فصل: تخاير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الجزء الحادي عشر / الموسوعة الفقهية

تخارج

التّعريف

1 - التّخارج في اللّغة‏:‏ مصدر تخارج، يقال‏:‏ تخارج القوم‏:‏ إذا أخرج كلّ واحد منهم نفقةً على قدر نفقة صاحبه‏.‏ وتخارج الشّركاء‏:‏ خرج كلّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع‏.‏ وفي الاصطلاح هو‏:‏ أن يصطلح الورثة على إخراج بعضهم بشيء معلوم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الصّلح‏:‏

2 - الصّلح لغةً‏:‏ اسم للمصالحة الّتي هي المسالمة خلاف المخاصمة‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ عقد وضع لرفع المنازعة‏.‏ وهو أعمّ من التّخارج، لأنّه يشمل المصالحة في الميراث وغيره‏.‏

ب - القسمة أو التّقاسم‏:‏

3 - القسمة لغةً، اسم للاقتسام أو التّقسيم، وتقاسموا الشّيء‏:‏ قسموه بينهم، وهو أن يأخذ كلّ واحد نصيبه‏.‏ وشرعاً‏:‏ جمع نصيب شائع في مكان معيّن‏.‏

والفرق بينهما أنّه في القسمة يأخذ جزءاً من المال المشترك، أمّا في التّخارج فإنّ الوارث الّذي يخرج يأخذ شيئاً معلوماً، سواء أكان من التّركة أم من غيرها‏.‏

الحكم التّكليفي

4 - التّخارج جائز عند التّراضي، والأصل في جوازه ما روي أنّ عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه طلّق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبيّة في مرض موته، ثمّ مات وهي في العدّة، فورّثها عثمان رضي الله تعالى عنه مع ثلاث نسوة أخر، فصالحوها عن ربع ثُمُنها على ثلاثة وثمانين ألفاً‏.‏ قيل من الدّنانير، وقيل من الدّراهم‏.‏

حقيقة التّخارج

5 - الأصل في التّخارج أنّه عقد صلح بين الورثة لإخراج أحدهم، ولكنّه يعتبر عقد بيع إن كان البدل المصالح عليه شيئاً من غير التّركة‏.‏

ويعتبر عقد قسمة ومبادلة، إن كان البدل المصالح عليه من مال التّركة، وقد يكون هبةً أو إسقاطاً للبعض، إن كان البدل المصالح عليه أقلّ من النّصيب المستحقّ‏.‏ وهذا في الجملة‏.‏ ويشترط في كلّ حالة شروطها الخاصّة‏.‏

من يملك التّخارج

6 - التّخارج عقد صلح، وهو في أغلب أحواله يعتبر من عقود المعاوضات، ولذلك يشترط فيمن يملك التّخارج أهليّة التّعاقد، وذلك بأن يكون عاقلاً غير محجور عليه، فلا يصحّ التّخارج من الصّبيّ الّذي لا يميّز، ولا من المجنون وأشباهه‏.‏

ويشترط أن يكون ذا إرادة، لأنّ التّخارج مبناه على الرّضا‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إكراه‏)‏‏.‏

ويشترط فيمن يملك التّخارج كذلك أن يكون مالكاً لما يتصرّف فيه‏.‏ وفي تصرّف الفضوليّ خلاف بين من يجيزه موقوفاً على إجازة المالك، وهم الحنفيّة والمالكيّة، وبين من لا يجيزه، وهم الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وفي ذلك تفصيل موضعه مصطلح ‏(‏فضوليّ‏)‏‏.‏

وقد يكون ملك التّصرّف بالوكالة، وحينئذ يجب أن يقتصر التّصرّف على المأذون به للوكيل‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ وكالة‏)‏‏.‏ وقد يكون ملك التّصرّف كذلك بالولاية الشّرعيّة كالوليّ والوصيّ، وحينئذ يجب أن يقتصر تصرّفهما على ما فيه الحظّ للمولّى عليه‏.‏ فقد نقل ابن فرحون عن مفيد الحكّام في الأب يصالح عن ابنته البكر ببعض حقّها من ميراث أو غير ذلك، وحقّها بيّن لا خصام فيه، أنّ صلحه غير جائز، إذ لا نظر فيه، أي لا مصلحة، وترجع الابنة ببقيّته على من هو عليه‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏وصاية، ولاية‏)‏‏.‏

شروط صحّة التّخارج

للتّخارج شروط عامّة باعتباره عقد صلح، وشروط خاصّة بصور التّخارج تختلف باختلاف الصّور، وستذكر عند بيانها‏.‏

أمّا الشّروط العامّة فهي‏:‏

7 - أ - يشترط لصحّة التّخارج أن تكون التّركة - محلّ التّخارج - معلومةً، إذ التّخارج في الغالب بيع في صورة صلح، وبيع المجهول لا يجوز، وكذا الصّلح عنه، وذلك إذا أمكن الوصول إلى معرفة التّركة، فإذا تعذّر الوصول إلى معرفتها جاز الصّلح عن المجهول، كما إذا صالحت الزّوجة عن صداقها، ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد، وبعض الحنابلة الّذين لا يجيزون الصّلح عن المجهول‏.‏

والمشهور عند الحنابلة جواز الصّلح عن المجهول مطلقاً، سواء تعذّر علمه أو لم يتعذّر‏.‏ ودليل الصّلح عن المجهول عند تعذّر العلم به‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجلين اختصما في مواريث درست‏:‏ اقتسما وتوخّيا الحقّ ثمّ استهما ثمّ تحالاّ»‏.‏

أمّا عند الحنفيّة فلا يشترط أن تكون أعيان التّركة معلومةً فيما لا يحتاج إلى قبض، لأنّه لا حاجة فيه إلى التّسليم، وبيع ما لم يعلم قدره جائز، كمن أقرّ بغصب شيء، فباعه المقرّ له من المقرّ جاز وإن لم يعرفا قدره، ولأنّ الجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة، ودليل جواز ذلك أثر عثمان في تخارج تماضر امرأة عبد الرّحمن بن عوف‏.‏

8- ب - أن يكون البدل مالاً متقوّماً معلوماً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه، فلا يصحّ أن يكون البدل مجهولاً جنساً أو قدراً أو صفةً، ولا أن يكون ممّا لا يصلح عوضاً في البيع‏.‏ وهذا في الجملة، إذ عند الحنفيّة والحنابلة‏:‏ إذا كان العوض لا يحتاج إلى تسليم، وكان لا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة، فإنّه يجوز مع الجهالة‏.‏

9- ج - التّقابض في المجلس فيما يعتبر صرفاً، كالتّخارج عن أحد النّقدين بالآخر، وكذا فيما إذا اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا‏.‏

وهذا باتّفاق في الأصل، مع الاختلاف في التّفاصيل الّتي سترد عند ذكر صور التّخارج‏.‏

10 - د - توافر شروط بيع الدّين إذا كان للتّركة دين على الغير، وهذا عند من يجيز بيع الدّين لغير من هو عليه كالمالكيّة والشّافعيّة، أو يراعى استعمال الحيلة لجواز التّخارج كالإبراء أو الحوالة به كما يقول الحنفيّة، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر الصّور‏.‏

صور التّخارج

لم ترد صور مفصّلة للتّخارج عند الشّافعيّة والحنابلة، وإنّما ورد ذلك مفصّلاً عند الحنفيّة والمالكيّة مع الاختلاف في الاتّجاهات،ولا تظهر هذه الاتّجاهات إلاّ بذكر كلّ مذهب على حدة‏.‏

صور التّخارج عند الحنفيّة‏:‏

11 - إذا تخارج الورثة مع أحدهم عن نصيبه في التّركة على شيء من المال يدفعونه له، فلذلك صور تختلف بحسب نوع البدل الّذي يدفعونه،وبحسب نوعيّة التّركة، وذلك كما يلي‏:‏

أ - إذا كانت التّركة عقاراً أو عرضاً، فأخرج الورثة أحدهم منها بمال أعطوه إيّاه، جاز التّخارج سواء أكان ما أعطوه أقلّ من حصّته أم أكثر، لأنّه أمكن تصحيحه بيعاً، والبيع يصحّ بالقليل والكثير من الثّمن‏.‏ ولا يصحّ جعله إبراءً، لأنّ الإبراء من الأعيان غير المضمونة لا يصحّ‏.‏ ولا يشترط معرفة مقدار حصّته من التّركة، إذ الجهالة هنا لا تفسد البيع، لأنّها لا تفضي إلى النّزاع، لأنّ المبيع هنا لا يحتاج إلى تسليم‏.‏

ب - إذا كانت التّركة ذهباً فأعطوه فضّةً، أو كانت فضّةً فأعطوه ذهباً جاز الصّلح أيضاً، سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أم أكثر، لأنّه بيع الجنس بخلاف الجنس، فلا يعتبر التّساوي‏.‏ لكن يشترط القبض في المجلس لكونه صَرْفاً‏.‏

غير أنّ الوارث الّذي في يده بقيّة التّركة إن كان جاحداً وجودها في يده يكتفي بذلك القبض، لأنّه قبض ضمان فينوب عن قبض الصّلح‏.‏

والأصل في ذلك أنّه متى تجانس القبضان، بأن يكون قبض أمانة أو قبض ضمان ناب أحدهما مناب الآخر، أمّا إذا اختلفا فالمضمون ينوب عن غيره‏.‏

وإن كان الّذي في يده بقيّة التّركة مقرّاً، فإنّه لا بدّ من تجديد القبض، وهو الانتهاء إلى مكان يتمكّن من قبضه، لأنّه قبض أمانة، فلا ينوب عن قبض الصّلح‏.‏

ج - وإن كانت التّركة دراهم ودنانير، وبدل الصّلح كذلك دراهم ودنانير، جاز الصّلح كيفما كان، صرفاً للجنس إلى خلاف جنسه كما في البيع، لكن لا بدّ من القبض في المجلس لكونه صَرْفاً‏.‏

د - وإن كانت التّركة ذهباً وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار، فصالحوه على أحد النّقدين فلا يجوز الصّلح، إلاّ أن يكون ما أعطي له أكثر من حصّته من ذلك الجنس، ليكون نصيبه بمثله، والزّيادة تكون في مقابل حقّه من بقيّة التّركة احترازاً عن الرّبا، ولا بدّ من التّقابض فيما يقابل نصيبه، لأنّه صرف في هذا القدر‏.‏

فإن كان ما أعطوه مساوياً لنصيبه، أو كان أقلّ من نصيبه بطل الصّلح لوجود الرّبا، لأنّه إذا كان البدل مساوياً تبقى الزّيادة من غير جنس البدل خاليةً عن العوض، فيكون رباً‏.‏

وإن كان البدل أقلّ من نصيبه تبقى الزّيادة من جنس ذلك ومن غير جنسه خاليةً عن العوض، فيكون رباً‏.‏ وتعذّر تجويزه بطريق المعاوضة للزوم الرّبا، ولا يصحّ تجويزه بطريق الإبراء عن الباقي، لأنّ الإبراء عن الأعيان باطل‏.‏

وكذلك يبطل التّخارج إن كان نصيبه مجهولاً لاحتمال الرّبا، لأنّ الفساد على تقدير أن يكون البدل مساوياً له أو أقلّ، فكان أرجح وأولى بالاعتبار‏.‏

ونقل عن الحاكم أبي الفضل أنّ الصّلح إنّما يبطل على أقلّ من نصيبه في مال الرّبا في حالة التّصادق، أمّا في حالة التّناكر بأن أنكروا وراثته فالصّلح جائز، لأنّه في حالة المناكرة يكون المدفوع لقطع المنازعة ولافتداء اليمين، أو لحمله على أخذ عين الحقّ في قدر المأخوذ وإسقاط الحقّ في الباقي، كما قالوا في الصّلح عن الدّين بأقلّ من جنسه‏.‏

هـ - ولو كانت التّركة ذهباً وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار فصالحوه على عرض جاز الصّلح مطلقاً، سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أو أكثر‏.‏

و - إذا كانت أعيان التّركة مجهولةً والصّلح على المكيل أو الموزون ففيه اختلاف‏.‏ قال المرغينانيّ‏:‏ لا يجوز الصّلح لما فيه من احتمال الرّبا، بأن يكون في التّركة مكيل أو موزون من جنسه، فيكون في حقّه بيع المقدّر بجنسه جزافاً‏.‏

وقال الفقيه أبو جعفر‏:‏ يجوز لاحتمال أن لا يكون في التّركة من ذلك الجنس، وإن كان فيها فيحتمل أن يكون نصيبه من ذلك الجنس في التّركة أقلّ ممّا وقع عليه الصّلح فلا يلزم الرّبا، واحتمال أن يكون نصيبه من ذلك أكثر، أو مثل ما وقع عليه الصّلح هو احتمال الاحتمال، ففيه شبهة الشّبهة وليست بمعتبرة‏.‏

وقول أبي جعفر هو الصّحيح على ما في الزّيلعيّ وفتاوى قاضي خان‏.‏

ز - وإن كانت أعيان التّركة مجهولةً، وهي غير مكيل أو موزون في يد بقيّة الورثة، وكان الصّلح على المكيل أو الموزون قيل‏:‏ لا يجوز، لأنّه بيع المجهول، لأنّ المصالح باع نصيبه من التّركة وهو مجهول بما أخذ من المكيل والموزون‏.‏

والأصحّ أنّه يجوز، لأنّ الجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة لعدم الحاجة إلى التّسليم، لقيام التّركة في يدهم، حتّى لو كانت في يد المصالح أو بعضها لم يجز الصّلح، ما لم يعلم جميع ما في يده للحاجة إلى التّسليم‏.‏

صور التّخارج عند المالكيّة‏:‏

يفرّق المالكيّة بين أن يكون بدل التّخارج من نفس التّركة، وبين أن يكون من غيرها‏.‏

أوّلاً‏:‏ إذا كان بدل التّخارج من نفس التّركة‏:‏

12 - إذا كانت التّركة قد اشتملت على عرض وفضّة وذهب، وصالح الورثة أحدهم عن إرثه‏.‏ كزوجة مثلاً مات زوجها فصالحها الابن على ما يخصّها من التّركة، فإنّ الصّلح يجوز في الحالات الآتية‏:‏

أ - إذا أخذت ذهباً من التّركة قدر حصّتها من ذهب التّركة أو أقلّ، أو أخذت دراهم من التّركة قدر حصّتها من دراهم التّركة أو أقلّ، وذلك كصلحها بعشرة دنانير أو أقلّ والذّهب ثمانون عند الفرع الوارث، لأنّها أخذت حظّها ‏(‏أي‏:‏ الثُّمُن‏)‏ من الدّنانير أو بعضه فيكون الباقي كأنّه هبة للورثة‏.‏ ولكن يشترط أن يكون الذّهب الّذي أخذت منه حاضراً كلّه، أو تكون الدّراهم حاضرةً كلّها إن أخذت منها، وسواء حضر ما عدا ذلك من التّركة أم غاب، لأنّ النّوع الّذي أخذت منه لو كان بعضه غائباً ترتّب على ذلك صورة ممنوعة، وهي‏:‏ اشتراط تعجيل الثّمن في بيع الشّيء الغائب بيعاً لازماً‏.‏

ب - إذا أخذت ذهباً من التّركة زائداً على حظّها ديناراً واحداً فقط‏.‏ كصلحها بأحد عشر من الثّمانين الحاضرة، لأنّها أخذت نصيبها من الدّنانير، وباعت لباقي الورثة حظّها من الدّراهم والعرض بالدّينار الزّائد، فجميع ما فيه من البيع والصّرف دينار، لأنّه لا يجوز أن يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار‏.‏

ولكن يشترط في هذه الحالة أن تكون التّركة كلّها من عرض ونقد حاضرةً‏.‏

ج - إذا صولحت بذهب من ذهب التّركة، وكان ما أخذته يزيد عمّا يخصّها من الذّهب أكثر من دينار، جاز هذا الصّلح إن قلّت الدّراهم الّتي تستحقّها عن صرف دينار، أو قلّت قيمة العروض الّتي تستحقّها عن صرف دينار، أو قلّت الدّراهم والعروض عن صرف دينار‏.‏ وإنّما جاز في هذه الحالات لاجتماع البيع والصّرف في دينار واحد فقط، لأنّه لا يجوز أن يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار‏.‏

ويشترط أن تكون التّركة كلّها معلومةً وحاضرةً‏.‏ فإن كانت الدّراهم وقيمة العروض أكثر من صرف دينار منع الصّلح حينئذ، لأنّه يؤدّي إلى اجتماع البيع والصّرف في أكثر من دينار‏.‏

د - إذا صولحت بعرض من عروض التّركة جاز الصّلح مطلقاً، سواء أكان ما أخذته قدر نصيبها أم أقلّ أم أكثر‏.‏

ثانياً‏:‏ إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة‏:‏

13 - إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة فإنّ حكم الصّلح يختلف تبعاً لاختلاف الحالات وهي‏:‏

أ - إذا كانت التّركة عروضاً وفضّةً وذهباً، وصالحها الورثة بذهب من غير ذهب التّركة، أو بفضّة من غير فضّة التّركة، فلا يجوز هذا الصّلح، قلّ ما أخذته عن نصيبها أو كثر، لأنّه بيع ذهب وفضّة وعرض بذهب أو فضّة، وهذا ربا فضل، وفيه ربا النّساء إن غابت التّركة كلّها أو بعضها، لأنّ حكمه حكم النّقد إذا صاحبه النّقد‏.‏

ب - إذا كانت التّركة كما ذكر في الصّورة السّابقة، وصالح الورثة الزّوجة بعرض من غير عرض التّركة جاز هذا الصّلح بشروط هي‏:‏

أن تكون التّركة كلّها معلومةً للمتصالحين ليكون الصّلح على معلوم، وأن تكون التّركة جميعها حاضرةً حقيقةً في العين أو حكماً في العرض، بأن كانت قريبة الغيبة بحيث يجوز النّقد فيه فهو في حكم الحاضر، وأن يكون الصّلح عن إقرار، وأن يقرّ المدين بما عليه إن كان في التّركة دين، وأن يحضر وقت الصّلح إذ لو غاب لاحتمل إنكاره، وأن يكون مكلّفاً‏.‏

ج - إذا كانت التّركة دراهم وعرضاً، أو ذهباً وعرضاً، جاز الصّلح بذهب من غير ذهب التّركة، أو بفضّة من غير التّركة بشرط أن لا يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار‏.‏

مذهب الشّافعيّة‏:‏

14 - يفرّق الشّافعيّة في تخارج الورثة بين ما إذا كان الصّلح بينهم عن إقرار أو عن إنكار، فإن كان عن إقرار، وكان البدل من غير المتصالح عليه كان بيعاً تثبت فيه أحكام البيع، كاشتراط القبض إن اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا، وكاشتراط التّساوي إذا كان جنساً ربويّاً وغير ذلك‏.‏

وإن جرى الصّلح على بعض المتصالح عنه فهو هبة للبعض، وتثبت فيه أحكام الهبة‏.‏

هذا بالنّسبة للصّلح عن إقرار، أمّا الصّلح عن إنكار فهو باطل عندهم، لكنّهم يستثنون من بطلان الصّلح على الإنكار صلح الورثة فيما بينهم للضّرورة، لكن يشترط أن يكون ما يعطى للمتصالح من نفس التّركة لا من غيرها، ويستوي أن يكون التّصالح على تساو أو تفاوت‏.‏

مذهب الحنابلة‏:‏

15 - لم يذكر الحنابلة صوراً للتّخارج، وهو يجري على قواعد الصّلح العامّة الّتي قد تكون بيعاً أو هبةً أو إبراءً‏.‏

ويجوز أن يكون البدل من جنس المتصالح عليه ومن غير جنسه، فإن كان من جنس حقّه بقدره فهو استيفاء له، وإن كان دونه فهو استيفاء لبعضه وترك للبعض الآخر‏:‏ إمّا على سبيل الإبراء أو على سبيل الهبة‏.‏

وإن كان البدل من غير جنس المتصالح عليه كان بيعاً تجري فيه أحكام البيع، وتراعى شروط الصّرف إن كان عن نقد بنقد وهكذا‏.‏ ويشترط - إن كان الصّلح عن إنكار - أن لا يأخذ المتصالح من جنس حقّه أكثر ممّا يستحقّ، لأنّ الزّائد لا مقابل له، فيكون ظالماً بأخذه، بخلاف ما إذا أخذ من غير جنسه، لأنّه يكون بيعاً في حقّ المدّعي، لاعتقاده أخذه عوضاً، ويكون في حقّ المنكر بمنزلة الإبراء، لأنّه دفع المال افتداءً ليمينه ورفعاً للضّرر عنه‏.‏

كون بعض التّركة ديناً قبل التّخارج‏:‏

لو كان بعض التّركة ديناً على النّاس وصالح الورثة أحدهم على أن يخرجوه من الدّين ويكون لهم، فقد اختلف الفقهاء في جواز الصّلح حسب الاتّجاهات الآتية‏:‏

16 - فعند الحنفيّة الصّلح باطل في العين والدّين، أمّا في الدّين فلأنّ فيه تمليك الدّين - وهو حصّة المصالح - من غير من عليه الدّين وهم الورثة، وأمّا في العين فلأنّ الصّفقة واحدة، سواء بيّن حصّة الدّين أو لم يبيّن عند أبي حنيفة، وهو قول صاحبيه على الأصحّ‏.‏ وقد ذكر الحنفيّة بعض الصّور لتصحيح هذا الصّلح وهي‏:‏

أ - أن يشترط الورثة أن يبرئ المصالح الغرماء من حصّته من الدّين، لأنّه حينئذ يكون إسقاطاً، أو هو تمليك الدّين ممّن عليه الدّين وهو جائز‏.‏

ب - أن يعجّل الورثة قضاء نصيب المصالح من الدّين متبرّعين ويحيلهم بحصّته‏.‏

وفي هذين الوجهين ضرر بقيّة الورثة، لأنّ في الأولى لا يمكنهم الرّجوع على الغرماء بقدر المصالح به‏.‏ وكذا في الثّانية، لأنّ النّقد خير من النّسيئة‏.‏

17 - والحنابلة كالحنفيّة لا يجوز عندهم بيع الدّين لغير من عليه الدّين، ولكن يصحّ إبراء الغريم منه أو الحوالة به عليه‏.‏

18 - أمّا عند المالكيّة‏:‏ فإنّه يجوز بيع الدّين لغير من عليه الدّين بشروطه، وعلى ذلك فإنّه يجوز الصّلح عن الدّين الّذي على الغير، حيث يجوز بيع الدّين، ويمتنع الصّلح عنه حيث يمتنع بيعه‏.‏ فيجوز الصّلح عن الدّين إذا كان الدّين حيواناً أو عرضاً أو طعاماً من قرض، وبشرط أن يكون المدين حاضراً، وأن يكون مقرّاً بالدّين، وأن يكون مكلّفاً، ويمتنع في غير ما تقدّم‏.‏

19 - والأظهر عند الشّافعيّة - على ما جاء في مغني المحتاج - بطلان بيع الدّين لغير من عليه، والمعتمد جواز بيعه لغير من عليه بشروطه، بأن يكون المدين مليّاً مقرّاً والدّين حالّاً مستقرّاً‏.‏ وقال النّوويّ‏:‏ لو قال أحد الوارثين لصاحبه‏:‏ صالحتك من نصيبي على هذا الثّوب، فإن كانت التّركة ديوناً على غيره فهو بيع دين لغير من عليه، وإن كان فيها عين ودين على الغير - ولم نجوّز بيع الدّين لغير من هو عليه - بطل الصّلح في الدّين، وفي العين القولان في تفريق الصّفقة‏.‏

ولو مات شخص عن ابنين، والتّركة ألفا درهم ومائة دينار، وهي دين في ذمّة الغير، فصالح أحدهما أخاه من الدّين على ألفي درهم جاز، لأنّه إذا كان في الذّمّة فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه، فيجعل مستوفياً لأحد الألفين ومعتاضاً عن الدّنانير الألف الآخر‏.‏

ظهور دين على التّركة بعد التّخارج

20 - الأصل أنّ الدّين يتعلّق بالتّركة، ويقدّم سداده على تقسيم التّركة، لقوله تعالى‏:‏

‏{‏مِنْ بعدِ وَصيّةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ‏}‏‏.‏

لكن الفقهاء يختلفون في وقت ابتداء ملكيّة الوارث للتّركة إذا كانت مدينةً‏.‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة لا تنتقل ملكيّة التّركة إلى الورثة إلاّ بعد سداد الدّين‏.‏

والصّحيح عند الشّافعيّة، وإحدى الرّوايات عند الحنابلة‏.‏ تنتقل ملكيّة التّركة للوارث قبل سداد الدّين مع تعلّق الدّين بها، وهذا في الجملة‏.‏

وفائدة هذا الخلاف أنّ الغلّة الّتي تحدث من وقت الوفاة إلى وقت السّداد يتعلّق بها الدّين عند من يقول‏:‏ إنّ التّركة لا تدخل في ملك الوارث مع تعلّق الدّين بها‏.‏

وتكون للوارث عند من يقول‏:‏ إنّ التّركة تدخل في ملك الوارث ولو كانت مدينةً‏.‏

ومع هذا الاختلاف فإنّه إذا تصالح الورثة فيما بينهم، وأخرجوا أحدهم، واقتسموا التّركة، ثمّ ظهر دين بعد الصّلح محيط بالتّركة، فإنّه إذا قضى الورثة الدّين، أو أبرأ الغرماء، أو ضمن رجل بشرط أن لا يرجع على الورثة مضى الصّلح ولا يبطل‏.‏

وإن امتنع الورثة من الأداء، ولم يضمن أحد، ولم يبرئ الغرماء بطل الصّلح‏.‏

وهذا باتّفاق في الجملة‏.‏ إذ في قول عند المالكيّة يقيّد البطلان بما إذا كان المقسوم مقوّماً‏.‏ بخلاف ما لو كان عيناً أو مثليّاً‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏صلح - قسمة - دين - تركة‏)‏‏.‏

ظهور دين للميّت بعد التّخارج

21 - لو صالح الورثة أحدهم وخرج من بينهم، ثمّ ظهر للميّت شيء، فإمّا أن يكون عيناً وإمّا أن يكون ديناً‏:‏ فإن كان عيناً فالأشهر أنّها لا تندرج تحت الصّلح الّذي تمّ بين الورثة‏.‏ وإنّما تقسم بين الكلّ، أي يكون هذا الّذي ظهر بين الكلّ‏.‏ وتسمع الدّعوى بها على هذا‏.‏ وقيل‏:‏ تدخل في الصّلح فلا تسمع الدّعوى بها‏.‏

وكذا الحكم لو صدر بعد الصّلح إبراء عامّ، ثمّ ظهر للمصالح عين، فالأصحّ سماع الدّعوى بناءً على القول بعدم دخولها تحت الصّلح، ولا تسمع بناءً على القول بدخولها‏.‏

وهذا إذا اعترف بقيّة الورثة بأنّ العين من التّركة، وإلاّ فلا تسمع دعواه بعد الإبراء‏.‏

وإن كان ما ظهر في التّركة ديناً فعلى القول بعدم دخوله في الصّلح يصحّ الصّلح ويقسم الدّين بين الكلّ، وعلى القول بالدّخول فالصّلح فاسد كما لو كان الدّين ظاهراً وقت الصّلح، إلاّ أن يكون مخرجاً من الصّلح، بأن وقع التّصريح بالصّلح عن غير الدّين من أعيان التّركة فلا يفسد الصّلح‏.‏ وإن وقع الصّلح على جميع التّركة فسد كما لو كان الدّين ظاهراً وقت الصّلح، هذا مذهب الحنفيّة وقواعد المذاهب الأخرى تساير ما قاله الحنفيّة في الجملة‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏صلح - إبراء - دعوى - قسمة‏)‏‏.‏

كيفيّة تقسيم التّركة بعد التّخارج

22 - إذا تصالح الورثة مع أحدهم على أن يترك حصّته لهم، ويأخذ بدلها جزءاً معيّناً من التّركة، فإنّ طريقة التّقسيم أن تصحّح المسألة باعتبار المصالح موجوداً بين الورثة، ثمّ تطرح سهامه من التّصحيح، ثمّ يقسم باقي التّركة على سهام الباقين من الورثة‏.‏

مثال ذلك‏:‏ توفّيت امرأة عن زوج وأمّ وعمّ، فمع وجود الزّوج تكون المسألة من ستّة، للزّوج منها ثلاثة أسهم، وللأمّ سهمان، وللعمّ الباقي وهو سهم واحد‏.‏ فإن صالح الزّوج عن نصيبه - الّذي هو النّصف - على ما في ذمّته للزّوجة من المهر على أن يخرج من التّركة، فإنّ سهامه تسقط في نظير ما أخذ، والباقي من التّركة - وهو ما عدا المهر - يقسم بين الأمّ والعمّ بقدر سهامهما من أصل المسألة فيكون للأمّ سهمان وللعمّ سهم‏.‏

ولا يجوز أن يجعل الزّوج كأنّه غير موجود ما دام قد خرج عن نصيبه، لأنّه لو جعل كذلك وجعلت التّركة ما وراء المهر، وتمّ التّقسيم على هذا الأساس، لانقلب فرض الأمّ من ثلث أصل المال إلى ثلث ما بقي، إذ يقسم الباقي بينهما أثلاثاً، فيكون للأمّ سهم وللعمّ سهمان، وهو خلاف الإجماع إذ حقّها ثلث الأصل، أمّا إذا أدخلنا الزّوج كان للأمّ سهمان من السّتّة وللعمّ سهم واحد، فيقسم الباقي بينهما على هذه الطّريقة فتكون مستوفيةً حقّها من الميراث‏.‏ هذا إذا كان التّخارج على شيء من التّركة‏.‏

23 - أمّا إذا كان التّخارج على شيء من المال من غير التّركة، فإنّ المتخارج يكون قد باع نصيبه من التّركة نظير الثّمن الّذي دفعه سائر الورثة من أموالهم الخاصّة، لتخلص التّركة كلّها لهم‏.‏

24 - فإذا كان ما دفعه الورثة هو بنسبة سهام كلّ منهم، فإنّ التّركة تقسم كما قسمت في الصّورة السّابقة، وذلك بأن يعرف أصل المسألة والسّهام الّتي تخصّ كلّ وارث قبل التّخارج، ثمّ تسقط حصّة المتخارج في نظير ما تخارج عليه وتقسم التّركة على باقي الورثة بقدر سهامهم من أصل المسألة، ثمّ تقسم حصّة المتخارج بينهم بنسبة سهام كلّ منهم، لأنّهم دفعوا البدل على هذه النّسبة‏.‏

وإذا كان ما دفعه الورثة بالتّساوي فإنّ حصّة الخارج تقسم بينهم بالتّساوي، وذلك بعد أن يأخذ كلّ منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه فيها على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج من أحد‏.‏ وإن كان ما دفعه الورثة متفاوتاً في القدر فإنّ حصّة الخارج تقسم بينهم على قدر هذا التّفاوت، بعد أخذ كلّ منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه‏.‏

25 - وإذا تخارج وارث مع وارث آخر على أن يترك له نصيبه، فإنّ التّركة تقسم بين الورثة جميعاً على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج، ويئول نصيب المتخارج بعد ذلك لمن دفع له البدل‏.‏

تخارج الموصى له بشيء من التّركة

26 - الموصى له بشيء من التّركة‏.‏ يجوز أن يتخارج معه الورثة عن نصيبه الموصى له به‏.‏ والحكم في ذلك كالحكم في تخارج الورثة مع أحدهم، فيراعى فيه الشّروط الّتي سبق ذكرها في صور التّخارج، من اعتبار كون البدل نقداً أو غيره، وكونه أقلّ ممّا يستحقّ أو مساوياً أو أكثر، واعتبار شروط الصّرف والتّحرّز عن الرّبا وغير ذلك من الشّروط‏.‏

وفي كيفيّة تخارج الورثة مع الموصى له يقول ابن عابدين‏:‏ الموصى له بمبلغ من التّركة كوارث‏.‏ وصورة ذلك‏:‏ رجل أوصى لرجل بدار وترك ابناً وابنةً فصالح الابن والابنة الموصى له بالدّار على مائة درهم، قال أبو يوسف‏:‏ إن كانت المائة من مالهما غير الميراث كانت الدّار بينهما نصفين، وإن صالحاه من المال الّذي ورثاه عن أبيهما كان المال بينهما أثلاثاً، لأنّ المائة كانت بينهما أثلاثاً‏.‏

وذكر الخصّاف في الحيل‏:‏ إن كان الصّلح عن إقرار كانت الدّار الموصى بها بينهما نصفين، وإن كان الصّلح عن إنكار فعلى قدر الميراث‏.‏ وعلى هذا بعض المشايخ‏.‏ وكذلك الصّلح عن الميراث‏.‏ كذا في قاضي خان وللتّفصيل ينظر ‏(‏صلح - قسمة - تركة‏)‏‏.‏

تخاير

التّعريف

1 - التّخاير هو‏:‏ اختيار المتعاقدين لزوم العقد في المجلس، سواء أكان صريحاً أم ضمناً‏.‏ أمّا الصّريح‏:‏ فكقولهما بهذا اللّفظ‏:‏ تخايرنا، أو اخترنا إمضاء العقد، أو ألزمناه، أو أجزناه، وما أشبهها، لأنّ الخيار حقّهما، فسقط بإسقاطهما‏.‏ ومن صيغ ذلك أيضاً قولهما‏:‏ أبطلنا الخيار‏.‏ أو أفسدناه، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ وأمّا الضّمنيّ‏:‏ فكأن يتبايع العاقدان العوضين بعد قبضهما في المجلس، لأنّ ذلك يتضمّن الرّضا بلزوم العقد الأوّل‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - اتّفق الشّافعيّة، والحنابلة في الأصحّ، وابن حبيب من المالكيّة على أنّ كلّ عقد ثبت فيه خيار المجلس فإنّ الخيار ينقطع بالتّخاير، وهذا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما للآخر‏:‏ اختر»‏.‏

وينقطع الخيار بالتّخاير، بأن يختارا لزوم العقد بهذا اللّفظ أو نحوه‏:‏ كأمضيناه، أو ألزمناه، أو أجزناه‏.‏ فلو اختار أحدهما لزومه سقط حقّه في الخيار وبقي الحقّ فيه للآخر‏.‏

ولو قال أحدهما للآخر‏:‏ اختر سقط خياره لتضمّنه الرّضا باللّزوم، ويدلّ عليه الحديث السّابق، وبقي خيار الآخر، ولو اختار أحدهما لزوم العقد والآخر فسخه قدّم الفسخ‏.‏

3 - ثمّ التّخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد عند الحنابلة، والتّخاير في ابتداء العقد أن يقول البائع‏:‏ بعتك ولا خيار بيننا، ويقبل الآخر على ذلك، فلا يكون لهما خيار المجلس في هذه الحالة، وأمّا عند الشّافعيّة فلو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس فثلاثة أوجه‏:‏ أصحّها‏:‏ البيع باطل، والثّاني‏:‏ البيع صحيح ولا خيار، والثّالث‏:‏ البيع صحيح، والخيار ثابت‏.‏ وطالما أنّ التّخاير يرد على خيار المجلس، فلا مجال للكلام عنه عند الحنفيّة، والمالكيّة ما عدا ابن حبيب، لأنّهم لا يرون جواز خيار المجلس ولا يقولون به‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏خيار المجلس‏)‏ وقد تحدّث الفقهاء عنه في كتاب البيوع عند الكلام عن الخيار‏.‏

تخبيب

التّعريف

1 - التّخبيب‏:‏ مصدر خبّب، ومعناه في اللّغة‏:‏ إفساد الرّجل عبداً أو أمةً لغيره أو صديقاً على صديقه، يقال‏:‏ خبّبها فأفسدها‏.‏ وخبّب فلان غلامي‏:‏ أي خدعه‏.‏ وأمّا الخَبّ‏:‏ فمعناه الفساد والخبث والغشّ، وهو ضدّ الغِرّ، إذ الغرّ‏:‏ هو الّذي لا يفطن للشّرّ بخلاف الخبّ‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإغراء‏:‏

2 - الإغراء في اللّغة‏:‏ مصدر أغرى، وأغري بالشّيء‏:‏ أولع به، يقال‏:‏ أغريت الكلب بالصّيد، وأغريت بينهم العداوة‏.‏

ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى وهو أعمّ من التّخبيب‏.‏

ب - إفساد‏:‏

3 - الإفساد‏:‏ مصدر أفسد، وهو في اللّغة يقابل الإصلاح‏.‏

وأمّا في الاصطلاح، فقد ذكر صاحب الكلّيّات أنّه‏:‏ جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه وعن كونه منتفعاً به، وفي الحقيقة‏:‏ هو إخراج الشّيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح‏.‏

والإفساد أعمّ، لأنّه يكون في الأمور المادّيّة والمعنويّة، بخلاف التّخبيب لأنّه إفساد خاصّ‏.‏

ج - التّحريض‏:‏

4 - التّحريض‏:‏ مصدر حرّض، ومعناه‏:‏ الحثّ على الشّيء والإحماء عليه، ومنه قوله تعالى ‏{‏يا أيّها النّبيّ حَرِّض المؤمنينَ على القتالِ‏}‏‏.‏

وهو أعمّ، لأنّه يكون في الخير والشّرّ، بخلاف التّخبيب فإنّه لا يكون إلاّ في الشّرّ‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - التّخبيب حرام، لحديث «لن يدخل الجنّة خبّ ولا بخيل ولا منّان»، وحديث «الفاجر خبّ لئيم» وحديث «من خبّب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منّا» أي خدعه وأفسده، ولما يترتّب عليه من الإفساد والإضرار‏.‏ وتخبيب زوجة الغير خداعها وإفسادها، أو تحسين الطّلاق إليها ليتزوّجها أو يزوّجها غيره، ولفظ المملوك الوارد في الحديث يتناول الأمة‏.‏

حكم زواج المخَبّب بمن خبّبها

6 - انفرد المالكيّة بذكرهم الحكم في هذه المسألة، وصورتها‏:‏ أن يفسد رجل زوجة رجل آخر، بحيث يؤدّي ذلك الإفساد إلى طلاقها منه، ثمّ يتزوّجها ذلك المفسد‏.‏

فقد ذكروا أنّ النّكاح يفسخ قبل الدّخول وبعده بلا خلاف عندهم، وإنّما الخلاف عندهم في تأبيد تحريمها على ذلك المفسد أو عدم تأبيده، فذكروا فيه قولين‏:‏

أحدهما وهو المشهور‏:‏ أنّه لا يتأبّد، فإذا عادت لزوجها الأوّل وطلّقها، أو مات عنها جاز لذلك المفسد نكاحها‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ التّحريم يتأبّد، وقد ذكر هذا القول يوسف بن عمر كما جاء في شرح الزّرقانيّ، وأفتى به غير واحد من المتأخّرين في فاس‏.‏

هذا ومع أنّ غير المالكيّة من الفقهاء لم يصرّحوا بحكم هذه المسألة، إلاّ أنّ الحكم فيها وهو التّحريم معلوم ممّا سبق في الحديث المتقدّم‏.‏

عقوبة المخبِّب

7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المعصية الّتي لا حدّ فيها ولا كفّارة عقوبتها التّعزير بما يراه الإمام مناسباً، وفعل المخبّب هذا لا يخرج عن كونه معصيةً لا حدّ فيها ولا كفّارةً‏.‏

وقد ذكر الحنفيّة أنّ من خدع امرأة رجل أو ابنته وهي صغيرة، وزوّجها من رجل، قال محمّد رحمه الله تعالى‏:‏ أحبسه بهذا أبداً حتّى يردّها أو يموت‏.‏ وذكر ابن نجيم أنّ هذا المخادع يحبس إلى أن يحدث توبةً أو يموت، لأنّه ساع في الأرض بالفساد‏.‏

وذكر الحنابلة في ‏(‏القوّادة‏)‏ الّتي تفسد النّساء والرّجال، أنّ أقلّ ما يجب عليها الضّرب البليغ، وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في النّساء والرّجال لتُجْتَنَب‏.‏

وإذا أركبت القوّادة دابّةً وضمّت عليها ثيابها، ليؤمن كشف عورتها، ونودي عليها هذا جزاء من يفعل كذا وكذا ‏(‏أي يفسد النّساء والرّجال‏)‏ كان من أعظم المصالح، قاله الشّيخ ‏(‏أي ابن قدامة‏)‏ ليشتهر ذلك ويظهر‏.‏ وقال‏:‏ لوليّ الأمر كصاحب الشّرطة أن يعرّف ضررها، إمّا بحبسها أو بنقلها عن الجيران أو غير ذلك‏.‏

تختّم

التّعريف

1 - التّختّم مصدر تختّم، يقال‏:‏ تختّم بالخاتم أي لبسه، وأصله الثّلاثيّ ختم‏.‏

ومن معاني الختم أيضاً‏:‏ الأثر الحاصل عن النّقش، ويتجوّز به في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه، اعتباراً لما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب‏.‏

وختم الشّيء‏:‏ إنهاؤه، ومنه‏:‏ ختم القرآن وخاتم الرّسل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كانَ محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالِكم ولكنْ رسولَ اللّهِ وخاتَمَ النّبيّين‏}‏ أي‏:‏ آخرهم، لأنّه ختمت به النّبوّة والرّسالات‏.‏ ومن المجاز‏:‏ لبس الخاتم، وهو حليّ للأصبع، كالخاتم - بكسر التّاء - ويطلق على الخاتم أيضاً والخاتم والختم والخاتام والخيتام، وثمّة ألفاظ أخرى مشتقّة من هذه المادّة بالمعنى نفسه، وصل بعضهم بها إلى عشرة ألفاظ‏.‏

والخاتم من الحليّ كأنّه أوّل وهلة ختم به، فدخل بذلك في باب الطّابع، ثمّ كثر استعماله لذلك، وإن أعدّ الخاتم لغير الطّبع‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّختّم عن معناه اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّزيّن‏:‏

2 - التّزيّن‏:‏ مصدر تزيّن، يقال‏:‏ تزيّنت المرأة‏:‏ أي لبست الزّينة أو اتّخذتها، وتزيّنت الأرض بالنّبات‏:‏ أي حسنت وبهجت، والزّينة اسم جامع لما يتزيّن به، ومعنى الزّينة عند الرّاغب‏:‏ ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدّنيا ولا في الآخرة، وهي نفسيّة وبدنيّة وخارجيّة‏.‏ والتّزيّن أعمّ من التّختّم، لأنّه يكون بالتّختّم وبغيره‏.‏

ب - الفَتْخَة‏:‏

3 - الفتخة قريبة في المعنى والاستعمال من الخاتم، فهي مثله من الحليّ، وقد تعدّدت الأقوال في معناها‏.‏ فقيل‏:‏ هي خاتم كبير يكون في اليد والرّجل، وقيل‏:‏ هي كالخاتم أيّاً كان، وقيل‏:‏ هي خاتم يكون في اليد والرّجل بفصّ وبغير فصّ، وقيل‏.‏ هي حلقة تلبس في الأصبع كالخاتم، وقيل‏:‏ هي حلقة من فضّة لا فصّ فيها، فإذا كان فيها فصّ فهي الخاتم، وروي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُبْدِيْنَ زِينَتَهنَّ إلاّ ما ظَهَرَ منها‏}‏ أنّها قالت‏:‏ المراد بالزّينة في الآية القلب والفتخة، وقالت‏:‏ الفتخ‏:‏ حلق من فضّة يكون في أصابع الرّجلين، قال ابن برّيّ‏:‏ حقيقة الفتخة أن تكون في أصابع الرّجلين‏.‏ فيتّفق الخاتم والفتخة في أنّه يتزيّن بكلّ منهما، ويختلفان في موضع لبس كلّ منهما، وفي المادّة الّتي يصنع منها، وفي شكله‏.‏

ج - التّسوّر‏:‏

4 - التّسوّر مصدر تسوّر، ويأتي في اللّغة بمعنى العلوّ والتّسلّق، يقال‏:‏ تسوّرت الحائط إذا علوته وتسلّقته، وبمعنى التّزيّن بالسّوار والتّحلّي به، يقال‏:‏ سوّرته أي ألبسته السّوار من الحليّ فتسوّر، وفي الحديث‏:‏ «أَيَسُرُّكَ أنْ يُسَوِّرَكَ اللّهُ بهما يومَ القيامةِ سوارين من نار»‏.‏ فيتّفق التّختّم مع التّسوّر في أنّهما من الزّينة، ويختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس‏.‏

د - التّدملج‏:‏

5 - التّدملج مصدر تدملج، يقال‏:‏ تدملج أي لبس الدّملج - بفتح اللام وضمّها - أو الدّملوج وهو المعضّد من الحليّ، وهو ما يلبس في العضد، ويقال أيضاً‏:‏ ألقى عليه دماليجه‏.‏ فالتّدملج كالتّختّم في أنّه يتزيّن بكلّ منهما، غير أنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس‏.‏

هـ - التّطوّق‏:‏

6 - التّطوّق مصدر تطوّق، يقال‏:‏ تطوّق أي لبس الطّوق، وهو حليّ للعنق، وكلّ شيء استدار فهو طوق، كطوق الرّحى الّذي يدير القطب ونحو ذلك‏.‏

فالتّطوّق كالتّختّم في أنّه يتحلّى ويتزيّن بكلّ منهما، لكنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة والموضع الّذي يلبس فيه كلّ منهما‏.‏

و - التّنطّق‏:‏

7 - التّنطّق مصدر تنطّق، يقال‏:‏ تنطّق الرّجل وانتطق أي لبس المنطق، والمنطق والنّطاق والمنطقة‏:‏ كلّ ما شددت به وسطك، وقيل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ذات النّطاقين‏:‏ لأنّها كانت تطارق ‏(‏أي تطابق‏)‏ نطاقاً على نطاق، أو لأنّها شقّت نطاقها ليلة خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار، فجعلت واحدةً لزاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأخرى حمّالةً له فالنّطاق كالخاتم في الإحاطة، لكنّهما يختلفان مادّةً وشكلاً وحجماً وموضعاً‏.‏

الحكم التّكليفي

يختلف الحكم التّكليفيّ للتّختّم باختلاف موضعه‏:‏

أوّلاً‏:‏ التّختّم بالذّهب

8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للنّساء التّختّم بالذّهب، ويحرم على الرّجال ذلك، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال «أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ لإِناثِ أُمّتي، وحُرِّمَ على ذكورِها»‏.‏ واختلفوا في تختّم الصّبيّ بالذّهب‏:‏

فذهب المالكيّة - في الرّاجح عندهم - إلى أنّ تختّم الصّبيّ بالذّهب مكروه، والكراهة على من ألبسه أو على وليّه، ومقابل الرّاجح عند المالكيّة الحرمة‏.‏

ونصّ الحنابلة - وهو قول مرجوح للمالكيّة - على حرمة إلباس الصّبيّ الذّهب، ومنه الخاتم‏.‏ وأطلق الحنفيّة هنا الكراهة في التّحريم، واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «كنّا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري» وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وعبّر بعضهم بالأصحّ - إلى أنّ الصّبيّ غير البالغ مثل المرأة في جواز التّختّم بالذّهب، وأنّ للوليّ تزيينه بالحليّ من الذّهب أو الفضّة، ولو في غير يوم عيد‏.‏

ثانياً‏:‏ التّختّم بالفضّة

9 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم المرأة بالفضّة‏.‏ وأمّا تختّم الرّجل بالفضّة فعلى التّفصيل الآتي‏:‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل التّختّم بالفضّة، لما روي أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من ورق، وكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر رضي الله عنه، ثمّ كان في يد عمر رضي الله عنه، ثمّ كان في يد عثمان رضي الله عنه، حتّى وقع في بئر أريس‏.‏ نقشه‏:‏ محمّد رسول اللّه»‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ التّختّم سنّة لمن يحتاج إليه، كالسّلطان والقاضي ومن في معناهما، وتركه لغير السّلطان والقاضي وذي حاجة إليه أفضل‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه لا بأس بالخاتم من الفضّة، فيجوز اتّخاذه، بل يندب بشرط قصد الاقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لبسه عجباً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يحلّ للرّجل الخاتم من الفضّة، سواء من له ولاية وغيره، فيجوز لكلّ لبسه، بل يسنّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يباح للذّكر الخاتم من الفضّة، لأنّه صلى الله عليه وسلم «اتّخذ خاتماً من ورق»، قال أحمد في خاتم الفضّة للرّجل‏:‏ ليس به بأس، واحتجّ بأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان له خاتم، وظاهر ما نقل عن أحمد أنّه لا فضل فيه‏.‏ وجزم به في التّلخيص وغيره، وقيل‏:‏ يستحبّ، قدّمه في الرّعاية‏.‏ وقيل‏:‏ يكره لقصد الزّينة‏.‏ جزم به ابن تميم‏.‏ وأمّا تختّم الصّبيّ بالفضّة فجائز عند الفقهاء‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّختّم بغير الذّهب والفضّة

10 - ذهب المالكيّة - في المعتمد عندهم - والحنابلة إلى أنّ التّختّم بالحديد والنّحاس والرّصاص مكروه للرّجال والنّساء، لما روي «أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليه خاتم شبه - نحاس أصفر - فقال له‏:‏ إنّي أجد منك ريح الأصنام فطرحه‏.‏ ثمّ جاء وعليه خاتم حديد فقال‏:‏ ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ من أيّ شيء أتّخذه ‏؟‏ قال‏:‏ اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ التّختّم بالجلد والعقيق والقصدير والخشب جائز للرّجال والنّساء‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّه يباح للرّجل والمرأة التّحلّي بالجوهر والزّمرّد والزّبرجد والياقوت والفيروز واللّؤلؤ، أمّا العقيق فقيل‏:‏ يستحبّ تختّمهما به، وقيل‏:‏ يباح التّختّم بالعقيق لما في رواية مهنّا، وقد سئل الإمام أحمد‏:‏ ما السّنّة ‏؟‏ يعني في التّختّم، فأجاب بقوله‏:‏ لم تكن خواتيم القوم إلاّ من الفضّة‏.‏ قال صاحب كشّاف القناع‏:‏ الدّملج في معنى الخاتم‏.‏

واختلف الحنفيّة في التّختّم بغير الذّهب والفضّة‏.‏

والحاصل كما قال ابن عابدين‏:‏ أنّ التّختّم بالفضّة حلال للرّجال بالحديث، وبالذّهب والحديد والصّفر حرام عليهم بالحديث، وبالحجر حلال على اختيار شمس الأئمّة وقاضي خان أخذاً من قول الرّسول وفعله صلى الله عليه وسلم، لأنّ حلّ العقيق لمّا ثبت بهما ثبت حلّ سائر الأحجار لعدم الفرق بين حجر وحجر، وحرام على اختيار صاحب الهداية والكافي أخذاً من عبارة الجامع الصّغير‏:‏ ولا يتختّم إلاّ بالفضّة‏.‏ فإنّها يحتمل أن يكون القصر فيها بالإضافة إلى الذّهب، ولا يخفى ما بين المأخذين من التّفاوت‏.‏

واختلف الشّافعيّة أيضاً في التّختّم بغير الذّهب والفضّة، وقد ورد في المجموع طرف من هذا الخلاف، وهو‏:‏ قال صاحب الإبانة‏:‏ يكره الخاتم من حديد أو شبه - نوع من النّحاس - وتابعه صاحب البيان، وأضاف إليهما الخاتم من رصاص، وقال صاحب التّتمّة‏:‏ لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث الواهبة نفسها، ففيه قوله للّذي أراد تزوّجها‏:‏ «انظر ولو خاتماً من حديد»‏.‏

وفي حاشية القليوبيّ‏:‏ ولا بأس بلبس غير الفضّة من نحاس أو غيره‏.‏

رابعاً‏:‏ موضع التّختّم

11 - لم يختلف الفقهاء في موضع التّختّم بالنّسبة للمرأة، لأنّه تزيّن في حقّها، ولها أن تضع خاتمها في أصابع يديها أو رجليها أو حيث شاءت‏.‏

ولكنّ الفقهاء اختلفوا في موضع التّختّم للرّجل، بل إنّ فقهاء بعض المذاهب اختلفوا فيما بينهم في ذلك‏:‏ فذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه ينبغي أن يكون تختّم الرّجل في خنصر يده اليسرى، دون سائر أصابعه، ودون اليمنى‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنّه يجوز أن يجعل خاتمه في يده اليمنى، وسوّى الفقيه أبو اللّيث في شرح الجامع الصّغير بين اليمين واليسار، لأنّه قد اختلفت الرّوايات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقول بعضهم‏:‏ إنّه في اليمين من علامات أهل البغي ليس بشيء، لأنّ النّقل الصّحيح عن «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفي ذلك»‏.‏

والمختار عند مالك رحمه الله التّختّم في اليسار على جهة النّدب، وجعل الخاتم في الخنصر، وكان مالك يلبسه في يساره، قال أبو بكر بن العربيّ في القبس شرح الموطّأ‏:‏ صحّ عن

«رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه تختّم في يمينه وفي يساره، واستقرّ الأكثر على أنّه كان يتختّم في يساره»، فالتّختّم في اليمين مكروه، ويتختّم في الخنصر، لأنّه بذلك أتت السّنّة عنه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن‏.‏ ولأنّ كونه في اليسار أبعد عن الإعجاب‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز للرّجل لبس خاتم الفضّة في خنصر يمينه، وإن شاء في خنصر يساره، كلاهما صحّ فعله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّ الصّحيح المشهور أنّه في اليمين أفضل لأنّه زينة، واليمين أشرف‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ في اليسار أفضل‏.‏ وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يتختّم في يساره، وبإسناد حسن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما تختّم في يمينه‏.‏ وعند الشّافعيّة أنّ التّختّم في الوسطى والسّبّابة منهيّ عنه لما ورد عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أتختّم في أصبعي هذه أو هذه قال‏:‏ فأومأ إلى الوسطى والّتي تليها»‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لبس الخاتم في خنصر اليسار أفضل من لبسه في خنصر اليمين، نصّ عليه في رواية صالح، وضعّف في رواية الأثرم وغيره التّختّم في اليمنى، قال الدّارقطنيّ وغيره‏:‏ المحفوظ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يساره، وأنّه إنّما كان في الخنصر لكونه طرفاً، فهو أبعد عن الامتهان فيما تتناوله اليد، ولأنّه لا يشغل اليد عمّا تتناوله‏.‏ وعند الحنابلة أنّه يكره لبس الخاتم في سبّابة ووسطى للنّهي الصّحيح عن ذلك‏.‏

وظاهره لا يكره لبسه في الإبهام والبنصر، وإن كان الخنصر أفضل اقتصاراً على النّصّ‏.‏

خامساً‏:‏ وزن خاتم الرّجل

12 - اختلف الفقهاء في الوزن المباح لخاتم الرّجل‏:‏ فعند الحنفيّة، قال الحصكفيّ‏:‏ لا يزيد الرّجل خاتمه على مثقال‏.‏ ورجّح ابن عابدين قول صاحب الذّخيرة أنّه لا يبلغ به المثقال، واستدلّ بما روي أنّ «رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً‏:‏ من أيّ شيء أتّخذه ‏؟‏ - يعني الخاتم - فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اتّخذه من ورق، ولا تتمّه مثقالاً»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز للذّكر لبس خاتم الفضّة إن كان وزن درهمين شرعيّين أو أقلّ، فإن زاد عن درهمين حرم‏.‏

ولم يحدّد الشّافعيّة وزناً للخاتم المباح، قال الخطيب الشّربينيّ‏:‏ لم يتعرّض الأصحاب لمقدار الخاتم المباح، ولعلّهم اكتفوا فيه بالعرف، أي عرف البلد وعادة أمثاله فيها، فما خرج عن ذلك كان إسرافاً‏.‏‏.‏‏.‏ هذا هو المعتمد، وإن قال الأذرعيّ‏:‏ الصّواب ضبطه بدون مثقال، لما في صحيح ابن حبّان وسنن أبي داود عن أبي هريرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للابس الخاتم الحديد‏:‏ ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه وقال‏:‏ يا رسول اللّه من أيّ شيء أتّخذه ‏؟‏ قال‏:‏ اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً» قال‏:‏ وليس في كلامهم ما يخالفه‏.‏ وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أنّ ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا بأس بجعله مثقالاً فأكثر، لأنّه لم يرد فيه تحديد، ما لم يخرج عن العادة، وإلاّ حرم ‏(‏قالوا‏)‏ لأنّ الأصل التّحريم، وإنّما خرج المعتاد لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل الصّحابة‏.‏

سادساً‏:‏ عدد خواتم الرّجل

13 - اختلف الفقهاء في حكم تعدّد خواتم الرّجل‏:‏

فنصّ المالكيّة على أنّه لا يباح للرّجل أكثر من خاتم واحد، فإن تعدّد الخاتم حرم ولو كان في حدود الوزن المباح شرعاً‏.‏

واختلف فقهاء الشّافعيّة في تعدّد الخاتم، ونقل صاحب مغني المحتاج جانباً من هذا الخلاف في قوله‏:‏ وفي الرّوضة وأصلها‏:‏ ولو اتّخذ الرّجل خواتيم كثيرةً ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز، فظاهره الجواز في الاتّخاذ دون اللّبس، وفيه خلاف مشهور، والّذي ينبغي اعتماده فيه أنّه جائز ما لم يؤدّ إلى سرف‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لو اتّخذ الرّجل لنفسه عدّة خواتيم، فالأظهر جوازه إن لم يخرج عن العادة، والأظهر جواز لبس الرّجل خاتمين فأكثر جميعاً إن لم يخرج عن العادة‏.‏

ولم نجد كلاماً للحنفيّة في هذه المسألة‏.‏

سابعاً‏:‏ النّقش على الخاتم

14 - اتّفق الفقهاء على جواز النّقش على الخاتم، وعلى أنّه يجوز نقش اسم صاحب الخاتم عليه، واختلفوا في نقش لفظ الجلالة أو الذِّكْر‏:‏

فقال الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ يجوز أن ينقش لفظ الجلالة أو ألفاظ الذّكر على الخاتم، ولكنّه يجعله في كمّه إن دخل الخلاء، وفي يمينه إذا استنجى‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللّه تعالى من القرآن أو غيره نصّاً، قال إسحاق بن راهويه‏:‏ لا يدخل الخلاء به، وقال في الفروع‏:‏ ولعلّ أحمد كرهه لذلك، قال‏:‏ ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا، وهي تفتقر إلى دليل والأصل عدمه‏.‏ وقال الحنابلة أيضاً‏:‏ يحرم أن ينقش عليه صورة حيوان، ويحرم لبسه والصّورة عليه كالثّوب المصوّر، ولم ير بعض الحنفيّة بأساً في نقش ذلك إذا كان صغيراً بحيث لا يبصر عن بعد‏.‏

ثامناً‏:‏ فصّ الخاتم

15 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أن يكون لخاتم الرّجل المباح فصّ من مادّته الفضّيّة أو من مادّة أخرى على التّفصيل الآتي‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ يجوز للرّجل أن يجعل فصّ خاتمه عقيقاً أو فيروزجاً أو ياقوتاً أو نحوه، ولا بأس بسدّ ثقب الفصّ بمسمار الذّهب ليحفظ به الفصّ، لأنّه قليل، فأشبه العلم في الثّوب فلا يعدّ لابساً له، ويجعل الرّجل فصّ خاتمه إلى بطن كفّه بخلاف النّساء، لأنّه للزّينة في حقّهنّ دون الرّجال‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا بأس بالفضّة في حلية الخاتم‏.‏‏.‏‏.‏ ثمّ اختلفوا في الشّرح، فقال بعضهم‏:‏ تكون الحلية من الفضّة في خاتم من شيء جائز غير الحديد والنّحاس والرّصاص، كالجلد والعود أو غير ذلك ممّا يجوز، فيجعل الفصّ فيه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يكون الخاتم كلّه من الفضّة لما في صحيح مسلم‏:‏ «كان خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ورق، وكان فصّه حبشيّاً» أي كان صانعه حبشيّاً، أو كان مصنوعاً كما يصنعه أهل الحبشة فلا ينافي رواية‏:‏ أنّ فصّه منه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز للذّكر خاتم بعضه ذهب ولو قلّ‏.‏

وقالوا‏:‏ يجعل فصّ الخاتم ممّا يلي الكفّ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن، فإذا أراد الاستنجاء خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلاء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز الخاتم بفصّ وبغير فصّ، وأضاف النّوويّ‏:‏ ويجعل الفصّ من باطن كفّه أو ظاهرها، وباطنها أفضل للأحاديث الصّحيحة فيه‏.‏ وقال القليوبيّ‏:‏ ويسنّ جعل فصّ الخاتم داخل الكفّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ للرّجل جعل فصّ خاتمه منه أو من غيره، لأنّ في البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه «كان فصّه منه» ولمسلم «كان فصّه حبشيّاً»‏.‏ وقالوا‏:‏ يباح للذّكر من الذّهب فصّ خاتم إذا كان يسيراً‏.‏‏.‏‏.‏ اختاره أبو بكر عبد العزيز ومجد الدّين ابن تيميّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وإليه ميل ابن رجب، قال في الإنصاف‏:‏ وهو الصّواب وهو المذهب، وفي الفتاوى المصريّة‏:‏ يسير الذّهب التّابع لغيره كالطّراز ونحوه جائز في الأصحّ من مذهب الإمام أحمد‏.‏

واختار القاضي وأبو الخطّاب التّحريم، وقطع به في شرح المنتهى في باب الآنية‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ الأفضل أن يجعل الرّجل فصّ الخاتم ممّا يلي ظهر كفّه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان يفعل ذلك» وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره يجعله ممّا يلي ظهر كفّه‏.‏

تاسعاً‏:‏ تحريك الخاتم في الوضوء

16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد، إن كان ضيّقاً ولا يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته، فإن كان الخاتم واسعاً، أو كان ضيّقاً وعلم وصول الماء إلى ما تحته فإنّ تحريكه لا يجب، بل يكون مستحبّاً‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجب تحويل خاتم المتوضّئ من موضعه ولو كان ضيّقاً إن كان مأذوناً فيه، وعلى المتوضّئ إزالة غير المأذون فيه إن كان يمنع وصول الماء للبشرة وإلاّ فلا، وليس الحكم بإزالة ما يمنع وصول الماء للبشرة خاصّاً بالخاتم غير المأذون فيه، بل هو عامّ في كلّ حائل كشمع وزفت ووسخ‏.‏

عاشراً‏:‏ تحريك الخاتم في الغسل

17 - قال جمهور الفقهاء‏:‏ ممّا يتحقّق به الغسل المجزئ أن يعمّم بدنه بالغسل، حتّى ما تحت خاتم ونحوه، فيحرّكه ليتحقّق وصول الماء إلى ما تحته، ولو كان الخاتم ضيّقاً لا يصل الماء إلى ما تحته نزعه وجوباً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجب غسل ظاهر الجسد في الغسل، وأمّا الخاتم فلا يلزم تحريكه، كالوضوء‏.‏ كما نصّ عليه ابن الموّاز خلافاً لابن رشد‏.‏

حادي عشر‏:‏ نزع الخاتم في التّيمّم

18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب على من يريد التّيمّم نزع خاتمه ليصل التّراب إلى ما تحته عند المسح، ولا يكفي تحريك الخاتم، لأنّ التّراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء في الوضوء‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يجب على المتيمّم أن يستوعب بالمسح وجهه ويديه فينزع الخاتم أو يحرّكه‏.‏

ثاني عشر‏:‏ العبث بالخاتم في الصّلاة

19 - ذهب الفقهاء إلى أنّ العبث في الصّلاة مكروه، والعبث‏:‏ هو كلّ فعل ليس بمفيد للمصلّي، ومنه كفّه لثوبه وعبثه به وبجسده وبالحصى وبالخاتم، وتفصيله والخلاف فيه ينظر في الصّلاة عند الكلام عن المكروهات والمبطلات‏.‏

ثالث عشر‏:‏ التّختّم في الإحرام

20 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمحرم التّختّم بخاتمه حال إحرامه، لأنّ التّختّم ليس لبساً ولا تغطيةً، وقد روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه قال‏:‏ أوثقوا عليكم نفقاتكم - أي بشدّ الهميان في الوسط وفيه كيس النّفقة - ورخّص في الخاتم والهميان للمحرم‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يحرم على الرّجل المحرم لبس الخاتم في الإحرام ولو فضّةً زنته درهمان، وفيه الفدية إن طال‏.‏

رابع عشر‏:‏ زكاة الخاتم

21 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة - في الأظهر عندهم - والحنابلة على أنّ الحلية المباحة - ومنها خاتم الذّهب أو الفضّة للمرأة، وخاتم الفضّة المباح للرّجل - لا زكاة فيه، لأنّه مصروف عن جهة النّماء إلى استعمال مباح، فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية‏.‏

وقال الحنفيّة، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ في خاتم الفضّة المباح للرّجل الزّكاة - بشرط النّصاب - لأنّ الفضّة خلقت ثمناً، فيزكّيها كيف كانت‏.‏ وتفصيله في الزّكاة‏.‏

خامس عشر‏:‏ دفن الخاتم مع الشّهيد وغيره

22 - ينزع عن الميّت قبل دفنه ما عليه من الحلية من خاتم وغيره لأنّ دفنه مع الميّت إضاعة للمال، وهو منهيّ عنه‏.‏ أمّا الشّهيد فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه ينزع عنه عند دفنه الجلد والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالباً، والخاتم مثل هذه بل أولى، لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما‏:‏

«أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» ولأنّ ما يترك على الشّهيد يترك ليكون كفناً، والكفن ما يلبس للسّتر، والخاتم لا يلبس للسّتر فينزع‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ ندب دفن الشّهيد بخفّ وقلنسوة ومنطقة قلّ ثمنها، وبخاتم قلّ فصّه أي قيمته، فلا ينزع إلاّ أن يكون نفيس الفصّ‏.‏

تخدير

التّعريف

1 - الخدر - بالتّحريك - استرخاء يغشى بعض الأعضاء أو الجسد كلّه‏.‏ والخدر‏:‏ الكسل والفتور‏.‏ وخدّر العضو تخديراً‏:‏ جعله خدراً، وحقنه بمخدّر لإزالة إحساسه‏.‏

ويقال‏:‏ خدّره الشّراب وخدّره المرض‏.‏

والمخدّر‏:‏ مادّة تسبّب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة، كالبنج والحشيش والأفيون، والجمع مخدّرات، وهي محدثة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّخدير عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّفتير‏:‏

2 - فتر عن العمل فتوراً‏:‏ انكسرت حدّته ولان بعد شدّته، ومنه‏:‏ فتر الحرّ إذا انكسر، فيكون التّفتير تكسيراً للحدة، وتلييناً بعد الشّدّة‏.‏

وعلى هذا فالتّفتير أعمّ من التّخدير، إذ التّخدير نوع من التّفتير‏.‏

ب - الإغماء‏:‏

3 - أغمي عليه‏:‏ عرض له ما أفقده الحسّ والحركة‏.‏ والإغماء‏:‏ فتور غير أصليّ يزيل عمل القوى لا بمخدّر‏.‏ فالتّخدير مباين للإغماء‏.‏

ج - الإسكار‏:‏

4 - أسكره الشّراب أزال عقله، فالإسكار‏:‏ إزالة الشّراب للعقل دون الحسّ والحركة، فيكون التّخدير أعمّ من الإسكار‏.‏ وهناك ألفاظ أخرى لها صلة بالتّخدير كالمفسد والمرقِّد‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ فائدة تنفع الفقيه، يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد، فالمسكر‏:‏ ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوة وفرح، والمفسد‏:‏ ما غيّب العقل دون الحواسّ لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر، والمرقد‏:‏ ما غيّب العقل والحواسّ كالسيكران‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - المخدّرات أنواع متعدّدة تختلف لاختلاف أصولها المستخرجة منها‏.‏

وتناول المخدّرات كالحشيشة والأفيون والقاتّ والكوكايين والبنج والكفتة وجوزة الطّيب والبرش وغيرها بالمضغ أو التّدخين أو غيرهما ينتج عنه تغييب العقل، وقد يؤدّي إلى الإدمان، ممّا يسبّب تدهوراً في عقليّة المدمنين وصحّتهم، وتغيّر الحال المعتدلة في الخلق والخلق‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ كلّ ما يغيّب العقل فإنّه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإنّ تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، أي إلاّ لغرض معتبر شرعاً‏.‏

6- وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدّرات الّتي تغشى العقل، ولو كانت لا تحدث الشّدّة المطربة الّتي لا ينفكّ عنها المسكر المائع‏.‏

وكما أنّ ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات، كذلك يحرم مطلقاً ما يخدّر من الأشياء الجامدة المضرّة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد‏.‏ وذلك إذا تناول قدراً مضرّاً منها‏.‏ دون ما يؤخذ منها من أجل المداواة، لأنّ حرمتها ليست لعينها، بل لضررها‏.‏

7- وعلى هذا يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التّداوي، لأنّ ذلك كلّه مفسد للعقل، فيحدث لمتناوله فساداً، ويصدّ عن ذكر اللّه وعن الصّلاة‏.‏ لكن تحريم ذلك ليس لعينه بل لنتائجه‏.‏

8- ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطّيب، فإنّها مخدّرة، لكن حرمتها دون حرمة الحشيشة‏.‏

9- وذهب الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازيّ الشّافعيّ إلى تحريم القاتّ في مؤلّفه في تحريم القاتّ‏.‏ حيث يقول‏:‏ إنّي رأيت من أكلها الضّرر في بدني وديني فتركت لها، فقد ذكر العلماء‏:‏ أنّ المضرّات من أشهر المحرّمات، فمن ضررها أنّ آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثمّ يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق‏.‏ وكذلك ذهب الفقيه حمزة النّاشريّ إلى تحريمه واحتجّ بحديث أمّ سلمة رضي الله عنها «أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كلّ مسكر ومفتر»‏.‏

أدلّة تحريم المخدّرات‏:‏

10 - الأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏«نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر»‏.‏ قال العلماء‏:‏ المفتر‏:‏ كلّ ما يورث الفتور والخدر في الأطراف‏.‏ قال ابن حجر‏:‏ وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه، فإنّها تسكر وتخدّر وتفتر‏.‏

وحكى القرافيّ وابن تيميّة الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ابن تيميّة‏:‏ ومن استحلّها فقد كفر، وإنّما لم تتكلّم فيها الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم، لأنّها لم تكن في زمنهم، وإنّما ظهرت في آخر المائة السّادسة وأوّل المائة السّابعة حين ظهرت دولة التّتار‏.‏

طهارة المخدّرات ونجاستها

11 - المخدّرات الجامدة كلّها عند جمهور الفقهاء طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها، ولا تصير نجسةً بمجرّد إذابتها في الماء ولو قصد شربها، لأنّ الحكم الفقهيّ أنّ نجاسة المسكرات مخصوصة بالمائعات منها، وهي الخمر الّتي سمّيت رجساً في القرآن الكريم، وما يلحق بها من سائر المسكرات المائعة‏.‏

بل قد حكى ابن دقيق العيد الإجماع على طهارة المخدّرات‏.‏ على أنّ بعض الحنابلة رجّح الحكم بنجاسة هذه المخدّرات الجامدة‏.‏ وتفصيل ذلك في موضوع النّجاسات‏.‏

علاج مدمني المخدّرات

12 - سئل ابن حجر المكّيّ الشّافعيّ عمّن ابتلي بأكل الأفيون والحشيش ونحوهما، وصار إن لم يأكل منه هلك‏.‏ فأجاب‏:‏ إن علم أنّه يهلك قطعاً حلّ له، بل وجب، لاضطراره إلى إبقاء روحه، كالميتة للمضطرّ، ويجب عليه التّدرّج في تقليل الكميّة الّتي يتناولها شيئاً فشيئاً، حتّى يزول تولّع المعدة به من غير أن تشعر، قال الرّمليّ من الحنفيّة‏:‏ وقواعدنا لا تخالفه في ذلك‏.‏

بيع المخدّرات وضمان إتلافها

13 - لمّا كانت المخدّرات طاهرةً - كما سبق تفصيل ذلك - وأنّها قد تنفع في التّداوي بها جاز بيعها للتّداوي عند جمهور الفقهاء، وضمن متلفها، واستثنى بعض الفقهاء الحشيشة، فقالوا بحرمة بيعها كابن نجيم الحنفيّ، وذلك لقيام المعصية بذاتها، وذكر ابن الشّحنة أنّه يعاقب بائعها، وصحّح ابن تيميّة نجاستها وأنّها كالخمر، وبيع الخمر لا يصحّ فكذا الحشيشة عند الحنابلة، وذهب بعض المالكيّة إلى ما ذهب إليه ابن تيميّة‏.‏

أمّا إذا كان بيعها لا لغرض شرعيّ كالتّداوي، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى تحريم بيع المخدّرات لمن يعلم أو يظنّ تناوله لها على الوجه المحرّم، ولا يضمن متلفها، خلافاً للشّيخ أبي حامد - أي الإسفرايينيّ - ويفهم من كلام ابن عابدين في حاشيته أنّ البيع مكروه ويضمن متلفها‏.‏

تصرّفات متناول المخدّرات

14 - إنّ متناول القدر المزيل للعقل من المخدّرات، إمّا أن يكون للتّداوي أو لا، فإن كان للتّداوي فإنّ تصرّفاته لا تصحّ عند جماهير الفقهاء‏.‏

أمّا إذا كان زوال العقل بتناول المخدّرات لا للتّداوي، فإنّ الفقهاء مختلفون فيما يصحّ من تصرّفاته وما لا يصحّ‏.‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ تصرّفاته صحيحة إذا استعمل الأفيون للّهو، لكونه معصيةً، واستثنى الحنفيّة الرّدّة والإقرار بالحدود والإشهاد على شهادة نفسه فإنّها لا تصحّ، ومحلّ ذلك إذا كان لا يعرف الأرض من السّماء، أمّا إذا كان يعرف ذلك فهو كالصّاحي، فكفره صحيح، وكذلك طلاقه وعتاقه وخلعه‏.‏

قال ابن عابدين في الحشيشة والسّكر بها‏:‏ فلمّا ظهر من أمرها - أي الحشيشة - من الفساد كثير وفشا، عاد مشايخ المذهبين - الحنفيّة والشّافعيّة - إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطّلاق بها‏.‏ وزاد بعض الحنفيّة على ما تقدّم أنّ زوال العقل إذا كان بالبنج والأفيون، وكان للتّداوي - أي على سبيل الجواز - أنّ الطّلاق يقع زجراً وعليه الفتوى‏.‏

وذهب المالكيّة إلى صحّة طلاقه وعتقه وتلزمه الحدود والجنايات على نفس ومال، بخلاف عقوده من بيع وشراء وإجارة ونكاح وإقرارات فلا تصحّ ولا تلزم على المشهور‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى صحّة جميع تصرّفاته، لعصيانه بسبب زوال عقله، فجعل كأنّه لم يزل‏.‏ والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّ تناول البنج ونحوه لغير حاجة - إذا زال العقل به كالمجنون - لا يقع طلاق من تناوله، لأنّه لا لذّة فيه، وفرّق الإمام أحمد بينه وبين السّكران فألحقه بالمجنون، وقدّمه في ‏"‏ النّظم ‏"‏ ‏"‏ والفروع ‏"‏ وهو الظّاهر من كلام الخرقيّ فإنّه قال‏:‏ وطلاق الزّائل العقل بلا سكر لا يقع‏.‏ قال الزّركشيّ - من الحنابلة - وممّا يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة، وأبو العبّاس ابن تيميّة يرى أنّ حكمها حكم الشّراب المسكر حتّى في إيجاب الحدّ، وهو الصّحيح إن أسكرت، أو أسكر كثيرها وإلاّ حرمت، وعزّر فقط فيها‏.‏

عقوبة متناول المخدّرات

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ متناول المخدّرات للتّداوي ولو زال عقله لا عقوبة عليه، من حدّ أو تعزير‏.‏ أمّا إذا تناول القدر المزيل للعقل بدون عذر فإنّه لا حدّ عليه أيضاً عند جماهير العلماء - إلاّ ما ذهب إليه ابن تيميّة في إيجاب الحدّ على من سكر من الحشيشة، مفرّقاً بينها وبين سائر المخدّرات‏.‏ بأنّ الحشيشة تشتهى وتطلب بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النّفس‏.‏ واتّفق الفقهاء أيضاً على تعزير متناول المخدّرات بدون عذر، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأفيون وغيره إذا أذيب واشتدّ وقذف بالزّبد، فإنّه يلحق بالخمر في النّجاسة والحدّ، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك، بل أولى‏.‏ وقيّد الشّافعيّة عقوبة متناول المخدّرات بما إذا لم يصل إلى حالة تلجئه إلى ذلك كما سبق، فإن وصل إلى تلك الحالة لا يعزّر، بل يجب عليه الإقلاع عنه إمّا باستعمال ضدّه أو تقليله تدريجيّاً‏.‏