّرر، وليس ذلك في الشّراء لهم، إذ لا يتضرّرون لعدم الغبن للبادين، بل هو دفع الضّرر عنه‏.‏ والخلق في نظر الشّارع على السّواء، فكما شرع ما يدفع الضّرر عن أهل الحضر، لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضّرر‏.‏

21 - ثالثاً‏:‏ هناك مسألة تتّصل ببيع الحاضر للبادي والشّراء له، وهي‏:‏ ما لو أشار الحاضر على البادي، من غير أن يباشر البيع له‏:‏ فقد نقل ابن قدامة أنّه كرهه مالك واللّيث‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ في وجوب إرشاده إلى الادّخار أو البيع وجهان‏:‏ أوجههما أنّه يجب إرشاده، لوجوب الإشارة بالأصلح عليه‏.‏

ونقل ابن قدامة أيضاً، أنّه رخّص فيه طلحة بن عبيد اللّه رضي الله عنه، والأوزاعيّ وابن المنذر‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وقول الصّحابيّ حجّة، ما لم يثبت خلافه‏.‏

22 - رابعاً‏:‏ نصّ ابن جزيّ من المالكيّة على أنّ تعريف البادي بالسّعر، هو كالبيع له، فلا يجوز‏.‏

بيع الحصاة

التّعريف

1 - بيع الحصاة‏:‏ هو البيع بإلقاء الحجر، وكان معروفاً في الجاهليّة، وورد النّهي عنه، وذلك في حديث النّهي عن الغرر، فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر» واختلف الفقهاء في تفسيره‏.‏

2 - فقال الحنفيّة‏:‏ هو‏:‏ أن يلقي حصاةً، وثمّة أثواب، فأيّ ثوب وقع عليه كان هو المبيع بلا تأمّل ولا رويّة، ولا خيار بعد ذلك‏.‏ وهذا التّفسير للحديث، ذكره جميع فقهاء المذاهب‏:‏

أ - فالمالكيّة قالوا‏:‏ هو بيع ملزم على ما تقع عليه الحصاة من الثّياب - مثلاً - بلا قصد من الرّامي لشيء معيّن، وقيّده الدّردير باختلاف السّلع أو الثّياب‏.‏

ب - والشّافعيّة قالوا في التّفسير‏:‏ بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة‏.‏

ج - والحنابلة قالوا في التّفسير‏:‏ أن يقول البائع‏:‏ ارم هذه الحصاة، فعلى أيّ ثوب وقعت فهو لك بكذا‏.‏ ولا فرق بين رمي البائع والمشتري، كما يقول عميرة البرلّسيّ‏.‏

3 - وهناك تفسير ثان لهذا النّوع من البيع، وهو‏:‏ أن يقول البائع للمشتري‏:‏ بعتك من هذه الأرض من محلّ وقوفي أو وقوف فلان إلى ما تنتهي إليه رمية هذه الحصاة بكذا‏.‏ نصّ على هذا التّفسير المالكيّة والحنابلة، وقيّده الأوّلون، بأن يقع البيع على اللّزوم‏.‏

4 - وفي تفسير آخر للشّافعيّة، أن يقول البائع‏:‏ إذا رميت هذه الحصاة، فهذا الثّوب مبيع منك بعشرة، أي يجعل الرّمي صيغة البيع‏.‏

5 - وفي تفسير رابع للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أن يقول البائع للمشتري‏:‏ بعتك هذا بكذا، على أنّي متى رميت هذه الحصاة وجب البيع ولزم‏.‏

6 - وطرح المالكيّة تفسيراً خامساً‏:‏

أ - أن يقول البائع للمشتري‏:‏ ارم بالحصاة فما خرج ووجد من أجزاء تلك الحصاة الّتي تكسّرت كان لي بعدده دنانير أو دراهم‏.‏

ب - أو يقول المشتري للبائع‏:‏ ارم بالحصاة فما خرج من أجزائها المتفرّقة حال رميها، كان لك بعدده دنانير أو دراهم‏.‏

ج - ويحتمل أيضاً عندهم أن يكون المراد بالحصاة الجنس، أي يقول البائع للمشتري‏:‏ خذ جملةً من الحصى، في كفّك أو كفّيك، وحرّكه مرّةً أو مرّتين - مثلاً - فما وقع فلي بعدده دراهم أو دنانير‏.‏ ولا يختلف الفقهاء في فساد هذا البيع بهذه الصّور المفسّرة للحديث كلّها، وقد وضعوا إزاء كلّ صورة ما يشير إلى وجه الفساد فيها‏.‏

7- ففي الصّورة الأولى‏:‏ علّل الحنفيّة الفساد فيها بما فيها من الجهالة، وتعليق التّمليك بالخطر، لأنّها في معنى‏:‏ إذا وقع حجري على ثوب فقد بعته منك، أو بعتنيه بكذا، والتّمليكات لا تحتمله، لأدائه إلى معنى القمار‏.‏

ويقرّر الحنفيّة أنّ الفساد لهذا المعنى مشروط بسبق ذكر الثّمن، فإن لم يذكر الثّمن في هذا البيع، كان الفساد لعدم ذكر الثّمن، إن سكت عنه‏.‏ لأنّ المقرّر عندهم‏:‏ أنّ البيع مع نفي الثّمن باطل، ومع السّكوت عنه فاسد‏.‏

وكذلك علّل المالكيّة الفساد فيها، بالجهل بعين المبيع، لكنّهم شرطوا كما رأينا - علاوةً على اختلاف السّلع، عدم قصد الرّامي لشيء معيّن منها، أمّا لو كان الرّمي بقصد جاز، إن كان الرّمي من المشتري، أو كان من البائع، وجعل الخيار للمشتري‏.‏

كما أنّه لو اتّفقت السّلع، جاز البيع، سواء أكان وقوع الحصاة بقصد أم بغيره‏.‏

8- وفي الصّورة الثّانية، وهي بيع قدر من الأرض، من حيث يقف الرّامي إلى ما تنتهي إليه رمية الحصاة، فالفساد للجهل بمقدار المبيع، لاختلاف الرّمي كما علّله المالكيّة، وقرّروا أنّ محلّ الفساد بشرط أن يقع البيع على اللّزوم‏.‏

9- وفي الصّورة الثّالثة، الّتي ذكرها الشّافعيّة‏:‏ علّلوا فسادها بعدم وجود صيغة البيع، إذ جعل الرّمي للحصاة بيعاً، اكتفاءً به عن الصّيغة‏.‏

10 - وفي الصّورة الرّابعة، وهي لزوم البيع بوقوع الحصاة، من أحد المتبايعين أو من غيرهما‏:‏ الفساد لتعليق لزوم البيع على السّقوط في زمن غير معيّن، فالبيع فاسد للجهل بزمن وقوعها، ففيه تأجيل بأجل مجهول - كما يقول المالكيّة - أو جهل بزمن الخيار، كما يقول الشّافعيّة‏.‏ أمّا لو عيّن لوقوعها باختياره أجلاً معلوماً، وكان الأجل قدر زمن الخيار، وهو في كلّ شيء بحسبه - كما يقول العدويّ - كما لو قال‏:‏ إن وقعت الحصاة من طلوع الشّمس إلى الظّهر، أو من اليوم إلى غد، قصداً، كان البيع لازماً ولا يفسد‏.‏

11 - وفي الصّورة الخامسة الّتي طرحها المالكيّة، وهي البيع بعدد ما يتناثر من الحصى، دراهم أو دنانير‏:‏ فساد البيع للجهل بمقدار الثّمن، إذ لا يعلم قدر المتناثر من الحصى‏.‏

فلا خلاف إذاً في فساد البيع بالحصاة، بالقيود الّتي ذكرت في الصّور كلّها وتعليلاتها‏.‏

وفي هذا يقول ابن قدامة‏:‏ وكلّ هذه البيوع فاسدة، لما فيها من الغرر والجهل، ولا نعلم فيه خلافاً‏.‏

بيع السّلم

انظر‏:‏ سلم‏.‏

بيع الصّرف

انظر‏:‏ صرف‏.‏

بيع العرايا

التّعريف

1 - العرايا‏:‏ جمع عَرِيَّة، وهي‏:‏ النّخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً، فيجعل له ثمرها عامها، فيعروها، أي يأتيها، فعيلة بمعنى مفعولة، ودخلت الهاء عليها، لأنّه ذُهب بها مذهب الأسماء، مثل النّطيحة والأكيلة، فإذا جيء بها مع النّخلة حذفت الهاء، وقيل‏:‏ نخلة عريّ، كما يقال‏:‏ امرأة قتيل، والجمع‏:‏ العَرايا‏.‏

قال في الفتح‏:‏ هي في الأصل عطيّة ثمر النّخل دون الرّقبة‏:‏ كانت العرب في الجدب تتطوّع بذلك على من لا ثمر له‏.‏

وعرّفها الشّافعيّة اصطلاحاً‏:‏ بأنّها بيع الرّطب على النّخل بتمر في الأرض، أو العنب في الشّجر بزبيب، فيما دون خمسة أوسق‏.‏

وعرّفها الحنابلة بأنّها‏:‏ بيع الرّطب في رءوس النّخل خرصاً، بماله يابساً، بمثله من التّمر، كيلاً معلوماً لا جزافاً‏.‏

حكمها

2 - بيع العرايا جائز في الجملة، عند جمهور الفقهاء‏:‏ مالك، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، لكنّ التّحقيق أنّ مالكاً ليس معهم‏.‏

واستدلّ الجمهور المجيزون بما يلي‏:‏

أ - بحديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التّمر بالتّمر، ورخّص في العريّة، أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رطباً» قال ابن قدامة‏:‏ والرّخصة‏:‏ استباحة المحظور مع وجود السّبب الحاظر، فلو منع مع وجود السّبب من الاستباحة، لم يبق لنا رخص بحال‏.‏

ب - وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص في بيع العرايا، في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق»‏.‏ قال المحلّيّ - من الشّافعيّة -‏:‏ شكّ داود بن الحصين أحد رواته، فأخذ الشّافعيّ بالأقلّ، في أظهر قوليه‏.‏

3 - والحنفيّة - وكذا مالك في التّحقيق - لم يستجيزوا، بيع العرايا، وذلك‏:‏ للنّهي عن المزابنة، وهي‏:‏ بيع التّمر على رأس النّخل بتمر مجدود مثل كيله خرصاً

وللحديث الصّحيح المعروف عن عبادة بن الصّامت -‏.‏ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد»‏.‏

وفي بعض رواياته‏:‏ «فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»‏.‏

فهذه النّصوص، وأمثالها لا تحصى، كلّها مشهورة، وتلقّتها الأمّة بالقبول، فلا يجوز تركها ولا العمل بما يخالفها، وهذا لأنّ المساواة واجبة بالنّصّ، والتّفاضل محرّم به، وكذا التّفرّق قبل قبض البدلين، فلا يجوز أن يباع جزافاً، ولا إذا كان أحدهما متأخّراً، كما لو كان أكثر من خمسة أوسق‏.‏ وهذا لأنّ احتمال التّفاضل ثابت، فصار كما لو تفاضلا بيقين، أو كانا موضوعين في الأرض‏.‏

4 - ومعنى العرايا، وتأويلها عند المانعين فيما ذكر من الأحاديث‏:‏

أ - أن يكون للرّجل النّخلة أو النّخلتان، في وسط النّخل الكثير لرجل، وكان أهل المدينة إذا كان وقت الثّمار، خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم، فيجيء صاحب النّخلة أو النّخلتين، فيضرّ ذلك بصاحب النّخل الكثير، فرخّص صلى الله عليه وسلم لصاحب الكثير أن يعطيه خرص ما له من ذلك تمراً، لينصرف هو وأهله عنه، روي هذا عن مالك‏.‏

ب - وما روي عن أبي حنيفة، أنّه قال‏:‏ معنى ذلك عندنا‏:‏ أن يعري الرّجل الرّجل نخلةً من نخله، فلا يسلّم ذلك إليه حتّى يبدو له، فرخّص له أن يحبس ذلك، ويعطيه مكانه بخرصه تمراً مجذوذاً بالخرص بدله‏.‏

وهو جائز عند الحنفيّة - كما قالوا - لأنّ الموهوب له، لم يملك الثّمرة لعدم القبض، فصار بائعاً ملكه بملكه، وهو جائز لا بطريق المعاوضة، وإنّما هو هبة مبتدأة، وسمّي ذلك بيعاً مجازاً، لأنّه لم يملكه، فيكون برّاً مبتدأً‏.‏ كما يقول المرغينانيّ‏.‏

5- وقد شرط الحنابلة شروطاً جمّةً لجواز بيع العرايا، ووافقهم الشّافعيّة على بعضها‏.‏ ولاستكمال شروط العرايا، وأحكامها، وصورها‏.‏ راجع مصطلح ‏(‏عرايا‏)‏‏.‏

بيع العربون

التّعريف

1 - العَرَبون بفتحتين كحَلَزون، والعُربون وزان عُصفور، لغة فيه‏.‏ والعُربان بالضّمّ لغة ثالثة، بوزن القُربان‏.‏ وأمّا الفتح مع الإسكان فلحن لم تتكلّم به العرب‏.‏ وهو معرّب‏.‏ وفسّروه لغةً‏:‏ بما عقد به البيع‏.‏

وفي الاصطلاح الفقهيّ‏:‏ أن يشتري السّلعة، ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر، على أنّه إن أخذ السّلعة، احتسب به من الثّمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - والفقهاء مختلفون في حكم هذا البيع‏:‏

- أ - فجمهورهم، من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وأبو الخطّاب من الحنابلة، يرون أنّه لا يصحّ، وهو المرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما والحسن كما يقول ابن قدامة، وذلك‏:‏ للنّهي عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان» ولأنّه من أكل أموال النّاس بالباطل، وفيه غرر، ولأنّ فيه شرطين مفسدين‏:‏ شرط الهبة للعربون، وشرط ردّ المبيع بتقدير أن لا يرضى‏.‏

ولأنّه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصحّ، كما لو شرطه لأجنبيّ‏.‏

ولأنّه بمنزلة الخيار المجهول، فإنّه اشترط أنّ له ردّ المبيع من غير ذكر مدّة، فلم يصحّ، كما لو قال‏:‏ ولي الخيار، متى شئت رددت السّلعة، ومعها درهم‏.‏

3 - ب - ومذهب الحنابلة جواز هذه الصّورة من البيوع‏.‏

وصرّحوا بأنّ ما ذهب إليه الأئمّة من عدم الجواز، هو القياس، لكن قالوا‏:‏ وإنّما صار أحمد فيه إلى ما روي عن نافع بن الحارث، أنّه اشترى لعمر دار السّجن من صفوان بن أميّة، فإن رضي عمر، وإلاّ فله كذا وكذا، قال الأثرم‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ تذهب إليه ‏؟‏ قال‏:‏ أيّ شيء أقول ‏؟‏ هذا عمر رضي الله عنه‏.‏

وضعّف الحديث المرويّ عن عمرو بن شعيب في النّهي عنه‏.‏ لكن قرّر الشّوكانيّ أرجحيّة مذهب الجمهور، لأنّ حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوّي بعضها بعضاً، ولأنّه يتضمّن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، كما تقرّر في الأصول‏.‏

من أهمّ الأحكام في بيع العربون

4 - أنّ المشتري إن أعطى العربون على أنّه‏:‏ إن كره البيع، أخذه واستردّه، وإلاّ حاسب به، جاز كما يقول المالكيّة‏.‏

5- وأنّ هذا البيع يفسخ عندهم، فإن فات ‏(‏أي تعذّر الفسخ‏)‏ أمضى البيع بالقيمة‏.‏

6 - إن دفع المشتري إلى البائع درهماً، وقال‏:‏ لا تبع هذه السّلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدّرهم لك‏:‏

- أ -فإن اشتراها بعد ذلك بعقد مبتدأ، واحتسب الدّرهم من الثّمن صحّ، لأنّ البيع خلا عن الشّرط المفسد‏.‏ ويحتمل أنّ شراء دار السّجن من صفوان بن أميّة الّذي وقع لعمر، كان على هذا الوجه، فيحمل عليه، جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمّة القائلين بفساد بيع العربون‏.‏

- ب - وإن لم يشتر السّلعة، لم يستحقّ البائع الدّرهم، لأنّه يأخذه بغير عوض، ولصاحبه الرّجوع فيه‏.‏ ولا يصحّ جعله عوضاً عن انتظاره، وتأخّر بيعه من أجله، لأنّه لو كان عوضاً عن ذلك، لما جاز جعله من الثّمن في حال الشّراء، ولأنّ الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار، كما في الإجارة‏.‏

بيع العهدة

انظر‏:‏ بيع الوفاء‏.‏

بيع العينة

التّعريف

1 - العينة بكسر العين‏.‏ معناها في اللّغة‏:‏ السّلف‏.‏ يقال‏:‏ اعتان الرّجل‏:‏ إذا اشترى الشّيء بالشّيء نسيئةً أو اشترى بنسيئة - كما يقول الرّازيّ‏.‏

وقيل‏:‏ لهذا البيع عِينة، لأنّ مشتري السّلعة إلى أجل يأخذ بدلها ‏(‏أي من البائع‏)‏ عيناً، أي نقداً حاضراً والكمال بن الهمام يرى أنّه سمّي بيع العينة‏:‏ لأنّه من العين المسترجعة‏.‏ واستحسن الدّسوقيّ أن يقال‏:‏ إنّما سمّيت عينةً، لإعانة أهلها للمضطرّ على تحصيل مطلوبه، على وجه التّحيّل، بدفع قليل في كثير‏.‏ وفي الاصطلاح الفقهيّ، عرّفت بتعريفات‏:‏

أ - ففي ردّ المحتار‏:‏ هي بيع العين بثمن زائد نسيئةً، ليبيعها المستقرض بثمن حاضر أقلّ، ليقضي دينه‏.‏

ب - وعرّفها الرّافعيّ‏:‏ بأن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل، ويسلّمه إلى المشتري، ثمّ يشتريه بائعه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر‏.‏ وقريب منه تعريف الحنابلة‏.‏

ج - وعرّفها المالكيّة كما في الشّرح الكبير‏:‏ بأنّها بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إيّاها لطالبها بعد أن يشتريها‏.‏

ويمكن تعريفها - أخذاً ممّا يأتي - بأنّها‏:‏ قرض في صورة بيع، لاستحلال الفضل‏.‏

صورتها

2 - للعينة المنهيّ عنها تفسيرات أشهرها‏:‏

أن يبيع سلعةً بثمن إلى أجل معلوم، ثمّ يشتريها نفسها نقداً بثمن أقلّ، وفي نهاية الأجل يدفع المشتري الثّمن الأوّل، والفرق بين الثّمنين فضل هو رباً، للبائع الأوّل‏.‏

وتؤول العمليّة إلى قرض عشرة، لردّ خمسة عشر، والبيع وسيلة صوريّة إلى الرّبا‏.‏ حكمها‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في حكمها بهذه الصّورة‏:‏ فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد‏:‏ لا يجوز هذا البيع‏.‏ وقال محمّد بن الحسن‏:‏ هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، اخترعه أكلة الرّبا‏.‏

ونقل عن الشّافعيّ - رحمه الله - جواز الصّورة المذكورة ‏(‏كأنّه نظر إلى ظاهر العقد، وتوافر الرّكنيّة، فلم يعتبر النّيّة‏)‏‏.‏ وفي هذا استدلّ له ابن قدامة من الحنابلة بأنّه ثمن يجوز بيع السّلعة به من غير بائعها، فيجوز من بائعها، كما لو باعها بثمن مثلها‏.‏

4 - وعلّل المالكيّة عدم الجواز بأنّه سلف جرّ نفعاً‏.‏

ووجه الرّبا فيه - كما يقول الزّيلعيّ من الحنفيّة - أنّ الثّمن لم يدخل في ضمان البائع قبل قبضه، فإذا أعاد إليه عين ماله بالصّفة الّتي خرج عن ملكه، وصار بعض الثّمن قصاصاً ببعض، بقي له عليه فضل بلا عوض، فكان ذلك ربح ما لم يضمن، وهو حرام بالنّصّ‏.‏

5- واستدلّ الحنابلة على التّحريم بالآتي‏:‏

أ - بما روى غندر عن شعبة، عن أبي إسحاق السّبيعيّ، عن امرأته العالية، قالت‏:‏ «دخلت أنا وأمّ ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها، فقالت أمّ ولد زيد بن أرقم‏:‏ إنّي بعت غلاماً من زيد، بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثمّ اشتريته منه بستّمائة درهم نقداً‏.‏ فقالت لها‏:‏ بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، أبلغي زيداً‏:‏ أنّ جهاده مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بَطَل، إلاّ أن يتوب»‏.‏ قالوا‏:‏ ولا تقول مثل ذلك إلاّ توقيفاً‏.‏

ب - ولأنّه ذريعة إلى الرّبا، ليستبيح بيع ألف بنحو خمسمائة إلى أجل، والذّريعة معتبرة في الشّرع، بدليل منع القاتل من الإرث‏.‏

ج - وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم، وتبايعوا بالعينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه، أنزل اللّه بهم بلاءً، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم»

وفي رواية‏:‏ «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد، سلّط اللّه عليكم ذلّاً، لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم‏.‏»

بيع الغرر

انظر‏:‏ غرر‏.‏

البيع الفاسد

التّعريف

1 - البيع‏:‏ مبادلة المال بالمال، والفساد‏:‏ ضدّ الصّلاح‏.‏

والبيع الفاسد في الاصطلاح‏:‏ ما يكون مشروعاً أصلاً لا وصفاً‏.‏ والمراد بالأصل‏:‏ الصّيغة، والعاقدان، والمعقود عليه‏.‏ وبالوصف‏:‏ ما عدا ذلك‏.‏

وهذا اصطلاح الحنفيّة الّذين يفرّقون بين الفاسد والباطل‏.‏ فالبيع الفاسد عندهم مرتبة بين البيع الصّحيح والبيع الباطل‏.‏ ولهذا يفيد الحكم، إذا اتّصل به القبض، لكنّه مطلوب التّفاسخ شرعاً‏.‏

أمّا جمهور الفقهاء فالفاسد والباطل عندهم سيّان، فكما أنّ البيع الباطل لا يفيد الحكم فكذلك الفاسد لا أثر له عندهم‏.‏ وهذا في الجملة‏.‏

إلاّ أنّ بعض الشّافعيّة وافقوا الحنفيّة في الفرق بين الفاسد والباطل حيث قالوا‏:‏ إن رجع الخلل إلى ركن العقد فالبيع باطل، وإن رجع إلى شرطه ففاسد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البيع الصّحيح‏:‏

2 - البيع الصّحيح هو‏:‏ البيع المشروع بأصله ووصفه، ويفيد الحكم بنفسه إذا خلا عن الموانع‏.‏ فالبيع الصّحيح يترتّب عليه أثره، من حصول الملك والانتفاع بالمبيع وغير ذلك، ولا يحتاج إلى القبض‏.‏ وهذا متّفق عليه بين المذاهب‏.‏

ب - البيع الباطل‏:‏

3 - البيع الباطل‏:‏ ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه، فلا يترتّب عليه أثر، ولا تحصل به فائدة، ولا يعتبر منعقداً، فلا حكم له أصلاً، لأنّ الحكم للموجود، ولا وجود لهذا البيع شرعاً، وإن وجد من حيث الصّورة، كالبيع الواقع من الطّفل والمجنون، وكبيع الميتة والحرّ، وكلّ ما لا يعتبر مالاً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ بطلان، البيع الباطل‏)‏‏.‏

ج - البيع المكروه‏:‏

4 - المكروه لغةً‏:‏ خلاف المحبوب‏.‏ والبيع المكروه عند جمهور الفقهاء‏:‏ ما كان مشروعاً بأصله ووصفه، لكن نهي عنه لوصف مجاور غير لازم‏.‏ كالبيع عند أذان الجمعة، وبيع المسلم على بيع أخيه ونحوهما‏.‏

والبيع المكروه بيع منعقد صحيح عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - فيترتّب عليه أثره، كثبوت الملكيّة في البدلين، لكن فيه إثم إن كان مكروهاً تحريماً على اصطلاح الحنفيّة، لورود النّهي فيه لوصف عارض، وهو اقترانه بوقت النّداء لصلاة الجمعة مثلاً‏.‏ أمّا المكروه تنزيهاً فلا إثم فيه كبيع الحاضر للبادي على إحدى الرّوايات عن أحمد‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يصحّ بيع بعد أذان الجمعة عقب جلوس الإمام على المنبر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا نُودِيَ للصّلاةِ من يومِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّه وَذَرُوا البَيْعَ‏}‏ والنّهي يقتضي الفساد‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ بيع منهيّ عنه‏)‏‏.‏

د - البيع الموقوف‏:‏

5 - البيع الموقوف هو‏:‏ ما يكون مشروعاً بأصله ووصفه، ويفيد الحكم على سبيل التّوقّف وامتنع تمامه لأجل غيره، كبيع مال الغير‏.‏ ويسمّى البائع حينئذ فضوليّاً، لتصرّفه في حقّ غيره بغير إذن شرعيّ‏.‏ فمن باع ملك غيره يكون البيع موقوفاً على إجازة المالك، إن شاء ردّه، وإن شاء أجاز، إذا كان المبيع والمتبايعان بحالهم‏.‏

والبيع الموقوف بيع صحيح عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة، لصدوره من أهله في محلّه‏.‏ وباطل عند الشّافعيّة في الصّحيح، وهو رواية أخرى عند الحنابلة لعدم الملك والولاية‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ البيع الموقوف‏)‏‏.‏

الحكم التّكليفي

6 - يحرم الإقدام على البيع الفاسد إذا كان المتصرّف عالماً بفساده، لأنّ فيه مخالفةً شرعيّةً ولو في وصف العقد، والفاسد منهيّ عنه، والنّهي يدلّ على كونه غير مباح‏.‏

أسباب الفساد‏:‏

7 - ما يلي من الأسباب تفسد العقد عند الحنفيّة ولا تبطله، والبيع في هذه الأحوال يفيد الحكم بشرط القبض، ويطبّق عليه أحكام الفاسد الآتي ذكرها، وهذه الأسباب تعتبر من أسباب بطلان العقد وعدم اعتباره أصلاً عند جمهور الفقهاء، وحيث إنّ البيع الفاسد هو مصطلح الحنفيّة فقط فيقتصر على ذكر أسباب الفساد عندهم‏:‏

أ - عدم القدرة على التّسليم إلاّ بتحمّل الضّرر‏:‏

8 - من شروط البيع الصّحيح‏:‏ أن يكون المبيع مقدور التّسليم من غير ضرر يلحق البائع، فإن لم يمكن تسليمه إلاّ بضرر يلزمه فالبيع فاسد، لأنّ الضّرر لا يستحقّ بالعقد، ولا يلزم بالتزام العاقد إلاّ تسليم المعقود عليه، فأمّا ما وراءه فلا‏.‏

وعلى ذلك إذا باع جذعاً في سقف، أو آجرّاً في حائط، أو ذراعاً في ديباج فإنّه لا يجوز، لأنّه لا يمكنه تسليمه إلاّ بالنّزع والقطع، وفيه ضرر بالبائع، والضّرر غير مستحقّ بالعقد‏.‏ فكان بيع ما لا يجب تسليمه شرعاً، فيكون فاسداً‏.‏

فإن نزعه البائع وسلّمه إلى المشتري قبل أن يفسخ العقد جاز البيع، حتّى يجبر المشتري على الأخذ، لأنّ المانع من الجواز ضرر البائع بالتّسليم، فإذا سلّم باختياره ورضاه فقد زال المانع‏.‏ ولو باع حلية سيفه، فإن كان يتخلّص منه من غير ضرر يجوز، وإن كان لا يتخلّص إلاّ بضرر فالبيع فاسد، إلاّ إذا فصل وسلّم‏.‏

وكذلك الحكم في بيع ذراع من ثوب يضرّه التّبعيض، وبيع فصّ خاتم مركّب فيه، وكذا بيع نصيبه من ثوب مشترك من غير شريكه، للضّرر في تسليم ذلك كلّه‏.‏

ب - جهالة المبيع أو الثّمن أو الأجل‏:‏

9 - من شروط صحّة البيع أن يكون المبيع والثّمن معلومين علماً يمنع من المنازعة، فإن كان أحدهما مجهولاً جهالةً مفضيةً إلى المنازعة فسد البيع‏.‏ فإذا قال‏:‏ بعتك شاةً من هذا القطيع، أو ثوباً من هذا العدل فسد البيع، لأنّ الشّاة من القطيع أو الثّوب من العدل مجهول جهالةً مفضيةً إلى المنازعة، لفحش التّفاوت بين شاة وشاة، وثوب وثوب فيوجب الفساد‏.‏ لكن إذا عيّن البائع شاةً أو ثوباً وسلّمه إليه، ورضي به جاز، ويكون ذلك ابتداءً بيعاً بالمراضاة‏.‏ ولو باع شيئاً بعشرة دراهم، وفي البلد نقود مختلفة، انصرف إلى النّقد الغالب، فيصحّ العقد، لكنّه إذا كان في البلد عدّة نقود غالبة فالبيع فاسد، لأنّ الثّمن مجهول إذ البعض ليس بأولى من البعض‏.‏

10 - وإذا كان البيع فيه أجل، يشترط لصحّته أن يكون الأجل معلوماً، فإن كان مجهولاً يفسد البيع، سواء أكانت جهالة الأجل فاحشةً، كهبوب الرّيح ونزول المطر وقدوم فلان وموته ونحو ذلك، أم متقاربةً كالحصاد والدّياس والنّيروز والمهرجان وقدوم الحاجّ ونحو ذلك، لأنّ الأوّل فيه غرر الوجود والعدم، والنّوع الثّاني ممّا يتقدّم ويتأخّر فيؤدّي إلى المنازعة، فيوجب فساد البيع‏.‏

ت - البيع بالإكراه‏:‏

11 - الإكراه إذا كان ملجئاً، أي بالتّهديد بإتلاف النّفس أو العضو مثلاً، يعدم الرّضا ويفسد الاختيار، فيبطل عقد البيع وسائر العقود بغير خلاف‏.‏

أمّا الإكراه غير الملجئ، كالتّهديد بالحبس والضّرر اليسير، فيفسد البيع عند الحنفيّة ولا يبطله، فيثبت به الملك عند القبض، وينقلب صحيحاً لازماً بإجازة المكرَه، لأنّ الإكراه غير الملجئ لا يعدم الاختيار - الّذي هو‏:‏ ترجيح فعل الشّيء على تركه -، وإنّما يعدم الرّضا - الارتياح إلى الشّيء - والرّضا ليس ركناً من أركان البيع، بل هو شرط من شروط صحّته‏.‏ كما هو مفصّل في بحث ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏ وكذلك بيع المضطرّ فاسد، كما إذا اضطرّ شخص إلى بيع شيء من ماله ولم يرض المشتري إلاّ بشرائه بأقلّ من ثمن المثل بغبن فاحش‏.‏

ث - الشّرط المفسد‏:‏

12 - من شروط صحّة البيع أن يكون خالياً عن الشّروط المفسدة، وهي أنواع‏.‏

منها ما في وجوده غرر، نحو ما إذا اشترى ناقةً على أنّها حامل، لأنّ الشّرط يحتمل الوجود والعدم ولا يمكن الوقوف عليه للحال، لأنّ عظم البطن والتّحرّك يحتمل أن يكون لعارض، فكان في البيع بهذا الشّرط غرر يوجب فساده، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنّه «نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر»‏.‏

ويروي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة‏:‏ أنّ البيع بهذا الشّرط جائز، لأنّ كونها حاملاً بمنزلة شرط كون العبد كاتباً أو خيّاطاً ونحو ذلك، وذا جائز، فكذا هذا‏.‏

وقد ألحق بعض الفقهاء بهذا المثال شراء بقرة على أنّها حلوب، أو قمريّةً على أنّها تصوّت، أو كبشاً على أنّه نطاح، أو ديكاً على أنّه مقاتل، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وهو إحدى الرّوايتين عن محمّد، لأنّه شرط فيه غرر‏.‏

وفي الموضوع أمثلة خلافيّة يرجع إليها في مظانّها‏.‏

ومن الشّروط الفاسدة الّتي تفسد العقد‏:‏ كلّ شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري، وليس بملائم ولا ممّا جرى به التّعامل بين النّاس‏.‏ نحو‏:‏ إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ثمّ يسلّمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً، أو دابّةً على أن يركبها شهراً، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً، فالبيع في كلّ هذه الصّور فاسد، لأنّ زيادة المنفعة المشروطة في البيع تكون رباً، لأنّها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، والبيع الّذي فيه رباً فاسد‏.‏ وكذا ما فيه شبهة الرّبا، فإنّها مفسدة للبيع‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ربا‏)‏‏.‏

ومن الشّروط المفسدة‏:‏ شرط خيار مؤبّد في البيع، وكذلك شرط خيار مؤقّت بأجل مجهول جهالةً فاحشةً، كهبوب الرّيح ومجيء المطر مثلاً، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏شرط‏)‏‏.‏

ج - اشتمال العقد على التّوقيت‏:‏

13 - من شروط صحّة البيع‏:‏ ألا يكون العقد مؤقّتاً، فإن أقّته فالبيع فاسد، لأنّ عقد البيع عقد تمليك العين، وعقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً، ولهذا عرّف بعض الفقهاء البيع بأنّه‏:‏ عقد معاوضة ماليّة يفيد ملك عين على التّأبيد‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏أجل، تأقيت‏)‏‏.‏

ح - اشتمال العقد على الرّبا‏:‏

14 - من شروط صحّة البيع‏:‏ الخلوّ عن الرّبا، لأنّ البيع الّذي فيه رباً فاسد عند الحنفيّة، لأنّ الرّبا حرام بنصّ الكتاب الكريم‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأحلَّ اللّه البيعَ وحرَّمَ الرّبا‏}‏‏.‏ وكذلك يشترط أن يكون البيع خالياً عن شبهة الرّبا، واحتمال الرّبا‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ حقيقة الرّبا كما هي مفسدة للبيع، فاحتمال الرّبا مفسد له أيضاً، ولأنّ الشّبهة ملحقة بالحقيقة في باب الحرمات احتياطاً، وأصله ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحلال بَيّنٌ والحرام بيّن، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك»‏.‏

خ - البيع بغرر‏:‏

15 - الغرر هو خطر حصول الشّيء أو عدم حصوله، فإذا كان الغرر في أصل المبيع، بأن يكون محتملاً للوجود والعدم، كبيع الثّمار قبل أن تخلق، وبيع الطّير في الهواء قبل أن يصطاد، فالعقد باطل، وإن كان في أوصافه كبيع الرّطب على النّخل بتمر مقطوع فالعقد فاسد عند الحنفيّة لجهالة قدر المبيع‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏غرر‏)‏‏.‏

د - بيع المنقول قبل قبضه‏:‏

16 - من اشترى عيناً منقولةً لا يصحّ بيعه لها قبل قبضها من البائع الأوّل، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطّعام حتّى يقبض»‏.‏

ولأنّه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنّه إذا هلك قبل القبض يبطل البيع الأوّل، فينفسخ الثّاني، لأنّه بناءً على الأوّل، وسواء أباعه من بائعه الأوّل أو من غيره‏.‏ وكذلك لو قبض نصف المبيع المنقول الّذي اشتراه، فأشرك رجلاً فيما اشتراه جاز فيما قبض، ولم يجز فيما لم يقبض، لأنّ الإشراك نوع بيع والمبيع منقول، فلم يكن غير المقبوض محلاً له شرعاً، فلم يصحّ في غير المقبوض، وصحّ في قدر المقبوض‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قبض‏)‏‏.‏

تجزّؤ الفساد

17 - الأصل اقتصار الفساد على قدر المفسد، فالصّفقة إذا اشتملت على الصّحيح والفاسد يقتصر الفساد فيه على قدر المفسد، ويصحّ في الباقي، وهذا متّفق عليه بين فقهاء الحنفيّة إذا كان الفساد طارئاً‏.‏ وقد ورد في صور بيع العينة‏:‏ ما لو باع شيئاً بعشرة ولم يقبض الثّمن، ثمّ اشتراه بخمسة لم يجز، أمّا إذا اشترى ذلك الشّيء مضموماً إليه غيره فيصحّ‏.‏ جاء في الهداية‏:‏ أنّ من اشترى سلعةً بخمسمائة، ثمّ باعها وأخرى معها بخمسمائة من البائع قبل نقد الثّمن، فالبيع جائز في الّتي لم يشترها من البائع، ولا يجوز في الأخرى لأنّه لا بدّ أن يجعل الثّمن بمقابلة الّتي لم يشترها، فيكون مشترياً للأخرى بأقلّ ممّا باع قبل نقد الثّمن، وهو فاسد بشبهة الرّبا‏.‏ أمّا إذا كان الفساد مقارناً للعقد فكذلك الحكم عند أبي يوسف ومحمّد، لأنّهما لا يفرّقان بين الفساد الطّارئ والفساد المقارن‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ متى فسد العقد في البعض بمفسد مقارن يفسد في الكلّ لأنّه إذا كان الفساد مقارناً يصير قبول العقد في الفاسد شرط قبول العقد في الآخر، وهذا شرط فاسد، فيؤثّر في الكلّ، ولم يوجد هذا المعنى في الفساد الطّارئ، فاقتصر الفساد فيه على قدر المفسد‏.‏ وعلى ذلك إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم نسيئةً، ثمّ نقد بعض العشرة دون البعض في المجلس فسد الكلّ عند أبي حنيفة، لأنّ الفساد مقارن للعقد، فيؤثّر في فساد الكلّ‏.‏ وعندهما يصحّ بقدر ما قبض ويفسد في الباقي، بناءً على اقتصار الفساد على قدر المفسد‏.‏

أمثلة للبيع الفاسد

18 - ذكر الحنفيّة في كتبهم - بعد بيان البيع الباطل - أمثلةً عن البيع الفاسد، وذلك بناءً على أصلهم من التّفرقة بينهما، ومن أمثلة البيع الفاسد‏:‏

بيع ما سكت فيه عن الثّمن، كبيعه بقيمته، وذراع من ثوب يضرّه التّبعيض، وبيع الملامسة والمنابذة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة» وبيع اللّبن في الضّرع، والصّوف على الظّهر، واللّحم في الشّاة، وجذع في سقف، وثوب من ثوبين إذا لم يشترط فيه خيار التّعيين‏.‏

أمّا اللّبن في الضّرع فللجهالة واختلاط المبيع بغيره، وكذا الصّوف على الظّهر، ولاحتمال وقوع التّنازع، وقد «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع لبن في ضرع، وسمن في لبن»‏.‏

وأمّا اللّحم في الشّاة والجذع في السّقف فلا يمكن تسليمه إلاّ بضرر لا يستحقّ عليه‏.‏ وكذلك ذراع من ثوب وحلية في سيف، وإن قلعه وسلّمه قبل نقض البيع جاز‏.‏

ولو باع عيناً على أن يسلّمها إلى رأس الشّهر فهو فاسد، لأنّ تأجيل الأعيان باطل، إذ لا فائدة فيه، لأنّ التّأجيل شرع في الأثمان تيسيراً على المشتري، ليتمكّن من تحصيل الثّمن، وأنّه معدوم في الأعيان فكان شرطاً فاسداً‏.‏

ومن البيع الفاسد‏:‏ بيع المزابنة والمحاقلة، لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنهما، ولشبهة الرّبا فيهما‏.‏ ولو باع على أن يقرض المشتري دراهم أو ثوباً على أن يخيطه البائع فالبيع فاسد، «لأنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط»، وهذا شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، وفيه منفعة لأحد العاقدين فيفسد العقد‏.‏

والبيع إلى النّيروز والمهرجان وصوم النّصارى وفطر اليهود إذا جهل المتبايعان ذلك فاسد، وكذلك البيع إلى الحصاد والقطاف والدّياس وقدوم الحاجّ لجهالة الأجل، وهي تقضي إلى المنازعة، وإن أسقط الأجل قبل حلوله جاز البيع عند فقهاء الحنفيّة، خلافاً لزفر حيث قال‏:‏ الفاسد لا ينقلب صحيحاً‏.‏

19 - هذا، ومن أمثلة البيع الفاسد الّتي ذكرها الحنفيّة‏:‏ البيع بالخمر والخنزير، أو بيعهما مقايضةً بالعين، فإذا قوبلا بالعين كما إذا اشترى الثّوب بالخمر، أو باع الخمر بالثّوب فالبيع فاسد، أمّا إن قوبلا بالدّين كالدّراهم والدّنانير فالبيع باطل‏.‏

ووجه الفرق كما ذكره المرغينانيّ‏:‏ أنّ الخمر والخنزير مال عند أهل الذّمّة، إلاّ أنّه غير متقوّم، لأنّ الشّرع أمر بإهانته وترك إعزازه، وفي تملّكه بالعقد إعزاز له، وهذا لأنّه متى اشتراها بالدّراهم فالدّراهم غير مقصودة، لكونها وسيلةً لما أنّها تجب في الذّمّة، وإنّما المقصود الخمر، فسقط التّقوّم أصلاً فبطل العقد، بخلاف مشتري الثّوب بالخمر لأنّ فيه إعزازاً للثّوب دون الخمر‏.‏ وكذا إذا باع الخمر بالثّوب فيكون العقد فاسداً، لأنّه يعتبر شراء الثّوب بالخمر، لكونه مقايضةً‏.‏

20 - وهناك صوراً أخرى اختلف فقهاء الحنفيّة في اعتبارها بيعاً فاسداً أو بيعها باطلاً، كبيع الحمل، وبيع الطّير في الهواء، والسّمك في البحر قبل اصطيادهما لو قوبلا بالعرض، وبيع ضربة القانص والغائص‏.‏ وبيع لؤلؤ في صدف، وكذلك بيع الآبق،واللّبن في الضّرع‏.‏

آثار البيع الفاسد

21 - تقدّم أنّه لا فرق بين بيع البيع الفاسد والبيع الباطل عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - في الجملة، فكلاهما غير منعقد، فلا اعتبار بالبيع الفاسد شرعاً، كما أنّه لا اعتبار بالبيع الباطل عندهم‏.‏

ولمّا قال خليل في مختصره‏:‏ وفسد منهيّ عنه، فسّره الدّردير بقوله‏:‏ أي بطل، أي لم ينعقد، سواء أكان عبادةً، كصوم يوم العيد، أم عقداً، كنكاح المريض والمحرم، وكبيع ما لا يقدر على تسليمه، أو مجهول، لأنّ النّهي يقتضي الفساد‏.‏

وكتب على نصّ خليل الدّسوقيّ قوله‏:‏ أي منهيّ عن تعاطيه‏.‏ وهذه قضيّة كلّيّة شاملة للعبادات والمعاملات، وهي العقود‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّه لو حذف المتعاقدان المفسد للعقد، ولو في مجلس الخيار، لم ينقلب صحيحاً، إذ لا عبرة بالفاسد‏.‏ وهذا يعني أنّ الفاسد عندهم لا تلحقه الإجازة، كالباطل عند الحنفيّة‏.‏ وقد أخذ القليوبيّ والجمل وغيرهما على الإمام النّوويّ - رحمه الله تعالى - أنّه أهمل هنا فصلاً في حكم البيع الفاسد والمقبوض بالشّراء الفاسد، وذكروا أحكامه مختصرةً‏.‏ أمّا الحنفيّة فيفرّقون بين البيع الفاسد والبيع الباطل، ويعتبرون الفاسد منعقداً خلافاً للباطل فإنّه غير منعقد، وله أحكام سبقت في مصطلحه‏.‏ أمّا البيع الفاسد فله أحكام نجملها فيما يلي‏:‏

أوّلاً - انتقال الملك بالقبض‏:‏

22 - البيع الفاسد يفيد الملك بقبض المشتري المبيع بإذن البائع صريحاً أو دلالةً عند الحنفيّة، كما إذا قبضه في المجلس وسكت البائع، فيجوز للمشتري التّصرّف في المبيع، ببيع أو هبة أو صدقة أو إجارة ونحو ذلك، إلاّ الانتفاع‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إذا ملكه تثبت له كلّ أحكام الملك إلاّ خمسةً‏:‏ لا يحلّ له أكله، ولا لبسه، ولا وطؤها - إن كان المبيع أمةً - ولا أن يتزوّجها منه البائع، ولا شفعة لجاره لو عقاراً‏.‏ ودليل جواز التّصرّف في المبيع فاسداً حديث «عائشة رضي الله عنها، حيث ذكرت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّها أرادت أن تشتري بريرة، فأبى مواليها أن يبيعوها إلاّ بشرط‏:‏ أن يكون الولاء لهم، فقال لها‏:‏ خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنّ - الولاء لمن أعتق، فاشترتها مع شرط الولاء لهم»‏.‏ فأجاز العتق مع فساد البيع بالشّرط‏.‏ ولأنّ ركن التّمليك، وهو قوله‏:‏ بعت واشتريت، صدر من أهله، وهو المكلّف المخاطب مضافاً إلى محلّه وهو المال عن ولاية، إذ الكلام فيهما، فينعقد لكونه وسيلةً إلى المصالح، والفساد لمعنًى يجاوره، كالبيع وقت النّداء، والنّهي لا ينفي الانعقاد بل يقرّره، لأنّه يقتضي تصوّر المنهيّ عنه والقدرة عليه، لأنّ النّهي عمّا لا يتصوّر، وعن غير المقدور قبيح، إلاّ أنّه يفيد ملكاً خبيثاً لمكان النّهي‏.‏ واشترطوا لإفادة البيع الفاسد الملك شرطين‏:‏

أحدهما‏:‏ القبض، فلا يثبت الملك قبل القبض، لأنّه واجب الفسخ رفعاً للفساد، وفي وجوب الملك قبل القبض تقرّر الفساد‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون القبض بإذن البائع، فإن قبض بغير إذن لا يثبت الملك‏.‏

23 - هذا، واختلف علماء الحنفيّة في كيفيّة حصول الملك والتّصرّف في المبيع بيعاً فاسداً‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إنّ المشتري يملك التّصرّف فيه باعتبار تسليط البائع له، لا باعتبار تملّك العين، ولهذا لا يجوز أكل طعام اشتراه شراءً فاسداً‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنّ جواز التّصرّف بناءً على ملك العين، واستدلّوا بما إذا اشترى داراً بشراء فاسد وقبضها، فبيعت بجنبها دار، له أن يأخذها بالشّفعة لنفسه، ولم يملكها لمّا استحقّ الشّفعة‏.‏ لكن لا تجب فيه شفعة للشّفيع وإن كان يفيد الملك، لأنّ حقّ البائع لم ينقطع‏.‏

أي لأنّ لكلّ من البائع والمشتري الفسخ‏.‏

انتقال الملك بالقيمة لا بالمسمّى

24 - اتّفق الحنفيّة على أنّ حصول الملك بالقبض في البيع الفاسد في مقابل قيمة المبيع، لا الثّمن المسمّى الّذي اتّفق عليه الطّرفان‏.‏ وذلك لأنّ العقد منهيّ عنه، والتّسمية فاسدة فلا يجب المسمّى، والمعتبر في القيمة يوم القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويوم الإتلاف عند محمّد‏.‏

ثانياً‏:‏ استحقاق الفسخ‏:‏

25 - البيع الفاسد، مع كونه غير مشروع بوصفه، فالفساد مقترن به، ودفع الفساد واجب فيستحقّ فسخه، ولأنّ الفاسد يفيد ملكاً خبيثاً لمكان النّهي، فكان لكلّ واحد منهما حقّ الفسخ، إزالةً للخبث ودفعاً للفساد‏.‏ ولأنّ من أسباب البيع الفاسد اشتراط الرّبا وإدخال الآجال المجهولة ونحو ذلك، وهذه معصية والزّجر عن المعصية واجب، واستحقاق الفسخ يصلح زاجراً عن المعصية، لأنّه إذا علم أنّه يفسخ، فالظّاهر أنّه يمتنع عن المباشرة كما علّله الفقهاء‏.‏

ولا يشترط في فسخه قضاء قاض، لأنّ الواجب شرعاً لا يحتاج إلى القضاء‏.‏ ولكن لو أصرّا على إمساك المبيع بيعاً فاسداً وعلم بذلك القاضي فله فسخه جبراً عليهما، حقّاً للشّرع‏.‏

شروط الفسخ

26 - الفسخ مشروط بما يلي‏:‏

أ - أن يكون بعلم المتعاقد الآخر، ولا يشترط رضاه، ونقل الكاسانيّ عن الكرخيّ أنّ هذا الشّرط من غير خلاف‏:‏ ثمّ نقل عن الإسبيجابيّ أنّه شرط عندهما خلافاً لأبي يوسف، وأنّ الخلاف فيه كالخلاف في خيار الشّرط والرّؤية‏.‏

ب - أن يكون المبيع قائماً في يد أحدهما‏.‏

ج - أن لا يعرض له ما يتعذّر به الرّدّ‏.‏

من يملك الفسخ

27 - الفسخ إمّا أن يكون قبل القبض أو بعده‏:‏

أ - فإن كان الفسخ قبل القبض، فلكلّ من المتعاقدين الفسخ بعلم صاحبه من غير رضاه، لأنّ البيع الفاسد قبل القبض لا يفيد الملك، فكان الفسخ قبل القبض بمنزلة الامتناع من القبول والإيجاب، فيملكه كلّ واحد منهما، لكنّه - كما يقول الزّيلعيّ - يتوقّف على علمه، لأنّ فيه إلزام الفسخ له، فلا يلزمه بدون علمه‏.‏

ب - وإن كان الفسخ بعد القبض‏:‏ فإمّا أن يكون الفساد راجعاً إلى البدلين أو إلى غيرهما‏:‏ - 1 - فإن كان الفساد في صلب العقد، بأن كان راجعاً إلى البدلين‏:‏ المبيع والثّمن، كبيع درهم بدرهمين، وكالبيع بالخمر والخنزير، فكذلك الحكم، ينفرد أحدهما بالفسخ، لأنّ الفساد الرّاجع إلى البدل راجع إلى صلب العقد، فلا يمكن تصحيحه، لأنّه لا قوام للعقد إلاّ بالبدلين، فكان الفساد قويّاً، فيؤثّر في صلب العقد، بعدم لزومه في حقّ المتعاقدين جميعاً‏.‏ - 2 - وإن كان الفساد غير راجع إلى البدلين، كالبيع بشرط زائد، كالبيع إلى أجل مجهول، أو بشرط فيه نفع لأحدهما‏:‏

- فالإسبيجابيّ قرّر أنّ ولاية الفسخ لصاحب الشّرط، بلا خلاف، لأنّ الفساد الّذي لا يرجع إلى البدل، لا يكون قويّاً فيحتمل السّقوط، فيظهر في حقّ صاحب الشّرط، فلا يلزمه

- وذكر الكرخيّ خلافاً في المسألة‏:‏ ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف‏:‏ لكلّ منهما الفسخ، لعدم اللّزوم، بسبب الفساد‏.‏ وفي قول محمّد‏:‏ الفسخ لمن له منفعة الشّرط، لأنّه القادر على تصحيح العقد بإسقاط المفسد، فلو فسخه الآخر، لأبطل حقّه عليه، هذا لا يجوز‏.‏

طريق فسخ البيع الفاسد

28 - يفسخ العقد الفاسد بطريقين‏:‏

الأوّل‏:‏ بالقول، وذلك بأن يقول من يملك الفسخ‏:‏ فسخت العقد، أو رددته، أو نقضته، فينفسخ بذلك، ولا يحتاج إلى قضاء ولا رضا البائع، سواء أكان قبل القبض أم بعده، لأنّ استحقاق الفسخ ثبت رفعاً للفساد، ورفع الفساد حقّ للّه تعالى، فيظهر في حقّ الكافّة، ولا يتوقّف على قضاء ولا رضاء‏.‏

الثّاني‏:‏ بالفعل، وذلك بأن يردّ المبيع على بائعه بأيّ وجه، بهبة أو صدقة، أو إعارة، أو بيع أو إجارة، فإذا فعل ذلك، ووقع المبيع في يد بائعه - حقيقةً، أو حكماً كالتّخلية - فهو متاركة للبيع، وبرئ المشتري من ضمانه‏.‏

ما يبطل به حقّ الفسخ

29 - لا يسقط حقّ الفسخ بصريح الإبطال والإسقاط، بأن يقول‏:‏ أسقطت، أو‏:‏ أبطلت، أو‏:‏ أوجبت البيع، أو ألزمته، لأنّ وجوب الفسخ ثبت حقّاً للّه تعالى، دفعاً للفساد، وما ثبت حقّاً للّه تعالى خالصاً، لا يقدر العبد على إسقاطه مقصوداً، كخيار الرّؤية‏.‏

لكن قد يسقط بطريق الضّرورة، بأن يتصرّف العبد في حقّ نفسه مقصوداً، فيتضمّن ذلك سقوط حقّ اللّه عزّ وجلّ، بطريق الضّرورة‏.‏ وإذا بطل حقّ الفسخ لزم البيع، وتقرّر الضّمان، وإذا لم يبطل لا يلزم البيع، ولا يتقرّر الضّمان‏.‏ وفيما يلي أهمّ صور ذلك‏.‏

الصّورة الأولى‏:‏ التّصرّف القوليّ في المبيع بيعاً فاسداً‏.‏

30 - أطلق الحنفيّة القول بأنّه يبطل حقّ الفسخ بكلّ تصرّف يخرج المبيع عن ملك المشتري لتعلّق حقّ العبد به‏.‏ وهذا التّعليل هو الّذي أصّله المالكيّة، وذلك كما لو جعل المبيع مهراً، أو بدل صلح، أو بدل إجارة، وعلّلوه قائلين‏:‏ لخروجه عن ملكه بذلك‏.‏

أو وهبه وسلّمه، لأنّ الهبة لا تفيد الملك إلاّ بالتّسليم بخلاف البيع‏.‏

أو رهنه وسلّمه، لأنّ الرّهن لا يلزم بدون التّسليم‏.‏

أو وقفه وقفاً صحيحاً، لأنّه استهلكه حين وقفه وأخرجه عن ملكه‏.‏

أو أوصى به ثمّ مات، لأنّه ينتقل من ملكه إلى ملك الموصى له، وهو ملك مبتدأ، فصار كما لو باعه‏.‏ أو تصدّق به وسلّمه أيضاً، لأنّه لا يخرج عن ملك المتصدّق بدون تسليم‏.‏

وكذا العتق، فقد استثنوه لقوّته وسرايته وتشوّف الشّارع إليه‏.‏

31 - ففي هذه الصّور كلّها، ينفذ البيع الفاسد، ويمتنع فسخه وذلك‏:‏

أ - لأنّ المشتري ملكه، فملك التّصرّف فيه‏.‏

ب - ولأنّه تعلّق حقّ العبد بالعقد الثّاني، ونقض العقد الأوّل ما كان إلاّ لحقّ الشّرع، وحقّ العبد عند معارضة حقّ اللّه تعالى يقدّم بإذنه تعالى، لغناه سبحانه وتعالى وسعة عفوه، وفقر العبد دائماً إلى ربّه‏.‏

ج - ولأنّ العقد الأوّل مشروع بأصله لا بوصفه، والثّاني مشروع بأصله ووصفه، فلا يعارضه مجرّد الوصف‏.‏

د - ولأنّ البيع الثّاني حصل بتسليط من جهة البائع الأوّل، لأنّ التّمليك منه - مع الإذن في القبض - تسليط على التّصرّف، فلا يتمكّن من الاسترداد من المشتري الثّاني، وإلاّ كان ساعياً في نقض ما تمّ من جهته، ويؤدّي إلى المناقضة‏.‏

32 - استثنى الحنفيّة من ذلك‏:‏ الإجارة‏.‏ فقرّروا أنّها لا تمنع من فسخ البيع الفاسد، لأنّ الإجارة تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد من الأعذار، بل لا عذر أقوى من الفساد، كما يقول الكاسانيّ‏.‏ ولأنّها - كما يقول المرغينانيّ - تنعقد شيئاً فشيئاً، فيكون الرّدّ امتناعاً‏.‏ ونصّ الحنفيّة على أنّه إذا زال المانع من ممارسة حقّ الفسخ - كما لو رجع الواهب بهبته، أو أفتك الرّاهن رهنه - عاد الحقّ في الفسخ، لأنّ هذه العقود لم توجب الفسخ من كلّ وجه في حقّ الكلّ‏.‏ لكن يشترط أن يكون ذلك قبل القضاء بالقيمة أو المثل، لا بعده، لأنّ قضاء القاضي بذلك يبطل حقّ البائع في العين، وينقله إلى القيمة أو المثل بإذن الشّرع، فلا يعود حقّه إلى العين وإن ارتفع السّبب، كما لو قضى على الغائب بقيمة المغصوب بسبب فقده مثلاً، ثمّ وجد المغصوب‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ الأفعال الّتي ترد على المبيع بيعاً فاسداً‏:‏

33 - ومنها البناء والغرس، فلو بنى المشتري في الأرض الّتي اشتراها شراءً فاسداً بناءً أو غرس شجراً‏:‏

فذهب أبو حنيفة إلى أنّه يمتنع الفسخ بالبناء والغرس، وذلك لأنّهما استهلاك عنده، لأنّه يقصد بهما الدّوام، وقد حصلا بتسليط من البائع، فينقطع بهما حقّ الاسترداد، كالبيع‏.‏ وذهب الصّاحبان إلى أنّ البناء والغرس لا يمنعان من الفسخ، وللبائع أن ينقضهما ويستردّ المبيع، وذلك لأنّ حقّ الشّفعة - مع ضعفه - لا يبطل بالبناء والغرس، فهذا أولى‏.‏

34 - وممّا يمنع الفسخ الزّيادة في المبيع أو النّقص منه‏.‏

أ - أمّا الزّيادة‏:‏ فقد قرّر الحنفيّة أنّ كلّ زيادة متّصلة بالمبيع، غير متولّدة منه، كما لو كان المبيع قماشاً فخاطه، أو ثوباً فصبغه، أو قمحاً فطحنه، أو قطناً فغزله، ففي هذه الصّور كلّها وأمثالها يمتنع الفسخ، وتلزم المشتري قيمة المبيع‏.‏

وأمّا الزّيادة المتّصلة المتولّدة كسمن المبيع، والزّيادة المنفصلة المتولّدة كالولد، والزّيادة المنفصلة غير المتولّدة كالكسب والهبة، فإنّها لا تمنع الفسخ‏.‏

ب - وأمّا نقص المبيع، فقد قرّروا أنّه إذا نقص في يد المشتري، لا يبطل حقّه في الرّدّ، ولا يمتنع الفسخ‏.‏ لكن إن نقص وهو في يده بفعله، أو بفعل المبيع نفسه، أو بآفة سماويّة يأخذه البائع منه، ويضمّنه أرش النّقصان‏.‏

ولو نقص وهو في يد المشتري بفعل البائع، اعتبر البائع بذلك مستردّاً له‏.‏

ولو نقص بفعل أجنبيّ، خيّر البائع بأخذه من المشتري أو من الجاني‏.‏

35 - وقد وضع الزّيلعيّ من الحنفيّة ضابطاً لما يمتنع به من الأفعال حقّ الاسترداد والفسخ، فقال‏:‏ إنّ المشتري متى فعل بالمبيع فعلاً، ينقطع به حقّ المالك في الغصب، ينقطع به حقّ المالك في الاسترداد، كما إذا كان حنطةً فطحنها‏.‏

ثالثاً‏:‏ من أحكام البيع الفاسد‏:‏ حكم الرّبح في البدلين بالبيع الفاسد‏:‏

36 - صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّه يطيب للبائع ما ربح في الثّمن، ولا يطيب للمشتري ما ربح في المبيع، فلو اشترى من رجل عيناً بالبيع الفاسد بألف درهم مثلاً وتقابضا، وربح كلّ واحد منهما فيما قبض، يتصدّق الّذي قبض العين بالرّبح، لأنّها تتعيّن بالتّعيين، فتمكّن الخبث فيها، ويطيب الرّبح للّذي قبض الدّراهم، لأنّ النّقد لا يتعيّن بالتّعيين‏.‏

ومفاد هذا الفرق‏:‏ أنّه لو كان بيع مقايضة ‏(‏أي بيع عين بعين‏)‏ لا يطيب الرّبح لهما، لأنّ كلّاً من البدلين مبيع من وجه، فتمكّن الخبث فيهما معاً‏.‏

رابعاً‏:‏ قبول البيع الفاسد للتّصحيح‏:‏

37 - البيع الفاسد إمّا أن يكون الفساد فيه ضعيفاً أو قويّاً‏:‏

أ - فإذا كان الفساد ضعيفاً، وهو ما لم يدخل في صلب العقد، فإنّه يمكن تصحيحه كما في البيع بشرط خيار لم يوقّت، أو وقّت إلى وقت مجهول كالحصاد والدّياس، وكما في البيع بثمن مؤجّل إلى أجل مجهول مثلاً، فإذا أسقط الأجل مَنْ له الحقّ فيه قبل حلوله، وقبل فسخه، جاز البيع لزوال المفسد، ولو كان إسقاط الأجل بعد الافتراق على ما حرّره ابن عابدين كذلك سائر البياعات الفاسدة تنقلب جائزةً بحذف المفسد، فبيع جذع في سقف فاسد، وكذلك بيع ذراع من ثوب وحلية في سيف، لأنّه لا يمكن تسليم المبيع إلاّ بضرر لا يستحقّ عليه، لكنّه إن قلعه وسلّمه قبل نقض البيع جاز، وليس للمشتري الامتناع‏.‏ وبيع ثوب من ثوبين فاسد لجهالة المبيع، لكنّه لو قال‏:‏ على أن يأخذ أيّهما شاء جاز لعدم المنازعة‏.‏ وإن باع بشرط أن يعطيه المشتري رهناً، ولم يكن الرّهن معيّناً ولا مسمًّى، فالبيع فاسد، لكن إذا تراضيا على تعيين الرّهن في المجلس، ورفعه المشتري إليه قبل أن يتفرّقا، أو عجّل المشتري الثّمن يبطل الأجل، فيجوز البيع استحساناً لزوال الفساد‏.‏

هذا كلّه عند أكثر فقهاء الحنفيّة، خلافاً لزفر حيث قال‏:‏ البيع إذا انعقد على الفساد لا يحتمل الجواز بعد ذلك برفع المفسد، لما فيه من الاستحالة‏.‏

ب - أمّا إذا كان الفساد قويّاً، بأن يكون في صلب العقد، وهو البدل أو المبدل، فلا يحتمل الجواز برفع المفسد اتّفاقاً، كما إذا باع عيناً بألف درهم ورطل من خمر، فحطّ الخمر عن المشتري، فهذا البيع فاسد ولا ينقلب صحيحاً‏.‏

خامساً‏:‏ الضّمان إذا هلك المبيع‏:‏

38 - لا يختلف الفقهاء في أنّ المبيع بيعاً فاسداً، إذا هلك وهو في يد المشتري، ثبت ضمانه عليه، وذلك بردّ مثله إن كان مثليّاً - مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً - وردّ قيمته إن كان قيميّاً، بالغةً ما بلغت، سواء أكانت أكثر من الثّمن أم أقلّ منه أم مثله‏.‏

وتجب القيمة في القيميّ، عند جمهور الحنفيّة يوم القبض، لأنّه به يدخل في ضمانه، فهو اليوم الّذي انعقد به سبب الضّمان‏.‏ وعند محمّد تعتبر قيمته يوم الإتلاف ‏(‏الهلاك‏)‏، لأنّه بالإتلاف يتقرّر المثل أو القيمة

39 - أمّا لو نقص المبيع بيعاً فاسداً في يد المشتري، فالنّقص مضمون عليه على النّحو التّالي‏:‏

أ - لو نقص في يد المشتري بفعل المشتري، أو المبيع نفسه، أو بآفة سماويّة، أخذه البائع مع تضمين المشتري أرش النّقصان‏.‏

ب - ولو نقص بفعل البائع، صار بذلك مستردّاً للمبيع، حتّى لو هلك عند المشتري ولم يوجد منه حبس عن البائع، هلك على البائع‏.‏

ج - ولو نقص بفعل أجنبيّ، خيّر البائع‏:‏

- فإن شاء أخذه من المشتري، ثمّ يرجع المشتري على الجاني‏.‏

- وإن شاء اتّبع الجاني، وهو لا يرجع على المشتري‏.‏

سادساً‏:‏ ثبوت الخيار فيه‏:‏

40 - نصّ الحنفيّة على أنّ خيار الشّرط يثبت في البيع الفاسد، كما يثبت في البيع الجائز حتّى لو باع عبداً بألف درهم ورطل من خمر، على أنّه بالخيار، فقبضه المشتري بإذن البائع، وأعتقه في الأيّام الثّلاثة لا ينفذ إعتاقه، ولولا خيار الشّرط للبائع لنفذ إعتاق المشتري بعد القبض‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ومفاده صحّة إعتاقه بعد مضيّ المدّة، لزوال الخيار، وهو ظاهر‏.‏ وكما يثبت خيار الشّرط في المبيع بيعاً فاسداً، يثبت فيه خيار العيب، وللمشتري بعد قبضه أن يردّه بالعيب بقضاء وبغير قضاء‏.‏