فصل: ما يحرم فعله بسبب الجنابة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


جنابة

التّعريف

1 - الجنابة لغة‏:‏ ضدّ القرب والقرابة، وجنب الشّيء، وتجنّبه، وجانبه، وتجانبه، واجتنبه‏:‏ بعد عنه، والجنابة في الأصل‏:‏ البعد، ويقال‏:‏ أجنب الرّجل وجنب - وزّان قرب - فهو جنب من الجنابة، قال الأزهريّ‏:‏ إنّما قيل له جنب، لأنّه نهي أن يقرب مواضع الصّلاة ما لم يتطهّر، فتجنّبها وأجنب عنها، أي تنحّى عنها، وقيل‏:‏ لمجانبته النّاس ما لم يغتسل‏.‏

والجنب يستوي فيه الذّكر والأنثى، والواحد، والتّثنية، والجمع، لأنّه على صيغة المصدر‏.‏ أمّا تعريفها اصطلاحاً فقد قال النّوويّ‏:‏ تطلق الجنابة في الشّرع على من أنزل المنيّ، وعلى من جامع، وسمّي جنباً، لأنّه يجتنب الصّلاة والمسجد والقراءة ويتباعد عنها، وفي نهاية المحتاج‏:‏ الجنابة شرعاً أمر معنويّ يقوم بالبدن يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحدث‏:‏

2 - الحدث لغة‏:‏ الحالة النّاقضة للطّهارة شرعاً‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ الوصف الشّرعيّ الحكميّ الّذي يحلّ في الأعضاء ويزيل الطّهارة، وقيل‏:‏ الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل‏.‏ فالحدث أعمّ من الجنابة، لأنّها تختصّ بما يوجب الغسل‏.‏ أمّا الحدث فيوجب الغسل أو الوضوء‏.‏

ب - الخبث‏:‏

3 - الخبث لغة‏:‏ النّجس‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ العين المستقذرة شرعاً أي النّجاسة الحقيقيّة‏.‏ فالفرق بينه وبين الجنابة أنّها نجاسة معنويّة‏.‏

ج - النّجس‏:‏

4 - النّجس‏:‏ اسم لكلّ مستقذر، والنّجس ضدّ الطّاهر، وهو لغة يعمّ الحقيقيّ والحكميّ، وعرفا يختصّ بالحقيقيّ كالخبث، فلا يقال في عرف الشّارع لمن وجب عليه الغسل إنّه نجس، فبينهما تباين‏.‏

د - الطّهارة‏:‏

5 - الطّهارة لغة‏:‏ النّزاهة والنّظافة، واصطلاحاً‏:‏ رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناها من حدث أو نجاسة بالماء أو بالصّعيد الطّاهر، فالطّهارة ضدّ الجنابة‏.‏

أسباب الجنابة

للجنابة سببان‏:‏

6 - أحدهما‏:‏ غيبوبة الحشفة أو قدرها من مقطوعها في قبل أو دبر امرأة أو رجل، وسواء أحصل إنزال أم لم يحصل، وهذا بالنّسبة للبالغين من الرّجال والنّساء باتّفاق، قال الشّافعيّ‏:‏ والعرب تسمّي الجماع - وإن لم يكن معه إنزال - جنابة، والجنابة تحصل لمن وقع الوطء منه، أو وقع عليه‏.‏

وزاد جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّ الجنابة تحصل بذلك ولو كان الوطء لغير مشتهى كميّتة وبهيمة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تحدث الجنابة بذلك إلاّ إذا كان مع الإيلاج إنزال، لأنّ الفعل في ذلك ليس نظير الفعل في فرج الإنسان في السّببيّة، وبالنّسبة لغير البالغين قال الشّافعيّة‏:‏ يجنب الصّغير بإيلاجه على الوصف السّابق، وكذا الصّغيرة تجنب بالإيلاج فيها، وسواء في هذا المميّز وغيره، وكذا قال الحنابلة، إلاّ أنّهم قيّدوا ذلك بما إذا كان غير البالغ ممّن يجامع مثله وهو ابن عشر وبنت تسع، قال الإمام أحمد‏:‏ إن كان الواطئ صغيراً، أو الموطوءة صغيرة وجب عليهما الغسل وقال‏:‏ إذا أتى على الصّبيّة تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل، وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون عليهما جميعاً الغسل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قيل له‏:‏ أنزل أو لم ينزل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب، وهو قول أصحاب الرّأي وأبي ثور، لأنّ الصّغيرة لا يتعلّق بها المأثم، ولا هي من أهل التّكليف، ولا تجب عليها الصّلاة الّتي تجب الطّهارة لها، لكن قال ابن قدامة‏:‏ لا يصحّ حمل كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب، واحتجّ بفعل عائشة رضي الله عنها وروايتها للحديث العامّ في الصّغير والكبير، ولأنّها أجابت بفعلها وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقولها‏:‏ «فعلته أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا» فكيف تكون خارجة منه‏.‏

وبقول الحنابلة قال أشهب وسحنون من المالكيّة‏.‏ لكن المعتمد عند المالكيّة أنّ الصّغير المطيق لا يجنب بإيلاجه أو الإيلاج فيه، وكذا الصّغيرة المطيقة لا تجنب بالإيلاج فيها، ويجنب البالغ بإيلاجه في الصّغيرة المطيقة، وتجنب البالغة بإيلاج الصّغير فيها إذا أنزلت، والقول بالغسل على الصّغير عند من قال به ليس معناه التّأثيم بتركه، بل معناه أنّه شرط لصحّة الصّلاة والطّواف، وهكذا‏.‏ ولذلك لو أخّره لم يأثم، وإنّما يبقى في حقّه شرطاً كما في حقّ الكبير، حتّى إذا بلغ قبل أن يغتسل كان حكم الحدث في حقّه باقيا ويلزمه الغسل، ويستوي في حصول الجنابة بالإيلاج أن يحدث ذلك مع نائم، أو مجنون، أو مكره‏.‏

أمّا بالنّسبة للخنثى المشكل ففيه خلاف ينظر في ‏(‏خنثى مشكل، وغسل‏)‏‏.‏

7- الثّاني‏:‏ خروج المنيّ بشهوة من رجل أو امرأة، سواء أكان عن احتلام أم استمناء،

أم نظر، أم فكر، أم تقبيل، أم غير ذلك، وهذا باتّفاق‏.‏

واشتراط الشّهوة لحصول الجنابة هو ما قال به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، ولذلك لا تحصل الجنابة عندهم بخروجه لمرض، أمّا الشّافعيّة فإنّ الجنابة تحصل عندهم بخروج المنيّ من مخرجه المعتاد مطلقا بشهوة أو غيرها‏.‏

وخروج المنيّ بالنّسبة للمرأة هو بروزه إلى محلّ استنجائها، وهو ما يظهر منها عند جلوسها لقضاء حاجتها وهذا ما قال به المالكيّة خلافاً لسند، وهو قول الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب، وقالوا بالنّسبة للبكر لو أنزلت المنيّ إلى فرجها لم يلزمها الغسل حتّى يخرج من فرجها، لأنّ داخل فرجها في حكم الباطن، ولهذا لا يلزمها تطهيره في الاستنجاء والغسل، فأشبه إحليل الذّكر‏.‏ ولم يفرّق الحنفيّة بين بكر وثيّب بل هي تجنب عندهم ولو لم يصل المنيّ إلى ظاهر فرجها‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ له داخلاً وخارجاً والخارج منهما له حكم الظّاهر‏.‏

ومن أحسّ بانتقال المنيّ عند الشّهوة فأمسك ذكره فلم يخرج المنيّ فلا يعتبر جنباً عند الجمهور، وهو ظاهر قول الخرقيّ من الحنابلة وإحدى الرّوايتين عن أحمد، والمشهور عند أحمد أنّه يعتبر جنباً ويجب عليه الغسل، وأنكر أن يكون الماء يرجع، ولم يذكر القاضي خلافاً في وجوب الغسل قال‏:‏ لأنّ الجنابة تباعد الماء عن محلّه، وقد وجد، فتكون الجنابة موجودة فيجب الغسل بها، ولأنّ الغسل تراعى فيه الشّهوة وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر‏.‏ واستدلّ ابن قدامة على عدم وجود الجنابة لعدم خروج المنيّ، بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الاغتسال على الرّؤية وفضخه بقوله‏:‏ «إذا رأت الماء» «و إذا فضخت الماء فاغتسل» فلا يثبت الحكم بدونه، ولا يجوز أن يسمّى جنباً لمجانبته الماء، ولا يحصل إلاّ بخروجه منه‏.‏

وكلام أحمد إنّما يدلّ على أنّ الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنّما يتأخّر‏.‏ ويعتبر جنباً من انتقل منيّه من محلّه بشهوة وخرج لا عن شهوة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي حنيفة ومحمّد خلافاً لأبي يوسف، إذ المعتبر عنده هو الانفصال مع الخروج عن شهوة‏.‏

ما ترتفع به الجنابة

8 - سبق بيان أنّ الجنابة تكون بالجماع ولو بدون إنزال أو بخروج المنيّ من غير جماع على التّفصيل السّابق، وترتفع الجنابة بما يأتي‏:‏

أ - بالغسل، والدّليل على وجوب الغسل من الجماع ولو من غير إنزال قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل» متّفق عليه وزاد مسلم‏:‏ «وإن لم ينزل»‏.‏ والمراد بالتقاء الختانين تغييب الحشفة في الفرج، وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة، قال النّوويّ‏:‏ وبهذا قال جمهور العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم، وكان الحكم على خلاف ذلك فنسخ كما قال النّوويّ وابن قدامة، والآثار الّتي رويت عن الصّحابة قالوها قبل أن يبلغهم النّسخ، قال سهل بن سعد السّاعديّ حدّثني أبيّ بن كعب أنّ «الماء من الماء» كان رخصة أرخص فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ نهى عنها‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏غسل‏)‏‏.‏

والدّليل على وجوب الغسل بنزول المنيّ من غير جماع ما روته أمّ سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ «جاءت أمّ سليم امرأة أبي طلحة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت‏.‏ قال‏:‏ نعم إذا رأت الماء»‏.‏

9 - ب - التّيمّم‏:‏ اختلف الفقهاء في أنّ التّيمّم هل هو رافع للجنابة، أو غير رافع لها‏؟‏ ومع اختلاف الفقهاء في ذلك إلاّ أنّهم متّفقون في الجملة على أنّ التّيمّم يباح به ما يباح بالغسل من الجنابة‏.‏

فذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة وابن تيميّة وهو رواية عن أحمد واختارها ابن الجوزيّ إلى أنّ التّيمّم يرفع الحدث، لأنّه بدل مطلق عن الماء، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسّه بشرته فإنّ ذلك خير» فقد سمّى التّيمّم وضوءا، والوضوء مزيل للحدث، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً»، والطّهور اسم للمطهّر فدلّ على أنّ الحدث يزول بالتّيمّم، إلاّ أنّ زواله مؤقّت إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء يعود الحدث السّابق، ولكن في المستقبل لا في الماضي، فلم يظهر في حقّ الصّلاة المؤدّاة، ولهذا يجوز التّيمّم قبل دخول الوقت عند الحنفيّة، وقال القرافيّ‏:‏ الحدث هو المنع الشّرعيّ من الصّلاة، وهذا الحدث الّذي هو المنع متعلّق بالمكلّف، وهو بالتّيمّم قد أبيحت له الصّلاة إجماعاً وارتفع المنع إجماعاً، لأنّه لا منع مع الإباحة فإنّهما ضدّان والضّدّان لا يجتمعان، وإذا كانت الإباحة ثابتة قطعا، والمنع مرتفع قطعا كان التّيمّم رافعاً للحدث قطعاً‏.‏ والمشهور عند المالكيّة والصّحيح عند الشّافعيّة وعند الحنابلة - غير من ذكر - أنّ التّيمّم لا يرفع الحدث، لأنّه بدل ضروريّ، أو طهارة ضرورة، ولما روى عمران بن حصين «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى ثمّ رأى رجلاً معتزلاً لم يصلّ مع القوم فقال‏:‏ يا فلان ما منعك أن تصلّي مع القوم‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه أصابتني جنابة ولا ماء فقال‏:‏ عليك بالصّعيد فإنّه يكفيك، فلمّا حضر الماء أعطى النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرّجل إناء من ماء فقال اغتسل به»‏.‏ وحديث «عمرو بن العاص حين تيمّم وهو جنب وصلّى بالنّاس فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ صلّيت بأصحابك وأنت جنب»‏.‏

وعن أبي ذرّ رضي الله عنه أنّه كان يعزب في الإبل وتصيبه الجنابة فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ «إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسّه بشرته»‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ وكلّها أحاديث صحاح ظاهرة في أنّ الحدث ما ارتفع، إذ لو ارتفع لم يحتج إلى الاغتسال‏.‏

ما يحرم فعله بسبب الجنابة

10 - يحرم على الجنب الصّلاة سواء أكانت فرضاً أم نفلاً، لأنّ الطّهارة شرط صحّة الصّلاة ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقبل صلاة بغير طهور»‏.‏

وهذا باتّفاق‏.‏ ويشمل ذلك سجدة التّلاوة وصلاة الجنازة‏.‏

11 - ويحرّم كذلك الطّواف فرضاً كان أو نفلاً، لأنّه في معنى الصّلاة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الطّواف بالبيت صلاة إلاّ أنّ اللّه أحلّ لكم فيه الكلام» ولذلك لا يصحّ الطّواف ممّن كان جنباً، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، أمّا عند الحنفيّة فإنّ طواف الجنب صحيح ولكن عليه بدنة، لأنّ الطّهارة في الطّواف عندهم ليست شرطاً وإنّما هي واجبة، وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال‏:‏ البدنة تجب في الحجّ في موضعين‏:‏ إذا طاف جنباً، والثّاني‏:‏ إذا جامع بعد الوقوف‏.‏

12 - ويحرم على الجنب مسّ المصحف بيده أو بشيء من جسده، سواء أكان مصحفاً جامعاً للقرآن، أم كان جزءاً أم ورقاً مكتوباً فيه بعض السّور، وكذا مسّ جلده المتّصل به، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمَسُّه إلاّ المُطَهَّرُونَ‏}‏ وفي كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم‏:‏ «أن لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر»‏.‏

13 - ويحرم على الجنب كذلك حمل القرآن إلاّ إذا كان بأمتعة، والأمتعة هي المقصودة، أو كان حمله لضرورة، كخوف عليه من نجاسة أو غير ذلك‏.‏

وأجاز الحنابلة حمله بعلّاقة، قال ابن قدامة‏:‏ يجوز حمل المصحف بعلّاقته وهذا قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء وطاوس والشّعبيّ والقاسم وأبي وائل والحكم وحمّاد ‏;‏ لأنّه غير ماسّ له كما لو حمله في رحله‏.‏

14 - ويحرم عند الحنفيّة مسّ كتب التّفسير، لأنّه يصير بمسّها ماسّاً للقرآن، وهو قول ابن عرفة من المالكيّة، والعبرة عند الشّافعيّة بالقلّة والكثرة، فإن كان القرآن أكثر كبعض كتب غريب القرآن حرم مسّه، وإن كان التّفسير أكثر لا يحرم مسّه في الأصحّ‏.‏

وأجاز ذلك المالكيّة - غير ابن عرفة - والحنابلة لأنّه لا يقع عليها اسم مصحف‏.‏

15 - ويحرم عند الحنفيّة وفي وجه للشّافعيّة والحنابلة مسّ الدّراهم الّتي عليها شيء من القرآن، لأنّ الدّراهم كالورقة الّتي كتب فيها قرآن، وكره ذلك عطاء والقاسم والشّعبيّ، وأجاز ذلك المالكيّة، وهو الأصحّ من وجهين مشهورين عند الشّافعيّة وفي وجه عند الحنابلة، لأنّه لا يقع عليها اسم المصحف فأشبهت كتب الفقه، ولأنّ في الاحتراز من ذلك مشقّة، والحاجة تدعو إلى ذلك، والبلوى تعمّ، فعفي عنه‏.‏

16 - ويحرم على الجنب أن يكتب القرآن، وذلك عند المالكيّة، وهو وجه مشهور عند الشّافعيّة، وقال محمّد بن الحسن‏:‏ أحبّ إليّ أن لا يكتب، لأنّ كتابة الحروف تجري مجرى القراءة‏.‏

17 - ويحرم على الجنب قراءة القرآن عند عامّة العلماء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلاّ الجنابة وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏

«لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن»‏.‏ وروي عن ابن عبّاس وسعيد بن المسيّب أنّه يجوز للجنب قراءة كلّ القرآن‏.‏ قال القاضي أبو الطّيّب وابن الصّبّاغ وغيرهما‏:‏ اختاره ابن المنذر ويجوز عند الجميع تلاوة ما لم يقصد به القرآن كالأدعية والذّكر البحت‏.‏

18 - ويحرم على الجنب دخول المسجد واللّبث فيه، وأجاز الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة عبوره، للاستثناء الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جُنُبَاً إلاّ عَابِري سَبيلٍ‏}‏‏.‏

ومنع الحنفيّة وهو المذهب عند المالكيّة العبور إلاّ بالتّيمّم‏.‏

19 - ويحرم الاعتكاف للجنب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جُنُبَاً إلاّ عَابِري سَبيلٍ‏}‏‏.‏

وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏اعتكاف‏)‏‏.‏

ما يستحبّ وما يباح للجنب

20 - يباح للجنب الذّكر والتّسبيح والدّعاء لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه»‏.‏

21 - يستحبّ للجنب إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب أو يطأ ثانياً أن يغسل فرجه ويتوضّأ وضوءه للصّلاة، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة، وهو قول عند المالكيّة‏:‏ لما روى مسلم‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضّأ وضوءه»‏.‏ وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أتى أحدكم أهله ثمّ أراد أن يعود فليتوضّأ بينهما وضوءاً» رواه مسلم‏.‏

وفي القول الثّاني للمالكيّة‏:‏ أنّ الوضوء للنّوم أو لمعاودة الأهل واجب، لأنّ الجنب مأمور بالوضوء قبل النّوم، فهل الأمر للإيجاب أو للنّدب‏؟‏ قولان‏.‏

وأجاز الحنفيّة للجنب إذا أراد النّوم أو معاودة الأهل الوضوء وعدمه، قال الكاسانيّ‏:‏ لا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ «يا رسول اللّه أينام أحدنا وهو جنب‏؟‏ قال‏:‏ نعم»، ويتوضّأ وضوءه للصّلاة، وله أن ينام قبل أن يتوضّأ وضوءه للصّلاة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمسّ ماء» ولأنّ الوضوء ليس بقربة بنفسه وإنّما هو لأداء الصّلاة، وليس في النّوم ذلك - وهو قول ابن المسيّب‏.‏

لكن استحبّ الحنفيّة بالنّسبة للأكل والشّرب لمن كان جنباً أن يتمضمض ويغسل يديه، وهو قول ابن المسيّب، وحكي ذلك عن الإمام أحمد وإسحاق، وقال مجاهد‏:‏ يغسل كفّيه‏.‏

22 - يصحّ من الجنب أداء الصّوم بأن يصبح صائماً قبل أن يغتسل فإنّ «عائشة وأمّ سلمة قالتا‏:‏ نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنباً من غير احتلام ثمّ يغتسل ثمّ يصوم»‏.‏

23 - يصحّ أذان الجنب مع الكراهة وهذا في الجملة‏.‏

وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏أذان‏)‏‏.‏

24 - تجوز خطبة الجمعة ممّن كان جنباً مع الكراهة عند المالكيّة، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وهو قول الإمام أحمد، وفي القديم عند الشّافعيّة، لأنّ الطّهارة في خطبة الجمعة سنّة عند هؤلاء وليست شرطاً، ولأنّها من باب الذّكر، والجنب لا يمنع من الذّكر، فإن خطب جنباً واستخلف في الصّلاة أجزأه، كما يقول المالكيّة، وقال الإمام أحمد فيمن خطب وهو جنب ثمّ اغتسل وصلّى بهم أجزأه، وفي الجديد عند الشّافعيّة وهو الأشبه بأصول مذهب الحنابلة، كما قال ابن قدامة أنّ الطّهارة من الجنابة شرط فلا تصحّ الخطبة بدونها‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏صلاة الجمعة، خطبة‏)‏‏.‏

أثر الجنابة في الصّوم

25 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنابة إذا كانت بالجماع عمداً في نهار رمضان فإنّها تفسد الصّوم، وتجب الكفّارة، وكذلك القضاء، إلاّ في قول عند الشّافعيّة أنّه لا يجب القضاء مع الكفّارة، لأنّ الخلل الحاصل قد انجبر بالكفّارة، وفي قول آخر للشّافعيّة أنّ القضاء لا يسقط إلاّ إن كفّر بالصّوم، ولكن الأصحّ عندهم أنّ القضاء واجب مع الكفّارة‏.‏

والدّليل على وجوب الكفّارة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول اللّه هلكت، قال‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تجد رقبة تعتقها‏؟‏ قال لا‏.‏ قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ قال لا‏.‏ قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستّين مسكينا‏؟‏ قال لا‏.‏ قال فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق‏:‏ المكتل - قال‏:‏ أين السّائل‏؟‏ فقال أنا‏.‏ قال‏:‏ خذ هذا فتصدّق به‏.‏ فقال الرّجل‏:‏ على أفقر منّي يا رسول اللّه‏؟‏ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي‏.‏ فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ثمّ قال‏:‏ أطعمه أهلك»‏.‏

والكفّارة فيما سبق إنّما تجب إذا كان الجماع عمداً، فإن كان نسياناً فلا تجب الكفّارة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وفي قول عن الإمام أحمد لكن ظاهر مذهب الحنابلة أنّ العمد والنّسيان سواء في وجوب الكفّارة والقضاء، كما أنّه لا يجب القضاء بالنّسيان أيضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وفي قول عند الحنابلة،

قال الحنفيّة‏:‏ عدم وجوب القضاء استحسان، لأنّه لم يفطر، والقياس وجوب القضاء‏.‏

وعند المالكيّة وهو القول الآخر للحنابلة يجب القضاء‏.‏

ولا تجب الكفّارة بالجماع عمداً في صوم غير رمضان وهذا باتّفاق‏.‏

26 - أمّا إذا كانت الجنابة بالإنزال بغير جماع في نهار رمضان‏.‏ فإن كان عن احتلام فلا يفسد الصّوم بالإجماع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث لا يفطرن الصّائم‏:‏ الحجامة، والقيء والاحتلام»‏.‏ ولأنّه لا صنع له فيه، وإن كانت الجنابة بالإنزال عن تعمّد بمباشرة فيما دون الفرج، أو قبلة، أو لمس بشهوة، أو استمناء فسد الصّوم عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وعامّة مشايخ الحنفيّة، وبفساد الصّوم يجب القضاء دون الكفّارة عند الحنفيّة والشّافعيّة، وظاهر مذهب الحنابلة، ومقابل المعتمد عند المالكيّة، والمعتمد عند المالكيّة وجوب الكفّارة مع القضاء، وهو قول للإمام أحمد، والرّجل والمرأة في ذلك سواء‏.‏ أمّا الجنابة الّتي تكون بالإنزال عن نظر أو فكر فلا تفسد الصّوم عند الحنفيّة، وهو المذهب عند الشّافعيّة والحنابلة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلّم»‏.‏

وفي قول عند الشّافعيّة‏:‏ إن كرّر النّظر فأنزل فسد صومه، وهو قول الإمام أحمد، وفي قول آخر عند الشّافعيّة‏:‏ إن اعتاد الإنزال بالنّظر فسد صومه، وحكي عن أبي حفص البرمكيّ من الحنابلة أنّه لو فكّر فأنزل فسد صومه، واختاره ابن عقيل‏.‏

وعند المالكيّة إن داوم الفكر أو النّظر فأنزل فعليه القضاء والكفّارة، وإن كانت عادته عدم الإنزال فأنزل فسد صومه، وفي وجوب الكفّارة وعدمها قولان، وإن لم يدم النّظر أو الفكر فأنزل فعليه القضاء فقط، إلاّ إذا كانت عادته الإنزال فقولان في الكفّارة وعدمها‏.‏

أثر الجنابة في الحجّ

27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنابة إذا كانت بجماع فإن كانت قبل الوقوف بعرفة فسد الحجّ وعليه المضيّ فيه والقضاء، وعليه بدنة عند الجمهور، وشاة عند الحنفيّة‏.‏

ويستوي في هذا الرّجل والمرأة، والعمد والنّسيان عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وفي القديم عند الشّافعيّة، وفي الجديد لا يفسد بالجماع نسياناً‏.‏

وإن كانت الجنابة بالجماع بعد الوقوف بعرفة فعند الحنفيّة لا يفسد الحجّ وعليه بدنة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحجّ عرفة» فمن وقف بعرفة فقد تمّ حجّه‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة في الجملة، إن كانت الجنابة بالجماع بعد الوقوف بعرفة وقبل التّحلّل الأوّل فسد الحجّ ويجب المضيّ فيه وعليه القضاء مع وجوب بدنة عند الحنابلة وشاة عند الشّافعيّة، وإن كانت الجنابة بعد التّحلّل الأوّل لم يفسد الحجّ عندهما وعليه كفّارة، قيل بدنة وقيل شاة‏.‏ ولا يفسد الحجّ بالجنابة بغير الجماع كأن كان بمباشرة أو قبلة أو لمس، وسواء أكانت الجنابة بذلك قبل الوقوف بعرفة أم بعده مع وجوب الكفّارة على الخلاف هل هي بدنة أو شاة، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وقد فصّل المالكيّة القول فقالوا‏:‏ إنّ الحجّ يفسد بالجنابة بالجماع ومقدّماته سواء أكان ذلك عمدا أم سهوا وذلك إن وقعت الجنابة على الوجه الآتي‏.‏

أ - إذا كانت قبل الوقوف بعرفة‏.‏

ب - إذا كانت في يوم النّحر ‏"‏ أي بعد الوقوف بعرفة ‏"‏‏.‏ ولكن قبل رمي جمرة العقبة وقبل الطّواف‏.‏ ولا يفسد الحجّ إن وقع الجماع أو مقدّماته يوم النّحر بعد رمي جمرة العقبة أو بعد الطّواف‏.‏ أو وقع الجماع أو مقدّماته بعد يوم النّحر ولو قبل الطّواف والرّمي وعليه الهدي‏.‏ وإذا فسد الحجّ عليه المضيّ فيه والقضاء‏.‏

والعمرة تفسد بما سبق بيانه في المذاهب قبل التّحلّل منها عند الجمهور، وعند الحنفيّة قبل أن يطوف أربعة أشواط، فإن كانت الجنابة بعد طواف أربعة أشواط فلا تفسد وعليه شاة‏.‏ وفي كلّ ما سبق تفصيلات كثيرة تنظر في ‏(‏حجّ، عمرة، إحرام‏)‏‏.‏

جناية

التّعريف

1 - الجناية في اللّغة الذّنب والجرم، وهو في الأصل مصدر جنى، ثمّ أريد به اسم المفعول، قال الجرجانيّ‏:‏ الجناية كلّ فعل محظور يتضمّن ضررا على النّفس أو غيرها، وقال الحصكفيّ‏:‏ الجناية شرعا اسم لفعل محرّم حلّ بمال أو نفس‏.‏

إلاّ أنّ الفقهاء خصّوا لفظ الجناية بما حلّ بنفس وأطراف، والغصب والسّرقة بما حلّ بمال‏.‏

وتذكر الجناية عند الفقهاء ويراد بها كلّ فعل محرّم حلّ بمال، كالغصب، والسّرقة، والإتلاف، وتذكر ويراد بها أيضا ما تحدثه البهائم، وتسمّى‏:‏ جناية البهيمة، والجناية عليها كما أطلقها بعض الفقهاء على كلّ فعل ثبتت حرمته بسبب الإحرام أو الحرم‏.‏

فقالوا‏:‏ جنايات الإحرام، والمراد بها كلّ فعل ليس للمحرم أو الحاجّ أن يفعله‏.‏

وعبّر عنها جمهور الفقهاء بممنوعات الإحرام أو محظوراته، أو محرّمات الإحرام،والحرم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الجريمة‏:‏

2 - الجرم والجريمة في اللّغة‏:‏ الذّنب، وفي الاصطلاح عرّفها الماورديّ بقوله‏:‏ الجرائم محظورات شرعيّة زجر اللّه تعالى عنها بحدّ أو تعزير، فالجريمة أعمّ من الجناية

الحكم التّكليفيّ

3 - كلّ عدوان على نفس أو بدن أو مال محرّم شرعاً‏.‏

الحكم الوضعيّ

4 - يختلف حكم الجناية بحسبها فيكون قصاصاً، أو دية، أو أرشا، أو حكومة عدل، أو ضمانا على حسب الأحوال، وقد يترتّب على ارتكاب بعض أنواع الجناية، الكفّارة أو الحرمان من الميراث‏.‏

أقسام الجناية

5 - قسّم الفقهاء الجناية إلى أقسام ثلاثة‏:‏

1 - الجناية على النّفس وهي القتل‏.‏

2 - الجناية على ما دون النّفس، وهي الإصابة الّتي لا تزهق الرّوح‏.‏

3 - الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه كالجناية على الجنين‏.‏

وبيان ذلك كما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ أقسام الجناية على النّفس

6 - ذهب أكثر أهل العلم إلى أنّ الجناية على النّفس تنقسم بحسب القصد وعدمه إلى‏:‏ عمد، وشبه عمد، وخطإ، فالتّقسيم عندهم ثلاثيّ‏.‏ وهو خماسيّ عند فقهاء الحنفيّة بزيادة‏:‏ ما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب‏.‏ وهي عند بعض فقهاء الحنابلة أربعة أقسام، لأنّهم يعتبرون ما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب قسماً واحداً‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ هذا القسم هو من الخطأ، فالتّقسيم عند جمهور الحنابلة أيضاً ثلاثيّ، وأنكر مالك في رواية شبه العمد، وقال‏:‏ القتل إمّا عمد وإمّا خطأ، لأنّه ليس في كتاب اللّه تعالى إلاّ العمد والخطأ، وجعل شبه العمد في حكم العمد، وروي عنه أنّه قال بشبه العمد وبيان كلّ من أقسام القتل كالآتي‏:‏

أ - القتل العمد‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في تعريف القتل العمد‏:‏ فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة، إلى أنّ القتل العمد هو الضّرب بمحدّد أو غير محدّد، والمحدّد، هو ما يقطع، ويدخل في البدن كالسّيف والسّكّين وأمثالهما ممّا يحدّد ويجرح، وغير المحدّد هو ما يغلب على الظّنّ حصول الزّهوق به عند استعماله كحجر كبير، أو خشبة كبيرة وبه قال النّخعيّ، والزّهريّ، وابن سيرين وحمّاد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى،وإسحاق‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القتل العمد هو أن يتعمّد ضرب المقتول في أيّ موضع من جسده بآلة تفرّق الأجزاء، كالسّيف، واللّيطة، والمروة والنّار، لأنّ العمد فعل القلب، لأنّه القصد، ولا يوقف عليه إلاّ بدليله، وهو مباشرة الآلة الموجبة للقتل عادة‏.‏

وهذا بخلاف المثقل فليس القتل به عمداً عنده‏.‏

وأمّا حكمه فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ موجب القتل العمد بشروطه‏:‏ القود، والإثم، وحرمان القاتل من أن يرث القتيل‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل عمد‏)‏‏.‏

ب - القتل شبه العمد‏:‏

8 - ذهب الشّافعيّة، والحنابلة، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ شبه العمد هو‏:‏ أن يقصد الفعل والشّخص، بما لا يقتل غالباً كالضّرب بالسّوط، والعصا الصّغيرة، فيؤدّي إلى موته، وهذا لأنّ معنى العمديّة قاصر في مثل هذه الأفعال، لأنّها لا تقتل عادة، ويقصد به غير القتل، كالتّأديب ونحوه، فكان شبه العمد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ شبه العمد أن يتعمّد الضّرب بما لا يفرّق الأجزاء كالحجر، والعصا،واليد‏.‏ وأمّا المالكيّة فلا يقولون بشبه العمد في قول، وعلى القول الآخر شبه العمد‏:‏ هو أن يقصد الضّرب ولا يقصد القتل، فالمشهور أنّه كالعمد، وقيل‏:‏ كالخطأ، وهناك قول ثالث‏:‏ وهو أنّه تغلّظ فيه الدّية‏.‏وموجبه الإثم والكفّارة ودية مغلّظة على العاقلة في قول جمهور الفقهاء‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل شبه عمد‏)‏‏.‏

ج - القتل الخطأ‏:‏

9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ القتل الخطأ هو أن لا يقصد الضّرب ولا القتل، مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب إنساناً، أو ينقلب النّائم على إنسان فيقتله‏.‏

وموجبه الدّية على العاقلة والكفّارة، وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل خطأ‏)‏‏.‏

د - القتل بالتّسبّب أو السّبب‏:‏

10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ القتل بالتّسبّب هو القتل نتيجة حفر البئر، أو وضع الحجر في غير ملكه وفنائه، وأمثالهما، فيعطب به إنسان ويقتل، وموجب ذلك الدّية على العاقلة لا غير، لأنّه متعدّ فيما وضعه وحفره، فجعل الحافر دافعاً موقعاً، فتجب الدّية على العاقلة، ولا يأثم فيه لعدم القصد، ولا كفّارة عليه، لأنّه لم يقتل حقيقة، وإنّما ألحق بالقاتل في حقّ الضّمان، فبقي ما وراء ذلك على الأصل، وبذلك قضى شريح بمحضر من الصّحابة من غير نكير‏.‏ وألحق المالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة القتل بسبب بالخطأ في أحكامه إذا لم يقصد به الجناية، فإن قصد به جناية فشبه عمد، وقد يقوى فيلحق بالعمد‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏القتل بالتّسبّب‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الجناية على ما دون النّفس

الجناية على ما دون النّفس إمّا أن تكون عمداً، أو خطأ‏.‏

أ - إذا كانت عمداً‏:‏

11 - يجب القصاص في الجناية على ما دون النّفس بقطع عضو، أو إحداث جرح، أو إزالة منفعة عمدا بشرائط خاصّة، ولا يكون فيما دون النّفس شبه عمد عند فقهاء الحنفيّة وبعض فقهاء الحنابلة، فما كان شبه عمد في النّفس فهو عمد فيما دون النّفس، لأنّ ما دون النّفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة عادة، فاستوت الآلات كلّها في الدّلالة على القصد، فكان الفعل عمداً محضاً‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية على ما دون النّفس‏)‏‏.‏

ب - إذا كانت خطأ‏:‏

12 - الجناية على ما دون النّفس إذا كانت خطأ ففيها الدّية، أو أرش، أو حكومة عدل على حسب الأحوال‏.‏ وفي شروط وجوب القصاص فيما دون النّفس وكيفيّة استيفائه، وكذلك في شروط وجوب الدّية، ومقدار ما يؤخذ من الدّية في كلّ نوع من الاعتداء على الأطراف خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية على ما دون النّفس‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه

13 - الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهو الجنين بأن ضرب حاملاً فألقت جنيناً ميّتاً، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه تجب فيه الغرّة وهي نصف عشر الدّية‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ وجوب الغرّة في الجنين استحسان، والقياس أن لا شيء على الضّارب، لأنّه يحتمل أن يكون حيّا وقت الضّرب، ويحتمل أنّه لم يكن، بأن لم تخلق فيه الحياة بعد، فلا يجب الضّمان بالشّكّ‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏جنين وحمل‏)‏‏.‏

جناية على ما دون النّفس

التّعريف

1 - الجناية في اللّغة الذّنب والجرم‏.‏ وقال الحصكفيّ‏:‏ الجناية شرعاً‏:‏ اسم لفعل محرّم حلّ بمال أو نفس، إلاّ أنّ الفقهاء خصّوا لفظ الجناية بما حلّ بنفس أو أطراف، والغصب والسّرقة بما حلّ بمال‏.‏

والجناية على ما دون النّفس كلّ فعل محرّم وقع على الأطراف أو الأعضاء، سواء أكان بالقطع، أم بالجرح، أم بإزالة المنافع‏.‏

الحكم التّكليفيّ

كلّ جناية على ما دون النّفس عمداً عدواناً محرّمة شرعاً‏.‏

الحكم الوضعيّ

2 - يختلف حكم الجناية باختلاف كونها عمدا أو خطأ، فإذا كانت عمدا فموجبها القصاص إذا توفّرت فيها شروط معيّنة يأتي ذكرها، والدّليل على ذلك الكتاب، والسّنّة، والإجماع، والمعقول‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكَتَبْنَا عليهم فيها أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ والعَينَ بالعَينِ والَأْنَف بالأَنْفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن اعْتَدَى عليكم فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَليكمْ‏}‏‏.‏

وأمّا السّنّة‏:‏ فما روى أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «كسرت الرّبيّع، وهي عمّة أنس بن مالك، ثنيّة جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك‏:‏ لا‏:‏ واللّه لا تكسر سنّها يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أنس، كتاب اللّه القصاص، فرضي القوم وقبلوا الأرش فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه»‏.‏

وأمّا الإجماع‏:‏ فقد أجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النّفس إذا أمكن‏.‏

وأمّا المعقول‏:‏ فلأنّ ما دون النّفس كالنّفس في الحاجة إلى حفظه، لأنّه خلق وقاية للنّفس فشرع الجزاء صوناً له‏.‏

وإذا كانت الجناية على ما دون النّفس خطأ أو عمداً غير مستجمع لسائر الشّروط الموجبة للقصاص فموجبها الدّية، أو الأرش، أو حكومة عدل، على حسب الأحوال‏.‏

فالجناية على ما دون النّفس قسمان‏:‏ الجناية الموجبة للقصاص، والجناية الموجبة للدّية وغيرها‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ الجناية على ما دون النّفس الموجبة للقصاص

3 - تكون الجناية على ما دون النّفس موجبة للقصاص إذا تحقّقت فيها الشّروط الآتية‏:‏

- 1 - أن يكون الفعل عمداً‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ العمد شرط من شروط وجوب القصاص في الجناية على ما دون النّفس‏.‏ واختلفوا فيما وراء ذلك‏:‏

فذهب فقهاء الحنفيّة، وأبو بكر، وابن أبي موسى من فقهاء الحنابلة إلى أنّه ليس فيما دون النّفس شبه عمد، فما كان شبه عمد في النّفس فهو عمد فيما دون النّفس، لأنّ ما دون النّفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة عادة فاستوت الآلات كلّها في الدّلالة على القصد، فكان الفعل عمداً محضاً‏.‏

ويشترط المالكيّة للقصاص فيما دون النّفس أن يكون الجرح ناتجا عن قصد الضّرب عداوة، فالجرح النّاتج عن اللّعب، أو الأدب لا قصاص فيه‏.‏

وعند الشّافعيّة كما يعتبر في القتل أن يكون عمداً محضاً، يعتبر ذلك في الطّرف أيضا، فلا يجب القصاص بالجراحات وإبانة الأطراف إذا كانت خطأ أو شبه عمد، ومن صور شبه العمد أن يضرب رأسه بلطمة أو حجر لا يشجّ غالباً لصغره، فيتورّم الموضع ويتّضح العظم‏.‏ وذهب جمهور الحنابلة إلى أنّ شبه العمد لا يوجب القصاص في الجناية على ما دون النّفس، وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالباً، مثل أن يضربه بحصاة لا توضح مثلها، فلا يجب القصاص، لأنّه شبه عمد‏.‏

- 2 - أن يكون الفعل عدواناً‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ العدوان شرط من شروط وجوب القصاص في الجناية على ما دون النّفس كما هو شرط في الجناية على النّفس، فإن لم يكن الجاني متعدّيا في فعله، فلا يقتصّ منه‏.‏ كأن يكون الجاني‏:‏

أ - غير أهل للعقوبة، لأنّ الأهليّة هي مناط التّكليف، ويعتبر الشّخص كامل الأهليّة بالعقل والبلوغ‏.‏

ب - إذا كان ارتكاب الفعل الضّارّ بحقّ أو شبهة‏.‏ فلا يقتصّ ممّن أقام الحدّ، أو نفّذ التّعزير، سواء أكان قتلا أم قطعا، ولا من الطّبيب بشروطه، لأنّ الغرض من فعل الطّبيب هو شفاء المريض لا الاعتداء عليه، ولا ممّن وجب عليه دفع الصّائل بشروطه‏.‏ ولا ممّن ارتكب الجناية بأمر من المجنيّ عليه عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، فمن قال لآخر‏:‏ اقطع يدي ولا شيء عليك، فقطع فلا شيء عليه مع الإثم عليهما‏.‏

ويرى المالكيّة أنّه يجب القصاص إن لم يستمرّ المقطوع على إبراء القاطع، بأن رجع عنه بعد القطع، أمّا إن استمرّ على الإبراء فليس على القاطع إلاّ الأدب، وقيل‏:‏ عليه الأدب مطلقا من غير تفصيل بين استمرار المقطوع على الإبراء والرّجوع عنه‏.‏

- 3 - كون المجنيّ عليه مكافئاً للجاني في الصّفات الآتية على الخلاف والتّفصيل الآتيين‏:‏

أ - التّكافؤ في النّوع ‏"‏ الذّكورة والأنوثة ‏"‏‏:‏

6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط التّكافؤ بين الجاني والمجنيّ عليه في النّوع، فيجري القصاص بين الذّكور والإناث بنفس أحكام القصاص في النّفس‏.‏

ويرى الحنفيّة في المشهور والمعتمد أنّه يجب أن يكافئ المجنيّ عليه الجاني في النّوع، لأنّه يشترط للتّكافؤ أن يكون أرش كلّ من الجاني والمجنيّ عليه مساويا للآخر، فيجري القصاص عندهم فيما دون النّفس إذا كانا ذكرين أو أنثيين، فإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، فلا قصاص، لأنّ المماثلة في الأروش شرط وجوب القصاص فيما دون النّفس‏.‏

وفي الواقعات‏:‏ لو قطعت المرأة يد رجل كان له القود، إذا رضي بالقود عن الأرش‏.‏

ونصّ محمّد على جريان القصاص بين الرّجل والمرأة في الشّجاج الّتي يجري فيها القصاص، لأنّه ليس في الشّجاج تفويت منفعة، وإنّما هو إلحاق شين وقد استويا فيه، وفي الطّرف تفويت المنفعة، وقد اختلفا فيه‏.‏

ب - التّكافؤ في الدّين‏:‏

7 - اختلفت آراء الفقهاء في اشتراط التّكافؤ في الدّين‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجري القصاص فيما دون النّفس بين المسلم والذّمّيّ لتساويهما في الأرش، وكذا بين المسلمة والكتابيّة‏.‏

وعند المالكيّة على المشهور من المذهب أنّه لا يقتصّ من الكافر للمسلم ‏;‏ لأنّ جناية النّاقص على الكامل كجناية ذي يد شلّاء على صحيحة في الجراح، ويلزمه للكامل ما فيه من الدّية، وإلاّ فحكومة عدل إن برئ على شين، وإلاّ فليس على الجاني إلاّ الأدب‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّه لا يشترط في قصاص الطّرف التّساوي في البدل، فيقطع الذّمّيّ بالمسلم، ولا عكس فيه‏.‏ وكذلك قال الحنابلة‏:‏ من لا يقتل بقتله، لا يقتصّ منه فيما دون النّفس له أيضا كالمسلم مع الكافر، لأنّه لا تؤخذ نفسه بنفسه، فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن‏.‏

ج - التّكافؤ في العدد‏:‏

8 - ذهب المالكيّة، والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّ الجماعة إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص وجب القصاص على جميعهم، لما روي أنّ شاهدين شهدا عند عليّ رضي الله عنه على رجل بالسّرقة فقطع يده، ثمّ جاءا بآخر، فقالا‏:‏ هذا هو السّارق وأخطأنا في الأوّل فردّ شهادتهما على الثّاني وغرّمهما دية الأوّل‏.‏ وقال‏:‏ لو علمت أنّكما تعمّدتما لقطعتكما‏.‏ فأخبر أنّ القصاص على كلّ واحد منهما لو تعمّد، ولأنّه أحد نوعي القصاص، فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس‏.‏

هذا إذا لم يتميّز فعل كلّ واحد، أمّا لو تميّز‏:‏ بأن قطع هذا من جانب، وهذا من جانب حتّى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض اليد، وأبانها الآخر، فلا قصاص على واحد منهما عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ويلزم كلّ واحد منهما حكومة عدل تليق بجنايته‏.‏

وينبغي أن يبلغ مجموع الحكومتين دية اليد‏.‏

والأظهر عند المالكيّة أنّه يقتصّ من الكلّ إذا كانوا ثلاثة‏:‏ قلع أحدهم عينه، والآخر قطع يده، والثّالث رجله ولم يعلم من الّذي فقأ العين وقطع الرّجل أو اليد، ولا تمالؤ بينهم، اقتصّ من كلّ بفقء عينه، وقطع يده ورجله، وأمّا إن تميّزت جناية كلّ واحد ولا تمالؤ بينهم، فيقتصّ من كلّ منهم كفعله بالمجنيّ عليه‏.‏

وأمّا عند الحنفيّة والحنابلة في وجه فلا تقطع الأيدي باليد، وتجب الدّية، كالاثنين إذا قطعا يد رجل، أو رجله، أو أذهبا سمعه أو بصره، أو قلعا سنّا له أو نحو ذلك من الجنايات الّتي على الواحد منهما فيها القصاص لو انفرد بها، فلا قصاص عليهما، بل عليهما الأرش نصفين، وإن كانوا أكثر من اثنين فعليهم الأرش على عددهم بالسّواء، وهذا لأنّ المماثلة فيما دون النّفس معتبرة، ولا مماثلة بين الأيدي ويد واحدة لا في الذّات ولا في المنفعة ولا في الفعل‏.‏ وبه قال الحسن والزّهريّ، والثّوريّ وابن المنذر‏.‏

- 4 - المماثلة في المحلّ‏:‏

9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يشترط لوجوب القصاص في الجناية على ما دون النّفس توافر التّماثل بين محلّ الجناية، ومحلّ القصاص، فلا يؤخذ شيء من الأصل إلاّ بمثله، فلا تؤخذ اليد إلاّ باليد، لأنّ غير اليد ليس من جنسها، فلم يكن مثلا لها، إذ التّجانس شرط للمماثلة، وكذا الرّجل، والإصبع، والعين، والأنف ونحوها‏.‏ وكذا لا تؤخذ الأصابع إلاّ بمثلها، فلا تؤخذ الإبهام إلاّ بالإبهام، ولا السّبّابة إلاّ بالسّبّابة، وهكذا في الباقي، لأنّ منافع الأصابع مختلفة، فكانت كالأجناس المختلفة‏.‏ وكذلك لا تؤخذ اليمين باليسار في كلّ ما انقسم إلى يمين ويسار، كاليدين والرّجلين، والأذنين والمنخرين وغيرها‏.‏

وكذلك في الأسنان لا تؤخذ الثّنيّة إلاّ بالثّنيّة لاختلاف منافعها، فإنّ بعضها قواطع، وبعضها ضواحك، واختلاف المنفعة بين الشّيئين يلحقهما بجنسين، ولا مماثلة عند اختلاف الجنس، وكذلك الحكم في الأعلى والأسفل من الأسنان للتّفاوت بين الأعلى والأسفل، وهو الحكم في كلّ ما انقسم إلى أعلى وأسفل‏.‏

- 5 - المماثلة في المنفعة‏:‏

10 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لوجوب القصاص في الجناية على ما دون النّفس أن تتماثل منافعها عند الجاني وعند المجنيّ عليه، وإذا اتّحد الجنس في الأطراف كاليد والرّجل لم يؤثّر التّفاوت في الصّغر والكبر، والطّول والقصر، والقوّة والضّعف، والضّخامة والنّحافة ‏;‏ لأنّ الاختلاف في الحجم لا يؤثّر في منافعها‏.‏

واختلف الفقهاء في بعض الأعضاء على تفصيل يأتي عند الكلام عن أنواع الجناية على ما دون النّفس من الأعضاء والأطراف‏.‏

إمكان الاستيفاء من غير حيف

11 - يتحقّق هذا بأن يكون القطع من مفصل، فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف، وقد روى نمر بن جابر عن أبيه «أنّ رجلاً ضرب على ساعده بالسّيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدّية، قال‏:‏ إنّي أريد القصاص، قال‏:‏ خذ الدّية بارك اللّه لك فيها»، ولم يقض له بالقصاص‏.‏ وهذا ما لم يرض المجنيّ عليه بالقطع من مفصل أدنى من محلّ الجناية على ما سيأتي في الجناية على العظم‏.‏

أنواع الجناية على ما دون النّفس

إذا كانت عمداً‏:‏

12 - الجناية على ما دون النّفس إمّا أن تكون بالقطع والإبانة، أو بالجرح الّذي يشقّ، أو بإزالة منفعة بلا شقّ ولا إبانة‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ أن تكون الجناية بالقطع والإبانة

13 - يجب القصاص بالجناية على الأعضاء والأطراف إذا أدّت إلى قطع العضو أو الطّرف بشروط معيّنة، وفيما يلي تفصيل الكلام على كلّ‏:‏

1 - الجناية على اليدين والرّجلين‏:‏

14 - اتّفق الفقهاء على أنّه تؤخذ اليد باليد، والرّجل بالرّجل، ولا يؤثّر التّفاوت في الحجم وغير ذلك من الأوصاف، فتؤخذ اليد الصّغيرة بالكبيرة، والقويّة بالضّعيفة، ويد الصّانع بيد الأخرق‏.‏ ولكن يؤثّر الكمال والصّحّة على الوجه التّالي‏:‏

أ - الكمال‏:‏

15 - اختلفت آراء الفقهاء في قطع كاملة الأصابع من يد أو رجل بناقصة الأصابع، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، لعدم المماثلة وعدم المساواة، فلو قطع من له خمس أصابع، يد من له أقلّ من ذلك لم يجز القصاص، لأنّها فوق حقّه، ولا ذات أظفار بما لا أظفار لها، لزيادتها على حقّه، ولا بناقصة الأظفار، سواء رضي الجاني بذلك أم لا، لأنّ الدّماء لا تستباح بالإباحة‏.‏

وإن كانت أظفار المقطوعة من يد أو رجل خضراء أو رديئة أخذت بها السّليمة، لأنّ ذلك علّة ومرض، والمرض لا يمنع القصاص‏.‏

ثمّ اختلفوا فيرى الشّافعيّة وهو وجه لدى الحنابلة أنّ للمجنيّ عليه أن يقطع من أصابع الجاني بعدد أصابع المجنيّ عليه المقطوعة، أو يأخذ ديتها‏.‏

وأمّا إن كان النّقصان في طرف الجاني، فالمجنيّ عليه بالخيار إن شاء اقتصّ وإن شاء أخذ أرش الصّحيح، لأنّ حقّه في المثل هو السّليم، ولا يمكنه استيفاء حقّه من كلّ وجه مع فوات السّلامة، وأمكنه من وجه، ولا سبيل إلى إلزام الاستيفاء حتماً، لما فيه من إلزام استيفاء حقّه ناقصاً، وهذا لا يجوز فيخيّر‏:‏ إن شاء رضي بقدر حقّه واستوفاه ناقصاً، وإن شاء عدل إلى بدل حقّه وهو كمال الأرش، وليس للمجنيّ عليه أن يأخذه، ويضمّنه النّقصان، خلافاً للشّافعيّة والحنابلة في وجه‏.‏

وفرّق المالكيّة بين النّقصان إذا كان أصبعاً، أو أكثر من أصبع فقالوا‏:‏ إن نقصت يد المجنيّ عليه أو رجله أصبعاً، فالقود على الجاني الكامل الأصابع ولا غرامة عليه، حتّى ولو كان الأصبع النّاقص إبهاما‏.‏

وإن كان النّاقص أكثر من أصبع بأن نقصت اليد أصبعين أو أكثر فلا يقتصّ من الكاملة‏.‏

وكذلك تقطع يد أو رجل الجاني النّاقصة أصبعا بالكاملة بلا غرم عليه لأرش الأصبع، إذ هو نقص لا يمنع المماثلة‏.‏ ولا خيار للمجنيّ عليه في هذه الحالة‏.‏

ويخيّر إن نقصت يد الجاني أو رجله أكثر من أصبع في القصاص، وأخذ الدّية، وليس له أن يقتصّ ويأخذ أرش النّاقص‏.‏

وأمّا النّاقصة بالنّاقصة، فقد صرّح الحنابلة وهو مقتضى قواعد المذاهب الأخرى، بأنّه تؤخذ إذا تساوتا فيه، بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع من يد المجنيّ عليه، لأنّهما تساوتا في الذّات والصّفة، فأمّا إن اختلفا في النّقص، بأن يكون المقطوع من يد أحدهما الإبهام، ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجز القصاص، لعدم المساواة‏.‏

ب - الصّحّة‏:‏

16 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلّاء وإن رضي الجاني، لأنّ الشّلّاء لا نفع فيها سوى الجمال، فلا يؤخذ بها ما فيه نفع، والواجب في الطّرف الأشلّ حكومة عدل‏.‏

واختلفوا في قطع الشّلّاء بالصّحيحة، وقطع الشّلّاء بالشّلّاء على أقوال‏:‏

ففي قطع الشّلّاء بالصّحيحة‏:‏ يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ المجنيّ عليه بالخيار إن شاء أخذها، فذلك له، ولا شيء له غيرها، وإن شاء عفا، وأخذ دية يده‏.‏

وعند المالكيّة والشّافعيّة في وجه لا تقطع يد الجاني إذا كانت شلّاء باليد الصّحيحة، لأنّ الشّرع لم يرد بالقصاص فيها‏.‏ وعليه العقل أي الدّية‏.‏

وعند الحنابلة وهو الوجه الصّحيح عند الشّافعيّة أنّها تقطع إن قال أهل الخبرة والبصر، بأنّه ينقطع الدّم، ولا تقطع إن قالوا‏:‏ لا ينسدّ فم العروق بالحسم، ولا ينقطع الدّم، وتجب دية يده‏.‏

وفي قطع الشّلّاء بالشّلّاء‏:‏ ذهب المالكيّة، والشّافعيّة في وجه إلى أنّه لا تقطع، لأنّ الشّلل علّة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن‏.‏

ويرى الحنابلة وهو الصّحيح لدى الشّافعيّة أنّهما إن استويا في الشّلل، أو كان شلل يد القاطع أكثر قطعت بها بشرط أن لا يخاف نزف الدّم‏.‏

وإن كان الشّلل في يد المقطوع أكثر لم يقطع بها‏.‏

وذهب جمهور الحنفيّة إلى أنّه لا قصاص بين الأشلّين، سواء أكانت المقطوعة يده أقلّ شللا أم أكثرهما، أم هما سواء، لأنّ بعض الشّلل في يديهما يوجب اختلاف أرشيهما، وذلك يعرف بالحزر والظّنّ، فلا تعرف المماثلة‏.‏

وقال زفر من الحنفيّة‏:‏ إن كانا سواء ففيهما القصاص، وإن كانت يد المقطوعة يده أقلّ شللا كان بالخيار، وإن شاء قطع يد القاطع، وإن شاء ضمّنه أرش يده شلّاء، وإن كانت يد المقطوعة يده أكثر شللاً، فلا قصاص وله أرش يده‏.‏

2 - الجناية على العين‏:‏

17 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجناية على العين بالقلع موجبة للقصاص، للآية الكريمة ‏{‏وكَتَبْنَا عليهمْ فيها أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ والعَينَ بالعَينِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، ولأنّها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص فيها كاليد، وإليه ذهب مسروق، الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ والنّخعيّ، والزّهريّ، والثّوريّ، وإسحاق، وأبو ثور، كما روي أيضاً عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ وتؤخذ عين الشّابّ بعين الشّيخ، وعين الصّغير، بعين الكبير، لأنّ التّفاوت في الصّفة لا يمنع القصاص، لكن إن كان الجاني قد قلع عينه بأصبعه لا يجوز للمجنيّ عليه أن يقتصّ بإصبعه، لأنّه لا يمكن المماثلة فيه‏.‏ وأمّا أخذ العين السّليمة بالمريضة، فقد ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه تؤخذ العين السّليمة بالضّعيفة الإبصار‏.‏

وقد ذهب الحنفيّة - في الأرجح - إلى أنّه لو فقأ شخص عينا حولاء، وكان الحول لا يضرّ ببصره يقتصّ منه، وإلاّ ففيه حكومة عدل‏.‏

وعن أبي يوسف لا قصاص في العين الحولاء مطلقاً‏.‏ وعند الحنفيّة لو جنى على عين فيها بياض يبصر بها، وعين الجاني كذلك فلا قصاص بينهما، ولو فقأ عين رجل، وفي عين الفاقئ بياض ينقصها، فللرّجل أن يفقأ البيضاء، أو أن يأخذ أرش عينه‏.‏

وعند الشّافعيّة لا تؤخذ العين السّليمة بالحدقة العمياء‏.‏

جناية الأعور صحيح العينين وعكسها

18 - إذا قلع الأعور العين اليمنى لصحيح العينين، ويسرى الفاقئ ذاهبة، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يقتصّ منه، ويترك أعمى، وإليه ذهب مسروق والشّعبيّ، وابن سيرين، وابن مغفّل، والثّوريّ، وابن المنذر‏.‏

وفصّل المالكيّة فقالوا‏:‏ إن فقأ أعور من سالم مماثلته فالمجنيّ عليه بالخيار‏:‏ إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ دية كاملة، وإن فقأ غير مماثلته فنصف دية فقط في مال الجاني، وليس للمجنيّ عليه القصاص، لانعدام محلّه، وإن فقأ الأعور عيني السّالم عمدا فالقصاص في المماثلة لعينه، ونصف الدّية في العين الّتي ليس له مثلها‏.‏

وعند الحنابلة، إن قلع الأعور عين صحيح فلا قود، وعليه دية كاملة، لأنّه روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما، فصار إجماعاً‏.‏ ولأنّه لم يذهب بجميع بصره، فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين‏.‏ وصرّح بعض العلماء كالحسن والنّخعيّ بأنّه إن شاء المجنيّ عليه أخذ دية كاملة، وإن شاء اقتصّ، وأعطاه نصف دية‏.‏

وإن قلع الأعور عيني صحيح فقد صرّح القاضي من الحنابلة بأنّ المجنيّ عليه بالخيار إن شاء اقتصّ ولا شيء له سوى ذلك، لأنّه أخذ جميع بصره وإن شاء أخذ دية واحدة وهو الصّحيح، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وفي العينين الدّية»‏.‏

وإذا فقأ صحيح العينين العين السّالمة من عين أعور‏:‏

فذهب المالكيّة وهو وجه لدى الحنابلة إلى أنّ للمجنيّ عليه القود بأخذ نظيرتها من صحيح العينين من غير زيادة، أو أخذ الدّية كاملة، لأنّ عينه بمنزلة عينين‏.‏

وذهب الحنابلة في المذهب إلى أنّ له القصاص من مثلها، ويأخذ نصف الدّية، لأنّه ذهب بجميع بصره، وأذهب الضّوء الّذي بدله دية كاملة، وقد تعذّر استيفاء جميع الضّوء، إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة، ولا أخذ يمنى بيسرى، فوجب الرّجوع ببدل نصف الضّوء‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل أنّه ليس له إلاّ القصاص من غير زيادة أو العفو على الدّية كما لو قطع الأشلّ يدا صحيحة، ولعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعَينَ بالعَينِ‏}‏‏.‏

ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص بغير خلاف، لتساويهما من كلّ وجه، إذا كانت العين مثل العين في كونها يميناً أو يساراً، وإن عفا إلى الدّية فله جميعها‏.‏

19 - أمّا الأجفان، والأشفار، فلا قصاص فيها عند الحنفيّة والمالكيّة، إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا بالدّية والمالكيّة بحكومة عدل‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة فيها القصاص، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُروحَ قِصَاصٌ‏}‏، ولأنّه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ويؤخذ جفن البصير بجفن البصير والضّرير، وجفن الضّرير بكلّ واحد منهما لأنّهما تساويا في السّلامة من النّقص‏.‏

3 - الجناية على الأنف‏:‏

20 - الجناية على المارن - وهو ما لان من الأنف - موجب للقصاص عند الأئمّة الأربعة، للآية الكريمة‏:‏ ‏{‏والأنْفَ بالأنْفِ‏}‏، ولأنّ استيفاء المثل فيه ممكن، لأنّ له حدّاً معلوماً وهو ما لان منه، وإن قطع المارن كلّه مع قصبة الأنف، ففي المارن القصاص، وفي القصبة حكومة عدل إذ لا قصاص في العظم ولكن في المارن قصاص‏.‏

وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يؤخذ الأنف الكبير بالصّغير، والأقنى بالأفطس، وأنف صحيح الشّمّ بالأخشم الّذي لا يشمّ، لأنّ ذلك لعلّة في الدّماغ، والأنف صحيح‏.‏

وكذلك يؤخذ الصّحيح بالمجذوم ما لم يسقط منه شيء، لأنّ ذلك مرض، فإن سقط منه شيء، يقطع منه ما كان بقي من المجنيّ عليه إن أمكن عند الشّافعيّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ المجنيّ عليه بالخيار‏:‏ إن شاء قطع مثل ما بقي منه، أو أخذ أرش ذلك‏.‏

وفصّل البغويّ من الشّافعيّة فقال‏:‏ يؤخذ الأنف السّليم بالمجذوم إن كان في حال الاحمرار، وإن اسودّ فلا قصاص، لأنّه دخل في حدّ البلى، وإنّما تجب فيه الحكومة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان أنف القاطع أصغر، خيّر المقطوع أنفه الكبير إن شاء قطع، وإن شاء أخذ الأرش، وكذا إذا كان قاطع الأنف أخشم، أو أصرم الأنف، أو بأنفه نقصان من شيء أصابه، فإنّ المقطوع مخيّر بين القطع وبين أخذ دية أنفه‏.‏

ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر، ولا يؤخذ العكس، ويؤخذ الحاجز بالحاجز، لأنّه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حدّ‏.‏

وفي قطع بعض المارن القصاص عند الشّافعيّة والحنابلة، وقدّر ذلك بالأجزاء دون المساحة، وقال الحنفيّة‏:‏ لا قصاص فيه لتعذّر استيفاء المثل‏.‏

4 - الجناية على الأذن‏:‏

21 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الأذن تؤخذ بالأذن، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأُذنَ بالأذنِ‏}‏‏.‏ ولأنّها تنتهي إلى حدّ فاصل، فأشبهت اليد، ولا فرق بين الكبيرة والصّغيرة‏.‏

ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم الفرق بين أذن السّميع والأصمّ، لتساويهما، فإنّ ذهاب السّمع نقص في الرّأس، لأنّه محلّه، وليس بنقص فيها، كما نصّ عند الشّافعيّة على أخذ الأذن الشّلّاء بغيرها، لبقاء منفعتها بجمع الصّوت‏.‏

فإن قطع بعضها، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يقتصّ في بعض الأذن، ويرى الحنفيّة أنّ فيه القصاص إن كان له حدّ يعرف وتمكن فيه المماثلة، وإلاّ سقط القصاص‏.‏

وتؤخذ الصّحيحة بالمثقوبة، لأنّ الثّقب ليس بعيب، وإنّما يفعل في العادة للقرط والتّزيّن به، فإن كان الثّقب في غير محلّه، أو كانت أذن القاطع مخرومة، والمقطوعة سالمة، فذهب الحنفيّة إلى أنّ المجنيّ عليه بالخيار إن شاء قطع، وإن شاء ضمّنه نصف الدّية، وإن كانت المقطوعة ناقصة كانت له حكومة عدل‏.‏

وعند الشّافعيّة تؤخذ المخرومة بالصّحيحة، ويؤخذ من الدّية بقدر ما ذهب من المخرومة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ تؤخذ المخرومة بالصّحيحة، ولا تؤخذ الصّحيحة بها، لأنّ الثّقب إذا انخرم صار نقصا فيها، والثّقب في غير محلّه عيب‏.‏

أمّا الأذن المستحشفة ‏(‏اليابسة‏)‏ فتؤخذ بالصّحيحة، وكذلك الصّحيحة تؤخذ بها في الأظهر عند الشّافعيّة وهو وجه عند الحنابلة، لأنّ المقصود منها جمع الصّوت، وحفظ محلّ السّمع والجمال، وهذا يحصل بها، كحصوله بالصّحيحة بخلاف سائر الأعضاء‏.‏

ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة وهو وجه آخر عند الحنابلة لا تؤخذ الصّحيحة بالمستحشفة، لأنّها ناقصة، فتكون كاليد الشّلّاء، وسائر الأعضاء‏.‏

5 - الجناية على اللّسان‏:‏

22 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الصّحيح من المذهب والحنابلة - وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة - إلى أنّه يؤخذ اللّسان باللّسان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُروحَ قِصَاصٌ‏}‏‏.‏ ولأنّ له حدّاً ينتهي إليه، فاقتصّ منه كالعين، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس، لأنّه أفضل منه، ويجوز العكس برضى المجنيّ عليه عند الشّافعيّة والحنابلة، ولا يجوز عند المالكيّة‏.‏ وذهب الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - إلى أنّه لا قصاص في اللّسان، ولو قطع من أصله، وذلك لعسر استقصاء اللّسان من أصله‏.‏

6 - الجناية على الشّفة‏:‏

23 - يرى الشّافعيّة في الصّحيح من المذهب والحنابلة وجوب القصاص في الشّفة مطلقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُروحَ قِصَاصٌ‏}‏‏.‏ ولأنّ لها حدّاً ينتهي إليه، يمكن القصاص منه، فوجب كاليدين‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب القصاص في الشّفة إذا قطعها جميعاً، للمساواة، وإمكان استيفاء المثل‏.‏

7 - الجناية على السّنّ‏:‏

24 - اتّفق الفقهاء على وجوب القصاص في الجناية على السّنّ إذا قلعت‏.‏

وذهب الجمهور إلى وجوب القصاص في الجناية على السّنّ إذا كسرت، لقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏والسِّنَّ بالسِّنِّ‏}‏، ولأنّ «الرّبيّع كسرت سنّ جارية فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص» كما تقدّم، ولأنّه يمكن استيفاء المثل فيه، فإن قلعت تقلع، وإن كسرت تبرد بقدره تحقيقا للمساواة، أمّا لو كانت السّنّ بحال لا يمكن بردها فلا قصاص فيها وتجب الدّية، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا قصاص في السّنّ إذا كسرها، بناء على عدم وجوب القصاص في كسر العظام إلاّ إذا أمكن فيها القصاص فإنّه يجب لأنّ السّنّ عظم مشاهد من أكثر الجوانب ولأهل الصّنعة آلات قطّاعة يعتمد عليها في الضّبط فلم تكن كسائر العظام‏.‏

ولا اعتبار بالكبر والصّغر، والطّول والقصر، لاستوائهما في المنفعة، وتؤخذ الثّنيّة بالثّنيّة، والنّاب بالنّاب، ولا يؤخذ الأعلى بالأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، ولا تؤخذ السّنّ الصّحيحة بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصّحيحة‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب القصاص في السّنّ الزّائدة إذا كان للجاني زائدة مثلها‏.‏ ويرى الحنفيّة أنّه ليس فيها إلاّ حكومة عدل‏.‏

8 - الجناية على ثدي المرأة‏:‏

25 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه تقطع حلمة المرأة بحلمة المرأة، لأنّ لها حدّا معلوما، فيمكن استيفاء المثل فيها، ولا قصاص في ثدييها، لأنّه ليس لهما مفصل معلوم، فلا يمكن استيفاء المثل‏.‏

وعند الشّافعيّة قال النّوويّ‏:‏ تقطع حلمة المرأة بحلمة المرأة، وفي ‏"‏ التّتمّة ‏"‏ وجه أنّه إذا لم يتدلّ الثّدي، فلا قصاص، لاتّصالها بلحم الصّدر، وتعذّر التّمييز، والصّحيح الأوّل، قال البغويّ‏:‏ ولا قصاص في الثّدي، لأنّه لا يمكن المماثلة، وللمجنيّ عليها أن تقتصّ في الحلمة، وتأخذ حكومة الثّدي، ولك أن تقول‏:‏ المماثلة ممكنة، فإنّ الثّدي هذا الشّاخص، وهو أقرب إلى الضّبط من الشّفتين والأليتين ونحوهما‏.‏

وتقطع حلمة الرّجل بحلمة الرّجل إن أوجبنا فيها الحكومة أو الدّية، وتقطع حلمة الرّجل بحلمة المرأة وبالعكس، إن أوجبنا في حلمة الرّجل الدّية، فإن أوجبنا الحكومة، لم تقطع حلمتها بحلمته وإن رضيت، كما لا تقطع صحيحة بشلّاء، وتقطع حلمته بحلمتها إن رضيت، كما تقطع الشّلّاء بالصّحيحة إذا رضي المستحقّ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ في قطع الثّديين الدّية سواء أبطل اللّبن، أو فسد، أم لا‏.‏ وفي قطع حلمتي الثّديين الدّية إذا بطل اللّبن أو فسد‏.‏ وزاد المالكيّة أنّ في انقطاع اللّبن أو فساده بغير قطع للثّديين، أو للحلمتين الدّية، فإن عاد اللّبن ردّت الدّية‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ في ثديي المرأة الدّية وفي الواحد منهما نصف الدّية كالجمهور، وأنّ في قطع حلمتي الثّديين الدّية، ولا قصاص فيهما‏.‏

9 - الجناية على الذّكر‏:‏

26 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القصاص يجري في الذّكر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏، ولأنّ له حدّاً ينتهي إليه، ويمكن القصاص فيه من غير حيف، فوجب فيه القصاص كالأنف‏.‏

ويستوي في ذلك ذكر الصّغير والكبير، والشّيخ والشّابّ والكبير والصّغير، والمريض والصّحيح، لأنّ ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني، كذلك الذّكر‏.‏

ويؤخذ المختون بالأغلف وعكسه، لأنّ الغلفة زيادة تستحقّ إزالتها فهي كالمعدومة‏.‏

ويؤخذ ذكر الخصيّ بذكر الخصيّ، وذكر العنّين بمثله، لحصول المساواة‏.‏

أمّا ذكر فحل بذكر خصيّ أو عنّين فعند المالكيّة وجمهور الحنابلة لا يؤخذ بهما، لأنّه لا منفعة فيهما، ولأنّ العنّين لا يطأ، ولا ينزل، والخصيّ لا يولد له، ولا ينزل، ولا يكاد يقدر على الوطء فهما كالأشلّ، ولأنّ كلّ واحد منهما ناقص، فلا يؤخذ به الكامل، كاليد النّاقصة بالكاملة‏.‏

والمذهب عند الشّافعيّة وهو وجه لدى الحنابلة أنّه يؤخذ غيرهما بهما، لأنّهما عضوان صحيحان، ينقبضان، وينبسطان‏.‏

وذهب الحنفيّة في الصّحيح من المذهب إلى أنّه لا قصاص في قطع ذكر ولو من أصله، لأنّه ينقبض وينبسط، وجزم بعض الحنفيّة بلزوم القصاص في الذّكر إذا قطع من أصله، وقال في المحيط‏:‏ قال أبو حنيفة‏:‏ إن قطع الذّكر من أصله، أو من الحشفة، اقتصّ منه، إذ له حدّ معلوم، ونسب صاحب البدائع هذا القول إلى أبي يوسف‏.‏

وفي قطع كلّ الحشفة قصاص دون خلاف، ولو قطع بعضها فلا قصاص فيها‏.‏

27 - وأمّا الأنثيان فعند جمهور الفقهاء يجري القصاص فيهما، للنّصّ والمعنى‏.‏

فإن قطع إحداهما - وقال أهل الخبرة إنّه ممكن أخذها مع سلامة الأخرى - جاز، وتؤخذ اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، وإلاّ لم تؤخذ، ويكون فيها نصف الدّية‏.‏

وأمّا الحنفيّة فقد صرّح الكاسانيّ بأنّه لا يجب فيهما القصاص، لأنّ ذلك ليس له مفصل معلوم، فلا يمكن استيفاء المثل‏.‏

28 - وفي شفري المرأة قصاص في الأصحّ عند الشّافعيّة، والحنابلة، وكذلك عند المالكيّة إن بدا العظم، لأنّ انتهاءهما معروف، فأشبها الشّفتين، وجفني العين‏.‏

ويرى الحنفيّة وهو وجه عند الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا قصاص فيهما، لأنّ الشّفر لحم لا مفصل له ينتهي إليه كلحم الفخذين‏.‏

29 - وأمّا الأليتان فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة على الأصحّ عندهم إلى وجوب القصاص فيهما، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏، ولأنّ لهما حدّا ينتهيان إليه، فجرى القصاص فيهما كالذّكر والأنثيين‏.‏

وعند الحنفيّة وهو قول المزنيّ من الشّافعيّة لا قصاص فيهما، لتعذّر استيفاء المثل، ولأنّهما لحم متّصل بلحم فأشبه لحم الفخذ‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏دية‏)‏‏.‏

10 - الجناية على اللّحية وشعر الرّأس والحاجب‏:‏

30 - اتّفق جمهور الفقهاء على أنّه لا يجب القصاص في حلق هذه الشّعور الثّلاثة أو نتفها، وإن لم تنبت، لأنّ إتلافها إنّما يكون بالجناية على محلّها، وهو غير معلوم المقدار، فلا تمكن المساواة فيها، فلا يجب القصاص فيها‏.‏

ولأنّها ليست جراحات فلا تدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏‏.‏

وذكر في النّوادر من كتب الحنفيّة وجوب القصاص إذا لم تنبت، واختلفوا فيما وراء ذلك من وجوب الدّية أو حكومة عدل، وكيفيّة استيفائها‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏دية‏)‏‏.‏

11 - الجناية على العظم‏:‏

31 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص في كسر العظام لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا قصاص في عظم»، ولعدم الوثوق بالمماثلة، لأنّه لا يعلم موضعه، فلا يؤمن فيه التّعدّي‏.‏ ومنع القصاص في العظام عمر بن عبد العزيز وعطاء، والنّخعيّ، والزّهريّ، والحكم، وابن شبرمة والثّوريّ، إلاّ أنّ الشّافعيّة نصّوا على أنّ للمجنيّ عليه أن يقطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر، ويأخذ حكومة للباقي‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّه لا قصاص في شيء ممّا يعظم خطره كائناً ما كان، ككسر عظم الصّدر، والرّقبة، والظّهر، والفخذ، فلا قصاص فيها، وفيها حكومة‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الجراح

الجناية على ما دون النّفس قد لا تكون بالقطع والإبانة، بل بالجرح، وهو نوعان‏:‏ الجراح الواقعة على الرّأس والوجه، وتسمّى الشّجاج، والجراح الواقعة على سائر البدن‏.‏

أوّلاً - الشّجاج‏:‏

32 - الشّجاج أقسام‏:‏ أشهرها ما يلي‏:‏

1 - الحارصة‏:‏ وهي الّتي تشقّ الجلد قليلاً، نحو الخدش، ولا يخرج الدّم، وتسمّى الحرصة أيضاً‏.‏

2 - الدّامية‏:‏ وهي الّتي تدمي موضعها من الشّقّ والخدش، ولا يقطر منها دم، هكذا نصّ عليه الشّافعيّ وأهل اللّغة، وتأتي بعدها عند الشّافعيّة الدّامعة وهي ما يسيل منها الدّم، أمّا عند الحنفيّة فالدّامية ما تخرج الدّم وتسيله، وتأتي عندهم بعد الدّامعة، وهي‏:‏ الّتي تظهر الدّم كالدّمع ولا تسيله‏.‏ والدّامية تسمّى عند بعض الفقهاء البازلة، لأنّها تبزل الجلد أي تشقّه‏.‏ وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏بازلة‏)‏‏.‏

3 - الباضعة‏:‏ وهي الّتي تبضع اللّحم بعد الجلد، أي تقطعه، وقيل‏:‏ الّتي تقطع الجلد

‏(‏انظر مصطلح‏:‏ باضعة‏)‏‏.‏

4 - المتلاحمة‏:‏ وهي الّتي تغوص في اللّحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللّحم والعظم، وتسمّى اللّاحمة أيضاً‏.‏

5- السّمحاق‏:‏ وهي الّتي تبلغ الجلدة الّتي بين اللّحم والعظم، وقد تسمّى هذه الشّجّة عند بعض الفقهاء الملطى، والملطاة، واللّاطئة‏.‏

6- الموضحة‏:‏ وهي الّتي تخرق السّمحاق وتوضّح العظم‏.‏

7 - الهاشمة‏:‏ وهي الّتي تهشم العظم أي تكسره سواء أوضحته أم لا عند الشّافعيّة‏.‏

8- المنقّلة‏:‏ بتشديد القاف وفتحها، أو كسرها، وهي الّتي تكسر العظم وتنقله من موضع إلى موضع سواء أوضحته وهشّمته أم لا‏.‏

9- المأمومة‏:‏ وهي الّتي تبلغ أمّ الرّأس وهي خريطة الدّماغ المحيطة به، ويقال لها الآمّة أيضا ‏(‏انظر مصطلح آمّة‏)‏‏.‏

10 - الدّامغة‏:‏ وهي الّتي تخرق الخريطة، وتصل الدّماغ‏.‏

فهذه الأقسام العشرة هي المشهورة، وذكر فيها ألفاظ أخرى تؤوّل إلى هذه الأقسام‏.‏ وتتصوّر جميع هذه الشّجاج في الجبهة كما تتصوّر في الرّأس، وكذلك تتصوّر ما عدا المأمومة والدّامغة في الخدّ، وفي قصبة الأنف، واللّحي الأسفل‏.‏

والتّسميات السّابق ذكرها تكاد تكون محلّ اتّفاق بين المذاهب، وإن كان هناك خلاف يسير في ترتيبها، فمردّه الاختلاف في تحديد المعنى اللّغويّ‏.‏

33 - وأمّا حكم هذه الشّجاج فقد اتّفق الفقهاء على أنّ القصاص واجب في الموضحة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏ ولتيسير ضبطها واستيفاء مثلها، لأنّه يمكن أن ينهي السّكّين إلى العظم فتتحقّق المساواة، وقد «قضى عليه الصلاة والسلام في الموضحة بالقصاص»‏.‏

ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّه لا يشترط في الموضحة ما له بال واتّساع، فيقتصّ وإن ضاق كقدر مغرز إبرة‏.‏

وكذلك اتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص فيما فوق الموضحة، وهي الهاشمة، والمنقّلة، والآمّة، لأنّه لا يمكن اعتبار المساواة فيما بعدها، لأنّ كسر العظم وتنقّله لا يمكن المساواة فيها‏.‏

واختلفوا فيما دون الموضحة‏:‏ فذهب الحنفيّة في ظاهر المذهب وهو الأصحّ عندهم، والمالكيّة - وهو رواية عن الشّافعيّة في الباضعة والمتلاحمة والسّمحاق - إلى وجوب القصاص فيما قبل الموضحة أيضاً‏.‏

واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏ ولأنّه يمكن اعتبار المساواة فيما قبلها بمعرفة قدر الجراحة فيستوفى منه مثل ما فعل‏.‏

واستثنى الشّرنبلاليّ من الحنفيّة السّمحاق فلا يقاد فيها كالهاشمة، والمنقّلة‏.‏

ويرى الشّافعيّة عدم وجوب القصاص في الحارصة مطلقا، وفي الباضعة، والمتلاحمة، والسّمحاق على المذهب، والدّامية كالحارصة عندهم، وقيل كالباضعة‏.‏

وأمّا الحنابلة فلا قصاص عندهم فيما دون الموضحة مطلقاً، ولم يذكر محمّد بن الحسن الحارصة، والدّامية، والدّامغة، لأنّ الحارصة والدّامية لا يبقى لهما أثر في العادة، والشّجّة الّتي لا يبقى لها أثر، لا حكم لها في الشّرع‏.‏

والدّامغة لا يعيش معها عادة، فلا معنى لبيان حكم الشّجّة‏.‏

ثانياً - الجراحات الواقعة على سائر البدن‏:‏

34 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص في الجائفة لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقّلة»‏.‏

ولأنّها جراح لا تؤمن الزّيادة فيها، فلم يجب فيها قصاص، ككسر العظام‏.‏

والجائفة هي الّتي تصل إلى الجوف، والمواضع الّتي تنفذ فيها الجراحة إلى الجوف هي الصّدر والظّهر، والبطن، والجنبان، والدّبر، ولا تكون في اليدين والرّجلين، ولا في الرّقبة جائفة، لأنّ الجرح لا يصل إلى الجوف، وروي عن أبي يوسف‏:‏ أنّ ما وصل من الرّقبة إلى الموضع الّذي لو وصل إليه من الشّراب فطره، تكون جائفة، لأنّه لا يفطر إلاّ إذا وصل إلى الجوف‏.‏

أمّا غير الجائفة فيرى الشّافعيّة والحنابلة بأنّ ما لا قصاص فيه إذا كان على الرّأس والوجه، لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وأمّا الموضحة الّتي توضح عظم الصّدر ففي وجوب القصاص فيها وجهان عند الشّافعيّة‏:‏ الأصحّ أنّه يجب، فعند الشّافعيّة يجب القصاص في الجراحة على أيّ موضع كانت بشرط أن تنتهي إلى عظم ولا تكسره‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الجراحات الّتي في غير الوجه والرّأس لا قصاص فيها، بل فيها حكومة عدل إذا أوضحت العظم وكسرته، وإذا بقي لها أثر، وإلاّ فلا شيء فيها عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمّد يلزمه قيمة ما أنفق إلى أن يبرأ‏.‏

وعند المالكيّة يقتصّ من جراح الجسد وإن كانت هاشمة، قال ابن الحاجب‏:‏ في جراح الجسد من الهاشمة وغيرها القود، بشرط أن لا يعظم الخطر كعظم الصّدر، والعنق، والصّلب، والفخذ، ويكون القصاص في الجراح بالمساحة طولاً، وعرضاً، وعمقاً، إن اتّحد المحلّ‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ إبطال المنافع بلا شقّ ولا إبانة

35 - قد يترتّب على الاعتداء بالضّرب أو الجرح زوال منفعة العضو مع بقائه قائماً، كمن يلطم شخصا على وجهه أو يجرحه في رأسه، فينشأ عن ذلك ذهاب البصر أو السّمع، مع بقاء العضو سليماً‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص في ذهاب منفعة العضو فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يقتصّ في البصر والسّمع والشّمّ، وكذلك الشّافعيّة في البصر والسّمع اتّفاقاً، وفي البطش والذّوق والشّمّ في الأصحّ عندهم، لأنّ لها محالّ مضبوطة، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها‏.‏

وزاد المالكيّة غير ذلك من المعاني، فإنّه يجري عندهم القصاص في هذه المعاني وغيرها‏.‏ وأمّا الحنفيّة فلا يجوز عندهم القصاص إلاّ في زوال البصر دون سواه، لأنّ في ذهاب البصر قصاصا في الشّريعة، أمّا إذا أدّى الاعتداء إلى ذهاب العقل، أو السّمع، أو الكلام، أو الشّمّ، أو لزومه، أو الجماع، أو ماء الصّلب، أو إلى شلل اليد أو الرّجل، فلا يجب القصاص‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ الجناية على ما دون النّفس الموجبة للدّية أو غيرها

36 - إذا كانت الجناية على ما دون النّفس خطأ، أو لم تتوفّر فيها الشّروط الموجبة للقصاص فتجب فيها الدّية، أو حكومة عدل، على حسب الأحوال، وهي ثلاثة أنواع‏:‏ لأنّها لا تخلوا إمّا أن تكون بالقطع وإبانة الأطراف، أو بالجرح، أو بإزالة المنافع‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ إبانة الأطراف

37 - اتّفق الفقهاء على أنّ كلّ عضو لم يخلق اللّه تعالى في بدن الإنسان منه إلاّ واحداً كاللّسان والأنف، والذّكر، والصّلب، وغيرها، ففيه دية كاملة، والأصل في ذلك ما روي عن سعيد بن المسيّب‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «في النّفس الدّية، وفي اللّسان الدّية، وفي الذّكر الدّية، وفي الأنف الدّية، وفي المارن الدّية»‏.‏

لأنّ إتلاف كلّ عضو من هذه الأعضاء كإذهاب منفعة الجنس، وإذهاب منفعة الجنس كإتلاف النّفس، فإتلاف كلّ عضو من هذه الأعضاء كإتلاف النّفس‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ الأنف يشتمل على ثلاثة أشياء‏:‏ المنخرين، والحاجز بينهما، ففي الأنف الدّية، وفي كلّ واحد منهما ثلثها‏.‏وبهذا قال إسحاق وهو أحد الوجهين عند الشّافعيّة‏.‏ وما خلق في الإنسان منه شيئان كاليدين والرّجلين، والعينين والأذنين، والمنخرين، والشّفتين، والأنثيين، والثّديين، والأليتين وغيرها، ففيهما الدّية كاملة، لما روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حازم في كتابه‏:‏ وفي العينين الدّية، وفي إحداهما نصف الدّية، وفي اليدين الدّية، وفي إحداهما نصف الدّية‏.‏‏.‏‏.‏»

ولأنّ في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس، وفي أحدهما نصف الدّية، لأنّ في إتلاف إحداهما إذهاب نصف منفعة الجنس‏.‏

واختلف الفقهاء في عين الأعور‏:‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ فيها نصف الدّية وبه قال مسروق وعبد اللّه بن مغفّل، والنّخعيّ، والثّوريّ، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وفي العين خمسون من الإبل»‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ في إتلاف عين الأعور دية كاملة وبه قال الزّهريّ، واللّيث، وقتادة، وإسحاق، لأنّ عمر وعثمان وعليّا وابن عمر رضي الله عنهم قضوا في عين الأعور بالدّية، ولم يعلم لهم في الصّحابة مخالف فيكون إجماعاً، ولأنّ قلع عين الأعور تضمنّ إذهاب البصر كلّه، فوجبت الدّية كما لو أذهبه من العينين‏.‏

وما خلق في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها الدّية، وفي كلّ واحد منها ربع الدّية، وهو أجفان العينين وأهدابها‏.‏ وما فيه منه عشرة ففيها الدّية، وفي كلّ واحد منها عشرها، ففي أصابع اليدين الدّية، وفي أصابع الرّجلين الدّية أيضاً، ولا فرق بين إصبع وإصبع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «في كلّ إصبع عشر من الإبل»

والأصابع كلّها سواء، فالخنصر والإبهام سواء، وفي كلّ سلامى من السّلاميّات الثّلاث ثلث دية الأصبع ما عدا الإبهام فإنّها مفصلان، وفي كلّ مفصل نصف دية الإصبع‏.‏

وليس في البدن شيء من جنس يزيد على الدّية إلاّ الأسنان فإنّ في كلّ سنّ خمساً من الإبل، أي نصف عشر الدّية، والأصل في ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «في كلّ سنّ خمس من الإبل» ولا فرق بين سنّ وسنّ، للحديث المذكور‏.‏

38 - وأمّا إزالة شعر الرّأس، واللّحية، والحاجبين إذا لم ينبت، فذهب الحنفيّة، والحنابلة إلى أنّ فيها الدّية، وبه قال الثّوريّ، لأنّه أذهب الجمال على الكمال، فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصمّ، وأنف الأخشم‏.‏

ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ فيه حكومة عدل، واختاره ابن المنذر، لأنّه إتلاف جمال من غير منفعة، فلم تجب فيه الدّية كاليد الشّلّاء، والعين القائمة‏.‏

وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح‏:‏ ‏(‏دية‏)‏‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الجراح

39 - قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ في الموضحة إذا كانت في الوجه أو الرّأس خمسا من الإبل، سواء كانت من رجل أو امرأة، وليس في جراحات غير الرّأس والوجه أرش مقدّر في قول أكثر أهل العلم‏.‏ وفي المنقّلة خمس عشرة من الإبل، وفي كلّ من المأمومة والجائفة ثلث الدّية، والدّليل على ذلك كلّه كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم المعروف، وروي عن ابن عمر مثل ذلك‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ في الدّامغة ما في المأمومة، لأنّها أبلغ من المأمومة، ولا يسلم صاحبها في الغالب، ولذلك لم يذكره محمّد بن الحسن بين الشّجاج، لأنّه لا يعيش معها، وليس لها حكم‏.‏

وأمّا الهاشمة‏:‏ فاختلف الفقهاء في موجبها‏:‏

فقدّرها الحنفيّة والمالكيّة بعشر الدّية، وحكي عن مالك‏:‏ أنّ الهاشمة ترادف المنقّلة‏.‏

وقدّرها الشّافعيّة - في الأصحّ - والحنابلة وجماعة من أهل العلم بعشر من الإبل إن كانت مع إيضاح أو احتيج إليه بشقّ لإخراج عظم أو تقويمه، فإن لم توضح فخمس من الإبل وقيل‏:‏ حكومة‏.‏ وأمّا ما قبل الموضحة من الشّجاج وهي الحارصة والسّمحاق وما بينهما ففيها حكومة عدل، لأنّه لم يثبت فيها أرش مقدّر بتوقيف، ولا له قياس فوجب الرّجوع إلى الحكومة‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ديات‏)‏‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ إبطال المنافع

40 - اتّفق الفقهاء على أنّه تجب بإزالة العقل كمال الدّية، لأنّه أكبر المعاني قدراً، وأعظم الحواسّ نفعا، وبإبطال السّمع من الأذنين أو البصر من العينين، أو الشّمّ من المنخرين كمال الدّية، وبإبطال المنفعة من إحدى الأذنين، أو العينين، أو المنخرين، نصف الدّية، من إحداها‏.‏ وكذلك بإبطال الصّوت، والذّوق، والمضغ، والإمناء والإحبال، والجماع، والبطش، والمشي دية كاملة‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّ المذاق مشتمل على خمسة أشياء‏:‏ الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والعذوبة، والملوحة، ففيه الدّية، وفي أحد أقسامها خمسها‏.‏

وفي شرائط وجوب الدّية وكيفيّتها خلاف وتفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ديات‏)‏‏.‏