فصل: خلط الخمر بغيرها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


سِقْط

التّعريف

1 - السّقط لغةً‏:‏ الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه وهو مستبين الخلق، يقال‏:‏ سقط الولد من بطن أمّه سقوطاً فهو سقط‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ما يتعلّق بالسّقط من أحكام

حكم تغسيله والصّلاة عليه

2 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا استهلّ المولود غسّل وصلّي عليه إجماعاً، وفيما عدا ذلك خلاف ينظر في مصطلح ‏(‏جنين تغسيل‏)‏‏.‏

ما يتعلّق بالسّقط من حيث الطّهارة والعدّة

3 - إذا نزل السّقط تامّ الخلقة ترتّبت عليه الأحكام الّتي تترتّب على الولادة من حيث أحكام النّفاس وانقضاء العدّة ووقوع الطّلاق المعلّق على الولادة، وكذلك إن ألقت مضغةً تبيّن فيه خلق إنسان، وأمّا إذا ألقت مضغةً لم يتبيّن فيها التّخلّق أو ألقت علقةً ففي ذلك خلاف ينظر في ‏(‏إجهاض ف /170‏)‏‏.‏

نزول السّقط نتيجة الجناية على أمّه

4 - إذا اعتدى على الحامل فأسقطت جنينها حيّاً ثمّ مات ففيه دية النّفس، فإن أسقطته ميّتاً وقد تبيّن فيه خلق الإنسان ففيه غرّة عبد أو أمة فإن فقدا فنصف عشر الدّية الكاملة والتّفصيل في مصطلح ‏(‏إجهاض /130، ودية ف /33‏)‏ وحكم وجوب الكفّارة في الإجهاض في مصطلح ‏(‏كفّارة‏)‏‏.‏

ميراث السّقط

5 - لا يرث السّقط إلا إذا استهل بدليل قول النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه»‏.‏

هذا مع اختلاف الفقهاء فيما يكون به الاستهلال‏.‏ فإذا نزل السّقط ميتاً فلا يرث‏.‏

وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏إرث ف / 112، ومصطلح استهلال‏)‏‏.‏

سُقوط

التّعريف

1 - السّقوط مصدر سقط، يقال سقط الشّيء أي‏:‏ وقع من أعلى إلى أسفل، وأسقطه إسقاطاً فسقط، فالسّقوط أثر الإسقاط، والسَّقَط - بفتحتين - رديء المتاع، والخطأ من القول والفعل‏.‏

يقال لكلّ ساقطة لاقطة أي‏:‏ لكلّ نادّة من الكلام من يحملها ويذيعها، ويضرب مثلاً لنحو ذلك وقول الفقهاء‏:‏ سقط الفرض‏:‏ معناه سقط طلبه والأمر به‏.‏

والسّقط ‏"‏ بتثليث السّين ‏"‏‏:‏ الجنين ذكراً كان أو أنثى، يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق ولا يخرج معنى السّقوط الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ما يقبل السّقوط من حقوق اللّه تعالى ومن حقوق العباد

سقوط الصّلاة عن فاقد الطّهورين

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة لا تسقط عن فاقد الطّهورين، وهو من لم يجد ماءً يتطهّر به ولا تراباً يتيمّم به فتجب عليه الصّلاة بلا طهور‏.‏

ولا تسقط عنه، وتجب الإعادة عند الحنفيّة والشّافعيّة، وذهب الحنابلة إلى أنّ إعادتها غير واجبة عليه، وذهب المالكيّة إلى سقوط الصّلاة عنه أداءً وقضاءً‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ مصطلح ‏(‏تيمّم ف /41، وصلاة‏)‏‏.‏

سقوط الجبيرة

3 - اختلف الفقهاء فيما يوجبه سقوط الجبيرة عن برء، وفيما يوجبه سقوطها لا عن برء‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏جبيرة ف / 7‏)‏‏.‏

سقوط الصّلاة عن الحائض والنّفساء

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّلاة تسقط عن المرأة أثناء الحيض والنّفاس‏.‏ ولا تؤمر بقضاء الصّلاة بعد ذلك‏.‏ وللتّفصيل ر‏:‏ مصطلح ‏(‏صلاة، وحيض، ونفاس‏)‏‏.‏

سقوط الصّلاة عن المجنون والمغمى عليه

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ المجنون لا يقضي الصّلاة بعد إفاقته من الجنون لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع القلم عن ثلاثة‏:‏ عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّغير حتّى يكبر، وعن المجنون حتّى يعقل أو يفيق»‏.‏

واشترط الحنفيّة لسقوط الصّلاة عنه أن يمضي على جنونه أكثر من خمس صلوات فيقضي ما كان خمس صلوات أو أقلّ‏.‏

وأمّا المغمى عليه فذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‏"‏ إلى أنّه لا يقضي ما فاته أثناء إغمائه‏.‏ إلاّ أنّ الحنفيّة اشترطوا مضيّ أكثر من خمس صلوات - كما تقدّم - وذهب الحنابلة إلى أنّ المغمى عليه يقضي جميع الصّلوات الّتي كانت في حال إغمائه‏.‏

وكذا تسقط الصّلاة عن المبرسم والمعتوه والسّكران بلا تعدّ، على خلاف يذكر في مصطلح ‏(‏صلاة‏)‏‏.‏

إسقاط الصّلاة بالإطعام

6 - ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ الصّلاة لا تسقط عن الميّت بالإطعام‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا مات المريض ولم يقدر على أداء الصّلاة بالإيماء برأسه لا يلزمه الإيصاء بها‏.‏

أمّا إذا كان قادراً على الصّلاة ولو بالإيماء وفاتته الصّلاة بغير عذر لزمه الإيصاء بالكفّارة عنها، فيخرج عنه وليّه من ثلث التّركة لكلّ صلاة مفروضة، وكذا الوتر لأنّه فرض عمليّ عند أبي حنيفة‏.‏

وقد ورد النّصّ في الصّيام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولكن يطعم عنه» والصّلاة كالصّيام باستحسان المشايخ لكونها أهمّ‏.‏

والصّحيح‏:‏ اعتبار كلّ صلاة بصوم يوم، فيكون على كلّ صلاة فدية، وهي نصف صاع من برّ أو دقيقه أو سويقه، أو صاع تمر أو زبيب أو شعير أو قيمته، وهي أفضل لتنوّع حاجات الفقير‏.‏

وإن لم يوص وتبرّع عنه وليّه أو أجنبيّ جاز إن شاء اللّه تعالى عند محمّد بن الحسن وحده لأنّه قال في تبرّع الوارث بالإطعام في الصّوم يجزيه إن شاء اللّه تعالى من غير جزم‏.‏ وفي إيصائه به جزم الحنفيّة بالإجزاء‏.‏ وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ‏(‏صلاة وصوم‏)‏‏.‏

سقوط صلاة الجماعة والجمعة

7 - ممّا تسقط به صلاة الجماعة والجمعة الحبس والمرض الّذي يشقّ معه الحضور، وإذا خاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه، والمطر والوحل والبرد الشّديد والحرّ الشّديد ظهرًا والرّيح الشّديدة في اللّيل، ومدافعة الأخبثين، وأكل نتن نيء إن لم يمكنه إزالته‏.‏

وتفصيل هذا في ‏(‏صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة‏)‏‏.‏

سقوط ترتيب الفوائت

8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ التّرتيب بين الفوائت والحاضرة، يسقط إذا ضاق الوقت عنهما جميعاً، فيقدّم عندئذ الحاضرة ثمّ يقضي الفوائت على التّرتيب‏.‏

وانظر التّفصيل في مصطلح ‏(‏ترتيب‏)‏‏.‏

سقوط الصّيام

9 - يسقط الصّيام عن الشّيخ الكبير الّذي لا يقوى عليه، وعليه فدية عن كلّ يوم طعام مسكين‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏صيام‏)‏‏.‏

وأمّا من مات وعليه صيام من رمضان فإنّه لا يخلو من حالين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يموت قبل إمكان الصّيام، إمّا لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصّوم، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم، ‏"‏ ويسقط عنه الصّيام ‏"‏ وفي رواية عن أحمد وحكي عن طاوس وقتادة يجب الإطعام عنه، لأنّه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشّيخ الهرم إذا ترك الصّيام لعجزه عنه‏.‏

الحال الثّاني‏:‏ أن يموت بعد إمكان القضاء، فالواجب أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكين، وهذا قول أكثر أهل العلم، روى ذلك عن عائشة وابن عبّاس والأوزاعيّ والثّوريّ وابن عليّة وأبو عبيد في الصّحيح عنهم‏.‏

وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّ في الجديد والحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كلّ يوم مسكيناً»‏.‏

وقال أبو ثور وهو قول الشّافعيّ في القديم‏:‏ يصام عنه‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ قلت‏:‏ القديم هنا أظهر وذلك للأخبار الصّحيحة فيه كخبر الصّحيحين‏:‏ «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه»‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

سقوط الزّكاة

10 - ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ الزّكاة لا تسقط بموت ربّ المال، وتخرج من ماله، وبه قال عطاء والحسن والزّهريّ وقتادة وإسحاق، وأبو ثور وابن المنذر‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّكاة لا يجب إخراجها من التّركة من غير وصيّة، فإن أوصى بالأداء وجب إخراجها من ثلث ماله‏.‏

وإلى هذا ذهب ابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ وحمّاد بن أبي سليمان وداود بن أبي هند وحميد الطّويل والمثنّى والثّوريّ‏.‏

وقال الأوزاعيّ واللّيث‏:‏ تؤخذ من الثّلث مقدّمةً على الوصايا ولا يجاوز الثّلث‏.‏

وتسقط الزّكاة عند الحنفيّة أيضاً بهلاك النّصاب بعد الحول وقبل التّمكّن من الأداء بعده، وبالرّدّة‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏تركة ف / 26‏)‏‏.‏

سقوط فرض الكفاية

11 - يسقط فرض الكفاية إذا قام به البعض ولو بظنّ الفعل‏.‏

ر‏:‏ مصطلح ‏(‏إسقاط وفرض‏)‏‏.‏

سقوط التّحريم للضّرورة

12 - يسقط التّحريم للضّرورة كأكل الميتة للمضطرّ وإساغة اللّقمة بالخمر، وإباحة نظر العورة للطّبيب‏.‏

ر‏:‏ مصطلح ‏(‏إسقاط‏)‏ وتنظر أيضاً في مصطلح ‏(‏اضطرار، خمر، عورة‏)‏‏.‏

حقوق العباد

13 - الأصل أنّ من له حقّ إذا أسقطه - وهو من أهل الإسقاط والمحلّ قابل للسّقوط، سقط هذا الحقّ، وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏إسقاط‏)‏‏.‏

وفيما يلي بعض ما هو محلّ للسّقوط من حقوق العباد‏:‏

سقوط المهر

14 - أ - يسقط المهر كلّه عن الزّوج بعدّة أسباب‏:‏

أولاً‏:‏ الفرقة بغير طلاق قبل الدّخول بالمرأة إذا كانت بطلب من الزّوجة أو بسببها‏.‏

ثانياً‏:‏ الإبراء عن كلّ المهر قبل الدّخول وبعده إذا كان المهر ديناً، لأنّ الإبراء إسقاط والإسقاط ممّن هو أهل الإسقاط في محلّ قابل للسّقوط يوجب السّقوط‏.‏

ثالثاً‏:‏ الخلع على المهر قبل الدّخول وبعده‏.‏

رابعاً‏:‏ هبة كلّ المهر قبل القبض عيناً كان أو ديناً وبعده إذا كان عيناً‏.‏

15 - ب - ما يسقط به نصف المهر‏:‏

يسقط نصف المهر بالطّلاق قبل الدّخول في نكاح فيه تسمية المهر، والمهر دين لم يقبض بعد‏.‏

وفيما تقدّم تفصيل ينظر في ‏(‏مهر، خلع، هبة، متعة، طلاق‏)‏‏.‏

سقوط نفقة الزّوجة

16 - تسقط نفقة الزّوجة بالنّشوز ‏"‏ الخروج عن طاعة الزّوج ‏"‏ وبالإبراء من النّفقة الماضية‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏نشوز، نفقة‏)‏‏.‏

سقوط نفقة الأقارب

17 - تسقط نفقة الأقارب بمضيّ المدّة‏.‏ على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

سقوط الحضانة

18 - إذا اختلّ شرط من شروط الحضانة، أو وجد مانع سقطت، وكذا لو سافر الوليّ أو الحاضن للنّقلة والانقطاع‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏حضانة ف / 18، ج 17 /310‏)‏‏.‏

سقوط الخراج

19 - يسقط الخراج بانعدام صلاحيّة الأرض للزّراعة وتعطيلها عن الزّراعة، وبهلاك الزّرع بآفة سماويّة، وبإسقاط الإمام للخراج عمّن وجب عليه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏خراج ف / 57 وما بعدها‏)‏‏.‏

سقوط الحدود

20 - تسقط الحدود بما يلي‏:‏

أ - بالشّبهات بإجماع الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ادرءوا الحدود بالشّبهات»‏.‏

ب - بالرّجوع عن الإقرار، واستثنوا حدّ القذف‏.‏

ج - بموت الشّهود‏.‏

د - بالتّكذيب، كتكذيب المزنيّ بها للمقرّ بالزّنى قبل إقامة الحدّ عليه‏.‏

ر‏:‏ مصطلح ‏(‏حدود ف / 13، 14، 15، 16، وزنىً، وقذف‏)‏‏.‏

هـ - بالتّوبة‏:‏ وفي ذلك تفصيل‏:‏

اتّفق الفقهاء على أنّ العقوبة تسقط عن قاطع الطّريق ‏(‏المحارب‏)‏ بالتّوبة قبل القدرة عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ هذا فيما وجب عليهم حقّاً للّه، أمّا حقوق الآدميّين فلا تسقط بالتّوبة‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏حرابة ف / 24‏)‏‏.‏

وإن تاب من عليه حدّ من غير المحاربين وأصلح فقد اختلف فيه الفقهاء‏.‏ فذهب جمهورهم إلى أنّ الحدّ لا يسقط لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ وهذا عامّ في التّائبين وغيرهم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏}‏

ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامديّة وقطع الّذي أقرّ بالسّرقة، وقد جاءوا تائبين يطلبون التّطهير بإقامة الحدّ»‏.‏ وقد سمّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلهم توبةً، فقال في حقّ المرأة‏:‏ «لقد تابت توبةً لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم» «وجاء عمرو بن سمرة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّي سرقت جملاً لبني فلان فطهّرني» وقد أقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحدّ على هؤلاء، ولأنّ الحدّ كفّارة فلم يسقط بالتّوبة ككفّارة اليمين والقتل، ولأنّه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحدّ بالتّوبة كالمحارب بعد القدرة عليه‏.‏

وفي رواية لأحمد‏:‏ يسقط الحدّ بالتّوبة لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا‏}‏ وذكر حدّ السّارق فقال‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له» ومن لا ذنب له لا حدّ عليه، «وقال في ماعز‏:‏ لمّا أخبر بهربه‏:‏ هلاّ تركتموه يتوب فيتوب اللّه عليه» ولأنّه خالص حقّ اللّه تعالى فيسقط بالتّوبة كحدّ المحارب‏.‏

وهل يتقيّد سقوط التّوبة، بكونه قبل الرّفع إلى الحاكم أم لا‏؟‏ وبكونه حقّاً من حقوق اللّه تعالى أم لا‏؟‏‏.‏

ينظر التّفصيل في مصطلح ‏(‏حدود ف / 12، وتوبة / 18 و 19‏)‏‏.‏

سقوط الجزية

21 - تسقط الجزية بالإسلام أو بتداخل الجزى أو بطروء الإعسار أو التّرهّب والانعزال عن النّاس، أو بالجنون، أو بالعمى، والزّمانة، والشّيخوخة، أو عجز الدّولة عن حمايتهم أو باشتراك الذّمّيّين في القتال مع المسلمين أو بالموت‏.‏

وفي بعض تلك الأمور خلاف يرجع تفصيله إلى مصطلح ‏(‏جزية ف / 69 - 79‏)‏‏.‏

سَكّاء

التّعريف‏:‏

1 - السَّكَكُ‏:‏ صِغَرُ الأذن ولزوقها بالرّأس وقلّة إشرافها، وقيل قصرها‏.‏

قال ابن الأعرابيّ‏:‏ يقال للقطاة حذّاء لقصر ذنبها وسكّاء لأنّه لا أذن لها‏.‏

وأصل السّكك‏:‏ الصّمم، وأذن سكّاء أي‏:‏ صغيرة‏.‏ ويقال كلّ سكّاء تبيض،وكلّ شرفاء تلد‏.‏ فالسّكّاء الّتي لا أذن لها، والشّرفاء الّتي لها أذن وإن كانت مشقوقةً‏.‏

ويقال للسّكّاء أيضاً صمعاء، والصّمع لصوق الأذنين وصغرهما‏.‏

واختلف الفقهاء في تفسير السّكّاء ففسّرها المالكيّة بأنّها الّتي خلقت بغير أذنين وهو ما جاء في الدّرّ المختار من كتب الحنفيّة، لكن الكاسانيّ من الحنفيّة ذكر في البدائع أنّ السّكّاء هي صغيرة الأذن‏.‏ وفي المصباح‏:‏ السّكك‏:‏ صغر الأذنين‏.‏

وفي المغرب‏:‏ السّكك‏:‏ صغر الأذن، ثمّ قال‏:‏ وهي عند الفقهاء الّتي لا أذن لها‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يتحدّث الفقهاء عن حكم السّكّاء أو الصّمعاء في باب الأضحيّة بالنّسبة لما يجزئ من النّعم وما لا يجزئ‏.‏

والمدار في الإجزاء وعدمه على ما كان من النّعم صغير الأذنين وما خلق بلا أذنين‏.‏

ويتّفق الفقهاء على أنّ صغيرة الأذنين تجزئ في الأضحيّة‏"‏ سواء سمّيت سكّاء أو صمعاء ‏"‏‏.‏ لكن قال المالكيّة‏:‏ إن كانت الأذن صغيرةً جدّاً بحيث تقبح به الخلقة فلا تجزئ‏.‏

أمّا الّتي خلقت بلا أذنين فلا تجزئ في الأضحيّة عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وتجزئ عند الحنابلة، لأنّ ذلك لا يخلّ‏.‏

وما يقال في الأضحيّة يقال في الهدي‏.‏

السُّكْر

التّعريف

1 - السُّكْر في اللّغة مصدر سكر فلان من الشّراب ونحوه، فهو ضدّ الصّحو، والسَّكَر - بفتحتين - لغةً‏:‏ كلّ ما يسكر من خمر وشراب، والسَّكَر أيضاً نقيع التّمر الّذي لم تمسّه النّار وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَناً‏}‏‏.‏

قال ابن العربيّ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر فتكون منسوخةً‏.‏

واختلفت عبارات الفقهاء في تعريف السّكر‏:‏

فعند أبي حنيفة والمزنيّ من الشّافعيّة‏:‏ السّكر نشوة تزيل العقل، فلا يعرف السّماء من الأرض، ولا الرّجل من المرأة، وصرّح ابن الهمام بأنّ تعريف السّكر بما مرّ إنّما هو في السّكر الموجب للحدّ‏.‏

وأمّا تعريفه في غير وجوب الحدّ فهو عند أئمّة الحنفيّة كلّهم‏:‏ اختلاط الكلام والهذيان‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ السّكران هو الّذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سرّه المكتوم‏.‏

وقيل‏:‏ السّكر حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة من الخمر ونحوه، فيتعطّل معه العقل المميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الجنون‏:‏

2 - الجنون‏:‏ اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلاّ نادراً‏.‏ وعرّف بغير ذلك ‏(‏ر‏:‏ جنون‏)‏‏.‏

العته‏:‏

3 - العته‏:‏ آفة توجب خللاً في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين وكذا سائر أموره‏.‏

4 - الصّرع‏:‏ علّة تمنع الدّماغ من فعله منعاً غير تامّ فتتشنّج الأعضاء‏.‏

5 - الإغماء‏:‏ الإغماء مصدر أغمي على الرّجل وفعله ملازم للبناء للمفعول وهو مرض يزيل القوى ويستر العقل، وقيل‏:‏ هو فتور عارض لا بمخدّر يزيل عمل القوى‏.‏

6 - الخدر‏:‏ استرخاء يغشى بعض الأعضاء أو الجسم كلّه، وخدّر العضو تخديراً جعله خدراً، أو حقنه بمخدّر لإزالة إحساسه‏.‏

7- التّرقيد‏:‏ المرقّد شيء يشرب ينوّم من شربه ويرقّده وتذهب معه الحواسّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

8 - السّكر إمّا أن يكون بتعدّ بشرب محرّم معلوم للشّارب كالخمر ونحوها من المسكرات، وهذا حرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ولحديث‏:‏ «كلّ مسكر خمر وكلّ خمر حرام»‏.‏

وإمّا أن يكون السّكر بغير تعدّ كأن يشرب شراباً مسكراً يظنّه غير مسكر‏.‏ وهذا لا إثم فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏‏.‏

وكذا لو شربه مضطرّاً كأن أكره عليه أو لدفع غصّة ولم يحضره غيره‏.‏

ضابط السّكر

9 - اختلف الفقهاء في ضابط السّكر‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة - إلى أنّ ضابط السّكر هو من اختلط كلامه وكان غالبه هذياناً فقد قال الشّافعيّ في حدّه‏:‏ إنّه الّذي اختلّ كلامه المنظوم، وانكشف سرّه المكتوم وذهب أبو حنيفة إلى أنّ السّكران هو الّذي لا يعرف الأرض من السّماء، والرّجل من المرأة، وهو قول المزنيّ من الشّافعيّة‏.‏

انظر‏:‏ أشربة ‏(‏ج /5، ص / 23 - 24‏)‏‏.‏

وجوب الحدّ بشرب الخمر أو غيره من المسكرات

10 - السّكر إمّا أن يكون من شراب الخمر، وإمّا أن يكون من الأشربة الأخرى، ويختلف حكم شارب الخمر عن حكم شارب المسكرات الأخرى من الأنبذة عند بعض الفقهاء‏.‏

أوّلاً‏:‏ الخمر

11 - أجمع الفقهاء على أنّ شرب الخمر حرام ويجب الحدّ على شاربها سواء أكان ما شربه قليلاً أم كثيراً وسواء سكر منها أم لم يسكر‏.‏

واستدلّ الفقهاء جميعاً على ذلك بالكتاب والسّنّة والإجماع‏.‏

أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏‏.‏

وأمّا السّنّة فأحاديث متعدّدة ثبتت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر تبلغ في مجموعها حدّ التّواتر‏.‏ فعن أبي سعيد قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يا أيّها النّاس إنّ اللّه تعالى يعرّض بالخمر ولعلّ اللّه سينزّل فيها أمراً فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به‏.‏ قال‏:‏ فما لبثنا إلاّ يسيراً حتّى قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ اللّه تعالى حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع، قال‏:‏ فاستقبل النّاس بما كان عنده منها في طريق المدينة فسفكوها»‏.‏

وعن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام»‏.‏

وفي رواية‏:‏ «كلّ مسكر خمر وكلّ خمر حرام»‏.‏ وقد أجمعت الأمّة على تحريمه‏.‏

ثانياً‏:‏ المسكرات الأخرى غير الخمر

12 - اختلف الفقهاء على قولين في الشّرب من الأنبذة الأخرى المسكرة - غير الخمر –

القول الأوّل‏:‏

ذهب المالكيّة والشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّه لا فرق بين الخمر المتّخذة من العنب وبين غيرها من الأنبذة المسكرة في تحريم الشّرب فيسمّى جميع ذلك خمراً ويجب الحدّ بشرب القليل والكثير منها سواء سكر منها أو لم يسكر‏.‏

وقد روي تحريم ذلك عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبيّ بن كعب، وأنس، وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز وإسحاق‏.‏

واستدلّوا على عدم التّفرقة بحديث ابن عمر قال‏:‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ مسكر خمر وكلّ خمر حرام»‏.‏ وحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت‏:‏ «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال‏:‏ كلّ شراب أسكر فهو حرام»‏.‏

وحديث أبي موسى قال‏:‏ «بعثني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن فقلت يا رسول اللّه‏:‏ إنّ شراباً يصنع بأرضنا يقال له المزر من الشّعير وشراب يقال له البتع من العسل فقال‏:‏ كلّ مسكر حرام»‏.‏

القول الثّاني‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا حدّ على من شرب سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة إلاّ إذا سكر من شربها، كنقيع الزّبيب والمطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب أو التّمر والزّبيب والمثلّث، والأشربة المتّخذة من الحنطة والشّعير والدّخن والذّرة والعسل والتّين ونحو ذلك‏.‏

وقد استدلّوا بقول ابن عبّاس‏:‏«حرّمت الخمرة بعينها قليلها وكثيرها والسّكر من كلّ شراب»

حكم تناول البنج والأفيون والحشيشة

13 - يحرم تناول البنج والأفيون والحشيشة،ولا يحدّ شاربها عند جمهور الفقهاء بل يعزّر‏.‏ وقال البزدويّ‏:‏ يحدّ بالسّكر من البنج في زماننا على المفتى به‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ يجب الحدّ سكر أو لم يسكر ومن استحلّ السّكر منها وزعم أنّه حلال فإنّه يستتاب‏.‏

خلط الخمر بغيرها

14 - إن ثرد في الخمر أو اصطبغ به ‏"‏ أي ائتدم ‏"‏ أو طبخ به لحماً فأكل من مرقته فعليه الحدّ، لأنّ عين الخمر موجودة‏.‏ وكذلك إن لتّ به سويقاً فأكله نصّ على ذلك الشّافعيّة، والحنابلة، وإن عجن به دقيقاً ثمّ خبزه فأكله لم يحدّ نصّ على ذلك الشّافعيّة في الأصحّ عندهم‏.‏ والحنابلة، لأنّ النّار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلاّ أثره‏.‏

وإن احتقن بالخمر لم يحدّ، نصّ على ذلك المالكيّة، والشّافعيّة في الأصحّ عندهم‏.‏ والحنابلة، وهو مذهب الحنفيّة أيضاً، ووجه ذلك عندهم أنّه ليس بشرب ولا أكل ولأنّه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه وحكي عن أحمد أنّ على من احتقن به الحدّ، لأنّه أوصله إلى جوفه والأوّل أولى عندهم كما يقول ابن قدامة، ورجّح المتأخّرون الثّاني‏.‏ وإن اسْتَعَطَ به فعليه الحدّ‏.‏ نصّ على ذلك الحنابلة، لأنّه أوصله إلى باطنه من حلقه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا حدّ عليه وكذلك إذا اكتحل بها أو اقتطرها في أذنه أو داوى بها جائفةً أو آمّةً فوصل إلى دماغه، لأنّ وجوب الحدّ يعتمد شرب الخمر وهو بهذه الأفعال لا يصير شارباً وليس في طبعه ما يدعوه إلى هذه الأفعال لتقع الحاجة إلى شرع الزّجر عنه‏.‏ ولو خلطت الخمر بالماء، فإن كانت الخمر غالبةً حدّ، وإن كان الماء غالباً لا يحدّ إلاّ إذا سكر نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

وكذلك يحدّ إذا كانا سواءً نصّ على ذلك الحنفيّة، لأنّ اسم الخمر باق وهي عادة بعض الشّربة أنّهم يشربونها ممزوجةً بالماء‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لو خلط المسكر بماء فاستهلك المسكر فيه فشربه لم يحدّ‏.‏

وقالوا‏:‏ إن شرب الخمر لعطش وكانت ممزوجةً بما يروي من العطش أبيحت لدفع العطش عند الضّرورة‏.‏ وإن شربها ممزوجةً بشيء يسير لا يروي من العطش لم تبح لعدم حصول المقصود بها وعليه الحدّ‏.‏

ولو عجن دواءً بخمر أو لتّه أو جعلها أحد أخلاط الدّواء‏.‏ ثمّ شربها والدّواء هو الغالب فلا حدّ عليه، وإن كانت الخمر هي الغالبة فإنّه يحدّ عند الحنفيّة‏.‏

لأنّ المغلوب يصير مستهلكاً بالغالب إذا كان من خلاف جنسه والحكم للغالب‏.‏

قدر حدّ السّكر وحدّ الشّرب

15 - اتّفق الفقهاء على وجوب الحدّ على من شرب الخمر مطلقاً أي سواء سكر منها أم لا، وسواء أكان ما شربه منها قليلاً أم كثيراً‏.‏

واختلف الفقهاء في قدر الحدّ الواجب في شرب الخمر على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة إلى أنّ الحدّ ثمانون جلدةً لا فرق بين الذّكر والأنثى، وبه قال الثّوريّ‏.‏

واستدلّوا على ذلك بإجماع الصّحابة فإنّه روي أنّ عمر استشار النّاس في حدّ الخمر فقال عبد الرّحمن بن عوف‏:‏ اجعله كأخفّ الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشّام‏.‏

وروي أنّ عليّاً قال في المشورة‏:‏ إنّه إذا سكر هَذَى وإذا هَذَى افترى، وعلى المفتري ثمانين‏.‏

القول الثّاني‏:‏

ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في رواية ثانية اختارها أبو بكر، وأبو ثور إلى أنّ قدر الحدّ أربعون فقط، ولو رأى الإمام بلوغه ثمانين جاز في الأصحّ عند الشّافعيّة والزّيادة على الأربعين تكون تعزيرات‏.‏

وقد استدلّوا على ذلك «بأنّ عليّاً جلد الوليد بن عقبة أربعين ثمّ قال‏:‏ جلد النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة وهذا أحبّ إليّ»‏.‏ وعن أنس بن مالك قال‏:‏ «إنّ نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنّعال، ثمّ جلد أبو بكر أربعين، فلمّا كان عمر ودنا النّاس من الرّيف والقرى قال‏:‏ ما ترون في جلد الخمر‏؟‏ فقال عبد الرّحمن بن عوف‏:‏ أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود‏.‏ قال‏:‏ فجلد عمر ثمانين»‏.‏

قالوا‏:‏ وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعليّ رضي الله عنهما، فتحمل الزّيادة من عمر على أنّها تعزير يجوز فعلها إذا رأى الإمام ذلك‏.‏

شرب المسكر في نهار رمضان

16 - إذا شرب إنسان مسكراً في نهار رمضان يحدّ للشّرب ويعزّر بعشرين سوطاً لإفطاره في شهر رمضان‏.‏ نصّ على ذلك الحنفيّة، والحنابلة‏.‏

وذلك لأنّ شرب الخمر ملزم للحدّ، وهتك حرمة الشّهر والصّوم يستوجب التّعزير ولكن الحدّ أقوى من التّعزير فيبتدأ بإقامة الحدّ عليه ثمّ لا يوالى بينه وبين التّعزير لكي لا يؤدّي إلى الإتلاف‏.‏

والأصل فيه حديث عليّ أنّه أتي بالنّجاشيّ الحارثيّ قد شرب الخمر فحدّه ثمّ حبسه حتّى إذا كان الغد أخرجه فضربه عشرين سوطاً وقال‏:‏ هذا لجراءتك على اللّه وإفطارك في شهر رمضان‏.‏

شروط وجوب الحدّ

يشترط لإيجاب الحدّ ما يلي‏:‏

17 - أوّلاً‏:‏ التّكليف وهو هنا العقل والبلوغ، فلا حدّ على المجنون والصّبيّ باتّفاق، لأنّ الحدّ عقوبة محضة فتستدعي جنايةً محضةً وفعل الصّبيّ والمجنون لا يوصف بالجناية فلا حدّ عليهما لعدم الجناية منهما‏.‏

وقد نصّ المالكيّة على أنّ الصّبيّ المميّز يؤدّب للزّجر‏.‏

18 - ثانياً‏:‏ الإسلام‏:‏ فلا حدّ على الذّمّيّ والحربيّ المستأمن بالشّرب ولا بالسّكر في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة‏.‏

يقول الكاسانيّ‏:‏ وشرب الخمر مباح لأهل الذّمّة عند أكثر مشايخنا فلا يكون جنايةً، وعند بعضهم وإن كان حرامًا لكننّا نهينا عن التّعرّض لهم وما يدينون، وفي إقامة الحدّ عليهم تعرّض لهم من حيث المعنى لأنّنا نمنعهم من الشّرب‏.‏

وعن الحسن بن زياد أنّهم إذا شربوا وسكروا يحدّون لأجل السّكر لا لأجل الشّرب لأنّ السّكر حرام في الأديان كلّها‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ وما قاله الحسن حسن‏.‏

وجاء في حاشية ابن عابدين‏:‏ ‏"‏ إن سكر الذّمّيّ من الحرام حدّ في الأصحّ لحرمة السّكر في كلّ ملّة ‏"‏ وجاء بها أيضاً قوله‏:‏ حدّ في الأصحّ أفتى به الحسن واستحسنه بعض المشايخ‏.‏ والمذهب أنّه إذا شرب الخمر وسكر منه أنّه لا يحدّ كما في النّهر عن فتاوى قارئ الهداية وقال المجد بن تيميّة‏:‏ ولا يحدّ الذّمّيّ بشربه وإن سكر وعنه يحدّ وعندي إن سكر حدّ وإلاّ فلا‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّ الذّمّيّ يؤدّب بالشّرب إن أظهره‏.‏

19 - ثالثاً‏:‏ عدم الضّرورة في شرب الخمر، بأن يشربها مختاراً لشربها، وهذا باتّفاق‏.‏ فلا حدّ على من أكره على شربها وذلك لقول الرّسول‏:‏ «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» ولأنّ الحدّ عقوبة محضة فتستدعي جنايةً محضةً والشّرب بالإكراه حلال فلم يكن جنايةً فلا حدّ ولا إثم‏.‏

وسواء أكره بالوعيد والضّرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصبّ فيه‏.‏ نصّ على ذلك الحنابلة‏.‏

ونصّ المالكيّة، على أنّ الإكراه يكون بالتّهديد بالقتل أو بالضّرب المؤدّي إليه أو بإتلاف عضو من أعضائه أو بالضّرب المؤدّي إليه أي‏:‏ بقيد أو سجن شديدين على أظهر القولين لسحنون‏.‏

وكذلك لا حدّ على من اضطرّ إليها لدفع غصّة بها إذا لم يجد مائعاً سواها وذلك لقول اللّه عزّ وجلّ في آية التّحريم‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

ولأنّ الحدّ عقوبة محضة فتستدعي جنايةً محضةً والشّرب لضرورة الغصّة حلال فلم يكن جنايةً‏.‏ وقد نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وإن شربها لعطش فالحنابلة يقولون‏:‏ إن كانت ممزوجةً بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضّرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكإباحتها لدفع الغصّة‏.‏ وقد روي في قصّة عبد اللّه بن حذافة أنّه أسره الرّوم، فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشويّ ليأكله ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيّام فلم يفعل، ثمّ أخرجوه حين خشوا موته فقال‏:‏ واللّه لقد كان اللّه أحلّه لي فإنّي مضطرّ ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام‏.‏ وإن شربها صرفًا أو ممزوجةً بشيء يسير لا يروي من العطش لم يبح له ذلك وعليه الحدّ‏.‏ وعند الحنفيّة يحلّ شربها للعطش لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏‏.‏

وعند الشّافعيّة، الأصحّ تحريمها لعطش وجوع ولكن لا يحدّ وقالوا‏:‏ إن أشرف على الهلاك من عطش جاز له شربها‏.‏

شرب المسكر للتّداوي

20 - إن شرب المسكر للتّداوي ‏"‏ لم يبح له ذلك عند الحنفيّة ‏"‏ والمالكيّة، والحنابلة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ ويحدّ عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

واستدلّوا على عدم إباحة شرب الخمر للتّداوي بحديث وائل الحضرميّ من «أنّ طارق بن سويد الجعفيّ أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال‏:‏ إنّما أصنعها للدّواء فقال‏:‏ إنّه ليس بدواء ولكنّه داء»‏.‏

ولأنّ المسكر محرّم لعينه فلم يبح للتّداوي كلحم الخنزير‏.‏

وذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى جواز التّداوي بالقدر الّذي لا يسكر كبقيّة النّجاسات وهذا في غير حال الضّرورة، أمّا في حال الضّرورة بأن لم يجد دواءً آخر ففي جوازه خلاف، وينظر التّفصيل في ‏(‏تداوي‏)‏‏.‏

21 - رابعاً‏:‏ من شروط وجوب الحدّ أيضاً بقاء اسم الخمر للمشروب وقت الشّرب‏.‏

نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏ لأنّ وجوب الحدّ بالشّرب تعلّق به حتّى لو خلط الخمر بالماء ثمّ شرب نظر فيه‏:‏ إن كانت الغلبة للماء لا حدّ عليه - لأنّ اسم الخمر يزول عند غلبة الماء، وإن كانت الغلبة للخمر أو كانا سواءً يحدّ، لأنّ اسم الخمر باق وهي عادة بعض الشّربة أنّهم يشربونها ممزوجةً بالماء‏.‏

ويحدّ من شرب درديّ الخمر عند جمهور الفقهاء لأنّه خمر بلا شكّ خلافاً للحنفيّة، وإنّما يكره شربه والانتفاع به، لأنّ الدّرديّ من كلّ شيء بمنزلة صافيه، والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديّه وهذا لأنّ في الدّرديّ أجزاء الخمر ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به فالدّرديّ أولى‏.‏

22 - خامساً‏:‏ ويشترط أيضاً العلم بأنّ كثيرها يسكر، فالحدّ إنّما يلزم من شربها عالماً بأنّ كثيرها يسكر فأمّا غيره فلا حدّ عليه، وهذا قول عامّة أهل العلم، ولم يشترط الشّافعيّة إلاّ العلم بكون ما شربه مسكراً‏.‏

وذلك لأنّه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفّت إليه غير زوجته، ولا حدّ على من شربها غير عالم بتحريمها أيضاً - لأنّ عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا‏:‏ لا حدّ إلاّ على من علمه - ولأنّه غير عالم بالتّحريم أشبه من لم يعلم أنّها خمر، وإذا ادّعى الجهل بتحريمها نظر‏.‏

فإن كان ناشئاً ببلد الإسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأنّ هذا لا يكاد يخفى عليه مثله فلا تقبل دعواه فيه، وإن كان حديث عهد بالإسلام أو ناشئاً ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه، لأنّه يحتمل ما قاله‏.‏ نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

23 - سادساً‏:‏ اشترط الحنفيّة النّطق فلا يحدّ الأخرس للشّبهة لأنّه لو كان ناطقاً يحتمل أن يخبر بما لا يحدّ به كإكراه أو غصّ بلقمة‏.‏

ولا تشترط الذّكورة ولا الحرّيّة فيجب الحدّ على كلّ من الذّكر والأنثى والرّقيق إلاّ أنّ حدّ الرّقيق يكون على النّصف من حدّ الحرّ‏.‏

وجود رائحة الخمر

24 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ على من توجد منه رائحة الخمر ولهم في ذلك قولان‏:‏

القول الأوّل‏:‏

ذهب الحنفيّة، والشّافعيّة والحنابلة في الرّواية الرّاجحة إلى أنّه لا حدّ على من توجد منه رائحة الخمر‏.‏ وذلك لأنّ وجود رائحة الخمر لا يدلّ على شرب الخمر لجواز أنّه تمضمض بها ولم يشربها، أو شربها عن إكراه أو غصّة خاف منها الهلاك‏.‏

القول الثّاني‏:‏

ذهب المالكيّة والحنابلة في الرّواية الثّانية‏.‏ إلى أنّه يحدّ بذلك، وذلك «لأنّ ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر»‏.‏

وروي عن «عمر أنّه قال‏:‏ إنّي وجدت من عبيد اللّه ريح الشّراب فأقرّ أنّه شرب الطّلا، فقال عمر‏:‏ إنّي سائل عنه فإن كان يسكر جلدته»‏.‏

ولأنّ الرّائحة تدلّ على شربه فجرى مجرى الإقرار‏.‏

تقيّؤ الخمر

25 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بتقيّؤ الخمر ولهم في ذلك قولان‏:‏

القول الأوّل‏:‏

ذهب الحنفيّة، والشّافعيّة وأحمد في رواية إلى أنّه لا حدّ على من تقيّأ الخمر، لاحتمال أن يكون مكرهاً أو لم يعلم أنّها تسكر ونحو ذلك‏.‏

القول الثّاني‏:‏

ذهب المالكيّة وأحمد في رواية إلى أنّه يحدّ بذلك، لأنّ ذلك لا يكون إلاّ بعد شربها فأشبه ما لو قامت البيّنة عليه بشربها‏.‏

ولقول الشّعبيّ لمّا كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصيّ فقال‏:‏ أشهد أنّي رأيته يتقيّؤها فقال عمر‏:‏ من قاءها فقد شربها فضربه الحدّ‏.‏

ولخبر «عثمان حين أتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنّه رآه شربها وشهد الآخر أنّه رآه يتقيّؤها فقال عثمان‏:‏ إنّه لم يتقيّأ حتّى شربها فقال‏:‏ يا عليّ‏:‏ قم فاجلده، فأمر عليّ، عبد اللّه بن جعفر فضربه» وهذا بمحضر من علماء الصّحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعاً‏.‏

ولأنّه يكفي في الشّهادة عليه أنّه شربها ولا يتقيّؤها أو لا يسكر منها حتّى يشربها

إثبات الحدّ

لا يجب الحدّ حتّى يثبت الشّرب أو السّكر بأحد شيئين‏:‏ الإقرار أو البيّنة‏.‏

البيّنة‏:‏

26 - اتّفق الفقهاء على أنّ الشّرب - وكذلك السّكر - يثبت بالبيّنة - أي شهادة الشّهود - وهي شهادة عدلين ويشترط فيهما ما يلي‏:‏

أ - أن يكونا عدلين مسلمين‏.‏

ب - الذّكورة، فلا تقبل شهادة النّساء‏.‏

ج - الأصالة فلا تقبل الشّهادة على الشّهادة ولا كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود كلّها ‏;‏ لتمكّن زيادة شبهة فيها والحدود لا تثبت مع الشّبهات‏.‏

د - عدم التّقادم ‏(‏انظر شهادة، وحدود، وتقادم ف /13‏)‏‏.‏

هـ - وذكر ابن عابدين أنّه يجب أن يسأل الإمام الشّاهدين عن ماهيّة الخمر وكيف شرب لاحتمال الإكراه ومتى شرب لاحتمال التّقادم وأين شرب لاحتمال شربه في دار الحرب فإذا بيّنوا ذلك حبسه حتّى يسأل عن عدالتهم ولا يقضي بظاهرها‏.‏

و - قيام الرّائحة وقت أداء الشّهادة في حدّ الشّرب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - وعند محمّد ليس بشرط‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّه إذا شهد عدلان بشربه الخمر،وخالفهما غيرهما من العدول بأن قالا‏:‏ ليس رائحته رائحة خمر بل خلّ مثلاً، فلا تعتبر المخالفة ويحدّ، لأنّ المثبت يقدّم على النّافي‏.‏

الإقرار‏:‏

27 - يثبت الشّرب أيضاً بإقرار الشّارب نفسه باتّفاق الفقهاء، وانظر ‏(‏حدود، إثبات‏)‏‏.‏

شروط إقامة الحدّ

28 - يشترط لإقامة حدّ الشّرب والسّكر شروط منها‏:‏

أ - الإمامة‏:‏ اتّفق الفقهاء على أنّ الّذي يقيم الحدّ هو الإمام أو من ولّاه الإمام‏.‏

انظر ‏(‏حدود‏)‏‏.‏

ب - أهليّة أداء الشّهادة للشّهود عند إقامة الحدّ‏.‏ انظر ‏(‏حدود‏)‏‏.‏

ج - أن لا يكون في تنفيذ حدّ الشّرب خوف الهلاك لأنّ هذا الحدّ شرع زاجراً لا مهلكاً‏.‏

انظر مصطلح جلد وحدود وزنىً وقذف‏.‏

كيفيّة الضّرب في حدّ الشّرب

29 - للضّرب في حدّ الشّرب كيفيّة خاصّة تنظر في مصطلح ‏(‏جلد، وحدود‏)‏‏.‏

سقوط الحدّ بعد وجوبه

30 - يسقط حدّ الشّرب بعد وجوبه بأمور تنظر في مصطلح ‏(‏حدود، وسقوط‏)‏‏.‏

سكران

انظر‏:‏ سكر‏.‏

سِكّة

التّعريف

1 - تطلق السِّكّة ‏"‏ بالكسر ‏"‏ لغةً على الزّقاق أو الطّريق المصطفّة من النّخيل، كما تطلق على حديدة منقوشة تطبع بها الدّراهم والدّنانير‏.‏

وتطلق كذلك على سكّة المحراث وهي الحديدة الّتي تحرث بها الأرض‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ استعمل الفقهاء السّكّة بمعنى الحديدة المنقوشة الّتي تطبع بها الدّراهم والدّنانير واستعملوها أيضاً بمعنى المسكوك من الدّراهم والدّنانير واستعملوها كذلك في الطّريق المستوى وفي الزّقاق‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - ما يتعلّق بالسّكّة بمعنى المسكوك من الدّراهم والدّنانير قد تقدّم بحث أحكامها في مصطلحات ‏(‏دراهم، ودنانير، وذهب‏)‏‏.‏ ويراجع كذلك مصطلحات ‏(‏فلوس، ونقود‏)‏‏.‏

3 - وأمّا ما يتعلّق بالسّكّة بمعنى الزّقاق أو الطّريق فقد بحثه الفقهاء في مباحث الجوار والشّفعة والقسمة، ويأتي تفصيلاً في مصطلح ‏(‏طريق‏)‏‏.‏

4 - أمّا السّكّة بمعنى الحديدة الّتي تطبع بها الدّراهم والدّنانير فقد نصّ الفقهاء على أنّ لإمام المسلمين ولاية ضرب الفلوس والدّراهم والدّنانير للنّاس في دار الضّرب وأن تكون بقيمة العدل في معاملاتهم تسهيلاً عليهم وتيسيراً لمعاشهم، ولا يجوز له أن يضرب المغشوش للحديث الصّحيح‏:‏ «من غشّنا فليس منّا» كما لا يجوز لغير الإمام أن يضرب لأنّه من الافتيات عليه ولأنّه مظنّة للغشّ والإفساد بتغيّر قيم الدّراهم والدّنانير ومقاديرها‏.‏ ولا يجوز للإمام أن يتّجر في الفلوس بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتّجر فيه، ويحرّم على النّاس الفلوس الّتي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها لأنّه إضرار بالنّاس وخسران عليهم بل يضرب النّحاس فلوساً بقيمتها من غير ربح فيها للمصلحة العامّة ويعطي أجرة الصّنّاع من بيت المال، فإنّ التّجارة فيها من قبيل أكل أموال النّاس بالباطل، لأنّه إن حرّم المعاملة بما في أيدي النّاس صارت عرضاً وسلعةً وإذا ضرب لهم فلوساً أخرى أفسد ما كان عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم بما ضربه بإغلاء سعرها‏.‏

وقد ورد النّهي عن كسر سكّة المسلمين النّافقة في معاملاتهم إلاّ إذا كانت زائفةً أو دخلها الغشّ‏.‏ يدلّ عليه حديث‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكّة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس»‏.‏

وعلّة النّهي أنّهم كانوا يقرضون الدّراهم والدّنانير ويأخذون أطرافها فيخرجونها عن السّعر الّذي يأخذونها به ويجمعون من تلك القراضة شيئاً كثيراً بالسّبك فيكون كسرها بخساً وتطفيفاً‏.‏

ومن الفقهاء من ذهب إلى أنّ علّة النّهي عن كسر السّكّة أن لا تعاد تبراً ولتبقى على حالها مرصدةً للنّفقة‏.‏ وقد ورد النّهي عن ذلك في قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏‏.‏

فقد كان قوم شعيب يكسرون الدّنانير والدّراهم‏.‏ يقول ابن العربيّ في تفسيره لهذه الآية‏:‏ ‏"‏ وكسر الدّنانير والدّراهم ذنب عظيم لأنّها الواسطة في تقدير قيم الأشياء والسّبيل إلى معرفة كميّة الأموال وتنزيلها في المعاوضات ‏"‏‏.‏

السُّكْنى

التّعريف

1 - السّكنى اسم مصدر من السّكن، وهو القرار في المكان المعدّ لذلك، والمسكن بفتح الكاف وكسرها، المنزل أو البيت، والجمع مساكن‏.‏

والسّكون ضدّ الحركة، يقال‏:‏ سكن بمعنى هدأ، وسكت‏.‏

واصطلاحاً هي المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدّوام‏.‏

طبيعة حقّ السّكنى

2 - من المسلّم به بين الفقهاء أنّ السّكنى منفعة من المنافع، وأنّها منفعة عرضيّة قائمة بالعين متعلّقة بها، وأنّ السّكنى لها وجود وإن كان لا يستمرّ زمناً طويلاً‏.‏

وعلى ذلك فحقّ السّكنى - لكونه حقّ منفعة - أعمّ وأشمل من حقّ الانتفاع، وأنّ الملك في حقّ السّكنى ينشأ عن عقد مملّك، كالوقف والإجارة والإعارة والوصيّة بالمنافع، فهو حقّ يمكّن صاحبه من مباشرته والانتفاع بنفسه، أو تمكين غيره من الانتفاع بعوض‏.‏

بخلاف حقّ الانتفاع، فإنّه ينشأ عن عقد، كهبة الدّار للسّكنى، أو إذن وإباحة فقط من المالك، فلا يصحّ لصاحبه أن يمكّن أحداً غيره من الانتفاع به‏.‏

حقّ اللّه وحقّ العبد في السّكنى‏:‏

3 - يتمثّل حقّ اللّه تعالى في السّكنى في كلّ ما لا يكون للعبد إسقاطه‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - حقّ السّكنى للمطلّقة رجعيّاً، لا يجوز إسقاطه، فيجب على الزّوج إسكانها في مكان تقضي فيه عدّتها، وهو المكان الّذي وجبت العدّة فيه‏.‏

وفي المطلّقات البائنات، والمتوفّى عنهنّ يكون حقّ السّكنى حقّاً للّه تعالى عند بعض الفقهاء، أو حقّاً للعبد عند فريق آخر منهم لكن الجميع يتّفقون على عدم جواز الخروج من المسكن الّذي ألزمت نفسها بالقرار فيه‏.‏

ب - وفي المختلعات اختلف الفقهاء في حقّ السّكنى، فيرى الجمهور أنّه لو شرط المخالع البراءة من السّكنى لم يجز الشّرط، إذ السّكنى في بيت الزّوج في العدّة حقّ للّه تعالى، فلا يجوز لأحد إسقاطه، لا بعوض ولا غيره‏.‏

وخالف الحنابلة مذهب الجمهور، وقالوا‏:‏ بجواز أن يخالع الرّجل امرأته الحامل على سكناها ونفقتها، ويبرأ منها‏.‏

وأمّا حقّ العبد في السّكنى فيتمثّل في كلّ تصرّف يكون القصد منه مصلحة العبد، كهبة السّكنى أو بيعها أو إجارتها، ويجب أن يكون جريان هذه التّصرّفات متّفقاً مع القواعد الشّرعيّة المنظّمة لها، لأنّ تنظيم هذه التّصرّفات حقّ من حقوق اللّه تعالى‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالسّكنى

أوّلاً‏:‏ السّكنى كحقّ على الغير

سكنى الزّوجة

4 - السّكنى للزّوجة على زوجها واجبة، وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء، لأنّ اللّه تعالى جعل للمطلّقة الرّجعيّة السّكنى على زوجها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏ فوجوب السّكنى للّتي هي في صلب النّكاح أولى‏.‏

ولأنّ اللّه تعالى أوجب المعاشرة بين الأزواج بالمعروف قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ومن المعروف المأمور به أن يسكنها في مسكن تأمن فيه على نفسها ومالها، كما أنّ الزّوجة لا تستغني عن المسكن، للاستتار عن العيون والاستمتاع وحفظ المتاع‏.‏

فلذلك كانت السّكنى حقّاً لها على زوجها، وهو حقّ ثابت بإجماع أهل العلم‏.‏

الجمع بين زوجتين في مسكن واحد أو في دار لكلّ واحدة بيت فيه

5 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز الجمع بين امرأتين في مسكن واحد، لأنّ ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف، ولأنّه يؤدّي إلى الخصومة الّتي نهى الشّارع عنها، ومنع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حقّ خالص لهما فيسقط برضاهما عند جمهور الفقهاء‏.‏

وذهب ابن عبد السّلام من المالكيّة إلى أنّ هذا الحقّ لا يسقط ولو رضيت الزّوجة به‏.‏

وأمّا الجمع بينهما في دار لكلّ واحدة من الزّوجتين بيت فيها فذهب إلى جواز ذلك الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو القول الرّاجح عند المالكيّة‏.‏

واشترط الجمهور لصحّة ذلك أن يكون لكلّ بيت مرافقه الخاصّة به، وغلق يغلق به، ولا يشترط رضاهما في الجمع بينهما‏.‏

وذهب بعض المالكيّة ‏"‏ وهو قول ضعيف في مذهبهم ‏"‏ إلى أنّه لا يجوز الجمع بينهما في هذه الدّار إلاّ برضاهما‏.‏ فإن أبين منه أو كرهته إحداهما فلا يصحّ الجمع بينهما‏.‏

الجمع بين الزّوجة وأقارب الزّوج في مسكن واحد

6 - المراد بأقارب الزّوج هنا الوالدان، وولد الزّوج من غير الزّوجة‏.‏

فالجمع بين الأبوين والزّوجة في مسكن واحد لا يجوز ‏"‏ وكذا غيرهما من الأقارب ‏"‏ ولذلك يكون للزّوجة الامتناع عن السّكنى مع واحد منهما، لأنّ الانفراد بمسكن تأمن فيه على نفسها ومالها حقّها، وليس لأحد جبرها على ذلك‏.‏

وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى التّفريق بين الزّوجة الشّريفة والوضيعة، وقالوا بعدم جواز الجمع بين الزّوجة الشّريفة والوالدين، وبجواز ذلك مع الزّوجة الوضيعة، إلاّ إذا كان في الجمع بين الوضيعة والوالدين ضرر عليها‏.‏

وإذا اشترط الزّوج على زوجته السّكنى مع الأبوين، فسكنت ثمّ طلبت الانفراد بمسكن فليس لها ذلك عند المالكيّة، إلاّ إذا أثبتت الضّرر من السّكن مع الوالدين‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كان عاجزاً لا يلزمه إجابة طلبها، وإن كان قادراً يلزمه‏.‏ وقيل لا يلزمه غير ما شرطته عليه‏.‏

وأمّا الجمع بين الزّوجة وولد الزّوج من غيرها في مسكن واحد، فلا يجوز باتّفاق الفقهاء إذا كان ولد الزّوج من غيرها كبيراً يفهم الجماع، لأنّ السّكنى معه فيها إضرار بالزّوجة، وهذا حقّ للزّوجة فيسقط برضاها‏.‏

وإن كان الولد صغيراً لا يفهم الجماع، فيرى الحنفيّة أنّ إسكانه معها جائز، وليس لها الحقّ في الامتناع من السّكنى معه‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ الزّوجة لا يجوز لها الامتناع من السّكنى مع ولد زوجها من غيرها إذا كانت تعلم به حال البناء‏.‏ فإن كانت لا تعلم به عند البناء بها، وكان له حاضنة فللزّوجة الحقّ في الامتناع من السّكنى معه‏.‏

وإن لم يكن لولد زوجها من غيرها حاضنة غير أبيه فليس لها الامتناع عن السّكنى معه‏.‏

خلوّ المسكن من أهل الزّوجة

7 - المراد بالأهل هنا الأبوان أو غيرهما من محارمها، وولدها من غير الزّوج‏.‏

فإذا أرادت الزّوجة أن تسكن أحداً من الأهل غير ولدها من غير الزّوج فليس لها ذلك‏.‏

وللزّوج منع الزّوجة من إسكانها أحداً من أهلها معها، لأنّ المنزل إمّا ملكه، أو له حقّ الانتفاع به، وحقّ الزّوج في زوجته من إسكان أقاربها معها يسقط برضاه، فإذا رضي الزّوج بسكنى أحد من أهلها معها فلا شيء في ذلك‏.‏

يقول الزّيلعيّ‏:‏ ‏"‏ وهذا لأنّهما يتضرّران بالسّكنى مع النّاس، فإنّهما لا يأمنان على متاعهما، ويمنعهما ذلك من كمال الاستمتاع والمعاشرة، إلاّ أن يختارا ذلك، لأنّ الحقّ لهما، فلهما أن يتّفقا عليه ‏"‏‏.‏

وإذا كان المسكن ملكاً لهما فلا يجوز للزّوج منع أهلها من السّكنى معها إذا أرادت ذلك‏.‏ وإن كانت تريد إسكان ولدها من غير الزّوج، فذهب الجمهور‏:‏ ‏"‏ الحنفيّة، والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّه لا يجوز لها إسكانه إلاّ برضا الزّوج‏.‏ فإن لم يرض فلا يجوز لها إسكانه معهما‏.‏ ولم يفرّق الجمهور بين علم الزّوج بوجود ولد لها وقت البناء، وعدم علمه، أو بين وجود حاضنة للولد أم لا‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجوز للزّوج أن يمنعها من إسكان ولدها من غيره إن كان يعلم به وقت البناء، أو كان لا يعلم به، ولا حاضن له، فإن كان لا يعلم به وله حاضن فليس للزّوجة أن تسكنه معها عندهم‏.‏

زيارة الأبوين أو المحارم للزّوجة في مسكنها

8 - يجوز لأبوي الزّوجة وولدها الكبير من غير الزّوج زيارتها في مسكنها الّذي يسكنها فيه الزّوج في كلّ جمعة مرّةً‏.‏ وأمّا ولدها الصّغير فله حقّ الدّخول في كلّ يوم لتتفقّد حاله، وأمّا غير الأبوين من المحارم فلهم حقّ زيارتها في كلّ شهر مرّةً‏.‏ وقيل في كلّ عام مرّةً، وهذا قول المالكيّة، وهو المفتى به عند الحنفيّة‏.‏

وقال الشّافعيّة - وهو قول بعض الحنفيّة - للزّوج منع أقارب المرأة من الدّخول عليها مع الكراهة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ ليس للزّوج منع أبويها من زيارتها، لما فيه من قطيعة الرّحم، لكن إن عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما، أو زيارة أحدهما فله المنع‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح ‏(‏زيارة‏)‏‏.‏

المسكن الشّرعيّ للزّوجة

9 - ذهب المالكيّة والحنابلة وأكثر الحنفيّة إلى أنّ المعتبر في المسكن الشّرعيّ للزّوجة هو سعة الزّوج وحال الزّوجة، قياساً على النّفقة باعتبار أنّ كلّاً منهما حقّ مترتّب على عقد الزّواج، ولمّا كان من المعتبر في النّفقة هو حال الزّوجين فكذلك السّكنى‏.‏ وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة - غير الشّيرازيّ إلى أنّ المعتبر في المسكن الشّرعيّ هو حال الزّوجة فقط‏.‏ على خلاف قولهم في النّفقة، لأنّ الزّوجة ملزمة بملازمة المسكن، فلا يمكنها إبداله‏.‏ فإذا لم يعتبر حالها فذلك إضرار بها، والضّرر منهيّ عنه شرعاً‏.‏ أمّا النّفقة فيمكنها إبدالها‏.‏ وذهب الشّيرازيّ من الشّافعيّة إلى أنّ المعتبر في تقدير المسكن هو سعة الزّوج فقط‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ‏}‏ وهاتان الآيتان في المطلّقة، فالزّوجة أولى‏.‏

قال‏:‏ إنّ النّفقة يفرّق فيها بين الموسر والمعسر، والواجب يكون بقدر حال المنفق يسراً وعسراً وتوسّطاً، كما جاء في الآية،كذلك السّكنى تكون على قدر يساره وإعساره وتوسّطه‏.‏

اختيار مكان السّكنى

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ للزّوج السّكنى بزوجته حيث شاء، غير أنّ الحنفيّة ينصّون على أن تكون السّكنى بين جيران‏.‏

وقال الفقهاء‏:‏ وإذا اشتكت الزّوجة من إضرار الزّوج بها يسكنها الحاكم بين قوم صالحين، ليعلموا صحّة دعواها‏.‏

سكنى المؤنسة

11 - المؤنسة عند الفقهاء‏:‏ هي الّتي تؤنس الزّوجة إذا خرج الزّوج ولم يكن عندها أحد‏.‏ والمؤنسة واجبة للزّوجة على زوجها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، كخوف مكانها أو خوفها على نفسها من عدوّ يتربّص بها‏.‏

هذا ما ذهب إليه الحنفيّة في المشهور عندهم والحنابلة‏.‏ ويستدلّون على ذلك بأنّ إلزام الزّوجة بالإقامة بمكان لا تأمن فيه على نفسها، ولا يوجد معها فيه مؤنس من المضارّة المنهيّ عنها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ‏}‏ كما أنّه ليس معه المعاشرة بالمعروف المأمور بها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏‏.‏

وحمل صاحب هذا القول من الحنفيّة قول من قال بعدم اللّزوم على ما إذا أسكنها بين جيران صالحين، وعلى عدم الاستيحاش‏.‏

قال الشرنبلالي‏:‏ قال في النّهر‏:‏ لم نجد من كلامهم ذكر المؤنسة، إلاّ أنّه يسكنها بين قوم صالحين، بحيث لا تستوحش‏.‏ وهذا ظاهر من وجوبها فيما إذا كان البيت خالياً من الجيران، ولا سيّما إذا كانت تخشى على عقلها من سعته‏.‏

والمقرّر عند الشّافعيّة - وبه قال بعض الحنفيّة‏:‏ أنّ المؤنسة ليست بلازمة على الزّوج‏.‏

سكنى المعتدّة عن طلاق رجعيّ

12 - المعتدّة عن طلاق رجعيّ تعتبر زوجةً، لأنّ ملك النّكاح قائم، فكان الحال بعد الطّلاق كالحال قبله، ولهذا اتّفق أهل العلم جميعاً على وجوب السّكنى فيها، لقوله تعالى‏:‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏‏.‏

سكنى المعتدّة عن طلاق بائن

13 - إن كانت المعتدّة عن طلاق بائن حاملاً فلا خلاف بين الفقهاء في وجوب السّكنى لها‏.‏ وذكر ابن قدامة وغيره أنّ هناك إجماعاً بين أهل العلم على وجوب السّكنى لها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏‏.‏ قال ابن العربيّ‏:‏ أطلق اللّه تعالى السّكنى لكلّ مطلّقة، من غير تقييد، فكانت حقّاً لهنّ، لأنّه لو أراد غير ذلك لقيّد، كما فعل في النّفقة، إذ قيّدها بالحمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ‏}‏

وإذا كانت المعتدّة عن طلاق بائن غير حامل فيرى الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد، وجوب السّكنى لها، وهو رأي عمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن عمر - رضي الله عنهم - وعائشة - رضي الله عنها - وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيّب، والقاسم، وسالم، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار‏.‏

والآية السّابقة عامّة في جميع المطلّقات، لأنّها ذكرت بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ وهذه انتظمت الرّجعيّة والبائن‏.‏ بدليل أنّ من بقي من طلاقها واحدة فعليه أن يطلّقها للعدّة إذا أراد طلاقها بالآية‏.‏

وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب - لمّا أخبره عن عبد اللّه أنّه طلّق زوجه وهي حائض‏:‏ ليطلّقها طاهراً أو حاملاً» ولم يفرّق بين التّطليقة الأولى والثّانية، فإذن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ قد تضمّن البائن والرّجعيّ‏.‏

واحتجّوا أيضاً بما رواه مالك في موطّئه من حديث فاطمة بنت قيس، وفيه‏:‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس لك عليه نفقة‏.‏ وأمرها أن تعتدّ في بيت أمّ مكتوم»، ولم يذكر في هذه الرّواية إسقاط السّكنى، فبقي على عمومه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم‏}‏‏.‏

وذهب الحنابلة في رواية أخرى إلى أنّ المعتدّة عن طلاق بائن غير حامل لا سكنى لها‏.‏ وبهذا قال ابن عبّاس، وجابر، وعطاء، وطاووس، والحسن وعمرو بن ميمون، وعكرمة، والشّعبيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، لكن إن أراد المطلّق إسكان البائن في منزله، أو غيره ممّا يصلح لها تحصيناً لفراشه، ولا محذور فيه لزمها ذلك، لأنّ الحقّ له فيه‏.‏ وذلك لما روي عن «فاطمة بنت قيس أنّها قالت‏:‏ إنّه طلّقها زوجها في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان أنفق عليها نفقة دون، فلمّا رأت ذلك قالت‏:‏ واللّه لأعلمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن كان لي نفقة أخذت الّذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئاً‏.‏ قالت‏:‏ فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا نفقة لك ولا سكنى»‏.‏

سكنى المعتدّة عن وفاة

14 - اختلف الفقهاء في وجوب السّكنى في مال المتوفّى أيّام عدّتها‏.‏

فذهب الحنفيّة - وهو قول للشّافعيّة، خلاف الأظهر - إلى أنّه لا سكنى لها على المتوفّى من ماله، وهو قول عبد اللّه بن عمر، وأمّ سلمة‏.‏

واستدلّوا بما أخرجه أحمد والنّسائيّ من حديث فاطمة بنت قيس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّما النّفقة والسّكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرّجعة»‏.‏ ويقول ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ نسخ ذلك بآية الميراث، بما فرض اللّه لهنّ من الرّبع والثّمن، ونسخ أجل الحول، بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ المنزل الّذي تركه الميّت لا يخلو من أن يكون ملكاً للميّت، أو ملكاً لغيره، فإن كان ملكاً لغيره لكونه مستأجراً أو معاراً فقد بطل العقد بموته فلا يحلّ لأحد سكناه، إلاّ بإذن صاحبه وطيب نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام»‏.‏ وإن كان ملكاً للميّت فقد صار للغرماء، أو للورثة، أو للوصيّة، ولا يحلّ للمتوفّى عنها زوجها مال الغرماء والورثة والموصى لهم، للحديث الّذي تقدّم‏.‏ وعلى ذلك فليس لها إلاّ مقدار ميراثها إن كانت وارثةً فقط‏.‏

وذهب الشّافعيّة على الأظهر أنّ لها السّكنى وكذلك المالكيّة بشرطين‏:‏

الشّرط الأوّل أن يكون الزّوج قد دخل بها‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ أن يكون المسكن للميّت إمّا بملك، أو بمنفعة مؤقّتة أو بإجارة وقد نقد كراءه قبل موته‏.‏ فإن كان نقد البعض فلها السّكنى بقدر ما نقد فقط‏.‏

وقال عبد الحقّ منهم‏:‏ إن كان أكراها سنةً معيّنةً فهي أحقّ بالسّكنى، وإن لم يكن نقد‏.‏

وقد حكى هذا القول من مذهب الحنفيّة وهو المرويّ عن ابن مسعود وسفيان الثّوريّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏ ولحديث «الفريعة بنت مالك أنّه لمّا توفّي عنها زوجها وأخبرت بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأرادت التّحوّل إلى أهلها وإخوتها قال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله»‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا سكنى للمتوفّى عنها زوجها إن كانت حاملاً روايةً واحدةً، وإن كانت حاملاً فعلى روايتين‏.‏

سكنى المعتدّة عن فسخ

15 - وذهب الحنفيّة والشّافعيّة - على الرّاجح في مذهبهم - إلى أنّ للمعتدّة عن فسخ من نكاح صحيح السّكنى‏.‏ ولم يفرّقوا بين ما إذا كان الفسخ بسببها، أو بسببه، وسواء أكان السّبب الّذي ترتّب الفسخ عليه معصيةً منها أم غير معصية، لأنّ القرار من البيت مستحقّ لها، ولأنّها معتدّة عن نكاح صحيح بفرقة في الحياة، فأشبهت المطلّقة تحصيناً للماء‏.‏

أمّا إذا كانت المعتدّة عن فسخ من نكاح فاسد أو وطء شبهة فلا سكنى لها، لأنّه لا سكنى في النّكاح الفاسد، فحال العقد كحال النّكاح، فلا سكنى لها على الواطئ أو الزّوج‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المعتدّة عن فسخ لها السّكنى في النّكاح الصّحيح والنّكاح الفاسد، وسواء اطّلع على موجب الفسخ في حياته أو بعد مماته، فمتى كانت المرأة محبوسةً عن النّكاح بسببه فلها السّكنى‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الموطوءة بشبهة لها السّكنى في صورتين‏:‏ إذا لم يكن لها زوج، أو كان لها زوج ولم يدخل بها‏.‏ ولها السّكنى على الزّوج إذا دخل بها، سواء حملت من الغالط أم لم تحمل، إلاّ إذا نفى الزّوج حملها بلعان، والتحق الحمل بالغالط، فإنّ السّكنى تكون عليه في هذه الحالة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ للمعتدّة عن فسخ السّكنى إذا كانت حاملاً‏.‏ أمّا إذا لم تكن حاملاً فلا سكنى لها‏.‏ ولو وطئت الرّجعيّة بشبهة، أو بنكاح فاسد، ثمّ بان بها حمل يمكن أن يكون من الزّوج أو من الواطئ فعليهما الأجرة حتّى تضع، والنّفقة بعد الوضع حتّى ينكشف الأب منهما، فيرجع من لم يثبت نسبه على الآخر بما أنفعه، لأنّه أدّى عنه ما يجب عليه‏.‏

السّكنى مع المعتدّة

16 - يرى المالكيّة والشّافعيّة أنّه لا يجوز للرّجل المطلّق مساكنة المعتدّة، ولم يفرّقوا في ذلك بين الرّجعيّة والبائن، إلاّ إذا كانت الدّار لهما ومعهما محرم، يشترط فيه عند الشّافعيّة أن يكون مميّزاً بصيراً ذكراً كان أو أنثى‏.‏

فإن كان الّذي معهما محرماً له، فيشترط كونه أنثى، ولا يصحّ أن يكون معهما محرم له إن كان ذكراً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز للرّجل الدّخول على مطلّقته الرّجعيّة ولو كان معها من يحفظها، ولا يباح له السّكن معها في دار جامعة لها وللنّاس‏.‏ وحجّتهم في تحريم الاختلاء بها أنّ الطّلاق مضادّ للنّكاح الّذي قد سبّب الإباحة والإبقاء للضّدّ مع وجود ضدّه‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّه إذا وجب الاعتداد في منزل الزّوج فلا بأس بأن يسكنا في بيت واحد إذا كان المطلّق عدلاً، سواء كان الطّلاق رجعيّاً أو بائناً أو ثلاثاً‏.‏ والأفضل أن يحال بينهما في البينونة بستر،إلاّ أن يكون الزّوج فاسقاً فيحال بينهما بامرأة ثقة تقدر على الحيلولة بينهما‏.‏ وإن تعذّر فلتخرج هي وتعتدّ في منزل آخر‏.‏ وكذا لو ضاق البيت‏.‏ وإن خرج هو كان أولى، ولهما أن يسكنا بعد الثّلاث، إذا لم يلتقيا التقاء الأزواج، ولم يكن فيه خوف فتنة‏.‏

وعند الحنابلة كما يظهر من كلامهم أنّ للمطلّق السّكنى مع المطلّقة الرّجعيّة، كما أنّ لها أن تتزيّن له، ولا تحصل الرّجعة بمباشرتها من القبلة ونحوها، لكن تحصل بالوطء، وأمّا البائن فلا سكنى لها، وتعتدّ حيث شاءت‏.‏ فلو كانت دار المطلّق متّسعةً لهما، وأمكنها السّكنى في غرفة منفردة، وبينهما باب مغلق ‏"‏ أي بمرافقها ‏"‏ وسكن الزّوج في الباقي جاز، فإن لم يكن بينهما باب مغلق ووجد معها محرم تتحفّظ به جاز، وإلاّ لم يجز‏.‏

سكن الحاضنة

17 - اختلف الفقهاء في سكنى الحاضنة، إذا لم تكن هي الأمّ في حال كونها في عصمة الأب‏.‏ فذهب بعضهم إلى أنّه تجب لها السّكنى في مال المحضون إن كان له مال، وإلاّ فعلى من تجب عليه نفقته‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا سكنى لها على من عليه النّفقة، وليس لها إلاّ أجرة الحضانة‏.‏ وانظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏حضانة‏)‏‏.‏

سكنى القريب

18 - تجب سكنى القريب المعسر العاجز عن الكسب حيث تجب نفقته بشروط‏.‏

وتفصيله ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

السّكنى باعتبارها مترتّبةً على تصرّف من التّصرّفات

19 - أ - إجارة السّكنى‏.‏ ب - بيان محلّ السّكنى‏.‏

السّكنى منفعة من المنافع لا بدّ لها من محلّ تستوفى منه‏.‏ وهذا المحلّ هو الدّور، وبيان المحلّ شرط من شروط صحّة الإجارة‏.‏

ويتحقّق بيانه ببيان العين الّتي وقعت الإجارة على منفعتها، كما إذا قال‏:‏ استأجرت هذه الدّار للسّكنى، أو يقول المؤجّر‏:‏ أجّرتك هذه الدّار‏.‏ فلو قال‏:‏ أجّرتك إحدى هاتين الدّارين للسّكنى لم يصحّ العقد، لجهالة محلّ العقد جهالةً مفضيةً للنّزاع‏.‏

ولا يشترط بيان من يسكنها، ولا ما سيعمل فيها، لأنّ العرف كاف في ذلك‏.‏ ولأنّ منافع السّكنى غير متفاوتة، والتّفاوت فيها متسامح فيه عرفاً‏.‏

يقول الكاسانيّ‏:‏ ولم يشترط بيان ما يعمل فيه، لأنّ الإجارة شرعت للانتفاع، والدّور والمنازل والبيوت ونحوها معدّة للانتفاع بها للسّكنى، ومنافع العقار المعدّ للسّكنى متقاربة ‏;‏ لأنّ النّاس لا يتفاوتون في السّكنى فكانت معلومةً من غير تسمية، وكذا المنفعة لا تتفاوت بكثرة السّكّان وقلّتهم إلاّ تفاوتاً يسيراً، وإنّه ملحق بالعدم، وكذا يكون له أن يسكن نفسه وأن يسكن غيره‏.‏ وتراعى في ذلك أحكام الإجارة، انظر ‏(‏إجارة‏)‏‏.‏

الوصيّة بالسّكنى

20 - الوصيّة بالسّكنى نوع من أنواع الوصيّة، وهي إمّا أن تكون مطلقةً عن الوقت أو مقيّدةً بوقت، وفي كلّ إمّا أن تكون لمعيّن، كزيد أو لغير معيّن، كفقراء المسلمين‏.‏

فإذا كانت الوصيّة بالسّكنى مطلقةً وهي لمعيّن، فيرى الحنفيّة‏:‏ أنّ للموصى له أن ينتفع بسكنى الدّار ما عاش، فإذا مات انتقلت السّكنى إلى ملك صاحب العين - وهم ورثة الموصي - لبطلانها بموت الموصى له‏.‏

ويشترط لانتفاع الموصى له بالسّكنى أن تكون العين الموصى بسكناها تخرج من ثلث مال الموصي، فإن لم يكن له سوى هذه الدّار الموصى بسكناها، فإنّ الموصى له يسكن ثلثها وورثة الموصي يسكنون ثلثيها، ما دام الموصى له حيّاً، فإن مات الموصى له، تردّ إليهم المنفعة كاملةً‏.‏ وإن كانت الوصيّة بالسّكنى مطلقةً ولغير معيّن ففي جوازها خلاف في المذهب الحنفيّ، فأبو حنيفة يرى عدم جواز هذه الوصيّة، ويرى صاحباه جوازها‏.‏

أمّا إذا كانت الوصيّة بالسّكنى مؤقّتةً بمدّة محدّدة، كسنة مثلاً فينظر‏:‏ هل للموصي مال آخر غير هذه الدّار الّتي أوصى بسكناها سنةً معيّنةً‏؟‏ فإن أجاز الورثة هذه الوصيّة سلّمت الدّار إلى الموصى له ليسكنها السّنة المذكورة، وإن لم يجزها الورثة قسمت سكنى الدّار بين الموصى له والورثة أثلاثاً، ثلثها للموصى له، وثلثاها لورثة الموصى‏.‏

وإن أوصى بسكناها سنةً غير معيّنة فإنّ الدّار تسلّم للموصى له ليسكنها إذا أجاز ذلك الورثة، فإن لم يجيزوها قسمت الدّار أثلاثاً يسكن الموصى له ثلثها لمدّة ثلاث سنوات‏.‏ فإذا انتهت المدّة المذكورة ردّ الثّلاث إلى الورثة، وتكون بذلك الدّار جميعها للورثة‏.‏

أمّا إن كان له مال غيرها، فإن كان الثّلث يسع هذه الوصيّة سلّمت الدّار إلى الموصى له ليسكنها السّنة المحدّدة، وإن كان الثّلث لا يسع هذه الوصيّة فإن أجازها الورثة سلّمت الدّار للموصى له ليسكنها السّنة المحدّدة وإن لم يجيزوها فإنّه يسكن بمقدار الثّلث حسب التّفصيل المتقدّم‏.‏

وإن عيّن الموصي السّنة الّتي أوصى بسكناها فمضت تلك السّنة قبل وفاة الموصي، فإنّ الوصيّة تبطل بفواتها، لأنّ الوصيّة لا تنتج أثرها إلاّ بعد موت الموصي‏.‏

وإذا مات في أثناء تلك السّنة المعيّنة فإنّ الوصيّة تبطل فيما مضى قبل وفاته‏.‏

أمّا ما يبقى من السّنة بعد وفاة الموصي فيكون للموصى له الحقّ في سكنى هذه العين‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الوصيّة بالسّكنى لدار معيّنة إن كانت مطلقةً فإنّ الموصى له يستحقّ الثّلث، وأمّا إذا كانت الوصيّة مؤقّتةً فينظر إن كان يحمل الثّلث قيمتها فيتعيّن تسليم الموصى به إلى الموصى له ليسكنه‏.‏ وإن لم يحمل الثّلث قيمة العين الموصى بسكناها خيّر الوارث بين أن يجيز الوصيّة أو يخلع ثلث جميع التّركة من الحاضر والغائب عوضاً أو عيناً أو غيرهما، ويعطيه للموصى له، وبهذا يكون للموصى له ثلث جميع ما تركه الموصِي‏.‏ ويرى الشّافعيّة أنّه إذا كانت الوصيّة للسّكنى مطلقةً عن التّأقيت بزمن معيّن، فإنّ الموصى له يملك سكن الدّار، وله حقّ تأجيرها وإعارتها لغيره، والإيصاء بمنفعتها وتورث عنه منفعتها بعد موته‏.‏ وإذا كانت مؤقّتةً بوقت معيّن، كسنة أو كحياة الموصى له، فإنّ الموصى له ينتفع بالسّكنى بنفسه المدّة المعيّنة أو مدّة حياته، وليس له أن يؤاجر أو أن يعير، ولا تورث عنه إذا مات، لأنّ الوصيّة بالسّكنى هنا من قبيل الإباحة وليست تمليكاً‏.‏ والقول بأنّه لا يجوز للموصى له تأجير الموصى به إذا كانت الوصيّة مقيّدةً بالاستعمال كالسّكنى، هو مذهب الحنفيّة أيضاً، وعلّة ذلك أنّ الملك هنا بالمجّان والتّمليك بالإجارة تمليك بعوض، وهذا أقوى من التّمليك مجّاناً، ومن ملك الأضعف لا يملك الأقوى‏.‏

وأمّا الحنابلة فيقولون‏:‏ إنّ الموصى له بسكنى الدّار تسلّم له الدّار ليسكنها، وذلك إذا كانت الوصيّة يسعها الثّلث، سواء أكانت الوصيّة مطلقةً أم كانت مؤقّتةً بمدّة محدّدة، أمّا إذا كانت الوصيّة لا يسعها الثّلث فإنّ الّذي يجوز منها هو ما يخرج من الثّلث فقط‏.‏

وأجاز الحنابلة للموصى له بسكنى الدّار أن يؤجّر ماله حقّ السّكنى فيه‏.‏

هبة السّكنى

21 - هبة الدّار للسّكنى إمّا أن يكون الإيجاب فيها بلفظ مطلق، كقول الواهب لشخص آخر وهبت لك داري للسّكنى، أو ملّكتك سكنى عمارتي‏.‏

ففي هذه الحالة تكون سكنى الدّار للموهوب له إذا تمّت الهبة مستوفيةً للشّروط والأركان اللّازم توافرها فيها‏.‏ ويجوز له كذلك أن يسكنها لغيره بالإجارة أو بالإعارة‏.‏

وملكيّة الموهوب له في هذه الحال للهبة غير لازمة، فيجوز للواهب الرّجوع في هبته‏.‏

وأمّا إن كان الإيجاب مقيّداً ففيه خلاف وتفصيل ينظر في ‏(‏هبة، وعمرى، ورقبى‏)‏‏.‏ واختلفوا في الوقت الّذي يجوز للواهب استرجاع السّكنى فيه إذا لم يقيّد بوقت‏.‏

فذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في أحد القولين عندهم إلى أنّه يجوز للواهب استرجاع العين الموهوبة للسّكنى أيّ وقت شاء، ولا تتقيّد في الرّجوع بوقت معيّن، لأنّها في الحقيقة من قبيل العاريّة‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة في قولهم الثّاني إلى أنّه لا يجوز للواهب هبة السّكنى أن يسترجع السّكنى إلاّ بعد موت الموهوب له‏.‏ فإذا مات الواهب قبل موت الموهوب له فإنّ المسكن يرجع إلى الورثة بعد موت الموهوب له‏.‏ وأصحاب هذا الرّأي يعتبرون المسكن كالمعمّر‏.‏

حيازة الدّار الموهوبة

22 - الملكيّة للدّار الموهوبة تثبت بالقبض بإذن الواهب عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وتثبت الملكيّة عند المالكيّة بمجرّد العقد، غير أنّهم يشترطون لتمام العقد الحيازة للدّار الموهوبة‏.‏

وعلى ذلك فإذا وهب شخص لآخر داراً فإنّ الموهوب له تثبت له ملكيّة الدّار، وتصبح نافذةً عند جميع الفقهاء بحيازة هذه الدّار، وهذا إذا كان الموهوب له بالغاً رشيداً‏.‏

فإذا كان محجوراً عليه فيقوم وليّه مقامه نيابةً عنه إذا لم يكن هو الواهب‏.‏

فإن كان الوليّ هو الواهب فإنّ المالكيّة يقولون تخلى الدّار الموهوبة للموهوب له، ولا يسكنها الوليّ، فإن سكنها بطلت الهبة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ الأب لو وهب ابنه الصّغير الدّار الّتي يسكنها، وكانت مشغولةً بمتاعه ‏"‏ أي الواهب ‏"‏ فإنّ هذا جائز له، ولا يمنع ذلك صحّة الهبة‏.‏ لكن لو أسكنها الأب لغيره بأجر فإنّ هذا لا يجوز‏.‏ ولو أسكنها لغيره بدون أجر جاز ذلك عندهم‏.‏

واتّفق المالكيّة والحنفيّة على أنّ المرأة لو وهبت دارها لزوجها، وهي ساكنة فيها، ولها أمتعة فيها، والزّوج ساكن معها فإنّ هذه الهبة صحيحة، ولا يجوز أن يهب الزّوج دار سكناه لزوجته عند المالكيّة، لأنّ السّكنى للرّجل لا للمرأة، فإنّها تبع لزوجها‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا بدّ من خلوّ الدّار الموهوبة من أمتعة غير الموهوب له، فإن كانت مشغولةً بها، واستمرّت فيها فإنّ الهبة لا تصحّ‏.‏

ولا فرق عندهم بين الهبة للأجنبيّ أو لولده الصّغير، ويقولون بجواز أن يسكن الأب في دار سكناه الموهوبة لولده المشمول بولايته، وعليه الأجرة بعد تمام الهبة‏.‏

وقف العين للسّكنى

23 - الوقف مشروع عند جمهور الفقهاء، وهو جائز لازم إن وقع، ووقف السّكنى مختلف فيه عندهم، لاختلافهم في وقف المنافع‏.‏

فيرى الجمهور من الشّافعيّة وبعض الحنابلة ومن قال بجواز الوقف من الحنفيّة إنّ وقف المنافع دون الذّات لا يصحّ‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ وقف السّكنى باعتبارها منفعةً من المنافع جائز وصحيح شرعاً‏.‏

واختلف المالكيّة والحنابلة في وقف الخلوّ، فذهب بعضهم إلى صحّة وقفه وذهب آخرون إلى عدم صحّة وقفه‏.‏ وانظر بحث ‏(‏خلوف /22، ووقف‏)‏‏.‏

سكنى المرتهن للعين المرهونة

24 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المرتهن لا يحلّ له سكنى الدّار المرهونة إذا لم يأذن الرّاهن، لأنّ المنفعة إنّما تملك بملك الأصل، والأصل مملوك للرّاهن، فالمنفعة تكون على ملكه، ولا يستوفيها غيره إلاّ بإيجابها له‏.‏ وعقد الرّهن لا يتضمّن إلاّ ملك اليد للمرتهن لا ملك المنفعة فكان ماله في الانتفاع بعد عقد الرّاهن كما كان قبله‏.‏

وهذا إذا لم يأذن له الرّاهن، فإن أذن الرّاهن للمرتهن بالسّكنى فقد اختلف الفقهاء في ذلك، وكذلك اختلفوا في سكنى الرّاهن للدّار المرهونة‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏رهن‏)‏‏.‏

غصب السّكنى

25 - ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أنّ الغصب يقع على السّكنى، لأنّها منفعة عقار وغصب العقار ممكن، فمن منع آخر من سكنى داره يكون غاصباً للسّكنى، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه اللّه من سبع أرضين» وفي لفظ‏:‏ «من غصب شبراً من الأرض»‏.‏

فهذا الحديث يدلّ بمنطوقه على إمكان وقوع الغصب على العقار، لأنّه أسند الغصب إلى الأرض، والإسناد دليل الوقوع وإمكانه فإذا ثبت وقوع الغصب على العقار فيثبت على منافعه الّتي منها سكنى الدّور‏.‏

ولأنّ الغصب يتحقّق بإثبات يد الغاصب وإزالة يد المالك، وهذا يتحقّق في الدّار والعقار‏.‏ فالغاصب يثبت يده المعتدية ويزيل يد المالك المحقّة، واليد هي القدرة على التّصرّف، وعدمها يتمثّل في عدم القدرة على التّصرّف‏.‏ فإن أثبت الغاصب يده فعليه الضّمان‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ السّكنى لا يتحقّق فيها الغصب، لأنّها منفعة وليست بمال، والغصب لا يكون إلاّ في المال‏.‏ فلو غصب داراً لم يضمن منافعها بمضيّ المدّة‏.‏

واستثنوا صوراً منها‏:‏ الوقف، ودار اليتيم، والمعدّ للاستغلال‏.‏

وانظر ‏(‏ضمان، وغصب‏)‏‏.‏

متى يتحقّق الغصب عند القائلين به

26 - المالكيّة يفرّقون بين الاستيلاء على الذّات والاستيلاء على المنفعة‏.‏

وترتّب على ذلك أنّ الغاصب للدّار لا يضمن الأجرة إلاّ إذا سكن بالفعل، أو أسكنها لغيره‏.‏ أمّا المتعدّي ‏"‏ وهو من يتصرّف في شيء بغير إذن صاحبه دون قصد التّملّك ‏"‏ فيجب عليه الأجرة في جميع الحالات لمالك المنفعة‏.‏

والشّافعيّة يرون أنّ الغصب يقع بدخول الدّار، وإزعاج سكّانها، سواء كان عنده نيّة في الاستيلاء عليها والحيازة لمنافعها أم لم يكن‏.‏

وهذا بناءً على قولهم بتحقّق الغصب عند إثبات اليد المتعدّية‏.‏ ودليل ثبوت اليد في هذه الحالة أنّه لو تنازع الخارج والدّاخل فيها حكم لمن هو فيها دون الخارج عنها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الغصب لا يتحقّق إلاّ بالدّخول للدّار بقصد الاستيلاء عليها، أمّا الدّخول بدون هذه النّيّة فلا يسمّى غصباً ولهذا قالوا في كتبهم‏:‏ ‏"‏ لا يحصل الغصب من غير استيلاء، فلو دخل أرض إنسان أو داره لم يضمنها بدخوله، سواء دخلها بإذنه أو بغير إذنه وسواء أكان صاحبها فيها أو لم يكن ‏"‏‏.‏

الصّلح على السّكنى عن دعوى غير منفعة

27 - يجوز الصّلح عن دعوى المال على السّكنى، وهذا الصّلح إجارة للمصالح به فيشترط فيها شروطها، لأنّ العين المدّعى بها أجرة للسّكنى ‏"‏ سواء أكان الصّلح عن إقرار أم عن إنكار أم عن سكوت المدّعى عليه ‏"‏‏.‏

ومثاله‏:‏ أن يقول‏:‏ صالحتك عن هذه الدّار على سكنى دار أخرى مدّةً معلومةً‏.‏

وعلى ذلك فإنّ المدّعي يترك الدّار المدّعى بها ويسكن الدّار المصالح عليها في هذه المدّة‏.‏

واشترط المالكيّة لصحّة الصّلح على السّكنى عدّة شروط، ذكرت عندهم في الصّلح على المنافع منها‏:‏ أن يكون المدّعى به معيناً، حاضراً، كأن يدّعي بهذا العبد، أو هذا الكتاب وهو بيده، فيصالحه بسكنى داره‏.‏ فلو كان المدّعى به ديناً في الذّمّة، كدراهم فلا يجوز الصّلح عليها بالسّكنى لأنّه فسخ دين في دين‏.‏

وذهب المتيطيّ من المالكيّة إلى عدم جواز الصّلح على سكنى دار‏.‏

واشترط الشّافعيّة والحنابلة ألاّ يكون الصّلح على سكنى العين المدّعى بها، ثمّ يرفعها إلى المدّعي‏.‏ وعليه فلو صالحه على أن يسكن المدّعى عليه الّذي في يده الدّار سنةً فيها‏.‏ ثمّ يدفعها إلى المدّعي لم يجز، لأنّ العين ومنافعها ملك للمقرّ له‏.‏ فكيف يتعوّض من ملكه أو منفعته‏.‏ فإذا أسكن المدّعي المقرّ - المدّعى عليه - فيكون هذا تبرّعاً من صاحب البيت بمنافعه له، فله أن يخرجه من الدّار متى شاء‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى جواز الصّلح على أن يسكن المدّعى عليه الّذي في يده الدّار سنةً أو أكثر أو أقلّ، بشرط أن تكون المدّة معلومةً‏.‏

والمدّعى عليه في هذه الحالة متصرّف في ملك نفسه باستيفاء المنفعة لنفسه في المدّة المشروطة، فكان كلّ واحد منهما متصرّفاً في ملك نفسه في زعمه، فيجوز‏.‏

الصّلح عن السّكنى

28 - يجوز الصّلح عن السّكنى على مال، أو على خدمة، أو غير ذلك من المنافع إذا كانا مختلفي الجنس‏.‏

وأمّا الصّلح عن السّكنى بالسّكنى ففيها خلاف ينظر في مصطلح ‏(‏صلح‏)‏‏.‏

سكنى أهل الذّمّة مع المسلمين

29 - سكنى أهل الذّمّة مع المسلمين إن كانت في جزيرة العرب فلا تجوز باتّفاق‏.‏

لما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ «أوصى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء قال‏:‏ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثّالث»، ولما رواه مالك في الموطّأ من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يبقينّ دينان في جزيرة العرب»‏.‏

وهذا الحكم وإن كان متّفقاً عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة، إلاّ أنّ الخلاف وقع في المراد بجزيرة العرب‏.‏

وأمّا سكنى أهل الذّمّة في غير جزيرة العرب فهي جائزة باتّفاق الفقهاء المذكورين، نظير ما يدفعونه من جزية، على التّفصيل الآتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ مذهب الحنفيّة‏:‏

30 - إذا أراد الذّمّيّ السّكنى مع المسلمين فإمّا أن تكون سكناه بالشّراء لدار، أو باستئجارها من المسلمين‏.‏

فإذا أراد الذّمّيّ أن يشتري داراً في المصر فلا ينبغي أن تباع منه، وإن اشتراها يجبر على بيعها من مسلم، وقيل‏:‏ لا يجبر‏.‏

وقال السّرخسيّ‏:‏ إن مَصّر الإمام في أراضيهم للمسلمين - كما مصّر عمر رضي الله عنه البصرة والكوفة - فاشترى بها أهل الذّمّة دوراً، وسكنوا مع المسلمين لم يمنعوا من ذلك فإنّا قبلنا منهم عقد الذّمّة، ليقفوا على محاسن الدّين، فعسى أن يؤمنوا، واختلاطهم بالمسلمين والسّكن معهم يحقّق هذا المعنى‏.‏

وقيّد شمس الأئمّة الحلوانيّ جواز السّكنى بقوله‏:‏ هذا إذا قلّوا، وكانوا بحيث لا تتعطّل جماعات المسلمين، ولا تتقلّل الجماعة بسكناهم بهذه الصّفة‏.‏ فأمّا إذا كثروا على وجه يؤدّي إلى تعطيل بعض الجماعات، أو تقليلها منعوا من السّكنى، وأمروا أن يسكنوا ناحيةً ليس فيها للمسلمين جماعة‏.‏ قال‏:‏ وهذا محفوظ عن أبي يوسف في الأمالي‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ قال الخير الرّمليّ‏:‏ إنّ الّذي يجب أن يعوّل عليه التّفصيل، فلا نقول بالمنع مطلقاً، ولا بعدمه مطلقاً، بل يدور الحكم على القلّة والكثرة، والضّرر والمنفعة، وهذا هو الموافق للقواعد الفقهيّة‏.‏

وإذا تكارى أهل الذّمّة دوراً في المصر فيما بين المسلمين ليسكنوا فيها جاز، لعود نفعه إلينا، وليروا أفعالنا فيسلموا‏.‏ ولا فرق بين الكراء والشّراء، فكلّ ما قيل في الشّراء يأتي هنا في الكراء‏.‏

واشترط المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لصحّة سكنى الذّمّيّ أن تكون حيث يناله حكم الإسلام، ولا يسكن الذّمّيّ حيث يخشى منه أن ينكث‏.‏

فإذا سكن في أماكن، بحيث لا تناله أحكامنا، فإنّه يؤمر بالانتقال‏.‏ فإن أبوا قوتلوا‏.‏

ونقل الحطّاب قول بعض المحقّقين‏:‏ إنّه إذا أسلم أهل جهة، وخفنا عليهم الارتداد إذا فقد الجيش، فإنّهم يؤمرون بالانتقال‏.‏

بيع مكان سكنى المفلس لحقّ غرمائه

31 - إذا كان للمفلس دار فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن تباع في دَيْنِه، ويكتري له بدلها، وذهب آخرون إلى أنّها لا تباع إلاّ إذا كانت نفيسةً، فتباع ويشترى ببعض ثمنها مسكن، ويصرف الباقي إلى الغرماء‏.‏ وانظر بحث ‏(‏إفلاس ف /49‏)‏‏.‏

حكم بيع محلّ السّكنى للحجّ

32 - الحجّ فرض على كلّ مسلم مكلّف حرّ بشرط الاستطاعة، وهي الزّاد والرّاحلة مع الرّفقة الآمنة، وعلى ذلك فهل يكون من كان له بيت يسكنه قادراً على الحجّ، بأن يبيعه ويحجّ بثمنه‏؟‏‏.‏

قال المالكيّة والحنابلة - وهو القول الأصحّ عند الشّافعيّة -‏:‏ إنّ السّكن إذا كان على قدر حاجته، بأن كان لا بدّ منه لسكناه، أو لسكنى من يجب عليه إسكانه لا يباع للحجّ‏.‏

وأمّا إذا كان المسكن فاضلاً عن حاجته، أو كان نفيساً، ولو أبدله لو في التّفاوت بنفقة الحجّ فإنّه يلزمه بيع الفاضل، أو استبدال النّفيس بمسكن يليق بمثله للحجّ‏.‏

والرّأي الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ لا يشترط كون الزّاد والرّاحلة والمؤنة فاضلاً عن مسكنه اللّائق المستغرق لحاجته‏.‏ ولهذا قالوا ببيع المسكن للحجّ، قياساً على بيعه في الدّين‏.‏

وقال الحنفيّة لا يلزمه بيع مسكنه لأجل الحجّ مطلقاً‏.‏

حرمة محلّ السّكنى

33 - جعل اللّه للمسكن حرمةً، فلا يجوز الدّخول فيه بغير إذن صاحبه‏.‏ يقول اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏‏.‏ ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد أهدرت عينه»‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الاستئذان ثلاث مرّات فإن أذن لك فادخل وإلاّ فارجع»‏.‏ فالسّنّة في الاستئذان ثلاث مرّات لا يزاد عليها، قال مالك‏:‏ الاستئذان ثلاث لا أحبّ أن يزيد أحد عليه، إلاّ من علم أنّه لم يسمع، فلا أرى بأساً أن يزيد إذا تيقّن أنّه لم يسمع‏.‏

وتنظر التّفاصيل في مصطلح ‏(‏استئذان‏)‏‏.‏

حكم دخول محلّ سكنى الغير بغير إذنه

34 - من دخل دار غيره بغير إذنه فلصاحب الدّار أن يأمره بالخروج من منزله، لأنّه متعدّ بدخول ملك غيره دون إذن، فكان لصاحب الدّار مطالبته بترك التّعدّي‏.‏

كما لو غصب منه شيئاً، فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه، لأنّ المقصود إخراجه وإزالة العدوان بغير القتل‏.‏ كما لو غصب منه شيئاً، فأمكن أخذه بغير القتل‏.‏

فإن لم يخرج بالأمر كان له دفعه بأسهل ما يعلم أنّه يندفع به، لأنّ المقصود دفعه، فإذا اندفع بقليل فلا حاجة إلى أكثر منه، فإن علم أنّه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد، لأنّ الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن لم يمكنه دفعه إلاّ بالقتل، أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله فله دفعه بما يقتله أو يقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر إن ثبت بالبيّنة أنّ الدّاخل كابر صاحب الدّار‏.‏ وأنّه لم يستطع دفعه إلاّ بذلك‏.‏ وهذا باتّفاق في الجملة‏.‏

35 - وإذا كان الأصل عدم جواز دخول بيت الغير إلاّ بإذن، فإنّه يستثنى من ذلك بعض الأحوال الخاصّة الّتي يجوز فيها الدّخول بغير إذن، ومن ذلك ما قال الحنفيّة‏:‏

أ - حالة الغزو، فإن كان البيت مشرفاً على العدوّ فللغزاة دخوله ليقاتلوا العدوّ منه دون حاجة إلى إذن صاحب البيت‏.‏

ب - من نهب من غيره ثوباً، ودخل النّاهب داره جاز لصاحب الثّوب أن يدخل دون إذن لأخذ حقّه‏.‏

ج - وقال الشّافعيّة‏:‏ من علم أنّ بيتاً يشرب فيه الخمر أو يضرب فيه الطّنبور فله الهجوم عليه وإزالة المنكر ولو بالقتال، وهذا عند أمن الفتنة‏.‏

حكم النّظر في محلّ سكنى الغير دون إذن

36 - قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ من اطّلع في بيت غيره - دون إذن - من ثقب أو كوّة فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يضمنها‏.‏

وكذا لو أصاب قرب عينه فجرحه، فسرى الجرح فمات فهدر، لخبر الصّحيحين المرفوع‏:‏ «لو اطّلع أحد في بيتك ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح»‏.‏

وعن سهل بن سعد «أنّ رجلاً اطّلع في جحر من باب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحكّ رأسه بمدرى في يده، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أعلم أنّك تنتظرني لطعنت به في عينيك» وإن ترك النّاظر الاطّلاع وانصرف لم يجز رميه، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يطعن الّذي اطّلع ثمّ انصرف، لأنّه ترك الجناية‏.‏ وليس لصاحب الدّار رمي النّاظر بما يقتله ابتداءً‏.‏ فإن رماه بحجر يقتله أو حديدة ثقيلة ضمنه، لأنّه إنّما له ما يقلع به العين المبصرة الّتي حصل الأذى منها، دون ما يتعدّى إلى غيرها، فإن لم يندفع المطّلع برميه بالشّيء اليسير جاز رميه بأكثر منه ولو أتى ذلك على نفسه‏.‏ وعلى صاحب الدّار ابتداءً أن يدفعه بأسهل ما يمكن دفعه، بأن يقول له انصرف أو يخوّفه أو يصيح عليه صيحةً مزعجةً‏.‏ فإن لم ينصرف أشار إليه يوهمه أنّه يحذفه‏.‏ فإن لم ينصرف فله حذفه حينئذ‏.‏

وظاهر كلام أحمد أنّه لا يعتبر في هذا أنّه لا يمكنه دفعه إلاّ بذلك، لظاهر الخبر‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ واتّباع السّنّة أولى‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ ولا يجوز رمي من نظر من الباب المفتوح، لأنّ التّفريط من صاحب الدّار بفتحه، وهو الظّاهر والأولى عند الحنابلة‏.‏

وعند بعض الحنابلة أنّ الباب المفتوح كالكوّة، والكوّة الكبيرة كالباب المفتوح، وفي معناها الشّبّاك الواسع، فلا يجوز رميه منه، لتقصير صاحب الدّار إلاّ أن ينذره فيرميه وهذا عند الشّافعيّة‏.‏

أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ يستوي أن يكون الثّقب صغيراً أو كبيراً أو كان الشّقّ واسعاً فلصاحب الدّار رميه‏.‏ وإن لم يكن في الدّار نساء، وكان فيها صاحب البيت وحده فالأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز رمي النّاظر إلاّ إذا كان صاحب الدّار مكشوف العورة، فله الرّمي‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ لصاحب الدّار رمي النّاظر، سواء أكان في الدّار نساء أم لم يكن لأنّه لم يذكر أنّه كان في الدّار الّتي اطّلع فيها على النّبيّ صلى الله عليه وسلم نساء، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنّ امرأً اطّلع عليك بغير إذن فحذفته‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ عامّ في الدّار الّتي فيها نساء وغيرها، وهو اختيار الأذرعيّ من الشّافعيّة‏.‏

واستثنى الشّافعيّة ما إذا كان النّاظر أحد أصول صاحب الدّار الّذين لا قصاص عليهم ولا حدّ قذف فلا يجوز رميه فإن رماه ضمن‏.‏

واستثنوا كذلك ما إذا كان النّظر مباحاً للنّاظر لخطبة ونحوها‏.‏

وحكم نظر النّاظر من سطح نفسه ونظر المؤذّن من المنارة كالنّظر من الكوّة على الأصحّ كما يقول الشّافعيّة، إذ لا تفريط من صاحب الدّار‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ من قصد عين النّاظر برميها بحصاة أو نخسها بعود ففقأها فالقصاص من عين المنظور له حقّ للنّاظر، وإن لم يقصد عين المنظور، بأن قصد مجرّد زجره فصادف عينه فلا قود على المنظور‏.‏ وفي غير النّاظر الدّية على عاقلة المنظور‏.‏

ويحمل حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رمي النّاظر على أنّه يرميه لينبّهه على أنّه فطن به، أو ليدفعه عن ذلك غير قاصد فقء عينه فانفقأت عينه خطأً فالجناح منتف، وهو الّذي نفي في الحديث‏.‏ ولأنّه لو نظر إنسان إلى عورة آخر بغير إذنه فلا يستبيح فقء عينه فالنّظر إليه في بيته أولى أن لا يستباح به‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ من نظر في بيت إنسان ففقأ صاحب البيت عينه لا يضمن إن لم يمكن تنحيته من غير فقئها، وإن أمكن ضمن‏.‏ ولو أدخل رأسه فرماه بحجر ففقأها لا يضمن إجماعاً، لأنّه شغل ملكه كما لو قصد أخذ ثيابه فدفعه حتّى قتله لم يضمن‏.‏