فصل: حكم استقبال القبلة في الصّلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استقاءةٌ

التعريف

1 - الاستقاءة‏:‏ طلب القيء، وهو استخراج ما في الجوف عمداً‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ‏.‏ فإن ذرعه القيء أي‏:‏ غلبه وسبقه فهو يختلف عن الاستقاءة الّتي بها طلبٌ واستدعاءٌ‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الاستقاءة الواردة عند الفقهاء أكثر ما يكون ورودها في الصّيام، لتأثيرها فيه‏.‏

ويرى جمهور الفقهاء أنّ الصّائم إذا استقاء متعمّداً أفطر، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ذرعه القيء وهو صائمٌ فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء فليقض»‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ إن استقاء عامداً ملء الفم أفطر، لأنّ ما دون ملء الفم تبعٌ للرّيق‏.‏

مواطن البحث

3 - يأتي الكلام عن الاستقاءة في الغالب في باب الصّوم، عند الكلام عمّا يفسد الصّيام‏.‏ كما ترد في نواقض الوضوء‏.‏

استقبالٌ

التعريف

1 - الاستقبال في اللّغة‏:‏ مصدر استقبل الشّيء إذا واجهه، والسّين والتّاء فيه ليستا للطّلب، فاستفعل هنا بمعنى فعل، كاستمرّ واستقرّ ومثله المقابلة‏.‏ ويقابله بهذا المعنى الاستدبار‏.‏ ويرد الاستقبال في اللّغة أيضاً بمعنى‏:‏ الاستئناف، يقال اقتبل الأمر واستقبله‏:‏ إذا استأنفه‏.‏ وقد استعمله الفقهاء بهذين الإطلاقين فيقولون‏:‏ استقبال القبلة أي مقابلتها ويقولون‏:‏ استقبل حول الزّكاة أي‏:‏ ابتدأه واستأنفه‏.‏ وزاد الشّافعيّة إطلاقه على طلب القبول الّذي يقابل الإيجاب في العقود، فقالوا‏:‏ يصحّ البيع بالاستقبال، ومثّلوا له بنحو‏:‏ اشتر منّي، فإنّه استقبالٌ قائمٌ مقام الإيجاب، ومثل البيع الرّهن، فيصحّ بنحو‏:‏ ارتهن داري بكذا‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستئناف‏:‏

2 - الاستئناف‏:‏ ابتداء الأمر، وعليه فهو مرادفٌ للاستقبال في أحد إطلاقاته‏.‏

ب - المسامتة‏:‏

3 - المسامتة بمعنى‏:‏ المقابلة والموازاة، وهي مرادفةٌ للاستقبال عند الّذين فسّروا الاستقبال بمعنى التّوجّه إلى الشّيء بعينه بلا انحرافٍ يمنةً ولا يسرةً‏.‏

وأمّا الّذين لم يشترطوا في الاستقبال هذا الشّرط كالمالكيّة فإنّهم فرّقوا بينهما، فخصّوا المسامتة باستقبال عين الشّيء تماماً بجميع البدن، وجعلوا الاستقبال أعمّ من ذلك، لصدقه بخروج شيءٍ من البدن عن محاذاة العين‏.‏

ج - المحاذاة‏:‏

4 - المحاذاة بمعنى‏:‏ الموازاة‏.‏ وما قيل في المسامتة يقال هنا أيضاً‏.‏

د - الالتفات‏:‏

5 - الالتفات صرف الوجه ذات اليمين أو الشّمال‏.‏ وقد يراد به الانحراف بالوجه والصّدر أيضاً كما ورد في مسند الإمام أحمد‏:‏ «فجعلت تلتفت خلفها» ومعلومٌ أنّ التّحوّل إلى خلفٍ لا يكون إلاّ بالوجه والصّدر‏.‏

6 - هذا والاستقبال عند الفقهاء قد يكون إلى القبلة، وقد يكون إلى غير القبلة‏.‏

واستقبال القبلة قد يكون في الصّلاة، وقد يكون في غيرها وسيأتي بيان هذه الأقسام واحداً بعد الآخر‏.‏

استقبال القبلة في الصّلاة

7 - المراد بالقبلة موضع الكعبة، لأنّه لو نقل بناؤها إلى موضعٍ آخر وصلّي إليه لم يجز‏.‏ وسمّيت بذلك لأنّ النّاس يقابلونها في صلاتهم‏.‏

وما فوق الكعبة إلى السّماء يعدّ قبلةً، وهكذا ما تحتها مهما نزل، فلو صلّى في الجبال العالية والآبار العميقة جاز ما دام متوجّهاً إليها، لأنّها لو زالت صحّت الصّلاة إلى موضعها، ولأنّ المصلّي على الجبل يعدّ مصلّياً إليها‏.‏

استقبال الحجر

8 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو استقبل المصلّي الحجر دون الكعبة لم يجزه، لأنّ كونه من البيت مظنونٌ لا مقطوعٌ به، وهو لا يكتفى به في القبلة احتياطاً، وهذا هو الصّحيح عند الشّافعيّة‏.‏ وذهب الحنابلة واللّخميّ من المالكيّة إلى جواز الصّلاة إلى الحجر، لأنّه من البيت، للحديث الصّحيح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الحجر من البيت»‏.‏

وفي روايةٍ‏:‏ «ستّ أذرعٍ من الحجر من البيت» ولأنّه لو طاف فيه لم يصحّ طوافه‏.‏ وهو وجهٌ مشهورٌ عند الشّافعيّة، وإن كان خلاف الأصحّ في مذهبهم، وقدّره الحنابلة بستّ أذرعٍ وشيءٍ، فمن استقبل عندهم ما زاد على ذلك لم تصحّ صلاته ألبتّة‏.‏ على أنّ هذا التّقدير بالنّسبة لغير الطّواف، أمّا بالنّسبة له فلا بدّ من خروجه عن جميعه احتياطاً‏.‏

حكم استقبال القبلة في الصّلاة

9 - لا خلاف في أنّ من شروط صحّة الصّلاة استقبال القبلة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‏}‏ أي جهته‏.‏

ويستثنى من ذلك أحوالٌ لا يشترط فيها الاستقبال، كصلاة الخوف، والمصلوب، والغريق، ونفل السّفر المباح وغيرها، ونصّوا على أنّ نيّة الاستقبال ليست بشرطٍ على الرّاجح، انظر الكلام على النّيّة في الصّلاة‏.‏

ترك الاستقبال

10 - ذكر الحنفيّة أنّ من مفسدات الصّلاة تحويل المصلّى صدره عن القبلة بغير عذرٍ اتّفاقاً، وإن تعمّد الصّلاة إلى غير القبلة على سبيل الاستهزاء يكفر، وهذا متّفقٌ مع القواعد العامّة للشّريعة‏.‏ وفصّل الحنفيّة فيما إذا صلّى بلا تحرٍّ فظهر أنّه أصاب القبلة أثناء الصّلاة بطلت صلاته، لبناء القويّ على الضّعيف، فإن ظهر ذلك بعد الصّلاة صحّت صلاته، لأنّ ما فرض لغيره - كالاستقبال المشروط لصحّة الصّلاة - يشترط حصوله لا تحصيله، وقد حصل وليس فيه بناء القويّ على الضّعيف‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن أدّاه اجتهاده لجهةٍ فخالفها وصلّى متعمّداً بطلت صلاته وإن صادف القبلة، ويعيد أبداً‏.‏ وأمّا لو صلّى لغيرها ناسياً وصادف القبلة فهل يجري فيه من الخلاف ما يجري في النّاسي إذا أخطأ، أو يجزم بالصّحّة لأنّه صادف وهو الظّاهر‏؟‏‏.‏

وذكر الشّافعيّة أنّه لا يسقط استقبالها بجهلٍ ولا غفلةٍ ولا إكراهٍ ولا نسيانٍ، فلو استدبر ناسياً لم يضرّ لو عاد عن قربٍ‏.‏ ويسنّ عند ذلك أن يسجد للسّهو لأنّ تعمّد الاستدبار مبطلٌ‏.‏ وهذا بخلاف ما لو أميل عنها قهراً فإنّها تبطل، وإن قلّ الزّمن لندرة ذلك‏.‏ ولو دخل في الصّلاة باجتهادٍ ثمّ ظهر الخطأ بطلت صلاته‏.‏

وأطلق الحنابلة القول بأنّ من مبطلات الصّلاة استدبار القبلة حيث شرط استقبالها‏.‏ كما نصّوا في باب شروط الصّلاة على أنّ هذه الشّروط لا تسقط عمداً أو سهواً أو جهلاً‏.‏ هذا، ولا بدّ من القول أنّ المالكيّة والحنابلة نصّوا على أنّ المصلّي إذا حوّل وجهه وصدره عن القبلة لم تفسد صلاته، حيث بقيت رجلاه إلى القبلة‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّه يكره له ذلك بلا ضرورةٍ، وقالوا‏:‏ إنّ هذه الكراهة في حقّ معاين الكعبة حيث لم يخرج شيءٌ من بدنه، فإن خرج منه شيءٌ ولو أصبعاً من سمتها بطلت صلاته‏.‏

ما يتحقّق به استقبال القبلة في الصّلاة

11 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يشترط في استقبال القبلة في الصّلاة أن يكون بالصّدر لا بالوجه، خلافاً لما قد يتوهّم من ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ لأنّ المراد بالوجه هنا الذّات، والمراد من الذّات بعضها وهو الصّدر فهو مجازٌ مبنيٌّ على مجازٍ‏.‏ ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يشترط الاستقبال بالقدمين‏.‏

أمّا الاستقبال بالوجه فهو سنّةٌ، وتركه مكروهٌ عند الأئمّة الأربعة‏.‏ وهذا في حقّ القائم والقاعد‏.‏ أمّا الّذي يصلّي مستلقياً أو مضطجعاً لعجزه فيجب عليهما الاستقبال بالوجه، على تفصيلٍ يذكر في صلاة المريض‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط في الاستقبال التّوجّه بالصّدر أيضاً، وإنّما الّذي لا بدّ منه فهو التّوجّه بالرّجلين‏.‏ على أنّ الفقهاء تعرّضوا لأعضاءٍ أخرى يستقبل بها المصلّي القبلة في مناسباتٍ كثيرةٍ في كتاب الصّلاة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها دون تفصيلٍ لكونها بتلك المواطن ألصق، ولسياق الفقهاء أنسب من جهةٍ، وتفادياً للتّكرار من جهةٍ أخرى‏.‏ ومن ذلك‏:‏ استحباب الاستقبال ببطون أصابع اليدين في تكبيرة الإحرام وباليدين وبأصابع الرّجلين في السّجود، وبأصابع يسراه في التّشهّد‏.‏ وذلك حين الكلام على ‏"‏ صفة الصّلاة ‏"‏‏.‏ فمن أرادها بالتّفصيل فليرجع إلى مواطنها هناك‏.‏

استقبال المكّيّ للقبلة

استقبال المكّيّ المعاين‏:‏

12 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ من كان يعاين الكعبة فعليه إصابة عينها في الصّلاة، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقيناً، ولا يكفي الاجتهاد ولا استقبال جهتها، لأنّ القدرة على اليقين والعين تمنع من الاجتهاد والجهة المعرّضين للخطأ‏.‏ وأيضاً فإنّ من انحرف عن مقابلة شيءٍ فهو ليس متوجّهاً نحوه‏.‏ وذكر المالكيّة والشّافعيّة وابن عقيلٍ من الحنابلة - وأقرّوه - أنّ المصلّي في مكّة وما في حكمها ممّن تمكنه المسامتة لو استقبل طرفاً من الكعبة ببعض بدنه وخرج باقيه - لو عضواً واحداً - عن استقبالها لم تصحّ صلاته‏.‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة والحنابلة يكفي التّوجّه ببعض بدنه‏.‏

صلاة الجماعة قرب الكعبة‏:‏

13 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو ما يستفاد من كلام الحنابلة - أنّه إن امتدّ صفٌّ طويلٌ بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة بطلت صلاته، لعدم استقبالهم لها، بخلاف البعد عنها، فيصلّون في حالة القرب دائرةً أو قوساً إن قصروا عن الدّائرة، لأنّ الصّلاة بمكّة تؤدّى هكذا من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا‏.‏

استقبال المكّيّ غير المعاين

14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من بينه وبين الكعبة حائلٌ فهو كالغائب على الأصحّ، فيكفيه استقبال الجهة، وسيأتي تفصيل مذهبهم في إصابة الجهة في ‏"‏ استقبال البعيد عن مكّة ‏"‏‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أن من لم يصلّ بالمسجد من أهل مكّة ومن ألحق بهم عليه إصابة العين، وهو قولٌ ضعيفٌ عند الحنفيّة‏.‏ وتفصيل مذهب الحنابلة أنّهم أوجبوا إصابة العين يقيناً على من كان من أهل مكّة أو ناشئاً بها من وراء حائلٍ محدثٍ كالحيطان‏.‏

وأمّا من لم يكن من أهلها وهو غائبٌ عن الكعبة ففرضه الخبر، كما إذا وجد مخبراً يخبره عن يقينٍ، أو كان غريباً نزل بمكّة فأخبره أهل الدّار بها‏.‏

وعند الشّافعيّة يجب على من نشأ بمكّة وهو غائبٌ عن الكعبة إصابة العين إن تيقّن إصابتها، وإلاّ جاز له الاجتهاد لما في تكليفه المعاينة من المشقّة إذا لم يجد ثقةً يخبره عن علمٍ‏.‏

الاستقبال عند صلاة الفريضة في الكعبة

15 -ذهب جمهور العلماء إلى صحّة صلاة الفريضة داخل الكعبة‏.‏ منهم الحنفيّة، والشّافعيّة، والثّوريّ، لحديث بلالٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الكعبة»‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ ولأنّ الواجب استقبال جزءٍ منها غير معيّنٍ، وإنّما يتعيّن الجزء قبلةً بالشّروع في الصّلاة والتّوجّه إليه‏.‏ ومتى صار قبلةً فاستدبار غيره لا يكون مفسداً‏.‏ وعلى هذا ينبغي أنّه لو صلّى ركعةً إلى جهةٍ أخرى لم يصحّ، لأنّه صار مستدبراً الجهة الّتي صارت قبلةً في حقّه بيقينٍ بلا ضرورةٍ‏.‏ ومذهب المالكيّة والحنابلة لا تصلّى الفريضة والوتر في الكعبة، لأنّها من المواطن السّبع الّتي نهى عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريباً، ولما في ذلك من الإخلال بالتّعظيم، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‏}‏ قالوا‏:‏ والشّطر‏:‏ الجهة‏.‏ ومن صلّى فيها أو على سطحها فهو غير مستقبلٍ لجهتها، ولأنّه قد يكون مستدبراً من الكعبة ما لو استقبله منها وهو في خارجها صحّت صلاته، ولأنّ النّهي عن الصّلاة على ظهرها قد ورد صريحاً في حديث عبد اللّه بن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سبع مواطن لا تجوز فيها الصّلاة‏:‏ ظهر بيت اللّه والمقبرة»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وفيه تنبيهٌ على النّهي عن الصّلاة فيها لأنّها سواءٌ في المعنى‏.‏ وتوجّه المصلّي في داخلها إلى الجدار لا أثر له، إذ المقصود البقعة، بدليل أنّه يصلّي للبقعة حيث لا جدار‏.‏

وإنّما جاز على أبي قبيسٍ مع أنّه أعلى من بنائها لأنّ المصلّي عليه مصلٍّ لها، وأمّا المصلّي على ظهرها فهو فيها‏.‏ وهناك قولٌ للمالكيّة بجواز الصّلاة في الكعبة مع الكراهة‏.‏

الاستقبال عند صلاة الفريضة فوق الكعبة

16 - وأمّا صلاة الفريضة على ظهر الكعبة فقد أجازها الحنفيّة والشّافعيّة، لكن مع الكراهة عندهم‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز الفرض والوتر عليها لما تقدّم في المسألة السّابقة‏.‏

صلاة النّافلة في الكعبة وعليها

17 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى جواز صلاة النّفل المطلق داخل الكعبة،«لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى فيها»، وللأدلّة السّابقة على صحّة صلاة الفريضة، وأمّا السّنن الرّواتب فذهب جمهور الفقهاء إلى جوازها في الكعبة كذلك‏.‏ وللمالكيّة ثلاثة أقوالٍ‏:‏ الحرمة بأدلّتهم على منع الفريضة، والجواز قياساً على النّفل المطلق، والثّالث الكراهة وهو الرّاجح‏.‏ وذهب أصبغ من المالكيّة ومحمّد بن جريرٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيما حكي عنه إلى أنّه لا تصحّ صلاة النّافلة فيها‏.‏ أمّا صلاة النّافلة على ظهرها فتجوز عند الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وفي قولٍ للمالكيّة بناءً على أنّه يكفي استقبال الهواء أو استقبال قطعةٍ من البناء ولو من حائط السّطح‏.‏

هذا، وقد نصّ الشّافعيّة على جوازها مع الكراهة لبعده عن الأدب كما تقدّم في الفريضة‏.‏ هذا، وما ورد في شأن الصّلاة في الكعبة يرد في الحجر ‏(‏الحطيم‏)‏ لأنّه جزءٌ من الكعبة‏.‏

18 - وذهب الحنفيّة والمالكيّة، إلى أنّ الصّلاة الّتي تجوز في الكعبة، تصحّ لأيّ جهةٍ ولو لجهة بابها مفتوحاً، ولو لم يستقبل شيئاً في هذه الحال، لأنّ القبلة هي العرصة والهواء إلى عنان السّماء، وليست هي البناء، بدليل أنّه لو نقل إلى عرصةٍ أخرى وصلّى إليه لم يجز، ولأنّه لو صلّى على جبل أبي قبيسٍ جازت بالإجماع، مع أنّه لم يصلّ إلى البناء‏.‏ وشرط الشّافعيّة لجواز الصّلاة في الكعبة وعليها أن يستقبل جداراً منها أيّاً كان، أو يستقبل الباب إن كان مفتوحاً وكان له عتبةٌ قدر ثلثي ذراعٍ بذراع الآدميّ تقريباً على الصّحيح المشهور، لأنّ هذا المقدار هو سترة المصلّي فاعتبر فيه قدرها‏.‏ واختار أكثر الحنابلة أن يشترط أن يكون بين يديه شيءٌ منها شاخصٌ يتّصل بها، كالبناء والباب ولو مفتوحاً، فلا اعتبار بالآجرّ غير المبنيّ، ولا الخشب غير المسمور، لأنّه غير متّصلٍ، لكنّهم لم يقدّروا ارتفاع الشّاخص‏.‏ وفي روايةٍ عن أحمد أنّه يكفي أن يكون بين يديه شيءٌ من الكعبة إذا سجد، وإن لم يكن شاخصٌ، اختارها الموفّق في المغني وغيره وهي المذهب‏.‏

استقبال البعيد عن مكّة

19 - مذهب الحنفيّة، وهو الأظهر عند المالكيّة، والحنابلة، وهو قولٌ للشّافعيّ‏:‏ أنّه يكفي المصلّي البعيد عن مكّة استقبال جهة الكعبة باجتهادٍ، وليس عليه إصابة العين، فيكفي غلبة ظنّه أنّ القبلة في الجهة الّتي أمامه، ولو لم يقدّر أنّه مسامتٌ ومقابلٌ لها‏.‏ وفسّر الحنفيّة جهة الكعبة بأنّها الجانب الّذي إذا توجّه إليه الإنسان يكون مسامتاً للكعبة، أو هوائها تحقيقاً أو تقريباً‏.‏ واستدلّوا بالآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‏}‏ وقالوا‏:‏ شطر البيت نحوه وقبله، كما استدلّوا بحديث‏:‏ «ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ» وهذا كلّه في غير المدينة المنوّرة، وما في حكمها من الأماكن المقطوع بقبلتها، على ما سيأتي في استقبال المحاريب إن شاء اللّه‏.‏ والأظهر عند الشّافعيّة، وهو قولٌ لابن القصّار عند المالكيّة، وروايةٌ عن أحمد اختارها أبو الخطّاب من الحنابلة‏:‏ أنّه تلزم إصابة العين‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره‏}‏ أي جهته، والمراد بالجهة هنا العين؛ وكذا المراد بالقبلة هنا العين أيضاً، لحديث الصّحيحين‏:‏ «أنّه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل الكعبة، وقال‏:‏ هذه القبلة» فالحصر هنا يدفع حمل الآية على الجهة‏.‏ وإطلاق الجهة على العين حقيقةٌ لغويّةٌ وهو المراد هنا‏.‏

استقبال أهل المدينة وما في حكمها

20 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ، وهو قولٌ للحنابلة إلى أنّ الواجب على أهل المدينة - كغيرها - الاجتهاد لإصابة جهة الكعبة، وهو جارٍ مع الأصل في أمر القبلة‏.‏

وقال الحنفيّة في الرّاجح، والمالكيّة، والشّافعيّة، وهو قولٌ للحنابلة ‏(‏وأرادوا بالمدنيّ من في مسجده صلى الله عليه وسلم أو قريباً منه‏)‏‏:‏ يجب على المصلّي في المدينة إصابة عين القبلة«لثبوت محراب مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي»، فهو كما لو كان مشاهداً للبيت، بل أورد القاضي عياضٌ في الشّفاء أنّه رفعت له الكعبة حين بنى مسجده صلى الله عليه وسلم‏.‏

استقبال محاريب الصّحابة والتّابعين

21 - ذهب الجمهور إلى أنّ محاريب الصّحابة، كجامع دمشق، وجامع عمرٍو بالفسطاط، ومسجد الكوفة والقيروان والبصرة، لا يجوز الاجتهاد معها في إثبات الجهة، لكن لا يمنع ذلك من الانحراف اليسير يمنةً أو يسرةً، ولا تلحق بمحاريب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز فيها أدنى انحرافٍ‏.‏ وكذلك محاريب المسلمين، ومحاريب جادّتهم أي معظم طريقهم وقراهم القديمة الّتي أنشأتها قرونٌ من المسلمين، أي جماعاتٌ منهم صلّوا إلى هذا المحراب ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه طعن فيها، لأنّها لم تنصب إلاّ بحضرة جمعٍ من أهل المعرفة بالأدلّة، فجرى ذلك مجرى الخبر‏.‏ لكن قال الحنابلة‏:‏ إن فرض من كان فيها إصابة العين ببدنه بالتّوجّه إلى قبلته، معلّلين ذلك باتّفاق الصّحابة عليه‏.‏

الإخبار عن القبلة

22 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا لم يكن ثمّة محاريب منصوبةً في الحضر، فيسأل من يعلم بالقبلة ممّن تقبل شهادته من أهل ذلك المكان ممّن يكون بحضرته‏.‏

أمّا غير مقبول الشّهادة، كالكافر والفاسق والصّبيّ فلا يعتدّ بإخباره فيما هو من أمور الدّيانات ما لم يغلب على الظّنّ صدقه‏.‏ وأمّا إذا لم يكن من أهل ذلك المكان فلأنّه يخبر عن اجتهادٍ، فلا يترك اجتهاده باجتهاد غيره‏.‏

وأمّا إذا لم يكن بحضرته من أهل المسجد أحدٌ فإنّه يتحرّى ولا يجب عليه قرع الأبواب‏.‏

وأمّا في المفازة فالدّليل عليها النّجوم كالقطب، وإلاّ فمن أهلها العالم بها ممّن لو صاح به سمعه، والاستدلال بالنّجوم في المفازة مقدّمٌ على السّؤال، والسّؤال مقدّمٌ على التّحرّي‏.‏

اختلاف المخبرين

23 - صرّح الشّافعيّة عند اختلاف اثنين في الإخبار عن القبلة‏:‏ أنّه يتخيّر فيأخذ بقول أحدهما، وقيل‏:‏ يتساقطان ويجتهد لنفسه، ولا يأخذ بقول أحدهما إلاّ عند العجز عن الاجتهاد، وفي هذه الحالة اضطرّ للأخذ بقول أحدهما، أمّا في غير هذه الحالة فالمخبران اختلفا في علامةٍ واحدةٍ لعارضٍ فيها وهو موجبٌ للتّساقط‏.‏

وما صرّحوا به لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى‏.‏

أدلّة القبلة

24 - سبق ما يتّصل بالاستدلال على القبلة بالمحاريب، فإن لم توجد فهناك علاماتٌ يمكن الاعتماد عليها عند أهل الخبرة بها، منها‏:‏

أ - النّجوم‏:‏

وأهمّها القطب، لأنّه نجمٌ ثابتٌ ويمكن به معرفة الجهات الأربع، وبذلك يمكن معرفة القبلة ولو على سبيل التّقريب‏.‏ وتختلف قبلة البلاد بالنّسبة إليه اختلافاً كبيراً‏.‏

ب - الشّمس والقمر‏:‏

يمكن التّعرّف بمنازل الشّمس والقمر على الجهات الأربع، وذلك في أيّام الاعتدالين ‏(‏الرّبيعيّ والخريفيّ‏)‏ بالنّسبة للشّمس، واستكمال البدر فيه بالنّسبة للقمر‏.‏ وفي غير الاعتدالين ينظر إلى اتّجاه تلك المنازل، وهو معروفٌ لأهل الخبرة فيرجع إليهم فيه، وفي كتب الفقه تفاصيل عن ذلك‏.‏ ويتّبع ذلك الاستدلال بمطالع الشّمس والقمر ومغاربهما‏.‏

ج - الإبرة المغناطيسيّة‏:‏

من الاستقراء المفيد لليقين تبيّن أنّها تحدّد جهة الشّمال تقريباً، وبذلك تعرف الجهات الأربع وتحدّد القبلة‏.‏

ترتيب أدلّة القبلة

25 - ذكر الحنفيّة أنّ الدّليل على القبلة في المفاوز والبحار النّجوم كالقطب، فإن لم يمكن لوجود غيمٍ أو لعدم معرفته بها فعليه أن يسأل عالماً بها، فإن لم يكن من يسأله أو لم يخبره المسئول عنها فيتحرّى‏.‏ وذكر الشّافعيّة أنّه لو تعارضت الأدلّة على القبلة فينبغي تقديم خبر جمعٍ بلغ عددهم حدّ التّواتر، لإفادته اليقين، ثمّ الإخبار عن علمٍ برؤية الكعبة، ثمّ رؤية المحاريب المعتمدة، ثمّ رؤية القطب‏.‏

وأمّا بيت الإبرة فقد صرّح الشّافعيّة بأنّ المجتهد مخيّرٌ بينها وبين الاجتهاد‏.‏ وأمّا الحنابلة فإنّهم قالوا‏:‏ إنّ خبر المخبر عن يقينٍ مقدّمٌ على الاجتهاد‏.‏

تعلّم أدلّة القبلة

26 - تعلّم العلامات الّتي تعرف بها القبلة مطلوبٌ شرعاً، وقد صرّح الشّافعيّة في الأصحّ عندهم بأنّ هذا واجبٌ على سبيل الكفاية‏.‏ وقد يصبح تعلّم هذه العلامات واجباً عينيّاً، كمن سافر سفراً يجهل معه اتّجاه القبلة، ويقلّ فيها العارفون بها، وكانت عنده قدرةٌ على تعلّم هذه العلامات، وكلّ ذلك تحقيقاً لإصابة القبلة‏.‏ وهل يجوز تعلّمها من كافرٍ‏؟‏ قواعد الشّريعة لا تمنع ذلك‏.‏ لأنّه لا يعتمد عليه في اتّجاه القبلة، وإنّما في معرفة العلامات الّتي لا يختلف فيها الكافر عن المسلم، وذلك كتعلّم سائر العلوم‏.‏

الاجتهاد في القبلة

27 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب الاجتهاد في القبلة في الجملة‏.‏

قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن فقد المصلّي ما ذكر من الرّؤية والمحاريب والمخبر وأمكنه الاجتهاد، بأن كان بصيراً يعرف أدلّة القبلة وجب عليه الاجتهاد وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع، إذ كلّ من علم أدلّة شيءٍ كان مجتهداً فيه، ولأنّ ما وجب عليه اتّباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه، وذكروا أيضاً أنّ من وجب عليه الاجتهاد حرم عليه التّقليد، لأنّه يتمكّن من استقبالها بدليله‏.‏ وقالوا‏:‏ أنّه إذا ضاق عليه الوقت عن الاجتهاد صلّى حسب حاله ولا يقلّد، كالحاكم لا يسعه تقليد غيره، ولكنّه يعيد الصّلاة‏.‏

وصرّح ابن قدامة بأنّ شرط الاجتهاد لا يسقط بضيق الوقت مع إمكانه‏.‏

الشّكّ في الاجتهاد وتغيّره

28 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تغيّر اجتهاد المجتهد عمل بالاجتهاد الثّاني حتماً، إن ترجّح على الأوّل، وعمل بالأوّل إن ترجّح على الثّاني‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ وإن شكّ في اجتهاده لم يزل عن جهته، لأنّ الاجتهاد ظاهرٌ فلا يزول عنه بالشّكّ‏.‏ ولا يعيد ما صلّى بالاجتهاد الأوّل، كالحاكم لو تغيّر اجتهاده في الحادثة الثّانية عمل فيها بالاجتهاد الثّاني، ولم ينقض حكمه الأوّل بغير خلافٍ، لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المصلّي بالاجتهاد في القبلة إذا تحوّل رأيه استدار وبنى على ما مضى من صلاته‏.‏ ولا فرق بين تغيّر اجتهاده في أثناء الصّلاة وبعدها، فإن كان فيها استدار وبنى على ما مضى من صلاته، حتّى إنّه لو صلّى أربع ركعاتٍ لأربع جهاتٍ بالاجتهاد جاز، لأنّه مجتهدٌ أدّاه اجتهاده إلى جهةٍ، فلم تجز له الصّلاة إلى غيرها، كما لو أراد صلاةً أخرى، وليس فيه نقضٌ لاجتهاده، لأنّا لم نلزمه إعادة ما مضى، وإنّما نلزمه العمل به في المستقبل‏.‏

أمّا عند المالكيّة فإن تبيّن لمن صلّى بالاجتهاد خطأ اجتهاده في الصّلاة يقيناً أو ظنّاً وهو في الصّلاة قطعها وجوباً‏.‏ أمّا بعد إتمام الصّلاة فإنّه يعيدها ندباً لا وجوباً‏.‏ قياساً على القاضي إذا تبيّن له خطأ الدّليل قبل بتّ الحكم، فإنّه لا يجوز له الحكم باجتهاده الأوّل، وإن حكم به نقض‏.‏ أمّا إن شكّ وهو في الصّلاة فإنّه يتمّ صلاته على اجتهاده الأوّل‏.‏

الاختلاف في الاجتهاد في القبلة

29 - ذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّه إذا اختلف اجتهاد مجتهدين لم يتّبع أحدهما صاحبه ولا يؤمّه، لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز الائتمام‏.‏ وعند ابن قدامة أنّ قياس المذهب جواز ذلك‏.‏ وهو مذهب أبي ثورٍ، ذلك أنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد صحّة صلاة الآخر، وأنّ فرضه التّوجّه إلى ما توجّه إليه، فلم يمنع اختلاف الجهة الاقتداء به، كالمصلّين حول الكعبة‏.‏ ولو اتّفقا في الجهة واختلفا في الانحراف يميناً أو شمالاً فالمذهب صحّة الائتمام بلا خلافٍ لاتّفاقهما في الجهة، وهي كافيةٌ في الاستقبال‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لو اجتهد اثنان في القبلة، واتّفق اجتهادهما، فاقتدى أحدهما بالآخر، ثمّ تغيّر اجتهاد واحدٍ منهما لزمه الانحراف إلى الجهة الثّانية، وينوي المأموم المفارقة وإن اختلفا تيامناً وتياسراً، وذلك عذرٌ في المفارقة فلا تفوته فضيلة الجماعة، ومحلّ ذلك حيث علم المأموم بانحراف إمامه، فإن لم يعلم به إلاّ بعد السّلام فالأقرب وجوب الإعادة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لو سلّم الإمام فتحوّل رأي مسبوقٍ ولاحقٍ استدار المسبوق، لأنّه منفردٌ فيما يقضيه، واستأنف اللاّحق، لأنّه مقتدٍ فيما يقضيه‏.‏

والمقتدي إذا ظهر له وراء الإمام أنّ القبلة غير الجهة الّتي يصلّي إليها الإمام لا يمكنه إصلاح صلاته، لأنّه إن استدار خالف إمامه في الجهة قصداً وهو مفسدٌ، وإلاّ كان متمّاً صلاته إلى ما هو غير القبلة عنده وهو مفسدٌ أيضاً‏.‏

خفاء القبلة على المجتهد

30 - خفاء القبلة على المجتهد إمّا أن يكون قبل الصّلاة أو في أثنائها، وإمّا أن يكون قبل التّحرّي أو بعده، وسنتناول بالبحث كلاًّ على حدةٍ‏.‏

خفاء القبلة قبل الصّلاة والتّحرّي

31 - ذكر الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة أنّ من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال، وخفيت عليه الأدلّة لفقدها أو لغيمٍ أو حبسٍ أو التباسٍ مع ظهورها، حيث تعارضت عنده الأمارات، فإنّه يتحرّى ويصلّي، وتصحّ صلاته عندئذٍ، لأنّه بذل وسعه في معرفة الحقّ مع علمه بأدلّته، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النّصوص، وقد روى عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال‏:‏ «كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلةٍ مظلمةٍ، فلم ندر أين القبلة، فصلّى كلّ رجلٍ منّا حياله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل‏:‏ ‏{‏فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه‏}‏» وعرّف الحنفيّة التّحرّي بأنّه بذل الجهود لنيل المقصود‏.‏ وأفاد ابن عابدين بأنّ قبلة التّحرّي مبنيّةٌ على مجرّد شهادة القلب من غير أمارةٍ، وعبّر المالكيّة بأنّه يتخيّر جهةً من الجهات الأربع يصلّي إليها صلاةً واحدةً، ولا إعادة لسقوط الطّلب عنه، وهذا ما رجّحه ابن عابدين من الحنفيّة على قول بعضهم بتكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع في حالة التّحرّي وعدم الرّكون إلى جهةٍ‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت، ويقضي لندرته‏.‏

ترك التّحرّي

32 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ العاجز عن معرفة القبلة بالأدلّة لا يجوز أن يشرع في الصّلاة دون أن يتحرّى وإن أصاب، لتركه فرض التّحرّي، إلاّ أنّه لا يعيد إن علم إصابته بعد فراغه اتّفاقاً عند الحنفيّة، بخلافٍ إذا علم الإصابة قبل التّمام، فإنّ صلاته تبطل لأنّه بني قويّاً على ضعيفٍ خلافاً لأبي يوسف‏.‏ وعند المالكيّة أنّ المجتهد الّذي تخفى عليه أدلّة القبلة يتخيّر جهةً من الجهات الأربع، ويصلّي إليها ويسقط عنه الطّلب لعجزه،

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يعيد من صلّى بلا تحرٍّ أو تعذّر عليه التّحرّي، سواءٌ ظهر له الصّواب أثناء الصّلاة أو بعدها‏.‏

ظهور الصّواب للمتحرّي

33 - ذكر الحنفيّة أنّ المتحرّي إن ظهر صوابه في أثناء الصّلاة فالصّحيح أنّها لا تفسد، وعند بقيّة المذاهب لا خلاف في صحّتها‏.‏ وعبارة البحر الرّائق‏:‏ والصّحيح كما في المبسوط والخانيّة أنّه لا يلزمه استئناف الصّلاة، لأنّ صلاته كانت جائزةً ما لم يظهر الخطأ،

فإذا تبيّن أنّه أصاب لا يتغيّر حاله‏.‏ وقيل‏:‏ تفسد، لأنّ افتتاح الصّلاة كان ضعيفاً، وقد قوي حاله بظهور الصّواب، ولا يبنى القويّ على الضّعيف‏.‏

التّقليد في القبلة

34 - ذكر الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة أنّه لا يقلّد المجتهد مجتهداً غيره، لأنّ القدرة على الاجتهاد تمنع من التّقليد‏.‏

ومن علم أدلّة القبلة لا يجوز له أن يقلّد غيره مطلقاً، وأمّا غير المجتهد فعليه أن يقلّد المجتهد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏ وإذا كان هناك أكثر من مجتهدٍ فالمقلّد له أن يختار أحدهم، والأولى أن يختار من يثق به أكثر من غيره‏.‏

ترك التّقليد

35 - ليس لمن فرضه التّقليد ووجد من يقلّده أن يستقبل بمجرّد ميل نفسه إلى جهة، فقد ذكر الحنفيّة، والمالكيّة‏:‏ أنّه إن ترك التّقليد واختار له جهةً تركن لها نفسه وصلّى لها كانت صلاته صحيحةً إن لم يتبيّن خطؤه، وزاد المالكيّة‏:‏ فإن تبيّن الخطأ في الصّلاة قطعها حيث كان كثيراً، وإن تبيّن بعدها فقولان بالإعادة أبداً أو في الوقت، كما سيأتي في ‏"‏ تبيّن الخطأ في الصّلاة ‏"‏‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه تلزمه الإعادة مطلقاً وإن صادف القبلة‏.‏

استقبال الأعمى ومن في ظلمةٍ للقبلة

36 - ذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّ الأعمى عليه أن يسأل عن القبلة، لأنّ معظم الأدلّة تتعلّق بالمشاهدة‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ فإن لم يجد من يسأله عنها تحرّى، وكذا لو سأله عنها فلم يخبره، حتّى إنّه لو أخبره بعدما صلّى لا يعيد‏.‏ ولو لم يسأله وتحرّى‏:‏ إن أصاب جاز وإلاّ لا‏.‏ ولو شرع في الصّلاة إلى غير القبلة فسوّاه رجلٌ إليها، فإن كان وجد الأعمى وقت الشّروع من يسأله عنها فلم يسأله لم تجز صلاته، وإلاّ بنى على ما مضى منها، ولا يجوز لهذا الرّجل الاقتداء به‏.‏ وذكر المالكيّة أنّه لا يجوز له تقليد المجتهد بل عليه أن يسأل عن الأدلّة عدلاً في الرّواية ليهتدي بها إلى القبلة‏.‏

تبيّن الخطأ في القبلة

37 - أطلق الحنفيّة القول بأنّ المصلّي الّذي لم يشكّ في القبلة ولم يتحرّ إذا ظهر له خطؤه في القبلة وهو في الصّلاة فسدت صلاته، بخلاف من خفيت عليه القبلة فشكّ فيها وتحرّى، ثمّ ظهر له خطؤه وهو في الصّلاة استدار إلى الجهة الّتي انتهى إليها تحرّيه، أمّا إذا ظهر له خطؤه بعد انتهاء الصّلاة فإنّ صلاته صحيحةٌ‏.‏

وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الإعادة على المجتهد والمقلّد إذا كانت علامات القبلة ظاهرةً ثمّ تبيّن الخطأ فيها، لأنّه لا عذر لأحدٍ في الجهل بالأدلّة الظّاهرة‏.‏ أمّا دقائق علم الهيئة وصور النّجوم الثّوابت فهو معذورٌ في الجهل بها فلا إعادة عليه‏.‏ ولم يفرّق الحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأظهر عندهم بين ما إذا كانت الأدلّة ظاهرةً فاشتبهت عليه أو خفيت، وبين ما إذا كانت أدلّةٌ خفيّةٌ، لأنّه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن استقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة‏.‏

أمّا في القول الأظهر للشّافعيّة فتلزمه الإعادة لأنّه أخطأ في شرطٍ من شروط الصّلاة‏.‏

العجز عن استقبال القبلة في الصّلاة

38 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ من به عذرٌ حسّيٌّ يمنعه من الاستقبال كالمريض، والمربوط يصلّي على حسب حاله، ولو إلى غير القبلة، لأنّ الاستقبال شرطٌ لصحّة الصّلاة وقد عجز عنه فأشبه القيام‏.‏ واشترط الشّافعيّة، والصّاحبان من الحنفيّة لسقوط القبلة عنه أن يعجز أيضاً عمّن يوجّهه ولو بأجر المثل، كما استظهره‏.‏ الشّيخ إسماعيل النّابلسيّ وابن عابدين‏.‏ وبالنّسبة لإعادة الصّلاة فإنّ في ذلك خلافاً تفصيله في مباحث الصّلاة‏.‏ وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه لا يشترط ذلك، لأنّ القادر بقدرة غيره عاجزٌ‏.‏

وبقولهما جزم في المنية والمنح والدّرّ والفتح بلا حكاية خلافٍ‏.‏ ولو وجد أجيراً بأجرة مثله فينبغي أن يلزمه استئجاره إذا كانت الأجرة دون نصف درهمٍ، والظّاهر أنّ المراد به أجرة المثل كما فسّروه في التّيمّم‏.‏

أمّا من به عذرٌ شرعيٌّ يمنعه من الاستقبال فقد تعرّض الفقهاء للصّور الآتية منه وهي‏:‏ الخوف على النّفس، وذكره الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وذلك كالخوف من سبعٍ وعدوٍّ، فله حينئذٍ أن يتوجّه إلى جهةٍ قدر عليها، ومثله الهارب من العدوّ راكباً يصلّي على دابّته‏.‏ وذكر الحنفيّة من صور العذر‏:‏ الخوف من الانقطاع عن رفقته، لما في ذلك من الضّرر‏.‏ وذكر الشّافعيّة من ذلك‏:‏ الاستيحاش وإن لم يتضرّر بانقطاعه عن رفقته‏.‏ وذكر الحنفيّة والمالكيّة من الأعذار‏:‏ الخوف من أن تتلوّث ثيابه بالطّين ونحوه لو نزل عن دابّته‏.‏ واشترط الحنفيّة عجزه عن النّزول، فإن قدر عليه نزل وصلّى واقفاً بالإيماء، وإن قدر على القعود دون السّجود أومأ قاعداً‏.‏ وعدّ الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار‏:‏ ما لو خاف على ماله - ملكاً أو أمانةً - لو نزل عن دابّته‏.‏ وذكر الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار‏:‏ العجز عن الرّكوب فيمن احتاج في ركوبه بعد نزوله للصّلاة إلى معينٍ ولا يجده، كأن كانت الدّابّة جموحاً، أو كان هو ضعيفاً فله ألاّ ينزل‏.‏ ومن الأعذار‏:‏ الخوف وقت التحام القتال، فقد اتّفقت المذاهب الأربعة على أن يسقط شرط الاستقبال في حال المسايفة وقت التحام الصّفوف في شدّة الخوف إذا عجز المصلّي عنه‏.‏ ولمعرفة ماهيّة هذا القتال، وما يلحق به، ووقت صلاته، وإعادتها حين الأمن، وبقيّة أحكامها ‏(‏ر‏:‏ صلاة الخوف‏)‏‏.‏

استقبال المتنفّل على الرّاحلة في السّفر

39 - اتّفق الفقهاء على جواز التّنفّل على الرّاحلة في السّفر لجهة سفره ولو لغير القبلة ولو بلا عذرٍ، لأنّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان يصلّي على راحلته في السّفر حيثما توجّهت به» وفسّر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه‏}‏ بالتّوجّه في نفل السّفر‏.‏ وفي الشّروط المجوّزة لذلك خلافٌ فصّله الفقهاء في مبحث صلاة المسافر، والصّلاة على الرّاحلة‏.‏

استقبال المتنفّل ماشياً في السّفر

40 - مذهب أبي حنيفة، ومالكٍ، وإحدى الرّوايتين عن أحمد، وهو كلام الخرقيّ من الحنابلة‏:‏ أنّه لا يباح للمسافر الماشي الصّلاة في حال مشيه، لأنّ النّصّ إنّما ورد في الرّاكب، فلا يصحّ قياس الماشي عليه، لأنّه يحتاج إلى عملٍ كثيرٍ، ومشيٌ متتابعٌ ينافي الصّلاة فلم يصحّ الإلحاق‏.‏ ومذهب عطاءٍ، والشّافعيّ، وهو ثانية الرّوايتين عن أحمد اختارها القاضي من الحنابلة‏:‏ أنّ له أن يصلّي ماشياً قياساً على الرّاكب، لأنّ المشي إحدى حالتي سير المسافر، ولأنّهما استويا في صلاة الخوف فكذا في النّافلة‏.‏

والمعنى فيه أنّ النّاس محتاجون إلى الأسفار، فلو شرطا فيها الاستقبال للتّنفّل لأدّى إلى ترك أورادهم أو مصالح معايشهم‏.‏ ومذهب الحنابلة، والأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ عليه أن يستقبل القبلة لافتتاح الصّلاة، ثمّ ينحرف إلى جهة سيره، قال الشّافعيّة‏:‏ ولا يلزمه الاستقبال في السّلام على القولين‏.‏

استقبال المفترض على السّفينة ونحوها

41 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب استقبال المفترض على السّفينة في جميع أجزاء صلاته، وذلك لتيسّر الاستقبال عليه‏.‏ ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يدور معها إذا دارت‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏الصّلاة في السّفينة‏)‏‏.‏

استقبال القبلة في غير الصّلاة

42 - قرّر الفقهاء أنّ جهة القبلة هي أشرف الجهات، ولذا يستحبّ المحافظة عليها حين الجلوس، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ سيّد المجالس ما استقبل القبلة»‏.‏ قال صاحب الفروع‏:‏ ويتّجه في كلّ طاعةٍ إلاّ لدليلٍ‏.‏ وقد يكون المراد من التّوجّه إليها تغليط الأمر وإلقاء الرّهبة في قلب من طلب منه التّوجّه إليها، كما في تغليظ القاضي اليمين على حالفها بذلك ‏(‏ر‏:‏ إثباتٌ ف 26‏)‏‏.‏ على أنّه قد يعرض للإنسان أحوالٌ ترفع هذا الاستحباب، بل قد يكون استقبالها حراماً أو مكروهاً ‏(‏ر‏:‏ قضاء الحاجة‏.‏ استنجاءٌ‏)‏‏.‏

والجمهور على أنّ زائر قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستدبر القبلة ويستقبل القبر الشّريف‏.‏

استقبال غير القبلة في الصّلاة

43 - الأصل في استقبال المصلّي للأشياء الإباحة، ما دام متوجّهاً إلى جهة القبلة، لكن هناك أشياء معيّنةٌ نهي المصلّي عن أن يجعلها أمامه لاعتباراتٍ خاصّةٍ فيها، كأن يكون في وجودها أمامه تشبّهٌ بالمشركين، كما في الصّنم والنّار والقبر، أو لكونها قذرةً أو نجسةً يصان وجه المصلّي ونظره عنها، كما في الصّلاة إلى الحشّ والمجزرة، أو قد يكون أمامه ما يشوّش عليه فكره كما في الصّلاة إلى الطّريق‏.‏ وقد تناولها الفقهاء بالبحث في الكلام على مكروهات الصّلاة‏.‏ وقد يكون ذلك الشّيء الّذي أمام المصلّي أمراً مرغوباً فيه، لكونه علامةً على موضع سجوده لمنع المارّين من المرور فيما بينه وبينه، كما في الصّلاة إلى السّترة‏.‏ وقد بحثها الفقهاء ضمن سنن الصّلاة‏.‏

استقبال غير القبلة في غير الصّلاة

44 - الأصل في توجّه الإنسان إلى الأشياء في غير الصّلاة الإباحة أيضاً، ولكن قد يطلب التّوجّه إلى المواطن الشّريفة في الأحوال الشّريفة طلباً لخيرها وفضلها، كاستقبال السّماء بالبصر وببطون الكفّين في الدّعاء‏.‏

كما يطلب عدم التّوجّه إليها في الأحوال الخسيسة، كاستقبال قاضي الحاجة بيت المقدس أو المصحف الشّريف ‏(‏ر‏:‏ قضاء الحاجة‏)‏‏.‏ وقد يطلب تجنّب استقبالها صيانةً له عنها لنجاستها أو حفظاً لبصره عن النّظر إليها، كاستقبال قاضي الحاجة مهبّ الرّيح، واستقبال المستأذن للدّخول باب المكان الّذي يريد الدّخول إليه‏.‏

وقد يطلب الاستقبال حفاظاً على الآداب ومكارم الأخلاق وتوفيراً لحسن الإصغاء، كما في استقبال الخطيب للقوم واستقبالهم له، واستقبال الإمام النّاس بعد الصّلاة المكتوبة‏.‏ وكما في استقبال الضّيوف والمسافرين إبقاءً على الرّوابط الاجتماعيّة متينةً‏.‏ ومن هذه الطّاعات‏:‏ الوضوء، والتّيمّم، والأذان والإقامة، ومنه الدّعاء بعد الوضوء، والدّعاء في الاستسقاء، والذّكر، وقراءة القرآن، وانتظار الصّلاة في المسجد، والحجّ في مواطن كثيرةٍ، تعلم بتتبّع كتاب الحجّ كالإهلال، وشرب ماء زمزم، وتوجيه الهدي حين الذّبح للقبلة، وقضاء القاضي بين الخصوم، كما هو مبيّنٌ في مواضعها‏.‏ كما يستحبّ استقبال القبلة في مواطن خاصّةٍ طلباً لبركتها وكمال العمل باستقبالها، كما في توجيهٍ المحتضر إليها، وكذا الميّت في قبره عند الدّفن ‏(‏ر‏:‏ كتاب الجنائز‏)‏، ومثله من أراد أن ينام، أو أراد أن يذبح ذبيحةً فيسنّ له أن يستقبل بها القبلة ‏(‏ر‏:‏ كتاب الذّبائح‏)‏‏.‏

استقراءٌ

التعريف

1 - الاستقراء لغةً‏:‏ التّتبّع، يقال‏:‏ قرأ الأمر، وأقرأه أي‏:‏ تتبّعه، واستقرأت الأشياء‏:‏ تتبّعت أفرادها لمعرفة أحوالها وخواصّها‏.‏

وعرّفه الأصوليّون والفقهاء بقولهم‏:‏ تصفّح جزئيّات كلّيٍّ ليحكم بحكمها على ذلك الكلّيّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

القياس‏:‏

2 - القياس‏:‏ هو إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لاشتراكهما في العلّة‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - الاستقراء إن كان تامّاً بمعنى تتبّع جميع الجزئيّات ما عدا صورة النّزاع - أي الصّورة المراد معرفة حكمها - يعتبر دليلاً قطعيّاً حتّى في صورة النّزاع عند الأكثر من العلماء، وقال بعض العلماء‏:‏ ليس بقطعيٍّ، بل هو ظنّيٌّ، لاحتمال مخالفة تلك الصّورة لغيرها على بعدٍ‏.‏ وقد أجاز العلماء الأخذ بالاستقراء في‏:‏ الحيض، والاستحاضة، والعدّة على خلافٍ وتفصيلٍ موطنه هذه المصطلحات‏.‏

4 - وإن كان الاستقراء ناقصاً أي بأكثر الجزئيّات الخالي عن صورة النّزاع فهو ظنّيٌّ في تلك الصّورة لا قطعيٌّ، لاحتمال مخالفة صورة النّزاع لذلك المستقرأ، ويسمّى هذا النّوع‏:‏ إلحاق الفرد بالأغلب‏.‏ ومن أمثلة ما احتجّوا فيه بالاستقراء‏:‏ المعتدّة عند اليأس تعتدّ بالأشهر، فقال الشّافعيّة في الرّاجح عندهم‏:‏ يعتبر في عدّة اليائسة استقراء نساء أقاربها من الأبوين الأقرب فالأقرب، لتقاربهنّ طبعاً وخلقاً‏.‏ وقال الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة - وهو رأيٌ للشّافعيّة - باستقراء حالات النّساء واعتبار حالها بحال مثيلاتها في السّنّ عند ذلك، على اختلافٍ بينهم في ذلك يرجع إليه في مصطلح ‏(‏عدّةٌ‏)‏ ‏(‏وإياسٌ‏)‏‏.‏

استقراضٌ

التعريف

1 - الاستقراض لغةً‏:‏ طلب القرض‏.‏ ويستعمله الفقهاء بمعنى طلب القرض، أو الحصول عليه، ولو بدون طلبٍ‏.‏ والقرض ما تعطيه من مثليٍّ ليتقاضى مثله‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الاستدانة‏:‏

2 - الاستقراض أخصّ من الاستدانة، فإنّ الدّين عامٌّ شاملٌ للقرض وغيره ممّا يثبت في الذّمّة كالسّلم‏.‏ والدّين قد يكون له أجلٌ، والأجل فيه ملزمٌ، أمّا القرض فإنّ الأجل فيه غير ملزمٍ عند الجمهور،

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ اشتراطه ملزمٌ، وإنّه ليس للمقرض مطالبة المستقرض ما لم يحلّ الأجل كغيره من الدّيون لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمنون عند شروطهم»‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - الاستقراض جائزٌ بالنّسبة للمستقرض بشروطٍ يذكرها الفقهاء في أبواب القرض، ونقل بعضهم الإجماع على الجواز، وروى أبو رافعٍ أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ استسلف من رجلٍ بكراً، فقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصّدقة، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره، فرجع إليه أبو رافعٍ، فقال‏:‏ يا رسول اللّه لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً، فقال‏:‏ أعطه، فإنّ خير النّاس أحسنهم قضاءً»

وقد يعرض للاستقراض ما يخرجه عن الجواز كحرمة الاستقراض بشرط نفعٍ للمقرض، وكوجوب استقراض المضطرّ، وغير ذلك من الأحكام الّتي تذكر في باب القرض‏.‏ ويصحّ التّوكيل في الاستقراض عند الشّافعيّة والحنابلة، ولا يصحّ عند الحنفيّة، لأنّ الاستقراض طلب تبرّعٍ من المقرض فهو نوعٌ من التّكدّي ‏(‏الشّحاذة‏)‏ ولا يصحّ التّوكيل فيه‏.‏ والاستقراض أحياناً يحتاج إلى إذنٍ من القاضي، كاستقراض من حكم له بنفقة القريب على قريبه المعسر في بعض المذاهب، ويذكر الفقهاء ذلك في أحكام النّفقة‏.‏

ولو استقرض الأب من ولده فإنّ للولد مطالبته، عند غير الحنابلة، لأنّه دينٌ ثابتٌ فجازت المطالبة به كغيره، وقال الحنابلة‏:‏ لا يطالب، لحديث‏:‏ «أنت ومالك لأبيك»‏.‏

مواطن البحث

4 - أغلب أحكام الاستقراض عند الفقهاء تذكر في باب القرض، وبالإضافة إلى ذلك تأتي بعض أحكامه في الشّركة، أثناء الكلام عن إذن الشّريك لشريكه، وفي الوكالة عند بيان ما تصحّ فيه الوكالة، وفي الوقف في الاستدانة على الوقف، وفي النّفقة في الاستقراض على الغائب والمعسر‏.‏

استقسامٌ

التعريف

1 - يأتي الاستقسام في اللّغة بمعنى‏:‏ طلب القسم بالأزلام ونحوها، والقسم هنا‏:‏ ما قدّر للإنسان من خيرٍ أو شرٍّ، ويأتي بمعنى طلب‏:‏ القسم المقدّر ممّا هو شائعٌ، والقسم هنا‏:‏ النّصيب‏.‏ وقد اختلف علماء اللّغة والمفسّرون في المقصود بالاستقسام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏‏.‏ فقال الجمهور ومنهم الأزهريّ والهرويّ وأبو جعفرٍ وسعيد بن جبيرٍ والحسن والقفّال والضّحّاك والسّدّيّ‏:‏ معنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشّرّ بواسطة ضرب القداح، فكان الرّجل في الجاهليّة إذا أراد سفراً، أو غزواً، أو تجارةً، أو نكاحاً، أو أو أمراً آخر ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها ‏"‏ أمرني ربّي ‏"‏ وعلى بعضها ‏"‏ نهاني ربّي ‏"‏ وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النّهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرّةً أخرى، فهم يطلبون من الأزلام أن تدلّهم على قسمهم‏.‏ وقال المؤرّج والعزيزيّ وجماعةٌ من أهل اللّغة‏:‏ الاستقسام هنا هو الميسر المنهيّ عنه، والأزلام قداح الميسر، وكانوا إذا أرادوا أن ييسروا ابتاعوا ناقةً بثمنٍ مسمًّى يضمنونه لصاحبها، ولم يدفعوا الثّمن حتّى يضربوا بالقداح عليها، فيعلموا على من يجب الثّمن‏.‏ وذهب الفقهاء إلى ما ذهب إليه جمهور اللّغويّين والمفسّرين من أنّه الامتثال لما تخرجه الأزلام من الأمر والنّهي في شئون حياتهم، والأقداح هي أقداح الأمر والنّهي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الطّرق‏:‏

2 - من معاني الطّرق‏:‏ الضّرب بالحصى، وهو نوعٌ من التّكهّن، وشبيه الخطّ في الرّمل، وفي الحديث‏:‏ «العيافة والطّيرة والطّرق من الجبت» ومن ذلك يتبيّن أنّ الطّرق بالحصى والاستقسام كلاهما لطلب معرفة الحظوظ‏.‏

ب - الطّيرة‏:‏

3 - هي التّشاؤم، وأصله أنّ العربيّ كان إذا أراد المضيّ لمهمٍّ مرّ بمجاثم الطّير وأثارها، فإن تيامنت مضى، وإن تشاءمت تطيّر وعدل‏.‏

فنهى الشّارع عن ذلك ففي الحديث‏:‏ «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له» وهي بهذا تشبه الاستقسام في أنّها طلب معرفة قسمه من الغيب‏.‏

ج - الفأل‏:‏

4 - الفأل هو أن تسمع كلاماً حسناً فتتيمّن به، والفأل ضدّ الطّيرة، وفي الحديث «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ الفأل ويكره الطّيرة»‏.‏

والفأل مستحسنٌ إذا كان من قبيل الكلمة الحسنة يسمعها الرّجل من غير قصدٍ، نحو‏:‏ يا فلاّح ويا مسعود فيستبشر بها‏.‏ والفأل بهذا المعنى ليس من قبيل الاستقسام ‏(‏المنهيّ عنه‏)‏ أمّا إذا قصد بالفأل طلب معرفة الخير من الشّرّ عن طريق أخذه من مصحفٍ، أو ضرب رملٍ، أو قرعةٍ ونحوها - وهو يعتقد هذا المقصد إن خرج جيّداً اتّبعه، وإن خرج رديّاً اجتنبه - فهو حرامٌ، لأنّه من قبيل الاستقسام المنهيّ عنه‏.‏

د - القرعة‏:‏

5 - القرعة‏:‏ اسم مصدرٍ بمعنى الاقتراع وهو الاختيار بإلقاء السّهام ونحو ذلك‏.‏ وليست القرعة من الميسر كما يقول البعض، لأنّ الميسر هو القمار، وتمييز الحقوق ليس قماراً‏.‏ وليست من الاستقسام المنهيّ عنه، لأنّ الاستقسام تعرّضٌ لدعوى علم الغيب، وهو ممّا استأثر به اللّه تعالى، في حين أنّ القرعة تمييز نصيبٍ موجودٍ، فهي أمارةٌ على إثبات حكمٍ قطعاً للخصومة، أو لإزالة الإبهام‏.‏ وعلى ذلك فالقرعة الّتي تكون لتمييز الحقوق مشروعةٌ‏.‏ أمّا القرعة الّتي يؤخذ منها الفأل، أو الّتي يطلب بها معرفة الغيب والمستقبل فهي في معنى الاستقسام الّذي حرّمه اللّه سبحانه وتعالى‏.‏

هـ – الكهانة‏:‏

6 – الكهانة أو التّكهّن‏:‏ ادّعاء علم الغيب، والكاهن هو الّذي يخبر عن بعض المضمرات، فيصيب بعضها، ويخطئ أكثرها، ويزعم أنّ الجنّ يخبره بذلك، ومثل الكاهن‏:‏ العرّاف، والرّمّال، والمنجّم، وهو الّذي يخبر عن المستقبل بطلوع النّجم وغروبه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهّن أو تكهّن له، أو سحر أو سحر له» و «من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ»‏.‏

وعلى ذلك فالكهانة هي من قبيل الاستقسام الّذي حرّمه اللّه تعالى‏.‏

صفة الاستقسام‏:‏ حكمه التّكليفي

7 - الاستقسام بالأزلام وما في معناها - سواءٌ كان لطلب القسم في أمور الحياة الغيبيّة، أو كان للمقامرة - ولو كان المقصود به خيراً حرامٌ، كما ورد في القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة والدّم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ‏}‏‏.‏

فهو خروجٌ عن طاعة اللّه، لأنّه تعرّضٌ لعلم الغيب، أو نوعٌ من المقامرة، وكلاهما منهيٌّ عنه‏.‏

إحلال الشّرع الاستخارة محلّ الاستقسام

8 - لمّا كان الإنسان بطبعه يميل إلى التّعرّف على طريقه، والاطمئنان إلى أمور حياته، فقد أوجد الشّرع للإنسان ما يلجأ به إلى اللّه تعالى ليشرح صدره لما فيه الخير فيتّجه إليه‏.‏ والاستخارة طلب الخيرة في الشّيء، والتّفصيل في مصطلح ‏(‏استخارةٌ‏)‏‏.‏

استقلالٌ

انظر‏:‏ انفرادٌ‏.‏

استكسابٌ

انظر‏:‏ إنفاقٌ، ونفقةٌ‏.‏

استلامٌ

التعريف

1 - من معاني الاستلام في اللّغة‏:‏ اللّمس باليد أو الفم‏.‏ والاستلام مأخوذٌ إمّا من السّلام أي التّحيّة، وإمّا من السّلام أي الحجارة، لما فيه من لمس الحجر‏.‏

ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني عند الكلام عن الطّواف‏.‏ وقد شاع استعمال الاستلام بمعنى التّسلّم، فيرجع إليه بهذا المعنى في مصطلح‏:‏ ‏(‏تسلّمٌ‏)‏‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - يتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ استلام الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ باليد في أوّل الطّواف، روى ابن عمر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلاّ الحجر والرّكن اليمانيّ»‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏«ما تركت استلام هذين الرّكنين‏:‏ اليمانيّ والحجر منذ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدّةٍ ولا رخاءٍ»‏.‏ ولأنّ الرّكن اليمانيّ مبنيٌّ على قواعد إبراهيم عليه السلام، فسنّ استلامه، كاستلام الرّكن الّذي فيه الحجر‏.‏ والاستلام في كلّ طوفةٍ كالمرّة الأولى عند الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وقال المالكيّة بالاستحباب‏.‏ والاستلام بالفم كالاستلام باليد بالنّسبة للحجر، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ إنّ الاستلام باليد يكون بعد العجز عن الاستلام بالفم‏.‏ وفي استلام اليمانيّ بالفم خلافٌ بين الفقهاء يذكر في أحكام الطّواف‏.‏ وعند العجز عن الاستلام باليد يستلم الإنسان بشيءٍ في يده‏.‏ فإن لم يمكنه استلامه أصلاً أشار إليه وكبّر لحديث ابن عبّاسٍ قال‏:‏ «طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعيرٍ كلّما أتى الرّكن أشار إليه وكبّر»‏.‏

وبعد الانتهاء من ركعتي الطّواف يسنّ كذلك العود لاستلام الحجر الأسود‏.‏ وهذا كلّه بالنّسبة للرّجل، ويختلف الحال بالنّسبة للمرأة في بعض الأحوال‏.‏ واستلام الحجر والرّكن اليمانيّ تعبّديٌّ وخصوصيّةٌ لهما، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الطّواف‏.‏

استلحاقٌ

التعريف

1 - الاستلحاق لغةً‏:‏ مصدر استلحق، يقال‏:‏ استلحقه ادّعاه‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ هو الإقرار بالنّسب‏.‏ والتّعبير بلفظ الاستلحاق هو استعمال المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وأمّا الحنفيّة فاستعملوه في الإقرار بالنّسب على قلّةٍ‏.‏

صفته‏:‏ حكمه التّكليفي

2 - جاء في حديث عمرو بن شعيبٍ‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى أنّ كلّ مستلحقٍ استلحق بعد أبيه الّذي يدعى له فقد لحق بمن استلحقه» قال الخطّابيّ‏:‏ هذه أحكامٌ وقعت في أوّل زمان الشّريعة، وذلك أنّه كان لأهل الجاهليّة إماءٌ بغايا، وكان سادتهنّ يلمّون بهنّ، فإذا جاءت إحداهنّ بولدٍ ربّما ادّعاه السّيّد والزّاني، فألحقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّيّد، لأنّ الأمة فراشٌ كالحرّة، فإن مات السّيّد ولم يستلحقه ثمّ استلحقه ورثته بعده لحق بأبيه‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ حكم الاستلحاق عند الصّدق واجبٌ، ومع الكذب في ثبوته ونفيه حرامٌ، ويعدّ من الكبائر، لأنّه كفران النّعمة، لما صحّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «أيّما امرأةٍ أدخلت على قومٍ من ليس منهم، فليست من اللّه في شيءٍ، ولن يدخلها اللّه جنّته، وأيّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه تعالى منه، وفضحه على رءوس الأوّلين والآخرين يوم القيامة»‏.‏

هذا ويشترط فقهاء المذاهب لصحّة الاستلحاق شروطاً معيّنةً، منها‏:‏ أن يولد مثله لمثله، وأن يكون مجهول النّسب، وألاّ يكذّبه المقرّ له إن كان من أهل الإقرار على تفصيلٍ في مصطلح ‏(‏نسبٌ‏)‏ وفي بابه من كتب الفقه‏.‏

استماعٌ

التعريف

1 - الاستماع لغةً واصطلاحاً‏:‏ قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - السّماع‏:‏

2 - الاستماع لا يكون استماعاً إلاّ إذا توفّر فيه القصد، أمّا السّماع فإنّه قد يكون بقصدٍ، أو بدون قصدٍ‏.‏ وغالب استعمال الفقهاء للسّماع ينصرف إلى استماع آلات الملاهي، أي بالقصد‏.‏

ب - استراق السّمع‏:‏

الاستماع قد يكون على سبيل الاستخفاء، وقد يكون على سبيل المجاهرة، ولكنّ استراق السّمع لا يكون إلاّ على سبيل الاستخفاء، ولذلك قالوا‏:‏ استراق السّمع هو الاستماع مستخفياً ‏(‏ر‏:‏ استراق السّمع‏)‏‏.‏

ج - التّجسّس‏:‏

الاستماع لا يكون إلاّ بالسّمع، أمّا التّجسّس فإنّه يكون بالسّمع وبغيره فضلاً عن أنّ التّجسّس يكون على سبيل الاستخفاء، في حين أنّ الاستماع يكون على سبيل الاستخفاء، أو على سبيل المجاهرة ‏(‏ر‏:‏ تجسّسٌ‏)‏‏.‏

د - الإنصات‏:‏

الإنصات هو السّكوت للاستماع‏.‏ ويكون الاستماع إمّا لصوت الإنسان، أو الحيوان، أو الجماد‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ استماع صوت الإنسان

أ - حكم استماع القرآن خارج الصّلاة‏:‏

3 - الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم حين يقرأ واجبٌ إن لم يكن هناك عذرٌ مشروعٌ لترك الاستماع‏.‏ وقد اختلف الحنفيّة في هذا الوجوب، هل هو وجوبٌ عينيٌّ، أو وجوبٌ كفائيٌّ‏؟‏ قال ابن عابدين‏:‏ الأصل أنّ الاستماع للقرآن فرض كفايةٍ، لأنّه لإقامة حقّه، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيّعٍ، وذلك يحصل بإنصات البعض، كما في ردّ السّلام‏.‏

ونقل الحمويّ عن أستاذه قاضي القضاة يحيى الشّهير بمنقاري زاده‏:‏ أنّ له رسالةً حقّق فيها أنّ سماع القرآن فرضٌ عينٍ‏.‏ نعم إنّ قوله تعالى في سورة الأعراف ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ قد نزلت لنسخ جواز الكلام أثناء الصّلاة‏.‏ إلاّ أنّ العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب، ولفظها يعمّ قراءة القرآن في الصّلاة وفي غيرها‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ يستحبّ استماع قراءة القرآن الكريم‏.‏

4 - ويعذر المستمع بترك الاستماع لتلاوة القرآن الكريم، ولا يكون آثماً بذلك - بل الآثم هو التّالي، على ما ذكره ابن عابدين - إذا وقعت التّلاوة بصوتٍ مرتفعٍ في أماكن الاشتغال، والمستمع في حالة اشتغالٍ، كالأسواق الّتي بنيت ليتعاطى فيها النّاس أسباب الرّزق، والبيوت في حالة تعاطي أهل البيت أعمالهم من كنسٍ وطبخٍ ونحو ذلك، وفي حضرة ناسٍ يتدارسون الفقه، وفي المساجد، لأنّ المساجد إنّما بنيت للصّلاة، وقراءة القرآن تبعٌ للصّلاة، فلا تترك الصّلاة لسماع القرآن فيه‏.‏ وإنّما سقط إثم ترك الاستماع للقرآن في حالات الاشتغال دفعاً للحرج عن النّاس‏.‏ قال تعالى - ‏{‏وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ‏}‏ وإنّما أثم القارئ بذلك، لأنّه مضيّعٌ لحرمة القرآن‏.‏

ب - طلب تلاوته للاستماع إليه‏:‏

5 - يستحبّ للمسلم أن يطلب ممّن يعلم منه إجادة التّلاوة للقرآن الكريم مع حسن الصّوت التّلاوة ليستمع إليها، قال الإمام النّوويّ‏:‏ ‏(‏اعلم أنّ جماعاتٍ من السّلف رضوان الله عليهم كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون، وهذا متّفقٌ على استحبابه، وهو من عادة الأخيار المتعبّدين وعباد اللّه الصّالحين، وهو سنّةٌ ثابتةٌ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد صحّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال‏:‏ قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقرأ عليّ، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أقرأ عليك، وعليك أنزل‏؟‏ قال‏:‏ نعم وفي روايةٍ‏:‏ إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النّساء حتّى أتيت على هذه الآية ‏{‏فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ قال‏:‏ حسبك الآن، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان»‏.‏

وروى الدّارميّ وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي موسى الأشعريّ‏:‏ ذكّرنا ربّنا، فيقرأ عنده القرآن‏.‏ والآثار في هذا كثيرةٌ معروفةٌ‏.‏

6 - قال النّوويّ‏:‏ وقد استحبّ العلماء أن يستفتح مجلس حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويختم بقراءة قارئٍ حسن الصّوت ممّا تيسّر من القرآن‏.‏ وقد صرّح الحنفيّة بأنّ استماع القرآن الكريم أفضل من قراءة الإنسان القرآن بنفسه، لأنّ المستمع يقوم بأداء فرضٍ بالاستماع، بينما قراءة القرآن ليست بفرضٍ، قال أبو السّعود في حاشيته على ملاّ مسكينٍ‏:‏ استماع القرآن أثوب من قراءته، لأنّ استماعه فرضٌ بخلاف القراءة‏.‏

ت - استماع التّلاوة غير المشروعة‏:‏

7 - ذهب الجمهور إلى عدم جواز استماع تلاوة القرآن الكريم بالتّرجيع والتّلحين المفرط الّذي فيه التّمطيط، وإشباع الحركات‏.‏ والتّرجيع‏:‏ أي التّرديد للحروف والإخراج لها من غير مخارجها‏.‏ وقالوا‏:‏ التّالي والمستمع في الإثم سواءٌ، أي إذا لم ينكر عليه أو يعلّمه‏.‏ أمّا تحسين الصّوت بقراءة القرآن من غير مخالفةٍ لأصول القراءة فهو مستحبٌّ، واستماعه حسنٌ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «زيّنوا القرآن بأصواتكم» وقوله عليه الصلاة والسلام في أبي موسى الأشعريّ‏:‏ «لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود»‏.‏ وعلى هذا يحمل قول الإمام الشّافعيّ في الأمّ‏:‏ لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصّوت بها بأيّ وجهٍ ما كان، وأحبّ ما يقرأ إليّ حدراً وتحزيناً‏:‏ وذهب بعض الشّافعيّة - كالماورديّ - إلى أنّ التّغنّي بالقرآن حرامٌ مطلقاً، لإخراجه عن نهجه القويم، وقيّده غيره بما إذا وصل به إلى حدٍّ لم يقل به أحدٌ من القرّاء، وذهب بعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى إلى أنّ قراءة القرآن بالألحان مكروهةٌ على كلّ حالٍ، لإخراج القرآن عن نهجه القويم، وفسّروا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» بأنّ معناه‏:‏ يستغني به‏.‏

8 - وفي كراهة قراءة الجماعة على الواحد - كما يفعل المتعلّمون عند الشّيخ وهو يستمع لهم - روايتان عند المالكيّة‏.‏ إحداهما‏:‏ أنّه حسنٌ‏.‏ والثّانية‏:‏ الكراهة، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة، قال ابن رشدٍ‏:‏ كان مالكٌ يكره هذا ولا يرضاه، ثمّ رجع وخفّفه‏.‏

وجه الكراهة‏:‏ أنّه إذا قرأ عليه جماعةٌ مرّةً واحدةً لا بدّ أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم، ما دام يصغي إلى غيرهم، ويشتغل بالرّدّ على الّذي يصغي إليه، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظنّ أنّه قد سمعه، وأجاز قراءته، فيحمل عنه الخطأ، ويظنّه مذهباً له‏.‏

ووجه التّخفيف‏:‏ المشقّة الدّاخلة على المقرئ بانفراد كلّ واحدٍ حين القراءة عليه إذا كثروا، وقد لا يعمّهم، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم‏.‏

ث - استماع الكافر القرآن‏:‏

9 - لا يمنع الكافر من الاستماع إليه، لقوله جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه‏}‏‏.‏ ورجاء أن يشرح اللّه صدره للإسلام فيهتدي‏.‏

ج- استماع القرآن في الصّلاة‏:‏

10- ذهب الحنفيّة إلى أنّ استماع المأموم في الصّلاة لقراءة الإمام والإنصات إليه واجبٌ، وقراءته مكروهةٌ كراهةً تحريميّةً، سواءٌ أكان ذلك في الجهريّة أم السّرّيّة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ استماع المأموم لقراءة الإمام تستحبّ في الجهريّة،

أمّا السّرّيّة فإنّها تستحبّ فيها القراءة على المعتمد، خلافاً لابن العربيّ حيث ذهب إلى وجوبها في السّرّيّة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ قراءة المأموم الفاتحة في السّرّيّة والجهريّة واجبةٌ، وإن فاته الاستماع‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ للمأموم الاستماع إذا كان يسمع قراءة الإمام في الجهريّة، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏قراءةٌ‏)‏‏.‏

ح - استماع آية السّجدة‏:‏

11 - يترتّب على استماع أو سماع آيةٍ من آيات السّجدة السّجود للتّلاوة، على خلافٍ بين الفقهاء في حكم السّجود، تجده مع أدلّته في مصطلح ‏(‏سجود التّلاوة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ استماع غير القرآن الكريم‏:‏

أ - حكم استماع خطبة الجمعة‏:‏

اختلف الفقهاء في حكم الاستماع والإنصات للخطبة‏.‏

12 - فذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، والأوزاعيّ إلى وجوب الاستماع والإنصات، وهو ما ذهب إليه عثمان بن عفّان، وعبد اللّه بن عمر، وابن مسعودٍ، حتّى قال الحنفيّة‏:‏ كلّ ما حرم في الصّلاة حرم في الخطبة، فيحرم أكلٌ، وشربٌ، وكلامٌ، ولو تسبيحاً، أو ردّ سلامٍ، أو أمراً بمعروفٍ، أو نهياً عن منكرٍ‏.‏ واستدلّوا على ذلك‏:‏ - بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ - وبأنّ الخطبة كالصّلاة، فهي قائمةٌ مقام ركعتين من الفريضة، ولم يستثن الحنفيّة والحنابلة من ذلك إلاّ تحذير من خيف هلاكه، لأنّه يجب لحقّ آدميٍّ، وهو محتاجٌ إليه، أمّا الإنصات فهو لحقّ اللّه تعالى، وحقوق اللّه تعالى مبنيّةٌ على المسامحة‏.‏ واستثنى المالكيّة أيضاً‏:‏ الذّكر الخفيف إن كان له سببٌ، كالتّهليل، والتّحميد، والاستغفار، والتّعوّذ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّهم اختلفوا في وجوب الإسرار بهذه الأذكار الخفيفة‏.‏ واستدلّ من قال بوجوب الاستماع للخطبة بما رواه أبو هريرة عن سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة‏:‏ أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت»‏.‏

13 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الاستماع والإنصات أثناء الخطبة سنّةٌ، ولا يحرم الكلام، بل يكره، وحكى ذلك النّوويّ عن عروة بن الزّبير، وسعيد بن جبيرٍ، والشّعبيّ، والنّخعيّ، والثّوريّ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد‏.‏ واستدلّوا على الكراهة بالجمع بين حديث‏:‏ «إذا قلت لصاحبك‏:‏ أنصت، فقد لغوت» وخبر الصّحيحين عن أنسٍ‏:‏ «فبينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابيٌّ فقال‏:‏ يا رسول اللّه، هلك المال وجاع العيال فادع لنا أن يسقينا‏.‏ قال‏:‏ فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه وما في السّماء قزعةٌ‏.‏‏.‏‏.‏» وإن عرض له ناجزٌ كتعليم خيرٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وإنذار إنسانٍ عقرباً، أو أعمى بئراً لم يمنع من الكلام، لكن يستحبّ أن يقتصر على الإشارة إن أغنت، ويباح له - أي الكلام - بلا كراهةٍ‏.‏ ويباح الكلام عند الشّافعيّة للدّاخل في أثناء الخطبة ما لم يجلس، كما صرّحوا بأنّه لو سلّم داخلٌ على مستمع الخطبة وهو يخطب، وجب الرّدّ عليه بناءً على أنّ الإنصات سنّةٌ، ويستحبّ تشميت العاطس إذا حمد اللّه، لعموم الأدلّة، وإنّما لم يكره كسائر الكلام لأنّ سببه قهريٌّ‏.‏

14 - وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ للبعيد الّذي لا يسمع صوت الخطيب أن يقرأ القرآن، ويذكر اللّه تعالى، ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير أن يرفع صوته، لأنّه إن رفع صوته منع من هو أقرب منه من الاستماع، وهذا مرويٌّ عن عطاء بن أبي رباحٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعلقمة بن قيسٍ، وإبراهيم النّخعيّ، حتّى قال النّخعيّ‏:‏ إنّي لأقرأ جزئي إذا لم أسمع الخطبة يوم الجمعة‏.‏ وسأل إبراهيم النّخعيّ علقمة‏:‏ أقرأ في نفسي أثناء الخطبة‏؟‏ فقال علقمة‏:‏ لعلّ ذلك ألاّ يكون به بأسٌ‏.‏

ب - استماع صوت المرأة‏:‏

15 - إذا كان مبعث الأصواتس هو الإنسان، فإنّ هذا الصّوت إمّا أن يكون غير موزونٍ ولا مطربٍ، أو يكون مطرباً‏.‏ فإن كان الصّوت غير مطربٍ، فإمّا أن يكون صوت رجلٍ أو صوت امرأةٍ، فإن كان صوت رجلٍ‏:‏ فلا قائل بتحريم استماعه‏.‏

أمّا إن كان صوت امرأةٍ، فإن كان السّامع يتلذّذ به، أو خاف على نفسه فتنةً حرم عليه استماعه، وإلاّ فلا يحرم، ويحمل استماع الصّحابة رضوان الله عليهم أصوات النّساء حين محادثتهنّ على هذا، وليس للمرأة ترخيم الصّوت وتنغيمه وتليينه، لما فيه من إثارة الفتنة، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ‏}‏‏.‏

وأمّا إن كان الصّوت مطرباً فهذا الغناء استماعٌ، وفيما يلي تفصيل القول فيه‏:‏

ج - الاستماع إلى الغناء‏:‏

16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ استماع الغناء يكون محرّماً في الحالات التّالية‏:‏

أ - إذا صاحبه منكرٌ‏.‏

ب - إذا خشي أن يؤدّي إلى فتنةٍ كتعلّقٍ بامرأةٍ، أو بأمرد، أو هيجان شهوةٍ مؤدّيةٍ إلى الزّنى‏.‏

ج - إن كان يؤدّي إلى ترك واجبٍ دينيٍّ كالصّلاة، أو دنيويٍّ كأداء عمله الواجب عليه، أمّا إذا أدّى إلى ترك المندوبات فيكون مكروهاً‏.‏ كقيام اللّيل، والدّعاء في الأسحار ونحو ذلك‏.‏

الغناء للتّرويح عن النّفس‏:‏

أمّا إذا كان الغناء بقصد التّرويح عن النّفس، وكان خالياً عن المعاني السّابقة فقد اختلف فيه، فمنعه جماعةٌ وأجازه آخرون‏.‏

17 - وقد ذهب عبد اللّه بن مسعودٍ إلى تحريمه، وتابعه على ذلك جمهور علماء أهل العراق، منهم إبراهيم النّخعيّ، وعامر الشّعبيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، وسفيان الثّوريّ، والحسن البصريّ، والحنفيّة، وبعض الحنابلة‏.‏ واستدلّ هؤلاء على التّحريم‏:‏ - بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه‏}‏ قال ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ‏:‏ لهو الحديث هو‏:‏ الغناء‏.‏ وبحديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع المغنّيات، وعن شرائهنّ، وعن كسبهنّ، وعن أكل أثمانهنّ»‏.‏ وبحديث عقبة بن عامرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كلّ شيءٍ يلهو به الرّجل فهو باطلٌ، إلاّ تأديبه فرسه، ورميه بقوسه، وملاعبته امرأته»‏.‏

18 - وذهب الشّافعيّة، والمالكيّة، وبعض الحنابلة إلى أنّه مكروهٌ، فإن كان سماعه من امرأةٍ أجنبيّةٍ فهو أشدّ كراهةً، وعلّل المالكيّة الكراهة بأنّ سماعه مخلٌّ بالمروءة، وعلّلها الشّافعيّة بقولهم‏:‏ لما فيه من اللّهو‏.‏ وعلّلها الإمام أحمد بقوله‏:‏ لا يعجبني الغناء لأنّه ينبت النّفاق في القلب‏.‏

19 - وذهب عبد اللّه بن جعفرٍ، وعبد اللّه بن الزّبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيدٍ، وعمران بن حصينٍ، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم من الصّحابة، وعطاءٌ بن أبي رباحٍ، وبعض الحنابلة منهم أبو بكرٍ الخلاّل، وصاحبه أبو بكرٍ عبد العزيز، والغزاليّ من الشّافعيّة إلى إباحته‏.‏ واستدلّوا على ذلك بالنّصّ والقياس‏.‏ أمّا النّصّ‏:‏ فهو ما أخرجه البخاريّ ومسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاثٍ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكرٍ فانتهرني وقال‏:‏ مزمارة الشّيطان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دعهما، فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا»‏.‏ ويقول عمر بن الخطّاب‏:‏‏"‏ الغناء زاد الرّاكب ‏"‏فقد روى البيهقيّ في سننه‏:‏ أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يستمع إلى غناء خوّاتٍ، فلمّا كان السّحر قال له‏:‏‏"‏ ارفع لسانك يا خوّات، فقد أسحرنا ‏"‏

وأمّا القياس‏:‏ فإنّ الغناء الّذي لا يصاحبه محرّمٌ فيه سماع صوتٍ طيّبٍ موزونٍ، وسماع الصّوت الطّيّب من حيث إنّه طيّبٌ لا ينبغي أن يحرم، لأنّه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السّمع بإدراك ما هو مخصوصٌ به، كتلذّذ الحواسّ الأخرى بما خلقت له‏.‏

20 - وأمّا الوزن فإنّه لا يحرّم الصّوت، ألا ترى أنّ الصّوت الموزون الّذي يخرج من حنجرة العندليب لا يحرم سماعه، فكذلك صوت الإنسان، لأنّه لا فرق بين حنجرةٍ وحنجرةٍ‏.‏ وإذا انضمّ الفهم إلى الصّوت الطّيّب الموزون، لم يزد الإباحة فيه إلاّ تأكيداً‏.‏

21 - أمّا تحريك الغناء القلوب، وتحريكه العواطف، فإنّ هذه العواطف إن كانت عواطف نبيلةً فمن المطلوب تحريكها، وقد وقع لعمر بن الخطّاب أن استمع إلى الغناء في طريقه للحجّ - كما تقدّم - وكان الصّحابة ينشدون الرّجزيّات لإثارة الجند عند اللّقاء، ولم يكن أحدٌ يعيب عليهم ذلك، ورجزيّات عبد اللّه بن رواحة وغيره معروفةٌ مشهورةٌ‏.‏

الغناء لأمرٍ مباحٍ‏:‏

22 - إذا كان الغناء لأمرٍ مباحٍ، كالغناء في العرس، والعيد، والختان، وقدوم الغائب، تأكيداً للسّرور المباح، وعند ختم القرآن الكريم تأكيداً للسّرور كذلك، وعند سير المجاهدين للحرب إذا كان للحماس في نفوسهم، أو للحجّاج لإثارة الأشواق في نفوسهم إلى الكعبة المشرّفة، أو للإبل لحثّها على السّير - وهو الحداء - أو للتّنشيط على العمل كغناء العمّال عند محاولة عملٍ أو حمل ثقيلٍ، أو لتسكيت الطّفل وتنويمه كغناء الأمّ لطفلها، فإنّه مباحٌ كلّه بلا كراهةٍ عند الجمهور‏.‏ واستدلّوا على ذلك بما ذكر سابقاً من حديث الجاريتين الّذي روته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العيد‏.‏ وبحديث بريدة قال‏:‏ «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جاريةٌ سوداء فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّي كنت نذرت - إن ردّك اللّه سالماً - أن أضرب بين يديك بالدّفّ وأتغنّى، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت نذرت فاضربي وإلاّ فلا»‏.‏ وهذا نصٌّ في إباحة الغناء عند قدوم الغائب تأكيداً للسّرور، ولو كان الغناء حراماً لما جاز نذره، ولما أباح لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعله‏.‏ وبحديث عائشة‏:‏ «أنّها أنكحت ذات قرابةٍ لها من الأنصار، فجاء رسول اللّه فقال‏:‏ أهديتم الفتاة‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ أرسلتم معها من يغنّي‏؟‏ قالت‏:‏ لا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الأنصار قومٌ فيهم غزلٌ، فلو بعثتم معها من يقول‏:‏ أتيناكم أتيناكم، فحيّانا وحيّاكم»‏.‏ وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العرس‏.‏ وبحديث عائشة قالت‏:‏ «كنت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، وكان عبد اللّه بن رواحة جيّد الحداء، وكان مع الرّجال، وكان أنجشة مع النّساء، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن رواحة‏:‏ حرّك القوم، فاندفع يرتجز، فتبعه أنجشة، فأعنفت الإبل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير‏.‏ يعني النّساء»‏.‏ وعن السّائب بن يزيد قال‏:‏‏"‏ كنّا مع عبد الرّحمن بن عوفٍ في طريق الحجّ، ونحن نؤمّ مكّة، اعتزل عبد الرّحمن الطّريق، ثمّ قال لرباح بن المغترف‏:‏ غنّنا يا أبا حسّان، وكان يحسن النّصب - والنّصب ضربٌ من الغناء - فبينا رباحٌ يغنّيه أدركهم عمر في خلافته فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال عبد الرّحمن‏:‏ ما بأسٌ بهذا‏؟‏ نلهو ونقصّر عنّا السّفر، فقال عمر‏:‏ فإن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطّاب بن مرداسٍ فارس قريش‏"‏ٍ‏.‏ وكان عمر يقول‏.‏‏"‏ الغناء من زاد الرّاكب ‏"‏، وهذا يدلّ على إباحة الغناء لترويح النّفس‏.‏ وروى ابن أبي شيبة أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يأمر بالحداء‏.‏

د - الاستماع إلى الهجو والنّسيب‏:‏

23 - يشترط في الكلام - سواءٌ أكان موزوناً ‏(‏كالشّعر‏)‏ أم غير موزونٍ، ملحّناً ‏(‏كالغناء‏)‏ أم غير ملحّنٍ - حتّى يحلّ استماعه ألاّ يكون فاحشاً، وليس فيه هجوٌ، ولا كذبٌ على اللّه ورسوله، ولا على الصّحابة، ولا وصف امرأةٍ معيّنةٍ، فإن استمع إلى شيءٍ من الكلام فيه شيءٌ ممّا ذكرناه، فالمستمع شريك القائل في الإثم‏.‏ أمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائزٌ، وقد «كان حسّان بن ثابتٍ شاعر رسول اللّه يهاجي الكفّار بعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو أمره، وقد قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ اهجهم أو هاجهم وجبريل معك»

وأمّا النّسيب فإنّه لا شيء فيه، وقد كان يقال أمام رسول اللّه وهو يستمع إليه «فقد استمع صلوات الله وسلامه عليه إلى قصيدة كعب بن زهيرٍ‏:‏ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول»

مع ما فيها من النّسيب‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ استماع صوت الحيوان

24 - اتّفق العلماء على جواز استماع أصوات الحيوانات، سواءٌ كانت هذه الأصوات قبيحةً كصوت الحمار والطّاووس ونحوهما، أو عذبةً موزونةً كأصوات العنادل والقماريّ ونحوها، قال الغزاليّ‏:‏ فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبةً أو موزونةً، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطّيور‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ استماع أصوات الجمادات

25 - إذا انبعثت أصوات الجمادات من تلقاء نفسها أو بفعل الرّيح فلا قائل بتحريم استماع هذه الأصوات‏.‏ أمّا إذا انبعثت بفعل الإنسان، فإمّا أن تكون غير موزونةٍ ولا مطربةٍ، كصوت طرق الحدّاد على الحديد، وصوت منشار النّجّار ونحو ذلك، ولا قائل بتحريم استماع صوتٍ من هذه الأصوات‏.‏ وأمّا أن ينبعث الصّوت من الآلات بفعل الإنسان موزوناً مطرباً، وهو ما يسمّى بالموسيقى‏.‏ فتفصيل القول فيه كما يلي‏:‏

أوّلاً - استماع الموسيقى‏:‏

26 - إنّ ما حلّ تعاطيه ‏(‏أي فعله‏)‏ من الموسيقى والغناء حلّ الاستماع إليه، وما حرم تعاطيه منهما حرم الاستماع إليه، لأنّ تحريم الموسيقى أو الغناء ليس لذاته، ولكن لأنّه أداةٌ للإسماع، ويدلّ على هذا قول الغزاليّ في معرض حديثه عن شعر الخنا، والهجو، ونحو ذلك‏:‏ فسماع ذلك حرامٌ بألحانٍ وبغير ألحانٍ، والمستمع شريكٌ للقائل‏.‏ وقول ابن عابدين‏:‏ وكره كلّ لهوٍ واستماعه‏.‏

أ‏:‏ الاستماع لضرب الدّفّ ونحوه من الآلات القرعيّة‏:‏

27 - اتّفق الفقهاء على حلّ الضّرب بالدّفّ والاستماع إليه، على تفصيلٍ في ذلك، هل هذه الإباحة هي في العرس وغيره، أم هي في العرس دون غيره‏؟‏ وهل يشترط في ذلك أن يكون الدّفّ خالياً من الجلاجل أم لا يشترط ذلك‏؟‏ وستجد ذلك التّفصيل في مصطلح ‏(‏معازف‏)‏ ‏(‏وسماعٌ‏)‏‏.‏ واستدلّوا على ذلك بما رواه محمّد بن حاطبٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «فصل ما بين الحلال والحرام الدّفّ والصّوت في النّكاح»‏.‏ وبما روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أعلنوا هذا النّكاح، واضربوا عليه بالغربال»‏.‏ وما روت الرّبيّع بنت معوّذٍ قالت‏:‏ «دخل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم غداة بني عليّ، فجلس على فراشي، وجويرياتٌ يضربن بالدّفّ يندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ، حتّى قالت إحداهنّ‏:‏ وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقولي هكذا وقولي كما كنت تقولين»‏.‏

28 - وألحق المالكيّة، والحنفيّة، والغزاليّ من الشّافعيّة بالدّفّ جميع أنواع الطّبول - وهي الآلات الفرعيّة - ما لم يكن استعمالها للهوٍ محرّمٍ‏.‏ واستثنى من ذلك بعضهم - كالغزاليّ مثلاً - الكوبة، لأنّها من آلات الفسقة‏.‏ واستثنى الحنفيّة من ذلك الضّرب بالقضيب‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ضرب النّوبة للتّفاخر لا يجوز، وللتّنبيه فلا بأس به، وينبغي أن يكون كذلك بوق الحمّام وطبل المسحّر، ثمّ قال‏:‏ وهذا يفيد أنّ آلة اللّهو ليست محرّمةً بعينها بل لقصد اللّهو فيها، إمّا من سامعها، أو من المشتغل بها، وبه تشعر الإضافة - يعني إضافة الآلة إلى اللّهو - ألا ترى أنّ ضرب تلك الآلة حلّ تارةً وحرم أخرى باختلاف النّيّة، والأمور بمقاصدها‏.‏

ب - الاستماع للمزمار ونحوه من الآلات النّفخيّة‏:‏

29 - أجاز المالكيّة الاستماع إلى الآلات النّفخيّة كالمزمار ونحوه، ومنعه غيرهم، وروى ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن مسعودٍ إباحة الاستماع إليه، فقد روى بسنده إلى ابن مسعودٍ أنّه دخل عرساً فوجد فيه مزامير ولهواً، فلم ينه عنه‏.‏ ومنعه غير المالكيّة‏.‏

30 - أمّا الآلات الوتريّة كالعود ونحوه، فإنّ الاستماع إليها ممنوعٌ في العرس وغيره عند جمهور العلماء‏.‏

وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء السّلف إلى التّرخيص فيها، وممّن رخّص فيها‏:‏ عبد اللّه بن جعفرٍ، وعبد اللّه بن الزّبير، وشريحٌ، وسعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباحٍ، ومحمّد بن شهابٍ الزّهريّ، وعامر بن شراحيل الشّعبيّ، وغيرهم‏.‏

ثانياً‏:‏ استماع الصّوت والصّدى‏:‏

31 - من تتبّع أقوال الفقهاء يتبيّن أنّهم يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّوت، أمّا استماع الصّدى فلم يتحدّث عنه إلاّ الحنفيّة‏.‏ ويظهر أنّ الحنفيّة لا يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّدى، فقد نصّوا على أنّه لا تجب سجدة التّلاوة بسماعها من الصّدى‏.‏

استمتاعٌ

التعريف

1 - الاستمتاع‏:‏ طلب التّمتّع، والتّمتّع الانتفاع، يقال‏:‏ استمتعت بكذا وتمتّعت به‏:‏ انتفعت‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ، وأغلب وروده عندهم في استمتاع الرّجل بزوجته‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الاستمتاع بما أحلّه اللّه في الحالات المشروعة جائزٌ، كالاستمتاع بالزّوجة من وطءٍ ومقدّماته إذا لم تكن هناك موانع شرعيّةٌ، كحيضٍ ونفاسٍ وإحرامٍ وصيام فرضٍ، فإن كانت هناك موانع شرعيّةٌ حرم الوطء‏.‏ أمّا الاستمتاع بالأجنبيّة بأيّ نوعٍ من أنواع الاستمتاع كنظرٍ، ولمسٍ، وقبلةٍ، ووطءٍ، فهو محظورٌ، يستحقّ فاعله الحدّ إن كان زنى، والتّعزير إن كان غير ذلك كمقدّمات الوطء‏.‏ ويرتّب الفقهاء على الاستمتاع بالزّوجة آثاراً كتمام المهر واستقراره والنّفقة‏.‏ وتنظر تفاصيل الموضوع في ‏(‏النّكاح‏)‏ و ‏(‏المهر‏)‏ و ‏(‏النّفقة‏)‏‏.‏

مواطن البحث

3 - الاستمتاع بالزّوجة يرد عند الفقهاء في أبواب النّكاح، والحيض، والنّفاس، ومحظورات الإحرام في الحجّ، والصّيام، والاعتكاف، وتنظر في أبوابها‏.‏ والاستمتاع المحرّم يرد في باب حدّ الزّنا، وباب التّعزير، وتنظر في أبوابها‏.‏