فصل: ولاية الكافر على المسلم وولاية المسلم على الكافر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الخامس والثلاثون

كِفاية

التّعريف

1 - الكفاية لغةً‏:‏ من كفى يكفي كفايةً‏.‏

ومن معانيها‏:‏ ما يحصل به الاستغناء عن غيره‏,‏ ويقال‏:‏ اكتفيت بالشّيء‏:‏ أي استغنيت به‏,‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه»‏.‏

ومنها‏:‏ القيام بالأمر ، فيقال‏:‏ استكفيته أمراً فكفانيه‏:‏ أي قام به مقامي‏,‏ ويقال‏:‏ كفاه الأمر إذا قام مقامه فيه فهو كافٍ وكفيّ‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ سد الخلّة أي الحاجة وبلوغ الأمر في المراد‏,‏ فيقال‏:‏ كفاه مئونته يكفيه كفايةً‏,‏ ومنه الكفيّة‏:‏ وهي ما يكفي الإنسان من العيش‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء للكفاية عدّة استعمالاتٍ منها‏:‏

الكفاية بمعنى‏:‏ الأفعال المهمّة الّتي قصد الشّارع وجودها دون النّظر إلى شخص فاعلها‏,‏ وذلك لتعلقها بمصالح الأمّة‏,‏ ويطلق على تلك الأفعال فروض الكفايات كالجهاد في سبيل اللّه وإنقاذ الغريق‏.‏

وبمعنى‏:‏ أهليّة الشّخص للقيام بالأفعال المهمّة المتعلّقة بمصالح الأمّة‏,‏ كالولايات العامّة والوظائف الخاصّة‏,‏ وهي تختلف باختلاف مقصود الولاية ووسائل تحقيق ذلك المقصود‏.‏ وبمعنى‏:‏ سد الحاجات الأصليّة للشّخص من مطعمٍ وملبسٍ ومسكنٍ وغيرها‏,‏ ممّا لا بدّ له منه على ما يليق بحاله وحال من في نفقته من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكفاف‏:‏

2 - الكفاف لغةً من كفّ بمعنى‏:‏ ترك‏,‏ يقال‏:‏ كفّ عن الشّيء كفّاً‏:‏ تركه‏,‏ ويقال‏:‏ كففته كفّاً‏:‏ منعته‏,‏ ويقال‏:‏ قوته كفاف‏:‏ أي مقدار حاجته من غير زيادةٍ ولا نقصٍ‏,‏ سمّي بذلك لأنّه يكف عن سؤال النّاس ويغني عنهم‏,‏ ويقال‏:‏ استكفّ وتكفّف إذا أخذ ببطن كفّه‏,‏ أو سأل كفّاً من الطّعام‏,‏ أو ما يكف به الجوع‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

وعلى ذلك عرّفه الشّريف الجرجاني بأنّه‏:‏ ما كان بقدر الحاجة ولا يفضل منه شيء‏,‏ ويكف عن السؤال‏.‏

ويختلف حد الكفاف في الإنسان عن حدّ الكفاية‏,‏ من أنّ حدّ الكفاف يقتصر على سدّ الضّروريّات القصوى من مطعمٍ ومسكنٍ وملبسٍ‏,‏ أما حد الكفاية فيتعدّى ذلك إلى ما لا بدّ للإنسان منه على ما يليق بحاله‏,‏ من نكاحٍ وتعليمٍ وعلاجٍ وقضاء دينٍ‏,‏ وما يتزيّن به من ملابس وحليٍّ وغير ذلك‏.‏

ب - الحاجة‏:‏

3 - الحاجة لغةً‏:‏ الافتقار إلى الشّيء والاضطرار إليه‏,‏ جمعها حاجات وحوائج‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الحاجة ما يفتقر الإنسان إليه مع أنّه يبقى بدونه‏.‏

وعرّفها علماء الأصول بأنّها‏:‏ ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب‏,‏ فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - في الجملة - الحرج والمشقّة‏.‏

والصّلة بين الحاجة والكفاية التّضاد‏.‏

الكفاية في حاجات الأمّة ومصالحها العامّة

4 - نصّ الشّارع على حاجات الأمّة ومصالحها‏,‏ وطلب من النّاس القيام بها دون النّظر إلى شخص من يقوم بها‏,‏ وهي تسمّى ‏"‏ الأمر الكفائيّ ‏"‏‏,‏ وفيما يلي تفصيل لذلك‏.‏

أقسام الأمر الكفائيّ

الكفاية في حاجات الأمّة كما تتصوّر في الفروض والواجبات تتصوّر في المندوبات والسنن‏,‏ ولذلك ينقسم الأمر الكفائي إلى‏:‏ فرض كفايةٍ‏,‏ وسنّة كفايةٍ‏.‏

أ - فرض الكفاية‏:‏

5 - فرض الكفاية هو‏:‏ أمر مهمّ كلّيّ تتعلّق به مصالح دينيّة ودنيويّة لا ينتظم الأمر إلا بحصولها‏,‏ قصد الشّارع حصولها من مجموع المكلّفين لا من جميعهم‏,‏ وليس من شخصٍ معيّنٍ‏,‏ فإذا قام به من فيه كفاية سقط الحرج عن الباقين‏.‏

وهو بهذا المعنى يختلف عن فرض العين‏,‏ وهو‏:‏ ما طلب الشّارع حصوله من كلّ فردٍ من الأفراد المكلّفين به‏,‏ مثل الصّلاة والصّيام وغير ذلك‏,‏ وإذا قام به البعض لا يسقط الإثم عن الباقين‏.‏

وأهم وجوه الاختلاف بينهما‏:‏

أ - أنّ فرض العين تتكرّر مصلحته بتكرره‏,‏ كصلاة الظهر مثلاً‏,‏ فإنّ مصلحتها الخضوع للّه تعالى وتعظيمه ومناجاته والتّذلل إليه والمثول بين يديه والتّفهم لخطابه والتّأدب بأدبه‏,‏ وهذه مصالح تتكرّر كلّما تكرّرت الصّلاة فتجب على كلّ مكلّفٍ‏.‏

أمّا فرض الكفاية فلا تتكرّر مصلحته بتكرره كنزول البحر لإنقاذ الغريق‏,‏ فإنّ مصلحته لا تتكرّر بنزول كلّ مكلّفٍ‏,‏ فإذا أنقذ الغريق إنسان تحقّقت المصلحة بنزوله‏,‏ والنّازل بعد ذلك إلى البحر لا تحصل منه مصلحة إنقاذ ذلك الغريق‏,‏ فجعله صاحب الشّرع على الكفاية نفياً للعبث في الأفعال‏.‏

ب - فرض العين يقصد منه امتحان المكلّفين به في حين أنّ المقصود من فرض الكفاية حصول الفعل دون النّظر إلى الفاعل‏.‏

ج - فرض العين يؤدّي إلى تحقيق مصلحة الفرد ورفع شأنه في مجال الأمر المطلوب منه‏,‏ في حين أنّ فرض الكفاية يؤدّي إلى تحقيق مصلحة المجتمع ورفع شأنه‏.‏

د - فرض العين يطالب به جميع المكلّفين‏,‏ ولا يسقط الإثم عن التّاركين له بأداء البعض‏,‏ لبقاء التّكليف به على التّاركين له‏,‏ في حين أنّ فرض الكفاية يسقط عن التّاركين له إذا قام به البعض وكان كافياً‏.‏

ب - سنّة الكفاية‏:‏

6 - سنّة الكفاية مثل ابتداء السّلام من جماعةٍ‏,‏ وتشميت العاطس من جماعةٍ وهي تختلف عن سنّة العين كركعتي الفجر وصيام الأيّام الفاضلة والطّواف في غير النسك‏.‏

المصالح الّتي تتحقّق بطريق الكفاية

من مصالح الأمّة ما يتحقّق بطريق الكفاية وهو أقسام‏:‏

أوّلاً‏:‏ المصالح الدّينيّة

7 - منها الاشتغال بالعلم الشّرعيّ كطلب العلم وتصنيف كتبه‏,‏ وحفظ القرآن الكريم وحفظ السنّة النّبويّة وإقامة الحجج والبراهين على العقيدة الإسلاميّة‏,‏ ودفع الشبهات وحلّ المشكلات والاجتهاد في القضايا المستجدّة‏.‏

ومنها إقامة الشّعائر الدّينيّة كصلاة الجماعة‏,‏ وصلاة التّراويح في جماعةٍ‏,‏ والأذان وصلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف والخسوف‏,‏ وصلاة الاستسقاء والاعتكاف وإحياء الكعبة بالحجّ والعمرة والصّلاة والطّواف والأضحيّة‏.‏

ومنها الجهاد في سبيل اللّه والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واستنقاذ أسرى المسلمين وإفشاء السّلام ورده‏,‏ وتشميت العاطس‏.‏

ثانياً‏:‏ المصالح الدنيويّة

8 - منها الاشتغال بالعلوم الحياتيّة وتعلم أصول الصّناعات والحرف كالصّناعة والزّراعة‏.‏

ثالثاً‏:‏ المصالح المشتركة

9 - بالإضافة إلى المصالح الدّينيّة والدنيويّة توجد مصالح مشتركة تجمع بين الدّينيّة والدنيويّة طلب الشّرع من الأمّة فعلها‏.‏

منها تحمل الشّهادة وأداؤُها‏,‏ والتقاط اللّقيط‏,‏ وعيادة المريض‏,‏ وغسل الميّت وتكفينه‏,‏ والقيام بالولايات والوظائف‏,‏ وبيانها كالتّالي‏:‏

أ - تحمل الشّهادة وأداؤُها‏:‏

10 - تحمل الشّهادة‏:‏ هو العلم بما يشهد به من الحقوق كالنّكاح والبيع وغير ذلك‏,‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ تحمل الشّهادة فرض كفايةٍ‏,‏ إذا كان الشهود جماعةً‏,‏ فلو امتنع الجميع عن التّحمل أثموا جميعاً‏,‏ لأنّ ذلك يؤدّي إلى ضياع الحقوق‏,‏ أمّا إذا كان الشّاهد واحداً فيتعيّن التّحمل فيه ويكون فرض عينٍ‏,‏ لأنّ التّحمل يفتقر إليه ويخشى ضياع الحقوق‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏‏,‏ فقد جمعت هذه الآية الأمرين‏:‏ التّحمل والأداء‏.‏

وأمّا أداء الشّهادة من المتحمّل إذا طلبها المدّعي ففرض كفايةٍ إذا كان المتحمّلون جماعةً‏,‏ فإذا امتنعوا أثموا جميعاً باتّفاق الفقهاء‏,‏ وإذا كان المتحمّل واحداً تعيّن الأداء فيه ويكون فرض عينٍ‏,‏ ودليل الفرضيّة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِم قَلْبُهُ‏}‏‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏شهادة ف 5‏)‏‏.‏

ب - التقاط اللّقيط‏:‏

11 - اللّقيط‏:‏ هو الطّفل المنبوذ الّذي لا قدرة له على القيام بمصالح نفسه‏,‏ وهو نفس محترمة في الشّرع الإسلاميّ تستحق الحفظ والرّعاية‏,‏ ولهذا اتّفق الفقهاء على أنّ التقاطه فرض كفايةٍ إذا كان الواجدون له جماعةً‏,‏ أمّا إذا كان الواجد فرداً واحداً وخاف عليه الهلاك إن تركه صار التقاطه فرض عينٍ ولا يحل له تركه‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏لقيط‏)‏‏.‏

ج - عيادة المريض‏:‏

12 - المريض‏:‏ هو الّذي أصيب بمرض يضعف جسمه ويؤثّر في نفسه‏,‏ فيحتاج إلى من يواسيه ويطيّب نفسه ويقوم على خدمته وتمريضه‏,‏ وقد اتّفق الفقهاء على مشروعيّة عيادة المريض لحديث‏:‏ «حق المسلم على المسلم ستّ ، قيل وما هي يا رسول اللّه ‏؟‏ قال إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فشمّته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه»‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في حكم عيادة المريض‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى أنّ عيادة المريض سنّة مستحبّة للحديث السّابق‏.‏

وذهب الإمام البخاري والحنابلة في قولٍ إلى أنّ العيادة واجبّة على الأعيان‏,‏ لأنّها من حقوق المريض على المسلمين كما في الحديث السّابق‏.‏

وذهب الحنابلة في قولٍ إلى أنّها فرض كفايةٍ‏,‏ قاله ابن مفلحٍ في الرّعاية الكبرى‏,‏ وقال به ابن تيميّة وصوّبه‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏عيادة ف 2 وما بعدها‏)‏‏.‏

د - غسل الميّت وتكفينه والصّلاة عليه وتشييعه ودفنه‏:‏

13 - غسل الميّت غير الشّهيد واجب على الكفاية عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي سقط عن بعيره فمات‏:‏ «اغسلوه بماء وسدرٍ»‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏تغسيل الميّت ف 2‏)‏‏.‏

وأمّا تكفين الميّت غير الشّهيد ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي سقط عن بعيره‏:‏ «اغسلوه بماء وسدرٍ وكفّنوه في ثوبين ولا تمسوه طيباً ولا تخمّروا رأسه فإنّ اللّه يبعثه يوم القيامة ملبّياً»‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏تكفين ف 2‏,‏ 3‏)‏‏.‏

وأمّا الصّلاة على الميّت ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والمشهور عند المالكيّة‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلوا على من قال لا إله إلا اللّه»‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏جنائز ف 20‏)‏‏.‏

وأمّا تشييع الجنازة ففرض كفايةٍ باتّفاق الفقهاء‏,‏ لحديث‏:‏ «حق المسلم على المسلم ستّ ‏.‏‏.‏ وإذا مات فاتبعه»‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏جنائز ف 14‏)‏‏.‏

وأمّا دفن الميّت فمن فروض الكفايات باتّفاق الفقهاء‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏‏.‏ والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏دفن ف 2‏)‏‏.‏

الكفاية في الولايات والوظائف

14 - الولاية ضروريّة للإنسان لتنظيم ما ينشأ بين النّاس من تعاونٍ‏,‏ ومنع التّظالم‏,‏ وحفظ الحقوق لأصحابها‏,‏ وإعانة الضّعيف وحمايته‏,‏ ووقف المعتدي عن عدوانه‏.‏

وقد اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ نصب الإمام فرض كفايةٍ فيجب على الأمّة الإسلاميّة أو من ينوب عنها من أهل الحلّ والعقد تنصيب إمامٍ للمسلمين يقوم بحراسة الدّين والدنيا‏,‏ واستدلوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان ثلاثة في سفرٍ فليؤمّروا أحدهم»‏.‏

المكلّف بتحقيق فرض الكفاية في الإمامة العظمى

15 - إذا ثبت أنّ الإمامة العظمى فرض كفايةٍ‏,‏ فيترتّب على ذلك أنّه إذا قام بها من هو أهل لذلك سقط الإثم عن الباقين‏,‏ وإذا لم يقم بها أحد حُرّج النّاس جميعاً‏,‏ ويطالب بها فريقان من النّاس هما‏:‏

أ - أهل الاختيار‏,‏ أو أهل الحلّ والعقد‏:‏ وهم الّذين ينوبون عن الأمّة في اختيار الخليفة‏.‏ ب - أهل الإمامة‏:‏ وهم الّذين توافرت فيهم الشروط المعتبرة في الإمامة‏.‏

وكذلك الحكم في سائر الولايات الأخرى والوظائف العامّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلحات‏:‏ ‏(‏إمارة ف 4‏,‏ وإمامة الصّلاة ف 5 وما بعدها‏,‏ والإمامة الكبرى ف 6 وما بعدها‏,‏ وقضاء‏,‏ وفتوى‏)‏‏.‏

الكفاية في حاجات الأفراد الخاصّة

16 - تكون كفاية الإنسان بسدّ حاجاته الأصليّة‏,‏ وهي ما يدفع عن الإنسان الهلاك تحقيقاً أو تقديراً ممّا لا بدّ منه‏,‏ على ما يليق بحاله وحال من في نفقته من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ‏.‏

وتوفير حدّ الكفاية للأفراد مطلوب شرعاً‏,‏ وذلك على الفرد نفسه أوّلاً ثمّ على أقاربه ثمّ على المسلمين‏.‏

وتوفير الكفاية الّتي يكون بها قوام العيش وسداد الخلّة معتبر في كلّ إنسانٍ بحسب حاله ومعيشته وهو من فروض الكفايات‏.‏

أ - توفير الكفاية من قبل الفرد نفسه‏:‏

17 - بالرّغم من أنّ الإنسان جبل على الاهتمام بنفسه وتوفير ما يحتاج إليه إلا أنّ النصوص الشّرعيّة بيّنت وجوب النّفقة وحدودها على النّفس فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً‏}‏‏,‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها»‏,‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ لنفسك عليك حقّاً»‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الغنيّ أو القادر على العمل يكلّف بالقيام بسدّ حاجاته الأصليّة بنفسه ولا يعطى من الزّكاة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تحل الصّدقة لغنيّ ولا لذي مرّةٍ قويٍّ»‏.‏

ب - توفير الكفاية من قبل الأقارب‏:‏

18 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة القريب الواجبة على قريبه هي نفقة كفايةٍ بحسب حاجته وما يليق بحاله‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان‏:‏ «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف»‏,‏ فيجب له بذلك المأكل والمشرب والملبس والسكنى والرّضاع إنّ كان رضيعاً والخادم إنّ كان يحتاج إلى خدمةٍ‏.‏

واختلفوا فيمن تجب عليه منهم على مذاهب‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

ج - توفير كفاية الزّوجة‏:‏

19 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ نفقة الزّوجة على زوجها مقدّرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النّفقة في مقدارها لقوله لهند زوجة أبي سفيان‏:‏ «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه يجب على الزّوج الموسر لزوجته مدّان‏,‏ وعلى المعسر مدّ واحد‏,‏ وعلى المتوسّط مدّ ونصف من غالب قوت البلد‏,‏ فإن اختلف وجب اللائق بالزّوج‏,‏ ويجب أدم غالب البلد وكسوة تكفيها‏,‏ وما تقعد عليه أو تنام عليه‏,‏ وإخدامها إنّ كانت ممّن لا يليق بها خدمة نفسها‏,‏ ويجب مسكن يليق بها‏,‏ ويجب في المسكن إمتاع لا تمليك‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ نفقة‏)‏‏.‏

طرق توفير الكفاية

تتعدّد طرق توفير الكفاية على النّحو التّالي‏:‏

أ - توفير الكفاية عن طريق الزّكاة‏:‏

20 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفقير يعطى أقلّ من النّصاب‏,‏ فإذا أعطي نصاباً جاز مع الكراهة عند جمهور الحنفيّة‏,‏ وقال زفر‏:‏ لا يجوز إعطاؤُه نصاباً‏,‏ لأنّ الغنى قارن الأداء فكأنّ الأداء حصل للغنى وهو لا يجوز‏.‏

واستثنى الحنفيّة من ذلك صاحب العيال بحيث لو فرّق عليهم لا يخص كلاً منهم نصاباً وكذلك المديون‏.‏

وذهب المالكيّة وأحمد في روايةٍ‏,‏ وبعض الشّافعيّة كالغزاليّ والبغويّ إلى أنّه يعطى ما يكفيه مدّة سنةٍ ولو كان أكثر من النّصاب‏,‏ لأنّ الزّكاة تتكرّر كلّ سنةٍ فيحصل كفايته منها سنةً بسنة‏,‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان يحبس لأهله قوت سنتهم»‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأحمد في روايةٍ - وهي المذهب - وأبو عبيدٍ إلى أنّ الفقير يعطى كفاية العمر الغالب بحيث يخرج من الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ولا يرجع إلى أخذ الزّكاة مرّةً أخرى‏.‏

ب - توفير الكفاية عن طريق بيت المال‏:‏

21 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الفقراء الّذين لا يعطون من الزّكاة لعدم كفايتها أو لعدم تحقق شروط استحقاقهم لها كفقراء أهل الذّمّة يصرف لهم من بيت المال‏.‏

ج - توفير الكفاية عن طريق توظيف الضّرائب على الأغنياء‏:‏

22 - ذهب الفقهاء إلى أنّ للإمام فرض ضرائب على القادرين لوجوه المصالح العامّة ولسدّ حاجات المسلمين‏.‏

قال القرطبي‏:‏ اتّفق العلماء على أنّه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزّكاة فإنّه يجب صرف المال إليها‏.‏

كُفْر

التّعريف

1 - الكفر في اللغة‏:‏ السّتر‏,‏ يقال‏:‏ كفر النّعمة‏,‏ أي‏:‏ غطّاها‏,‏ مستعار من كفر الشّيء‏:‏ إذا غطّاه‏,‏ وهو أصل الباب‏.‏

والكفر نقيض الإيمان‏,‏ والكفر‏:‏ كفر النّعمة‏,‏ وهو نقيض الشكر‏,‏ وكَفَر النّعمة وبالنّعمة‏:‏ جحدها‏,‏ وكفر بكذا تبرّأ منه‏,‏ وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ‏}‏‏,‏ ويقال‏:‏ كفر بالصّانع‏:‏ نفاه وعطّل‏,‏ وهو الدّهري الملحد‏,‏ وكفّره – بالتّشديد -‏:‏ نسبه إلى الكفر‏,‏ وكفّر عن يمينه‏:‏ إذا فعل الكفّارة‏,‏ وأكفرته إكفاراً‏:‏ جعلته كافراً‏.‏

والكفر شرعاً‏:‏ هو إنكار ما علم ضرورةً أنّه من دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم كإنكار وجود الصّانع‏,‏ ونبوّته عليه الصّلاة والسّلام‏,‏ وحرمة الزّنا ونحو ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّدّة‏:‏

2 - الرّدّة لغةً‏:‏ الرجوع عن الشّيء‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي كفر المسلم بقول صريحٍ أو لفظٍ يقتضيه أو فعلٍ يتضمّنه‏.‏

والكفر أعم من الرّدّة‏,‏ لأنّه قد يكون كفراً أصلياً بخلاف الرّدّة‏.‏

ب - الإشراك‏:‏

3 - الإشراك مصدر أشرك‏,‏ وهو‏:‏ اتّخاذ الشّريك‏,‏ يقال‏:‏ أشرك باللّه‏,‏ جعل له شريكاً في ملكه ، والاسم‏:‏ الشّرك‏.‏

والفقهاء يستعملون الإشراك بمعنى الاشتراك في المعاملات‏,‏ وبمعنى الكفر باللّه تعالى‏.‏ والإشراك أعم من الكفر‏,‏ لأنّه يشمل الإشراك في المعاملات ويشمل الكفر باللّه تعالى‏.‏

ج - الإلحاد‏:‏

4 - الإلحاد في اللغة‏:‏ الميل والعدول عن الشّيء‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ قال ابن عابدين‏:‏ الإلحاد في الدّين‏:‏ هو الميل عن الشّرع القويم إلى جهةٍ من جهات الكفر‏.‏

ومن الإلحاد‏:‏ الطّعن في الدّين مع ادّعاء الإسلام‏,‏ أو التّأويل في ضرورات الدّين لإجراء الأهواء‏.‏

والصّلة بين الكفر والإلحاد‏:‏ أنّ الإلحاد قد يكون نوعاً من الكفر‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - الكفر حرام وهو أعظم الذنوب قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْم عَظِيم‏}‏‏,‏ وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين»‏.‏

جزاء الكافر في الآخرة والدنيا

6 - جزاء الكافر في الآخرة الخلود في النّار لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

وأمّا في الدنيا فيختلف حكم الكافر في حالة العهد عنه في غير حالة العهد‏:‏ ففي غير حالة العهد يجوز قتل المقاتلين من الكفّار‏,‏ لأنّ كلّ من يقاتل يجوز قتله‏.‏

‏(‏ر‏:‏ أهل الحرب ف 11‏)‏‏.‏

ولا يجوز قتل النّساء والصّبيان والمجانين والخنثى المشكل باتّفاق الفقهاء‏,‏ وكذلك لا يجوز قتل الشيوخ عند جمهور الفقهاء‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ الفلاح الّذي لا يقاتل لا ينبغي أنّ يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ اتّقوا اللّه في الفلاحين الّذين لا ينصبون لكم الحرب‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ لا يقتل الحرّاث إذا علم أنّه ليس من المقاتلة‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جهاد ف 29‏)‏‏.‏

وأمّا في حالة العهد فيعصم دم الكافر وماله بتفصيل في مصطلحات‏:‏ ‏(‏أهل الذّمّة‏,‏ مستأمن‏,‏ هدنة‏)‏‏.‏

الإكراه على الكفر

7 - من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم‏}‏‏.‏

وورد أنّ عمّاراً رضي الله عنه أخذه المشركون فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثمّ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له النّبي‏:‏ «إنّ عادوا فعد»‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وروي أنّ الكفّار كانوا يعذّبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم إلا بلالاً فإنّه كان يقول‏:‏ أحد أحد‏,‏ وقال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏,‏ ولأنّه قول أكره عليه بغير حقٍّ فلم يثبت حكمه‏,‏ كما لو أكره على الإقرار‏.‏

وهذا أصل متّفق عليه‏,‏ إلا أنّ للفقهاء تفصيلاتٍ وقيوداً تختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ وبيانها كما يأتي‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّ الإكراه على الكفر لا بدّ أن يكون إكراهاً تامّاً‏,‏ جاء في الهداية وشروحها‏:‏ إن أكره على الكفر باللّه تعالى - والعياذ باللّه - أو سبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبسٍ أو ضربٍ لم يكن ذلك إكراهاً حتّى يكره بأمر يخاف منه على نفسه‏,‏ أو على عضوٍ من أعضائه‏,‏ فإذا خاف على ذلك وسعه أنّ يظهر ما أمر به‏.‏

وجاء في الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين عليه‏:‏ ويورّي وقلبه مطمئن بالإيمان‏,‏ ثمّ إن ورّى لا يكفر كما إذا أكره على السجود للصّليب‏,‏ أو سبّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ففعل وقال‏:‏ نويت به الصّلاة للّه تعالى ومحمّداً آخر غير النّبيّ‏,‏ وبانت منه امرأته قضاءً لا ديانةً‏.‏

وإن خطر بباله التّورية ولم يورّ كفر وبانت منه زوجته ديانةً وقضاءً‏,‏ لأنّه أمكنه دفع ما أكره عليه عن نفسه ووجد مخرجاً عمّا أبتلي به ثمّ لمّا ترك ما خطر على باله وشتم محمّداً صلى الله عليه وسلم كان كافراً‏,‏ وإن وافق المكره فيما أكرهه‏,‏ لأنّه وافقه بعدما وجد مخرجاً عمّا أبتلي به‏,‏ فكان غير مضطرٍّ‏.‏

وإنّ لم يخطر بباله شيء وفعل ما يكفر به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر ولم تبن زوجته لا قضاءً ولا ديانةً‏,‏ لأنّه تعيّن ما أكره عليه ولم يمكنه دفعه عن نفسه إذ لم يخطر بباله غيره‏.‏

ويقول الحنفيّة‏:‏ إنّ الكفر محرّم في نفسه مع ثبوت الرخصة به فأثر الرخصة في تغير حكم الفعل وهو المؤاخذة‏,‏ لا في تغير وصفه وهو الحرمة‏,‏ لأنّ كلمة الكفر ممّا لا يحتمل الإباحة بحال فكانت الحرمة قائمةً‏,‏ إلا أنّه سقطت المؤاخذة لعذر الإكراه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم‏}‏‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز للمكره الإقدام على الكفر إلا إذا كان الإكراه بالقتل فقط‏,‏ فمن خاف على نفسه أنّ يقتل جاز له الإقدام على الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان‏.‏

أمّا الإكراه بغير القتل كالضّرب وقتل الولد ونهب المال وقطع عضوٍ فلا يجوز معه الإقدام على الكفر‏,‏ ولو فعل ذلك كان مرتدّاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يباح بالإكراه التّكلم بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ‏}‏‏.‏

وقال الأذرعي يظهر القول بالوجوب في بعض الأحوال على بعض الأشخاص إذا كان فيه صيانة للحرم والذرّيّة وعلم منه أنّ الصّبر يؤدّي إلى استباحتهم أو استئصالهم‏,‏ وقس على هذا ما في معناه أو أعظم منه‏.‏

وعند الحنابلة قال ابن قدامة‏:‏ من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ‏}‏‏,‏ ثمّ قال‏:‏ من كان محبوساً عند الكفّار ومقيّداً عندهم في حالة خوفٍ‏,‏ وقامت عليه بيّنة أنّه نطق بكلمة الكفر لم يحكم بردّته‏,‏ لأنّ ذلك ظاهر في الإكراه وإن شهدت البيّنة أنّه كان آمناً حال نطقه حكم بردّته‏.‏

ومن نطق بكلمة الكفر لإكراه وقع عليه‏,‏ ثمّ زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه‏,‏ فإن أظهره فهو باقٍ على إسلامه‏,‏ وإن أظهر الكفر حكم أنّه كفر من حين نطق به‏,‏ لأنّنا تبيّنّا بذلك أنّه كان منشرح الصّدر بالكفر من حين نطق به مختاراً له‏.‏

8 - ويتّفق الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصح عند الشّافعيّة على أنّ الصّبر والثّبات على الإيمان مع الإكراه ولو كان بالقتل أفضل من الإقدام على الكفر حتّى لو قتل كان مأجوراً‏,‏ لما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه»‏.‏

ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الأفضل الإتيان بكلمة الكفر صيانةً لنفسه‏.‏

والثّاني‏:‏ إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبوت‏.‏

والثّالث‏:‏ إن كان يتوقّع منه الإنكاء والقيام بأحكام الشّرع فالأفضل أن ينطق بها لمصلحة بقائه‏,‏ وإلا فالأفضل الثبوت‏.‏

أصناف الكفّار

9 - ذكر الكاساني أنّ الكفرة أصناف أربعة‏:‏

صنف منهم ينكرون الصّانع أصلاً‏,‏ وهم الدّهريّة المعطّلة‏.‏

وصنف منهم يقرون بالصّانع‏,‏ وينكرون توحيده‏,‏ وهم الوثنيّة والمجوس‏.‏

وصنف منهم يقرون بالصّانع وتوحيده‏,‏ وينكرون الرّسالة رأساً‏,‏ وهم قوم من الفلاسفة‏.‏ وصنف منهم يقرون الصّانع وتوحيده والرّسالة في الجملة‏,‏ لكنّهم ينكرون رسالة نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنّصارى‏.‏

ما أتفق على اعتباره كفراً وما اختلف فيه

10 - الكفر قسمان‏:‏ قسم يكون بأحد أمورٍ متّفقٍ عليها‏,‏ وقسم يكون بأمور مختلفٍ فيها‏.‏ فالأوّل‏:‏ نحو الشّرك باللّه وجحد ما علم من الدّين بالضّرورة‏,‏ كجحد وجوب الصّلاة والصّوم ونحوهما‏,‏ والكفر الفعلي كإلقاء المصحف في القاذورات‏,‏ وكذلك جحد البعث أو النبوّات‏.‏

والقسم الثّاني‏:‏ فمنه ما يكون بالاعتقاد أو بالقول أو بالفعل أو بالتّرك‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏ردّة ف 10 - 21‏)‏‏.‏

مخاطبة الكفّار بفروع الشّريعة

11 - قال الزّركشي‏:‏ حصول الشّرط العقليّ من التّمكن والفهم ونحوهما شرط في صحّة التّكليف‏,‏ أمّا حصول الشّرط الشّرعيّ فلا يشترط في صحّة التّكليف بالمشروط خلافاً للحنفيّة وهي - المسألة - مفروضة في تكليف الكفّار بالفروع وإن كانت أعمّ منه‏.‏

والجمهور على جواز خطاب الكفّار بالفروع عقلاً‏.‏

أمّا خطاب الكفّار بالفروع شرعاً ففيه - كما قال الزّركشي - مذاهب‏:‏

القول الأوّل‏:‏ أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة مطلقاً في الأوامر والنّواهي بشرط تقديم الإيمان بالمرسل كما يخاطب المحدث بالصّلاة بشرط تقديم الوضوء‏.‏

والدّليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏}‏‏,‏ فأخبر سبحانه وتعالى أنّه عذّبهم بترك الصّلاة وحذّر المسلمين به‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ََلا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَََلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إََِلا بِالْحَقِّ وَََلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

فالآية نصّ في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزّنا‏,‏ لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب‏.‏

وكذلك ذمّ اللّه تعالى قوم شعيبٍ بالكفر ونقص المكيال‏,‏ وذمّ قوم لوطٍ بالكفر وإتيان الذكور‏.‏ كما استدلوا بانعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم كما يعذّب على الكفر باللّه تعالى‏.‏

وقد ذهب إلى هذا القول الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح‏,‏ وهو مقتضى قول مالكٍ وأكثر أصحابه‏,‏ وهو قول المشايخ العراقيّين من الحنفيّة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ إنّ الكفّار غير مخاطبين بالفروع وهو قول الفقهاء البخاريّين من الحنفيّة‏,‏ وبهذا قال عبد الجبّار من المعتزلة والشّيخ أبو حامدٍ الإسفراييني من الشّافعيّة‏,‏ وقال الإبياري‏:‏ إنّه ظاهر مذهب مالكٍ‏,‏ وقال الزّركشي‏:‏ اختاره ابن خويزمنداد المالكي‏.‏

قال السّرخسي‏:‏ لا خلاف أنّهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة‏,‏ وأمّا في العبادات فبالنّسبة إلى الآخرة كذلك‏.‏

أمّا في حقّ الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف‏.‏

واستدلّ القائلون بعدم مخاطبتهم بالفروع بأنّ العبادة لا تتصوّر مع الكفر‏,‏ فكيف يؤمر بها فلا معنى لوجوب الزّكاة وقضاء الصّلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم‏,‏ فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله ‏؟‏‏.‏

القول الثّالث‏:‏ إنّ الكفّار مخاطبون بالنّواهي دون الأوامر‏,‏ لأنّ الانتهاء ممكن في حالة الكفر‏,‏ ولا يشترط فيه التّقرب فجاز التّكليف بها دون الأوامر‏,‏ فإنّ شرط الأوامر العزيمة‏,‏ وفعل التّقريب مع الجهل بالمقرّب إليه محال فامتنع التّكليف بها‏.‏

وقد حكى النّووي في التّحقيق أوجهاً‏,‏ وقال الزّركشي‏:‏ ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا خلاف في تكليف الكفّار بالنّواهي وإنّما الخلاف في تكليفهم بالأوامر‏.‏

ونقل ذلك القول صاحب اللباب من الحنفيّة عن أبي حنيفة وعامّة أصحابه‏.‏

وقيل‏:‏ إنّهم مخاطبون بالأوامر فقط‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصليّ‏.‏

وقيل‏:‏ إنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد‏.‏

وقيل‏:‏ بالتّوقف‏.‏

واجب المسلمين تجاه الكفّار

12 - يجب على المسلمين دعوة الكفّار إلى الإسلام لقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏‏,‏ ولا يقاتلون قبل الدّعوة إلى الإسلام لأنّ قتال الكفّار لم يفرض لعين القتال بل للدّعوة إلى الإسلام‏.‏

والدّعوة دعوتان‏:‏ دعوة بالبنان وهي القتال ودعوة بالبيان وهو اللّسان‏,‏ وذلك بالتّبليغ‏,‏ والدّعوة بالبيان أهون من الدّعوة بالقتال لأنّ في القتال مخاطرة الروح والنّفس والمال‏,‏ وليس في دعوة التّبليغ شيء من ذلك‏,‏ فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها‏,‏ وقد روي‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتّى يدعوهم إلى الإسلام»‏.‏

ثمّ إذا دعاهم المسلمون إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا عنهم القتال لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتي يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه»‏,‏ فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذّمّة إن كانوا ممّن تقبل منهم الجزية‏,‏ فإن أجابوا كفوا عنهم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم» وإن أبوا استعانوا باللّه سبحانه وتعالى على قتالهم ووثقوا بنصر اللّه سبحانه وتعالى لهم بعد أن بذلوا جهدهم واستفرغوا وسعهم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏جزية ف 25 - 30‏,‏ وجهاد ف 24‏)‏‏.‏

ما يلزم الكافر إذا أسلم

13 - قال القرافي‏:‏ أحوال الكافر مختلفة إذا أسلم‏,‏ فيلزمه ثمن البياعات وأجر الإجارات ودفع الديون الّتي اقترضها ونحو ذلك‏.‏

ولا يلزمه من حقوق الآدميّين القصاص ولا الغصب ولا النّهب إن كان حربياً‏,‏ وأمّا الذّمّي فيلزمه جميع المظالم وردها لأنّه عقد الذّمّة وهو راضٍ بمقتضى عقد الذّمّة‏,‏ وأمّا الحربي فلم يرض بشيء‏,‏ فلذلك أسقطنا عنه الغصوب والنهوب والغارات ونحوها‏.‏

وأمّا حقوق اللّه تعالى فلا يلزمه - ولو كان ذمّياً - ممّا تقدّم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصّلوات ولا الزّكوات ولا شيء فرّط فيه من حقوق اللّه تعالى لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإسلام يهدم ما كان قبله»‏.‏

وحقوق العباد قسمان‏:‏ قسم منها رضي به حال كفره واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه‏,‏ فهذا لا يسقط بالإسلام‏,‏ لأنّ إلزامه إيّاه ليس منفّراً له عن الإسلام لرضاه‏.‏

أمّا ما لم يرض بدفعه لمستحقّه كالقتل والغصب ونحوه فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أهلها‏,‏ فهذا كله يسقط‏,‏ لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام فقدّمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق‏.‏

وأمّا حقوق اللّه تعالى فتسقط مطلقاً رضي بها أم لم يرض‏,‏ والفرق بينها وبين حقوق الآدميّين من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ الإسلام حقّ للّه تعالى‏,‏ والعبادات ونحوها حقّ للّه تعالى كذلك‏,‏ ولمّا كان الحقّان لجهة واحدةٍ ناسب أن يقدّم أحدهما على الآخر‏,‏ ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحقّ الثّاني لجهة الحقّ السّاقط‏.‏

وأمّا حق الآدميّين فلجهة الآدميّين والإسلام ليس حقّاً لهم‏,‏ بل لجهة اللّه تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حقّ غيرهم‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنّ اللّه تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة‏,‏ والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التّمسك بحقّه‏,‏ فسقطت حقوق اللّه تعالى مطلقاً وإن رضي بها كالنذور والأيمان‏,‏ أو لم يرض بها كالصّلوات والصّيام‏,‏ ولا يسقط من حقوق العباد ما تقدّم الرّضا به‏.‏

معاملة الأبوين الكافرين

14 - أمر الإسلام ببرّ الوالدين والإحسان إليهما سواءً أكان الوالدان مسلمين أم كافرين‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏بر الوالدين ف 3‏)‏‏.‏

نجاسة الكافر وطهارته

15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الكافر الحيّ طاهر لأنّه آدميّ‏,‏ والآدمي طاهر سواء أكان مسلماً أم كافراً‏,‏ لقول اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ‏}‏‏,‏ وليس المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس‏}‏‏,‏ نجاسة الأبدان وإنّما المراد نجاسة ما يعتقدونه‏,‏ وقد ربط النّبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد‏.‏

مس الكافر المصحف

16 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر مس المصحف لأنّ في ذلك إهانةً للمصحف‏.‏

وقال محمّد بن الحسن‏:‏ لا بأس أن يمسّ الكافر المصحف إذا اغتسل‏,‏ لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل‏,‏ وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يمنع الكافر من أن يحمل حرزاً من قرآنٍ ولو بساتر لأنّه يؤدّي إلى امتهانه‏.‏

دخول الكافر المسجد

17 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر دخول المسجد الحرام لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا‏}‏ والمسجد الحرام مراد به الحرم لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏‏,‏ وإنّما أسري به من بيت أمّ هانئٍ من خارج المسجد‏.‏

أمّا المساجد الأخرى غير المسجد الحرام فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يحل لهم دخولها بغير إذن المسلمين لما روى عياض الأشعري أنّ أبا موسى رضي الله عنه وفد إلى عمر رضي الله عنه ومعه نصرانيّ فأعجب عمر خطه فقال قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتاباً فقال إنّه لا يدخل المسجد فقال لم ‏؟‏ أجنب هو ‏؟‏ قال لا هو نصرانيّ قال فانتهره عمر‏.‏

فإن دخل من غير إذنٍ عزّر لما روت أم غرابٍ قالت رأيت علياً كرّم اللّه وجهه على المنبر وبصر بمجوسيّ فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة‏.‏

وإن وفد قوم من الكفّار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد‏,‏ لما روي‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة والنّضير في مسجد المدينة» «وربط ثمامة بن أثالٍ في المسجد»‏.‏

وعند المالكيّة يمنع الكافر من دخول المسجد وإن أذن له مسلم في الدخول‏,‏ وهذا ما لم تدع ضرورة لدخوله بأن لم يوجد نجّار أو بنّاء وغيره والمسجد محتاج إلى ذلك‏,‏ أو وجد مسلم لكن كان الكافر أتقن للصّنعة‏,‏ فلو وجد مسلم مماثل له في إتقان الصّنعة لكن كانت أجرة المسلم أزيد من أجرة الكافر فإن كانت الزّيادة يسيرةً لم يكن هذا من الضّرورة وإلا كان منها على الظّاهر‏.‏

وإذا دخل الكافر المسجد للعمل فيندب أن يدخل من جهة عمله‏.‏

وما ذهب إليه المالكيّة هو رواية عند الحنابلة‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ وفيه رواية أخرى‏:‏ ليس لهم دخوله بحال‏.‏

وعند الحنفيّة يجوز للكافر دخول المسجد‏,‏ سواء أكان المسجد الحرام أم غيره من المساجد‏,‏ لما روي‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيفٍ في مسجده وهم كفّار»‏,‏ ولأنّ الخبث في اعتقادهم فلا يؤدّي إلى تلويث المسجد‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا‏}‏ محمول على الحضور استيلاءً واستعلاءً‏,‏ أو طائفين عراةً كما كانت عادتهم في الجاهليّة فليس الممنوع نفس الدخول‏.‏

تلقين الكافر المحتضر

18 - قال الإسنوي‏:‏ لو كان - أي المحتضر - كافراً لقّن الشّهادتين وأمر بهما‏,‏ لما روى أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «كان غلام يهودي يخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النّبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له‏:‏ أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له‏:‏ أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ الحمد للّه الّذي أنقذه من النّار»‏.‏

وتلقين الكافر المحتضر الشّهادة يكون وجوباً إن رجي إسلامه‏,‏ وإن لم يرج إسلامه فيندب ذلك‏.‏

قال الجمل‏:‏ وظاهر هذا أنّه يلقّن إن رجي إسلامه وإن بلغ الغرغرة ولا بعد فيه‏,‏ لاحتمال أن يكون عقله حاضراً وإن ظهر لنا خلافه وإن كنّا لا نرتّب عليه أحكام المسلمين حينئذٍ‏.‏

ولاية الكافر على المسلم وولاية المسلم على الكافر

19 - لا يعتبر الكافر من أهل الولاية بالنّسبة للمسلم لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً‏}‏‏,‏ وليس للمسلم ولاية بالنّسبة للكافر إلا بالسّبب العامّ كولاية السلطان أو نائبه وهذا في الجملة‏.‏

ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - لا يجوز للكافر أنّ يزوّج ابنته المسلمة‏,‏ ولا للمسلم أنّ يزوّج ابنته الكافرة لأنّ الموالاة منقطعة بينهما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏‏.‏

ب - القضاء من الولايات العامّة‏,‏ ويشترط في القاضي أن يكون مسلماً‏,‏ ولا يجوز تولية الكافر القضاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً‏}‏‏,‏ وسواء أكانت تولية الكافر القضاء بين المسلمين‏,‏ أم بين أهل دينه‏.‏

وأجاز أبو حنيفة أن يتولّى الكافر القضاء بين أهل دينه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏قضاء ف 22‏)‏‏.‏

أنكحة الكفّار

20 - أنكحة الكفّار صحيحة ويقرون عليها إن أسلموا‏,‏ أو تحاكموا إلينا إذا كانت المرأة ممّن يجوز ابتداء نكاحها في الحال‏,‏ ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيّته‏,‏ ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الوليّ والشهود وصيغة الإيجاب والقبول وأشباه ذلك‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ أجمع العلماء على أنّ الزّوجين إذا أسلما في الحال معاً أنّ لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع‏,‏ وقد أسلم خلق كثير في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ فأقرّهم على أنكحتهم ولم يسألهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن شروط النّكاح ولا كيفيّته‏,‏ وهذا أمر عرف بالتّواتر والضّرورة فكان يقيناً‏,‏ ولكن ينظر في الحال فإن كانت المرأة على صفةٍ يجوز له ابتداء نكاحها أقرّ‏,‏ وإن كانت ممّا لا يجوز ابتداء نكاحها كإحدى المحرّمات بالنّسب أو السّبب أو المعتدّة والمرتدّة والوثنيّة والمجوسيّة والمطلّقة ثلاثاً لم يقرّ‏.‏

وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوةٍ وأسلمن معه لزمه أن يختار أربعاً منهنّ ويفارق ما زاد على ذلك لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان لمّا أسلم على تسع نسوةٍ‏:‏ «أن يختار منهنّ أربعاً»‏.‏

وللفقهاء تفصيل في ذلك وفيما إذا أسلم أحد الزّوجين ولم يسلم الآخر أو أسلم أحدهما ثمّ أسلم الآخر في العدّة أو بعدها‏,‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏نكاح وإسلام ف 5‏)‏‏.‏

نكاح المسلم كافرةً ونكاح الكافر مسلمةً

21 - يحرم على المسلم أن يتزوّج ممّن لا كتاب لها من الكفّار لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏ وهذا باتّفاق‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم‏.‏

والعلّة في تحريم نكاح المشركات كما يقول الكاساني‏:‏ إنّ ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدّينيّة لا يحصل السكن والمودّة الّتي هي قوام مقاصد النّكاح‏.‏

22 - ويجوز للمسلم زواج الحرائر من نساء أهل الكتاب وهم اليهود والنّصارى لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏‏,‏ ولأنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم تزوّجوا من أهل الذّمّة فتزوّج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة وهي نصرانيّة وأسلمت عنده‏,‏ وتزوّج حذيفة رضي الله تعالى عنه بيهوديّة من أهل المدائن‏.‏ وإنّما جاز نكاح الكتابيّة لرجاء إسلامها‏,‏ لأنّها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة‏.‏ ومع الحكم بجواز نكاح الكتابيّة‏,‏ فإنّه يكره الزّواج منها‏,‏ لأنّه لا يؤمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدّين‏,‏ أو يتولّى أهل دينها‏,‏ فإن كانت حربيّةً فالكراهية أشد‏,‏ لأنّه لا تؤمن الفتنة أيضاً‏,‏ ولأنّه يكثر سواد أهل الحرب‏,‏ ولأنّه لا يؤمن أن يسبى ولده منها فيسترق‏.‏

وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه للّذين تزوّجوا من نساء أهل الكتاب‏:‏ طلّقوهنّ فطلّقوهنّ إلا حذيفة رضي الله عنه ، فقال له عمر‏:‏ طلّقها قال‏:‏ تشهد أنّها حرام ‏؟‏ قال‏:‏ هي خمرة طلّقها ، قال‏:‏ تشهد أنّها حرام ‏؟‏ قال‏:‏ هي خمرة ، قال‏:‏ قد علمت أنّها خمرة ولكنّها لي حلال ، فلمّا كان بعد طلّقها ، فقيل له‏:‏ ألا طلّقتها حين أمرك عمر ‏؟‏ قال‏:‏ كرهت أن يرى النّاس أنّي ركبت أمراً لا ينبغي لي‏.‏

وقد كره ذلك أيضاً مالك لأنّها تتغذّى بالخمر والخنزير‏,‏ وتغذّي ولده بهما‏,‏ وهو يقبّلها ويضاجعها وليس له منعها من ذلك التّغذّي‏,‏ ولو تضرّر برائحته‏,‏ ولا من الذّهاب للكنيسة‏,‏ وقد تموت وهي حامل فتدفن في مقبرة الكفّار وهي حفرة من حفر النّار‏.‏

23 - ولا يجوز للكافر أنّ يتزوّج مسلمةً لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ‏}‏‏,‏ ولأنّ في نكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر‏,‏ لأنّ الزّوج يدعوها إلى دينه‏,‏ والنّساء في العادات يتبعن الرّجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلّدنهم في الدّين‏,‏ وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في آخر الآية بقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ‏}‏ لأنّهم يدعون المؤمنات إلى الكفر‏,‏ والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النّار‏,‏ لأنّ الكفر يوجب النّار‏,‏ فكان نكاح الكافر المسلمة سبباً داعياً إلى الحرام فكان حراماً‏,‏ والنّص وإن ورد في المشركين لكن العلّة وهي الدعاء إلى النّار تعم الكفرة أجمع‏,‏ فيعم الحكم بعموم العلّة‏.‏

24 - واختلف الفقهاء في زواج المسلم من المجوسيّة باعتبار شبهها بأهل الكتاب‏.‏

كما اختلفوا في الزّواج من السّامرة والصّابئة‏.‏

واختلفوا فيما إذا كان أحد أبويّ الكافرة كتابياً والآخر وثنياً‏.‏

وكذلك فيما إذا تزوّج كتابيّةً فانتقلت إلى دينٍ آخر من أهل الكتاب‏,‏ أو من غير أهل الكتاب‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

وصيّة الكافر والوصيّة له

25 - إسلام الموصي ليس بشرط لصحّة الوصيّة باتّفاق فتصح الوصيّة من الكافر بالمال للمسلم والكافر‏,‏ لأنّ الكفر لا ينافي أهليّة التّمليك‏,‏ ولأنّه يصح بيعه وهبته فكذا وصيّته‏.‏ وكما جازت الوصيّة من الكافر فإنّها تجوز له من مسلمٍ أو كافرٍ في الجملة‏,‏ وروي ذلك أيضاً عن شريحٍ والشّعبيّ والثّوريّ وإسحاق‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

الإجارة والاستئجار من الكافر

26 - قال الكاساني‏:‏ إسلام العاقد في الإجارة ليس بشرط أصلاً‏,‏ فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم والذّمّيّ والحربيّ والمستأمن لأنّ هذا من عقد المعاوضات فيملكه المسلم والكافر جميعاً كالبياعات‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إجارة ف 98‏)‏‏.‏

27 - أمّا استئجار الذّمّيّ للمسلم فإن كان في عملٍ معيّنٍ في الذّمّة كخياطة ثوبٍ وقصارته جاز‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ بغير خلافٍ نعلمه‏,‏ لأنّ علياً رضي الله عنه أجّر نفسه من يهوديٍّ يسقي له كلّ دلوٍ بتمرة وأخبر النّبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكره‏.‏

أمّا إجارته لخدمته فقد نصّ أحمد في رواية الأثرم‏:‏ أنّه لا يجوز‏,‏ لأنّه عقد يتضمّن حبس المسلم عند الكافر وإذلاله له واستخدامه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إجارة ف 104‏)‏‏.‏

الشّركة بين المسلم والكافر

28 - أجاز المالكيّة والحنابلة الشّركة بين المسلم والكافر بشرط أن لا يتصرّف الكافر إلا بحضور شريكه المسلم‏,‏ لأنّ ارتكابه المحظورات الشّرعيّة في تصرفاته للشّركة يؤمن حينئذٍ‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى الجواز أيضاً لكن مع الكراهة‏,‏ لأنّ الكافر لا يهتدي إلى وجوه التّصرفات المشروعة في الإسلام‏,‏ وعند أبي حنيفة ومحمّدٍ‏:‏ لا تجوز الشّركة بين المسلم والكافر‏,‏ لأنّ الكافر يسعه أن يشتري الخمر والخنزير ويبيعهما‏,‏ وليس كذلك المسلم‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏شركة ف 41‏)‏‏.‏

الاستعانة بالكافر في الجهاد

29 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز الاستعانة بالكفّار في الجهاد في غير حاجةٍ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل بدرٍ فلمّا كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلمّا أدركه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئت لأتبعك وأصيب معك فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتؤمن باللّه ورسوله ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فارجع فلن أستعين بمشرك ، قالت ثمّ مضى حتّى إذا كنّا بالشّجرة أدركه الرّجل فقال له كما قال له أوّل مرّةٍ فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم كما قال أوّل مرّةٍ‏:‏ قال‏:‏ فارجع فلن أستعين بمشرك ، قال ثمّ رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أوّل مرّةٍ‏:‏ تؤمن باللّه ورسوله ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فانطلق»‏.‏

وأمّا إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بالكافر ففي ذلك تفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏استعانة ف 5‏,‏ أهل الكتاب ف 11‏,‏ جهاد ف 26‏)‏‏.‏

الوقف من الكافر وله

30 - ذهب الفقهاء إلى جواز وقف الكافر على المسلم وغير المسلم بشرط أن لا يكون في معصيةٍ‏.‏

كما يجوز وقف المسلم على الذّمّيّ في غير معصيةٍ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

كَفّ

التّعريف

1 - الكف في اللغة‏:‏ راحة اليد مع الأصابع‏,‏ يؤنّث‏,‏ وزعم بعضهم أنّه يذكّر‏,‏ وجمعها كفوف وأكفّ‏,‏ مثل فلسٍ وفلوسٍ وأفلسٍ‏.‏

سمّيت بذلك‏,‏ لأنّها تكف الأذى عن البدن‏.‏

وتكفّف الرّجل النّاس واستكفّهم‏:‏ مدّ كفّه إليهم بالمسألة‏,‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث‏:‏ «إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس»‏.‏

وقيل‏:‏ معنى استكفّ النّاس‏:‏ أخذ الشّيء بيده‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإصبع‏:‏

2 - الإصبع اسم يقع على السلامى والظفر والأنملة والأطرة والبرجمة معاً‏.‏

ويستعار للأمر الحسّيّ فيقال‏:‏ لك على فلانٍ إصبع كقولك‏:‏ لك عليه يد‏,‏ والجمع أصابع‏.‏ والإصبع مؤنّثة وكذلك سائر أسمائها مثل الخنصر والبنصر‏,‏ قال الصّغاني‏:‏ يذكّر ويؤنّث والغالب التّأنيث‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والعلاقة بين الكفّ والإصبع الجزئيّة حيث إنّ الإصبع أحد أطراف الكفّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالكفّ

أوّلاً‏:‏ غسل الكفّين في أوّل الوضوء

3 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة غسل الكفّين إلى الكوعين في أوّل الوضوء لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك‏,‏ فقد روى عثمان بن عفّان رضي الله عنه وصف وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «دعا بإناء فأفرغ على كفّيه ثلاث مرارٍ فغسلهما ثمّ أدخل يمينه في الإناء»‏.‏

ولكنّهم اختلفوا في حكم الغسل عند القيام من النوم وذلك بعدما اتّفقوا على أنّ غسلهما من سنن الوضوء لغير القائم من النوم‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ غسل الكفّين سنّة من سنن الوضوء سواء قام المتوضّئ من نومٍ أو لم يقم من نومٍ‏,‏ وسواء كان هذا النّوم من نوم اللّيل أو من نوم النّهار‏,‏ لأنّ آية الوضوء لم تذكر غسل الكفّين من بين الفروض والواجبات‏,‏ ولأنّ الحديث يدل على الاستحباب لتعليله بما يقتضي ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثاً فإنّه لا يدري أين باتت يده»‏,‏ حيث إنّ طروء الشّكّ على اليقين لا يؤثّر فيه‏.‏

والرّواية الأخرى عن أحمد هي وجوب غسل الكفّين عند القيام من النّوم للأمر به في الحديث السّابق‏,‏ وأمره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب‏.‏

وإلى هذا ذهب ابن عمر وأبو هريرة والحسن البصري‏.‏

ثمّ اختلف الموجبون في أيّ نومٍ يجب منه الغسل ‏؟‏

فذهب أحمد في الرّواية عنه بالوجوب إلى أنّ وجوب الغسل يكون عند القيام من نوم اللّيل ولا يجب غسلهما من نوم النّهار بدلالة الحديث على ذلك‏,‏ حيث قال‏:‏ «فإنّه لا يدري أين باتت يده»‏,‏ والمبيت لا يكون إلا بليل‏,‏ ولأنّ نوم اللّيل مظنّة الاستغراق فإصابته فيه بالنّجاسة أكثر احتمالاً‏.‏

وسوّى الحسن بين نوم اللّيل ونوم النّهار في الوجوب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا استيقظ أحدكم من نومه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»‏.‏

ثانياً‏:‏ غسل الكفّين مع اليدين في الوضوء

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ غسل الكفّين مع اليدين إلى المرفقين من أركان الوضوء لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ‏}‏‏.‏

وللأحاديث الواردة في وصف وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومنها‏:‏ «أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثمّ غسل يده اليمنى حتّى أشرع في العضد ثمّ يده اليسرى حتّى أشرع في العضد‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ مسح الكفّين في التّيمم

5 - اتّفق الفقهاء على وجوب مسح الكفّين بالتراب عند التّيمم وأنّ هذا ركن من أركان التّيمم‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏‏,‏ وللأحاديث الواردة في هذا الباب‏,‏ منها‏:‏ عن عمّارٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «بعثني النّبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصّعيد كما تمرّغ الدّابّة ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ إنّما كان يكفيك أنّ تقول بيديك هكذا ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه»‏.‏

ولكنّهم اختلفوا في مسح ما عدا الكفّين من السّاعد والمرفق‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏تيمم ف 7 - 11‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ غسل الكفّين قبل الأكل وبعده

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب غسل الكفّين قبل الأكل وبعده وإن كان على وضوءٍ لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من أحبّ أن يكثر اللّه خير بيته فليتوضّأ إذا حضر غذاؤُه وإذا رفع»‏.‏

وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بات وفي يده ريح غمرٍ فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه»‏.‏

قال العلماء‏:‏ المراد بالوضوء في هذه الأحاديث هو غسل اليدين لا الوضوء الشّرعي‏.‏

وقال الصّاوي من المالكيّة‏:‏ غسل اليد قبل الطّعام وإنّ لم يكن سنّةً عندنا فهو بدعة حسنة‏,‏ أمّا بعد الأكل فيندب الغسل‏.‏

وفي روايةٍ عن الإمام أحمد‏:‏ أنّه يكره الغسل قبل الطّعام وبعده‏,‏ واختاره القاضي‏,‏ وفي روايةٍ عنه يكره قبله‏.‏

خامساً‏:‏ قطع الكفّ في القصاص

7 - أجمع الفقهاء على وجوب القصاص في قطع الكفّ إذا توفّرت في الجناية شروط القصاص‏,‏ لوجوب المماثلة ولإمكان الاستيفاء فيه من غير حيفٍ‏.‏

فإذا قطعت يد المجنيّ عليه من مفصل الكوع وجب القصاص للمجنيّ عليه‏,‏ وله قطع يد الجانّي من مفصل الكوع‏,‏ لأنّه أمكنه استيفاء حقّه دون الخوف من حيفٍ‏.‏

وقال الفقهاء ليس له التقاط - أي قطع - أصابع الجانّي لأنّ هذا غير محلّ الجناية فلا يجوز الاستيفاء من غيره مع قدرته على محلّ الجناية‏,‏ ومهما أمكنه المماثلة فليس له العدول عنها‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ حتّى لو طلب قطع أنملةٍ واحدةٍ لم يمكّن من ذلك فإن فعل وقطع الأصابع عزّر لعدوله عن المستحقّ ولا غرم لأنّ له إتلاف الجملة فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم‏.‏

والأصح أنّ له قطع الكفّ بعد ذلك‏.‏

سادساً‏:‏ دية الكفّ

8 - أجمع الفقهاء على وجوب نصف ديةٍ في قطع اليد من مفصل الكفّ الصّحيح إذا كانت الجناية عمداً‏,‏ وعفي عن القصاص أو كانت خطأً أو شبه عمدٍ لحديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال‏:‏ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «وفي اليدين الدّية» الحديث‏,‏ ولما ورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزمٍ رضي الله عنه‏:‏ «وفي اليد خمسون من الإبل»‏.‏

والمراد من اليد الّتي تجب فيها الدّية الواردة في الحديثين هي الكف‏,‏ لأنّ اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليها بدليل‏:‏ أنّ اللّه تعالى لمّا قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏}‏ كان الواجب قطعهما من الكوع‏,‏ ولأنّ فيهما جمالاً ظاهراً ومنفعةً كاملةً‏,‏ وليس في البدن من جنسهما غيرهما‏,‏ فكان فيهما الدّية كالعينين‏,‏ ولأنّ المنفعة المقصودة في اليد من البطش والأخذ والدّفع وغير ذلك تتم بالكفّ‏,‏ وما زاد تابع للكفّ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ديات ف 43‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ قطع كفّ السّارق

9 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ يد السّارق تقطع عند استيفاء شروط السّرقة من مفصل الكفّ وهو الكوع لما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قطع يد سارقٍ من المفصل»‏,‏ ولما روي عن أبي بكرٍ الصّدّيق‏,‏ وعمر رضي الله عنهما أنّهما قالا‏:‏ إذا سرق السّارق فاقطعوا يمينه من الكوع‏,‏ ولما روي عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما‏:‏ أنّهما قطعا اليد من المفصل‏.‏

قال الكاساني‏:‏ روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد السّارق من مفصل الزّند‏,‏ فكان فعله بياناً للمراد من الآية الشّريفة‏,‏ كأنّه نصّ سبحانه وتعالى فقال‏:‏ فاقطعوا أيديهما من مفصل الزّند‏,‏ وعليه عمل الأمّة من لدن رسول اللّه إلى يومنا هذا‏.‏

وحكي عن بعض العلماء‏:‏ أنّ يد السّارق تقطع من المرفق‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ تقطع من منبت الأصابع‏.‏

وقيل‏:‏ تقطع من المنكب‏,‏ وأدلّة هؤُلاء جميعاً ظاهر آية السّرقة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏}‏ الآية‏,‏ قالوا‏:‏ إنّ اسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب بدليل أنّ عمّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما فهم هذا المعنى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏‏,‏ فمسح بالتراب إلى المنكب‏,‏ ولم يخطأ من طريق اللغة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة ف 65 و 66‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ قطع كفّ قاطع الطّريق

10 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ يد قاطع الطّريق الّذي تتوفّر فيه شروط القطع تقطع من مفصل الكفّ‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حد ف 33‏)‏‏.‏

كَفّ النّفس

التّعريف

1 - من معاني الكفّ في اللغة التّرك والمنع‏,‏ يقال‏:‏ كفّ عن الشّيء كفاً من باب قتل‏,‏ إذا تركه‏,‏ وكففته كفاً منعته‏.‏

وأمّا في الاصطلاح فعرّفه الأصوليون بأنّه الانتهاء عن المنهيّ عنه‏,‏ قال في التّقرير والتّحبير‏:‏ إنّ الفعل المكلّف به في النّهي هو كفه النّفس عن المنهيّ‏,‏ أي انتهاؤُه عن المنهيّ عنه‏,‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى‏}‏ نهي يقتضي انتهاء المكلّف عن المنهيّ عنه‏,‏ أي الزّنا إذا طلبته نفسه‏.‏

فلا يحصل الكف عن المنهيّ عنه إلا بعد إقبال النّفس عليه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّرك‏:‏

2 - من معاني التّرك التّخلية والإسقاط وعدم الفعل‏,‏ يقال‏:‏ تركت الشّيء إذا خلّيته‏,‏ وترك حقّه إذا أسقطه‏,‏ وترك ركعةً من الصّلاة إذا لم يأت بها‏.‏

فالتّرك قد يستعمل في المأمور به من الواجب أو السنّة‏,‏ وقد يستعمل في المنهيّ عنه من الحرام أو المكروه‏.‏

كما يستعمل في الحقوق ونحوها‏.‏

وعلى ذلك فالتّرك أعم من كفّ النّفس الّذي لا يستعمل إلا في المنهيّ عنه‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - عرّف الأصوليون الحكم بأنّه خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً‏,‏ وقالوا‏:‏ إن كان الخطاب حتماً لفعل غير كفٍّ فالإيجاب ، أو ترجيحاً فالنّدب‏,‏ وإن كان حتماً لكفّ فالتّحريم‏,‏ أو غير حتمٍ فالكراهة‏.‏

وصرّحوا بأنّه لا تكليف - أمراً كان أو نهياً - إلا بفعل كسبيٍّ للمكلّف‏,‏ والفعل المكلّف به في النّهي كفه النّفس عن المنهيّ‏,‏ ويستلزم النّهي عن الشّيء سبق الدّاعية أي داعية المنهيّ إلى فعله‏,‏ فلا تكليف قبل الدّاعية‏,‏ فإذا قال الشّارع‏:‏ لا تزن‏,‏ والغرض أنّ معناه كف نفسك من الزّنا لزم أن لا يتعلّق التّكليف قبل طلب النّفس للزّنا‏,‏ لأنّه إذا لم يخطر طلبها للزّنا كيف يتصوّر كفها عنه ‏؟‏ فلو طلب منه كفّ النّفس في حال عدم طلبها طلب ما هو محال‏.‏

وعلى هذا يكون نحو‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى‏}‏ تعليق التّكليف‏,‏ أي إذا طلبته نفسك فكفّها‏.‏ وبناءً على ذلك فسّر أكثر الأصوليّين القادر الموجّه إليه التّكليف بأنّه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل‏,‏ لا إن شاء فعل وإن شاء ترك‏,‏ فيدخل في المقدور عدم الفعل إذا ترتّب على عدم المشيئة‏,‏ وكان الفعل ممّا يصح ترتبه على المشيئة‏,‏ فتخرج العدميّات الّتي ليست كذلك‏,‏ فالمكلّف به في النّهي ليس مجرّد عدم الفعل‏,‏ كما ذهب إليه كثير من المعتزلة‏.‏

وعلى ذلك فكف النّفس فعل يتعلّق به التّكليف كما يتعلّق بالعمل في المأمور به‏,‏ أمّا عدم الفعل‏,‏ فكان متحقّقاً من قبل واستمرّ‏,‏ فلا يتعلّق به التّكليف أصلاً‏,‏ كما حقّقه الشّيخ عبد الرّحمن الشّربيني على حاشية العلامة البنانيّ‏.‏

ونقل ابن أمير الحاجّ عن السبكيّ أنّه وقف على دليلين يدلان على أنّ الكفّ فعل‏,‏ أحدهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً‏}‏ إذ الاتّخاذ افتعال‏,‏ والمهجور المتروك‏.‏

والثّاني ما رواه أبو جحيفة السّوائي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أي الأعمال أحب إلى اللّه ‏؟‏ فسكتوا فلم يجبه أحد قال‏:‏ هو حفظ اللّسان»‏.‏

وتفصيل الموضوع في الملحق الأصوليّ‏.‏

ترتب الثّواب على كفّ النّفس

4 - لقد تقدّم أنّ كفّ النّفس فعل يتعلّق به التّكليف‏,‏ ومن المقرّر عند الأصوليّين أنّ ممتثل التّكليف مطيع‏,‏ والطّاعة حسنة والحسنة مستلزمة للثّواب على ما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏}‏‏.‏

وعلى ذلك فالكف عن المنهيّ عنه بالمعنى الّذي تقدّم موجب للثّواب‏,‏ كما حقّقه الآمدي في معرض أدلّة المتكلّمين على أنّ الكفّ فعل‏,‏ لكن يشترط بعضهم للثّواب أن يكون الكف بقصد الامتثال‏.‏

قال الشّربيني في تقريراته على حاشية البنانيّ‏:‏ إنّ في التّكليف بالنّهي ثلاثة أمورٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ المكلّف به‏,‏ وهو مطلق التّرك‏,‏ ولا يتوقّف على قصد الامتثال بالفعل‏,‏ بل مداره على إقبال النّفس على الفعل ثمّ كفها عنه‏.‏

الثّاني‏:‏ المكلّف به المثاب عليه‏,‏ وهو التّرك للامتثال‏.‏

الثّالث‏:‏ عدم المنهيّ عنه‏,‏ وهو المقصود‏,‏ لكنّه ليس مكلّفاً به لعدم قدرة المكلّف عليه‏,‏ وهذا هو التّحقيق‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

كفّار

انظر‏:‏ كفر‏.‏

كفّارة

التّعريف

1 - الكفّارة في اللغة‏:‏ مأخوذة من الكفر وهو السّتر‏,‏ لأنّها تغطّي الذّنب وتستره‏,‏ فهي اسم من كفّر اللّه عنه الذّنب‏,‏ أي محاه لأنّها تكفّر الذّنب‏,‏ وكأنّه غطّى عليه بالكفّارة‏.‏

وفي التّهذيب‏:‏ سمّيت الكفّارات كفّاراتٍ‏,‏ لأنّها تكفّر الذنوب‏,‏ أي تسترها مثل كفّارة الأيمان‏,‏ وكفّارة الظّهار‏,‏ والقتل الخطأ‏,‏ وقد بيّنها اللّه تعالى في كتابه وأمر بها عباده‏.‏ والكفّارة‏:‏ ما كفّر به من صدقةٍ أو صومٍ أو نحو ذلك‏.‏

وتكفير اليمين فعل ما يجب بالحنث فيها‏,‏ والتّكفير في المعاصي‏:‏ كالإحباط في الثّواب‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ قال النّووي‏:‏ الكفّارة من الكَفر - بفتح الكاف - وهو السّتر لأنّها تستر الذّنب وتذهبه‏,‏ هذا أصلها‏,‏ ثمّ استعملت فيما وجد فيه صورة مخالفة أو انتهاك وإن لم يكن فيه إثم كالقتل خطأً وغيره‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستغفار‏:‏

2 - الاستغفار في اللغة‏:‏ طلب المغفرة‏.‏

وشرعاً‏:‏ سؤال المغفرة والتّجاوز بها عن الذّنب وعدم المؤاخذة به‏.‏

وقد يأتي الاستغفار بمعانٍ أخرى‏,‏ فيأتي بمعنى الإسلام‏,‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏‏.‏

يقول مجاهد وعكرمة‏:‏ أي يسلمون‏.‏

كما يأتي بمعنى الدعاء والتّوبة‏,‏ هكذا يقول القرطبي‏.‏

والصّلة أنّ كلاً من الكفّارة والاستغفار يكون - بمشيئة اللّه تعالى - سبباً لمغفرة الذّنب‏.‏

ب - التّوبة‏:‏

3 - التّوبة في اللغة‏:‏ العود والرجوع عن المعصية‏.‏

يقال‏:‏ تاب عن ذنبه‏,‏ إذا رجع عنه وأقلع‏,‏ وتاب اللّه عليه‏:‏ وفّقه للتّوبة‏.‏

وشرعاً‏:‏ هي النّدم والإقلاع عن المعصية والعزم على عدم العود إليها إذا قدر‏.‏

والصّلة بين الكفّارة والتّوبة أنّ كلاً منهما - بمشيئة اللّه تعالى - سبب لمغفرة الذّنب‏.‏

ج - العقوبة‏:‏

4 - العقوبة في اللغة‏:‏ مأخوذة من العقب‏,‏ وهو الجري بعد الجري والولد بعد الولد‏.‏ والعقبة بالضّمّ‏:‏ النّوبة والبدل واللّيل والنّهار‏,‏ لأنّهما يتعاقبان‏.‏

وفي الاصطلاح هي‏:‏ زواجر شرعها اللّه - عزّ وجلّ - للرّدع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر‏,‏ ليردع بها ذوي الجهالة حذراً من ألم العقوبة‏.‏

وهذه الزّواجر‏:‏ إمّا أن تكون مقدّرةً‏,‏ فتسمّى حداً وإمّا أن تكون غير مقدّرةٍ فتسمّى تعزيراً‏.‏

والصّلة بين الكفّارة والعقوبة أنّ الكفّارة فيها معنى العبادة‏,‏ وليست العقوبة كذلك‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - الكفّارة مشروعة باتّفاق الفقهاء وهي واجبة جبراً لبعض الذنوب والمخالفات الشّرعيّة‏.‏

ودليل ذلك الكتاب والسنّة والإجماع‏:‏

أمّا الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً‏}‏‏.‏

وأمّا السنّة‏:‏ فما ورد عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها من غير مسألةٍ أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألةٍ وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فأت الّذي هو خير ، وكفّر عن يمينك»‏.‏

وأمّا الإجماع‏:‏ فقد أجمع المسلمون من عصر الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على مشروعيّة الكفّارة‏.‏

الوصف الشّرعي للكفّارة

6 - نصّ الحنفيّة على أنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة ومعنى العبادة‏.‏

قال ابن نجيمٍ‏:‏ وأمّا صفتها أي الكفّارة مطلقاً فهي عقوبة وجوباً‏,‏ لكونها شرعت أجزيةً لأفعال فيها معنى الحظر‏,‏ عبادة أداءٍ‏,‏ لكونها تتأدّى بالصّوم والإعتاق والصّدقة وهي قرب‏,‏ والغالب فيها معنى العبادة‏,‏ إلا كفّارة الفطر في رمضان فإنّ جهة العقوبة فيها غالبة بدليل أنّها تسقط بالشبهات كالحدود‏,‏ ولا تجب مع الخطأ‏,‏ بخلاف كفّارة اليمين لوجوبها مع الخطأ‏,‏ وكذا كفّارة القتل الخطأ‏,‏ وأمّا كفّارة الظّهار فقالوا‏:‏ إنّ معنى العبادة فيها غالب‏.‏ وقال الشّربيني الخطيب من الشّافعيّة‏:‏ وهل الكفّارات بسبب حرامٍ زواجر كالحدود والتّعازير للخلل الواقع ‏؟‏ وجهان‏,‏ أوجههما الثّاني كما رجّحه ابن عبد السّلام‏,‏ لأنّها عبادات ولهذا لا تصح إلا بالنّيّة‏.‏

وقال الشّيخ محمّد علي من المالكيّة‏:‏ وقد اختلف في بعض الكفّارات هل هي زواجر لما فيها من مشاقّ تحمل الأموال وغيرها‏,‏ أو هي جوابر لأنّها عبادات لا تصح إلا بالنّيّات‏,‏ وليس التّقرب إلى اللّه تعالى زجراً‏,‏ بخلاف الحدود والتّعزيرات فإنّها ليست قربات‏,‏ لأنّها ليست فعلاً للمزجورين‏.‏

أسباب وجوب الكفّارة

لوجوب الكفّارة أسباب عدّة‏:‏

أوّلاً‏:‏ الحنث في اليمين

7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ كفّارة اليمين لا تجب إلا بالحنث فيه‏.‏

ولا خلاف بينهم في أنّ موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين‏,‏ وذلك بفعل ما حلف على عدم فعله‏,‏ أو ترك ما حلف على فعله‏,‏ إذا علم أنّه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله‏,‏ إلى وقتٍ لا يمكنه فيه فعله‏.‏

ولا خلاف على وجوب الكفّارة بالحنث في اليمين المعقودة على أمرٍ في المستقبل‏,‏ نفياً كان أو إثباتًا‏.‏

كما لا خلاف بينهم على عدم وجوبها في اليمين اللّغو في الزّمن الماضي أو الحال‏,‏ نفياً كان أو إثباتًا‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها في اليمين الغموس‏,‏ وهي المعقودة على أمرٍ في الماضي أو الحال كاذبة يتعمّد صاحبها ذلك‏.‏

وفي وجوبها في اليمين اللّغو في الزّمن المستقبل‏.‏

وفي تعدد الكفّارات بتعدد الأيمان‏,‏ وفي رفع الكفّارة الحنث‏.‏

الكفّارة في اليمين الغموس

8 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في اليمين الغموس على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم وجوب الكفّارة في اليمين الغموس‏.‏

وإليه ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - وهو قول سفيان الثّوريّ وأهل العراق وأبي ثورٍ وأبي عبيدٍ وإسحاق وأصحاب الحديث والأوزاعيّ ومن وافقه من أهل الشّام‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة في اليمين الغموس‏.‏

وإليه ذهب الشّافعيّة والحكم وعطاء ومعمر‏.‏

وسبب اختلاف الفقهاء في ذلك معارضة عموم الكتاب للأثر‏,‏ وذلك أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏ توجب أن يكون في اليمين الغموس كفّارة لكونها من الأيمان المنعقدة‏.‏

وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من اقتطع حقّ امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب اللّه له النّار وحرّم عليه الجنّة» يوجب أنّ اليمين الغموس ليس فيها كفّارة‏.‏

وقد استدلّ كل فريقٍ بأدلّة تؤيّد ما ذهب إليه‏.‏

فاستدلّ الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏,‏ فقد بيّن اللّه عزّ وجلّ فيها جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة‏,‏ ولم يذكر كفّارةً‏,‏ فلو كانت الكفّارة فيها واجبةً لكان الأولى بيانها‏,‏ ولأنّ الكفّارة لو وجبت إنّما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص عليه في الآية فيسقط جرمه‏,‏ ويلقى اللّه تعالى وهو عنه راضٍ‏,‏ ولم يستحقّ الوعيد المتوعّد عليه‏,‏ وهو ما لا يقول به أحد‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وكيف لا يكون ذلك‏,‏ وقد جمع هذا الحالف‏:‏ الكذب‏,‏ واستحلال مال الغير‏,‏ والاستخفاف باليمين باللّه تعالى والتّهاون بها وتعظيم الدنيا ‏؟‏ فأهان ما عظّمه اللّه‏,‏ وعظّم ما حقّره اللّه‏,‏ وحسبك‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ إنّما سمّيت اليمين غموساً لأنّها تغمس صاحبها في النّار‏.‏

وقد روى سحنون عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في هذه الآية قال‏:‏ فهذه اليمين في الكذب واقتطاع الحقوق‏,‏ فهي أعظم من أن تكون فيها كفّارة‏.‏

وقد روى ابن مهديٍّ عن العوّام بن حوشبٍ عن إبراهيم السّكسكيّ عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه‏:‏ أنّ رجلاً حلف على سلعةٍ فقال‏:‏ واللّه لقد أعطى بها كذا وكذا ولم يعط ، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏‏.‏

واستدلّ الجمهور كذلك بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خمس ليس لهنّ كفّارة الشّرك باللّه عزّ وجلّ وقتل النّفس بغير حقٍّ وبهت مؤمنٍ والفرار يوم الزّحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حقٍّ»‏.‏

وبحديث ابن عمرٍو رضي الله عنهما قال‏:‏ «جاء أعرابي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما الكبائر ‏؟‏ قال‏:‏ الكبائر الإشراك باللّه ، قال‏:‏ ثمّ ماذا ‏؟‏ قال‏:‏ ثمّ عقوق الوالدين ، قال‏:‏ ثمّ ماذا ‏؟‏ قال‏:‏ ثمّ اليمين الغموس ، قلت‏:‏ وما اليمين الغموس ‏؟‏ قال‏:‏ الّذي يقتطع مال امرئ هو فيها كاذب»‏.‏

ففي الحديثين دلالة واضحة على أنّ اليمين الغموس ليس فيها كفّارة لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّها من الكبائر‏,‏ والكبائر لا كفّارة فيها‏,‏ فقد اتّفق الفقهاء على أنّ الشّرك وعقوق الوالدين لا كفّارة فيها‏,‏ وإنّما كفّارتها التّوبة منها‏,‏ فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه‏.‏

واستدلّ الجمهور كذلك باتّفاق الصّحابة عليه من غير مخالفٍ‏,‏ فقد روى آدم بن أبي إياسٍ في مسند شعبة‏,‏ وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه‏:‏ كنّا نعد الذّنب الّذي لا كفّارة له اليمين الغموس ، أن يحلف الرّجل على مال أخيه كاذباً ليقتطعه ، قال ‏:‏ ولا مخالف له من الصّحابة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الغموس محظور محض‏,‏ فلا يصلح سبباً لوجوب الكفّارة لكونها أعظم من أن تكفّر‏,‏ كالزّنا والرّدّة‏.‏

واستدلّ الشّافعيّة ومن وافقهم على وجوب الكفّارة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏‏.‏

ووجه الدّلالة من هاتين الآيتين‏:‏ أنّ اللّه عزّ وجلّ نفى المؤاخذة عن اليمين اللّغو‏,‏ وهي اليمين من غير قصدٍ‏,‏ وأثبت المؤاخذة لليمين المقصودة بقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا عَقَّدتُّمُ‏}‏ أي قصدتم وصمّمتم‏,‏ ولا شكّ أنّ اليمين الغموس مقصودة فتجب فيها الكفّارة‏.‏

وبما رواه عبد الرّحمن بن سمرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حديث‏:‏ «لا تسأل الإمارة وإذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فأت الّذي هو خير وكفّر عن يمينك»‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الحالف كذباً أحوج للكفّارة من غيره‏,‏ كما أنّ الكفّارة لا تزيده إلا خيراً‏,‏ والّذي يجب عليه الرجوع إلى الحقّ ورد المظلمة‏,‏ فإن لم يفعل وكفّر‏,‏ فالكفّارة لا ترفع عنه حكم التّعدّي بل تنفعه في الجملة‏.‏

الكفّارة في اليمين اللّغو على أمرٍ في المستقبل

9 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في اليمين اللّغو على أمرٍ في المستقبل - نفياً كان أو إثباتًا - على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ إنّها لغو‏,‏ وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ وبه قال ربيعة ومكحول والأوزاعي واللّيث‏.‏

ونقله ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عبّاسٍ وغيرهما من الصّحابة رضوان اللّه عليهم‏,‏ وعن القاسم وعطاءٍ والشّعبيّ وطاوسٍ والحسن‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّه لا كفّارة فيها‏.‏

واختلف المالكيّة في وجوب الكفّارة فيها‏,‏ فقال ابن الحاجب‏:‏ ولا كفّارة في لغو اليمين‏,‏ وهي اليمين على ما يعتقده ثمّ تبيّن خلافه‏,‏ ماضياً أو مستقبلاً‏.‏

قال في التّوضيح‏:‏ مثال الماضي‏:‏ واللّه ما جاء زيد وهو يعتقد ذلك‏,‏ ومثال المستقبل‏:‏ واللّه ما يأتي غداً وهو يعتقده‏.‏

وقال الدّردير‏:‏ اللّغو والغموس لا كفّارة فيهما إن تعلّقا بماضٍ‏,‏ وفيهما الكفّارة إن تعلّقا بالمستقبل‏.‏

واستدلّ القائلون بعدم الكفّارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏‏.‏

ووجه الاستدلال من الآية‏:‏ أنّ اللّه تعالى قابل يمين اللّغو باليمين المكسوبة بالقلب‏,‏ واليمين المكسوبة هي المقصودة‏,‏ فكانت اليمين غير المقصودة داخلةً في قسم اللّغو تحقيقاً للمقابلة‏.‏

وبما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ أنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ في قول الرّجل‏:‏ لا واللّه وبلى واللّه‏.‏

ووجه الدّلالة من الحديث‏:‏ أنّ اللّه تعالى رفع المؤاخذة عن اللّغو مطلقاً‏,‏ فيلزم منه أنّه لا إثم فيه ولا كفّارة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ إنّها ليست لغواً وفيها الكفّارة‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏.‏

وهو مروي عن زرارة بن أبي أوفى‏,‏ وعن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهم في روايةٍ ثانيةٍ عنه‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ‏}‏‏.‏

ووجه الدّلالة من الآية‏:‏ أنّ المراد بالأيمان المعقودة‏:‏ هي اليمين في المستقبل‏,‏ لأنّ الحفظ عن الحنث وهتك حرمة اسم اللّه تعالى لا يتصوّر إلا في المستقبل‏,‏ واليمين في المستقبل يمين معقود سواء وجد القصد أم لا‏,‏ ووجوب الحفظ يقتضي المؤاخذة عند عدمه‏,‏ فوجبت الكفّارة‏.‏

كما استدلوا بما ورد أنّ المشركين لمّا أخذوا حذيفة بن اليمان وأباه رضي الله عنه واستحلفوهما أن لا ينصر محمّداً صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين باللّه عليهم»‏.‏ ووجه الدّلالة‏:‏ أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة بالوفاء رغم أنّه مكره غير قاصدٍ فدلّ ذلك على أنّ عدم القصد لا يمنع انعقاد اليمين ممّن هو من أهله‏.‏

وقالوا‏:‏ كذلك اللّغو ما يكون خالياً عن الفائدة‏,‏ والخبر الماضي خالٍ عن فائدة اليمين فكان لغواً‏,‏ وأمّا الخبر في المستقبل فإنّ عدم القصد لا يعدم فائدة اليمين‏,‏ وقد ورد الشّرع بأنّ الهزل والجدّ في اليمين سواء‏.‏

تعدد كفّارة اليمين

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من حلف على أمورٍ شتّى بيمين واحدةٍ فكفّارته كفّارة يمينٍ واحدةٍ‏,‏ كما لو قال‏:‏ واللّه لن آكل ولن أشرب ولن ألبس‏,‏ فحنث في الجميع فكفّارته واحدة‏,‏ لأنّ اليمين واحدة والحنث واحد‏,‏ فإنّه بفعل واحدٍ من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين‏.‏

واختلفوا فيما إذا حلف بأيمان شتّى على شيءٍ واحدٍ بعينه‏,‏ أو حلف بأيمان شتّى على أشياء متعدّدةٍ‏:‏

أ - الحلف على الشّيء بعينه مرّاتٍ كثيرةً‏:‏

11 - اختلف الفقهاء فيما يجب بالحنث في الحلف على الشّيء الواحد بعينه مرّاتٍ كثيرةً كأن قال‏:‏ واللّه لا أفعل كذا‏,‏ واللّه لا أفعل كذا‏,‏ ثمّ يفعل المحلوف عليه‏,‏ على قولين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ إنّه يجب في ذلك كفّارة يمينٍ واحدةٍ‏,‏ وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قول قتادة والحسن وعطاءٍ‏.‏

ففي المدوّنة قال‏:‏ قلت‏:‏ أرأيت إن قال‏:‏ واللّه لا أجامعك‏,‏ واللّه لا أجامعك‏,‏ أيكون على هذا كفّارة يمينٍ واحدةٍ في قول مالكٍ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، قلت‏:‏ أرأيت الرّجل يحلف أن لا يدخل دار فلانٍ‏,‏ ثمّ يحلف بعد ذلك في مجلسٍ آخر‏:‏ أنّه لا يدخل دار فلانٍ لتلك الدّار بعينها الّتي حلف عليها أوّل مرّةٍ ‏؟‏ قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إنّما عليه كفّارة واحدة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا قال‏:‏ عليّ عهد اللّه وميثاقه وذمّته وأمانته وكفالته لأفعلن كذا‏,‏ فإن نوى اليمين فيمين واحدة‏,‏ والجمع بين الألفاظ تأكيد‏,‏ كقوله‏:‏ واللّه الرّحمن الرّحيم لا يتعلّق بالحنث فيها إلا كفّارة واحدة‏.‏

وقال البهوتي‏:‏ ومن كرّر يميناً موجبها واحد على فعلٍ واحدٍ كقوله‏:‏ واللّه لا آكل واللّه لا آكل فكفّارة واحدة لأنّ سببها واحد والظّاهر أنّه أراد التّأكيد‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وهو للحنفيّة‏,‏ وقد فرّقوا بين ما إذا كرّر المقسم به - وهو اسم اللّه تعالى - ولم يذكر المقسم عليه حتّى ذكر اسم اللّه تعالى ثانياً‏,‏ ثمّ ذكر المقسم عليه‏,‏ كأن يقول‏:‏ واللّه اللّه لا أفعل كذا وكذا‏,‏ أو يقول‏:‏ واللّه واللّه لا أفعل كذا وكذا‏,‏ وبين ما إذا ذكرهما جميعاً‏,‏ ثمّ أعادهما جميعاً‏,‏ كأن يقول‏:‏ واللّه لا أفعل كذا اللّه لا أفعل كذا‏,‏ أو يقول‏:‏ واللّه لا أفعل كذا واللّه لا أفعل كذا‏.‏

وفي الحالتين إمّا أن يكون التّكرار بحرف العطف أو بدونه‏,‏ كما ذكر في الأمثلة‏.‏

فإذا كان تكرار المقسم به بدون حرف عطفٍ - كما في المثال الأوّل - كانت يميناً واحدةً بلا خلافٍ في المذهب‏,‏ سواء كان الاسم متّفقاً كما ذكر أو مختلفاً كقوله‏:‏ واللّه الرّحمن لا أفعل كذا وكذا‏.‏

أمّا إذا دخل بين القسمين حرف عطفٍ - كما في المثال الثّاني - فهما يمينان عند محمّدٍ‏,‏ وهو إحدى الرّوايتين عن أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏

وإذا كان تكرارهما جميعاً‏,‏ كما إذا ذكرهما جميعاً ثمّ أعادهما فهما يمينان‏,‏ سواء ذكرهما بحرف العطف أو بدونه‏,‏ كما في الأمثلة المذكورة‏,‏ سواء كان ذلك في مجلسين أو في مجلسٍ واحدٍ‏,‏ بلا خلافٍ في المذهب‏.‏

الأدلّة‏:‏

أوّلاً‏:‏ استدلّ جمهور الفقهاء بأنّ سبب الكفّارة واحد‏,‏ فتلزم عنه كفّارة واحدة‏,‏ أمّا الجمع بين الألفاظ فإنّه للتّأكيد‏,‏ لأنّ الثّانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى‏,‏ فلم يجب أكثر من كفّارةٍ واحدةٍ‏.‏

ثانياً‏:‏ واستدلّ الحنفيّة بأنّه إذا لم يذكر حرف العطف والاسم مختلف نحو أن يقول‏:‏ واللّه الرّحمن لا أفعل كذا وكذا‏,‏ فإنّ الاسم الثّاني يصلح صفةً للأوّل‏,‏ ومنه يعلم أنّه أراد الصّفّة‏,‏ فيكون حالفاً بذات موصوفٍ‏,‏ لا باسم الذّات على حدةٍ‏,‏ ولا باسم الصّفّة على حدةٍ‏.‏

أمّا إذا كان الاسم متّفقاً نحو أن يقول‏:‏ واللّه اللّه لا أفعل كذا‏,‏ فإنّ الثّاني لا يصلح نعتاً للأوّل‏,‏ إنّما يصلح تأكيداً له‏,‏ فيكون يميناً واحدةً‏,‏ إلا أن ينوي به يمينين‏,‏ فيصير قوله‏:‏ اللّه ابتداء يمينٍ بحذف حرف القسم‏,‏ وهو قسم صحيح‏.‏

وهذا بخلاف ما إذا ذكر حرف العطف بين القسمين بأن قال‏:‏ واللّه والرّحمن لا أفعل كذا‏,‏ فقد استدلّ من قال إنّهما يمينان بأنّه لمّا عطف أحد اليمينين على الآخر‏,‏ كان الثّاني غير الأوّل‏,‏ لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه‏,‏ فكان كل واحدٍ منهما يميناً على حدةٍ‏.‏

أمّا إذا لم يعطف‏,‏ أحدهما على الآخر فيجعل الثّاني صفةً للأوّل‏,‏ لأنّه يصلح صفةً‏,‏ لأنّ الاسم يختلف‏,‏ ولهذا يستحلف القاضي بالأسماء والصّفّات من غير حرف العطف فيقول‏:‏ واللّه الرّحمن الرّحيم الطّالب المدرك‏,‏ ولا يجوز أن يستحلف مع حرف العطف‏,‏ لأنّه ليس على المدّعى عليه إلا يمين واحدة‏.‏

أمّا إذا أعاد المقسم عليه مع الاسم الثّاني‏,‏ علم أنّه أراد به يميناً أخرى‏,‏ إذ لو أراد الصّفة أو التّأكيد لما أعاد المقسم عليه‏.‏

ب - الحلف بأيمان متعدّدةٍ على أمورٍ شتّى‏:‏

12 - اختلف الفقهاء فيما يجب بالحنث في الحلف بأيمان متعدّدةٍ على أمورٍ شتّى ، نحو أن يقول‏:‏ واللّه لا أدخل دار فلانٍ‏,‏ واللّه لا أكلّم فلاناً ففعل ذلك كلّه على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ أنّه يجب على الحالف لكلّ يمينٍ كفّارة‏,‏ وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏,‏ وهو ظاهر كلام الخرقيّ‏,‏ ورواية المروزيّ عن أحمد‏.‏

القول الثّاني‏:‏ أنّه يجب على الحالف كفّارة واحدة‏,‏ وبه قال أحمد في رواية ابن منصورٍ‏,‏ قال القاضي‏:‏ وهي الصّحيحة وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة‏.‏

وقد استدلّ القائلون بتعدد الكفّارات بأنّهنّ أيمان لا يحنث في إحداهنّ بالحنث في الأخرى‏,‏ فلم تتكفّر إحداها بكفّارة الأخرى‏,‏ كما لو كفّر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى‏,‏ وكالأيمان المختلفة الكفّارة‏,‏ وبهذا فارق الأيمان على شيءٍ واحدٍ‏,‏ فإنّه متى حنث في إحداها كان حانثاً في الأخرى‏,‏ فإن كان الحنث واحداً كانت الكفّارة واحدةً‏,‏ وهاهنا تعدّد الحنث‏,‏ فتعدّدت الكفّارات‏.‏

وفارق الحدود فإنّها وجبت للزّجر وتندرئ بالشبهات بخلاف مسألتنا‏,‏ ولأنّ الحدود عقوبة بدنيّة‏,‏ فالموالاة بينها ربّما أفضت إلى التّلف فاجتزئ بإحداها‏,‏ وهاهنا الواجب إخراج مالٍ يسيرٍ أو صيام ثلاثة أيّامٍ‏,‏ فلا يلزم الضّرر الكثير بالموالاة فيه‏,‏ ولا يخشى منه التّلف‏.‏ بينما استدلّ أصحاب القول الثّاني بأنّها كفّارات من جنسٍ فتداخلت كالحدود من جنسٍ‏,‏ وإن اختلف محالها بأن يسرق من جماعةٍ أو يزني بنساء‏.‏

تقديم كفّارة اليمين قبل الحنث

13 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التّكفير قبل اليمين‏,‏ لأنّه تقديم الحكم قبل سببه‏,‏ كتقديم الزّكاة قبل ملك النّصاب‏,‏ وكتقديم الصّلاة قبل دخول وقتها‏.‏

ولا خلاف بينهم في جواز تأخير الكفّارة بعد اليمين والحنث‏.‏

كما لا خلاف بينهم - أيضاً - في عدم وجوب الكفّارة قبل الحنث‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في جواز التّكفير بعد اليمين وقبل الحنث‏.‏

وقد اختلفوا في ذلك على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ يرى أصحابه جواز التّكفير قبل الحنث‏,‏ وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ وهو مروي عن عمر وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عبّاسٍ‏,‏ وسلمان وعبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهو رأي ربيعة والأوزاعيّ ومالكٍ واللّيث وسائر فقهاء الأمصار‏,‏ وذكر عياض وجماعة‏:‏ أنّ عدّة من قال بجواز تقديم الكفّارة أربعة عشر صحابياً‏.‏

وقيّد الشّافعيّة جواز التّكفير قبل الحنث بما إذا كفّر بغير الصّوم ولم يكن الحنث معصيةً‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يستحب أن يؤخّر التّكفير عند الحنث خروجاً من الخلاف‏.‏

القول الثّاني‏:‏ يرى أصحابه عدم جواز التّكفير قبل الحنث‏,‏ إليه ذهب الحنفيّة‏,‏ وأشهب من المالكيّة‏,‏ ونقله الباجي عن مالكٍ‏.‏

واستدلّ القائلون بأنّ الكفّارة تجزئ قبل الحنث‏,‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏‏.‏

ووجه الدّلالة من الآية‏:‏ أنّ اللّه تعالى أوجب الكفّارة بإرادة الحنث لأنّ التّقدير‏:‏ إذا حلفتم فأردتم الحنث‏,‏ كما أنّ ظاهر الآية يفيد أنّ الكفّارة وجبت بنفس اليمين فيجوز التّكفير قبل الحنث‏,‏ لتكون الكفّارة محلّلةً لليمين‏.‏

كما استدلوا بما ورد عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يا عبد الرّحمن إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فكفّر عن يمينك وائت الّذي هو خير» وفي روايةٍ‏:‏ «ثمّ ائت الّذي هو خير»‏.‏

ووجه الدّلالة من هذا الحديث‏:‏ أنّه صريح في تقديم الكفّارة على الحنث‏,‏ حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالتّكفير عن اليمين‏,‏ ثمّ عطف الإتيان بغير المحلوف عليه بثمّ الّتي تفيد التّرتيب والتّراخي‏,‏ فدلّ هذا دلالةً واضحةً على إجزاء الكفّارة قبل الحنث‏.‏

كما استدلوا بالقياس على كفّارة الظّهار والقتل بعد الجراح‏,‏ فكما يجوز تقديم كفّارة الظّهار على العود‏,‏ والقتل الخطأ بعد الجراح وقبل الموت كذلك يجوز تقديم كفّارة اليمين قبل الحنث‏,‏ لأنّه كفّر بعد سببه فجاز‏.‏

وبأنّ عقد اليمين لمّا كان يحله الاستثناء وهو كلام‏,‏ فلأن تحلّه الكفّارة وهو فعل مالي أو بدني أولى‏.‏

واستدلّ القائلون بعدم جواز التّكفير قبل الحنث‏:‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏‏.‏

ووجه الدّلالة من هذه الآية واضح على أنّ الكفّارة للحنث وليست لليمين من وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ تصويره في صدر الآية نفي مؤاخذتنا عن لغو اليمين وأنّه سبحانه وتعالى يؤاخذنا بما عقّدنا من الأيمان والوفاء بها‏,‏ كقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏‏,‏ فإن تركتم ذلك فكفّارته كذا‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ تقديره‏:‏ أي فتركتم المحافظة‏,‏ ألا ترى أنّه قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ‏}‏‏,‏ والمحافظة تكون بالبرّ‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يكون على إضمار الحنث‏,‏ أي ولكن يؤاخذكم بحنثكم فيما عقّدتم‏,‏ وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏‏,‏ أي إذا حلفتم وحنثتم‏,‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏‏,‏ معناه‏:‏ فحلق عامداً أو غطّى رأسه ففدية من صيامٍ‏.‏

وقولـه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏‏,‏ معناه‏:‏ فتحلّل‏.‏

وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏,‏ فأفطر فعدّة من أيّامٍ أخر‏,‏ لأنّ ظاهر الملفوظ وهو القدر الّذي هو سبب التّخفيف لا يصلح سبباً للوجوب فصار استعمال الرخصة مضمراً فيه‏,‏ كذلك هاهنا لا تصلح اليمين الّتي هي تعظيم الرّبّ جلّ جلاله سبباً لوجوب التّكفير‏,‏ فيجب إضمار ما هو صالح وهو الحنث‏.‏

كما استدلوا بما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه»‏.‏

وفي حديثٍ آخر‏:‏ «إنّي واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الّذي هو خير وتحلّلتها»‏.‏

ووجه الدّلالة من هذا الحديث‏:‏ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيّن أنّ الكفّارة تجب بالحنث‏,‏ لأنّها لو كانت واجبةً بنفس اليمين لقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ من حلف على يمينٍ فليكفّر ، من غير التّعرض لمّا وقع عليه اليمين وألزم الحنث إذا كان خيراً ثمّ التّكفير‏.‏

فلمّا خصّ اليمين على ما كان الحنث خيراً من البرّ بالنّقض والكفّارة‏,‏ علم أنّها تختص بالحنث دون اليمين نفسها‏,‏ وأنّها لا تجب بعقد اليمين دون الحنث‏.‏

وقالوا‏:‏ لا يصح التّكفير قبل الحنث في اليمين‏,‏ سواء كان بالمال أو بالصّوم لأنّ الكفّارة لستر الجناية ولا جناية‏,‏ واليمين ليست بسبب‏,‏ لأنّها مانعة من الحنث غير مفضيةٍ بخلاف التّكفير بعد الجرح قبل الموت لأنّه مفضي‏.‏

ثانياً‏:‏ القتل

14 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل شبه العمد والخطأ وما أجري مجرى الخطأ‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها في القتل العمد والقتل بسبب‏.‏

الكفّارة في القتل العمد

15 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل العمد على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم وجوب الكفّارة في القتل العمد‏,‏ وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة‏,‏ وهو مشهور مذهب الحنابلة وبه قال الثّوري وأبو ثورٍ وابن المنذر‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏‏.‏

وجه الدّلالة من الآيتين‏:‏ أنّ اللّه عزّ وجلّ أوجب في الآية الأولى كفّارة القتل الخطأ ثمّ ذكر في الآية الثّانية القتل العمد‏,‏ ولم يوجب فيه كفّارةً‏,‏ وجعل جزاءه جهنّم‏,‏ فلو كانت الكفّارة فيه واجبةً لبيّنها وذكرها‏,‏ فكان عدم ذكرها دليلاً على أنّه لا كفّارة فيه‏.‏

كما استدلوا بما روي أنّ الحارث بن سويد رضي الله عنه قتل رجلاً‏,‏ فأوجب النّبي صلى الله عليه وسلم عليه القود ولم يوجب كفّارةً‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ القتل العمد فعل يوجب القتل فلا يوجب كفّارةً‏,‏ كزنا المحصن‏,‏ وإنّ الكفّارة دائرة بين العبادة والعقوبة‏,‏ فلا بدّ من أن يكون سببها دائراً بين الحظر والإباحة لتعلق العبادة بالمباح والعقوبة بالمحظور‏,‏ وقتل العمد كبيرة محضة‏,‏ فلا تناط به كسائر الكبائر‏,‏ مثل الزّنا والسّرقة والرّبا‏,‏ ولعدم جواز قياسه على الخطأ‏,‏ لأنّه دونه في الإثم‏,‏ فشرعه لدفع الأدنى لا يدل على دفع الأعلى‏,‏ ولأنّ في القتل العمد وعيداً محكماً‏,‏ ولا يمكن أن يقال يرتفع الإثم فيه بالكفّارة مع وجود التّشديد في الوعيد بنصّ قاطعٍ لا شبهة فيه‏,‏ ومن ادّعى غير ذلك كان تحكماً منه بلا دليلٍ‏,‏ ولأنّ الكفّارة من المقدّرات فلا يجوز إثباتها بالقياس على ما عرف في موضعه‏,‏ ولأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ هو كل موجبه‏,‏ وهو مذكور في سياق الجزاء للشّرط‏,‏ فتكون الزّيادة عليه نسخاً‏,‏ ولا يجوز نسخ القرآن بالرّأي‏.‏ القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة في القتل العمد‏,‏ وإليه ذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد‏,‏ وإليه ذهب الزهري‏.‏

واستدلوا بما روى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال‏:‏ «كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتاه نفر من بني سليمٍ ، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنّ صاحباً لنا قد أوجب فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اعتقوا عنه رقبةً يعتق اللّه بكلّ عضوٍ منها عضواً منه من النّار»‏,‏ فقد أوجب الرّسول صلى الله عليه وسلم الكفّارة فيما يستوجب النّار‏,‏ ولا تستوجب النّار إلا في قتل العمد‏,‏ فدلّ هذا على أنّ القتل العمد يوجب الكفّارة‏.‏ كما استدلوا بأنّ الكفّارة إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم‏,‏ فلأن تجب في العمد وقد تغلّظ بالإثم أولى‏,‏ لأنّه أعظم إثماً وأكبر جرماً وحاجة القاتل إلى تكفير ذنبه أعظم‏.‏

الكفّارة في القتل بالتّسبب

16 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب على قولين‏:‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏,‏ فقد أوجب اللّه تعالى الكفّارة في القتل الخطأ دون تفرقةٍ بين كون القتل قد وقع على سبيل المباشرة أو التّسبب‏.‏

ولأنّه قتل آدمياً ممنوعاً من قتله لحرمته‏,‏ فوجب عليه الكفّارة كما لو قتله بالمباشرة‏.‏ ولأنّ السّبب كالمباشرة في إيجاب الضّمان‏,‏ فكان كالمباشرة في إيجاب الكفّارة‏.‏

ولأنّ فعل القاتل سبب لإتلاف الآدميّ يتعلّق به ضمانه‏,‏ فتعلّقت به الكفّارة‏,‏ كما لو كان راكباً فأوطأ دابّته إنساناً‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب‏,‏ واستدلوا بأنّ الكفّارة إنّما تجب بتحقق القتل‏,‏ وهذا إنّما يكون في القتل بالمباشرة‏,‏ أمّا القتل بالتّسبب‏,‏ فإنّه غير داخلٍ في عقده‏,‏ فلم يستند الفعل إليه‏.‏

الكفّارة في الجناية على الجنين

17 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة فيما إذا ضرب بطن امرأةٍ أو ضربت امرأة بطن نفسها‏,‏ أو شربت دواءً لتسقط ولدها عمداً‏,‏ فألقت جنيناً حياً ثمّ مات‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الكفّارة فيما إذا ألقت المرأة جنيناً ميّتاً بعدوان‏:‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ وهو قول عمر والحسن وعطاءٍ والزهريّ والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ وإسحاق إلى وجوب الكفّارة‏,‏ واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏,‏ وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ أوجب الكفّارة في كلّ قتلٍ خطأٍ دون تفرقةٍ بين جنينٍ وغيره‏,‏ والجنين مقتول‏,‏ فوجب أن يدخل في هذا العموم‏,‏ لأنّنا حكمنا له بالإيمان تبعاً لأبويه‏,‏ فيكون داخلاً في عموم هذا النّصّ ولا يخرجه إلا دليل آخر ولم يوجد بعد‏,‏ ولأنّه آدمي معصوم وبذلك قضى عمر رضي الله عنه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الكفّارة في الجنين‏,‏ واستدلوا بما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قضى بالغرّة في الجنين»‏,‏ فقد قضى صلى الله عليه وسلم بالغرّة ولم يذكر الكفّارة‏,‏ ولو وجبت الكفّارة لذكرها‏,‏ لأنّ هذا بيان لحكم الشّرع ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة‏,‏ لأنّها شرعت زاجرةً‏,‏ وفيها معنى العبادة‏,‏ لأنّها تتأدّى بالصّوم‏,‏ وقد عرف وجوبها في النّفوس المطلقة - والجنين نفس من وجهٍ دون وجهٍ- فلا يتعدّاها‏,‏ لأنّ العقوبة لا يجري فيها القياس‏.‏

وإنّ الجنين جزء أو عضوٌ من وجهٍ‏,‏ فلا يدخل تحت مطلق النّصّ ولهذا لم يجب فيه كل البدل‏,‏ فكذا لا تجب فيه الكفّارة‏,‏ لأنّ الأعضاء لا كفّارة فيها‏,‏ لأنّه ارتكب محظوراً‏,‏ فإذا تقرّب بها إلى اللّه تعالى كان أفضل له‏,‏ ويستغفر اللّه تعالى ممّا صنع من الجريمة العظيمة‏.‏

وكذلك فإنّ القتل غير متحقّقٍ لجواز أنّ الحياة لم تخلق فيه‏,‏ حيث لم تعرف حياته ولا سلامته‏,‏ والكفّارة إنّما تجب بتحقق القتل‏.‏

تعدد الكفّارة بتعدد القاتل

18 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة بتعدد القاتلين واتّحاد المقتول على قولين‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم والحنابلة إلى أنّه تجب الكفّارة على كلّ من اشترك في قتلٍ يوجب الكفّارة‏,‏ وبه قال الحسن وعكرمة والنّخعي والحارث العكلي والثّوري‏.‏

واستدلوا بأنّها كفّارة وجبت لا على سبيل البدل عن النّفس‏,‏ فوجب أن يكون على كلّ واحدٍ من الجماعة إذا اشتركوا في سببها‏,‏ لأنّ ما كان يجب على الواحد إذا انفرد يجب على كلّ واحدٍ من الجماعة إذا اشتركوا‏,‏ ككفّارة الطّيب للمحرم‏.‏

وبأنّها لا تتبعّض‏,‏ وهي من موجب قتل الآدميّ‏,‏ فكملت في حقّ كلّ واحدٍ من المشتركين كالقصاص‏.‏

وذهب أبو ثورٍ وعثمان البتّي إلى أنّه يجب على الجميع كفّارة واحدة‏,‏ وهو حكاية عن الأوزاعيّ‏,‏ وحكاه أبو الخطّاب عن أحمد‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏.‏

وذلك أنّ لفظة ‏"‏ من ‏"‏ تتناول كلّ قاتلٍ‏,‏ الواحد والجماعة ولم توجب الآية إلا كفّارةً واحدةً وديةً‏,‏ والدّية لا تتعدّد فكذلك لا تتعدّد الكفّارة‏.‏

ولأنّها كفّارة قتلٍ فلم تتعدّد بتعدد القاتلين مع اتّحاد المقتول‏,‏ ككفّارة الصّيد الحرميّ‏.‏

تعدد الكفّارة بتعدد القتلى والقاتل واحد

19 - ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم والحنابلة إلى أنّ الكفّارة تتعدّد بتعدد المقتولين‏,‏ قال الشّافعيّة‏:‏ لو اصطدمت حاملان وأسقطتا جنينيهما وماتتا فعلى كلٍّ منهما في تركتها أربع كفّاراتٍ على الصّحيح بناءً على أنّ الكفّارة تجب على قاتل نفسه‏,‏ وأنّها لا تتجزّأ‏,‏ فتجب على كلّ واحدةٍ منهما كفّارة لنفسها وثانية لجنينها وثالثة لصاحبتها ورابعة لجنينها لأنّهما اشتركتا في إهلاك أربعة أنفسٍ‏,‏ ومقابل الصّحيح‏:‏ تجب كفّارتان‏.‏

ثالثاً‏:‏ الإفطار في نهار رمضان

20 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من جامع في الفرج في نهار رمضان عامداً بغير عذرٍ أنزل أم لم ينزل‏.‏

كما لا خلاف بينهم في عدم وجوبها على من جامع في الفرج في نهار رمضان لعذر كمرض ونحوه‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع فيما دون الفرج إذا اقترن به إنزال‏.‏

كما اختلفوا في وجوبها على من جامع ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً أو جاهلاً‏,‏ وفي وجوبها بتعمد الإفطار بغير الجماع كالأكل والشرب ونحوهما لغير عذرٍ‏.‏

وسنعرض هذا الخلاف في الفروع الآتية‏:‏

الكفّارة بالوطء في الدبر

21 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة بالوطء في الدبر‏:‏

فذهب مالك والشّافعي وأحمد‏,‏ ورواه أبو يوسف ومحمّد عن أبي حنيفة إلى أنّه لا فرق في وجوب الكفّارة بين كون الفرج قبلاً أو دبراً‏,‏ من ذكرٍ أو أنثى‏.‏

واستدلوا بأنّه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفّارة كالوطء‏.‏

وبأنّ الجميع وطء‏,‏ ولأنّ الجميع في إيجاب الحدّ واحد‏,‏ فكذلك إفساد الصّوم وإيجاب الكفّارة‏,‏ وبأنّه محل مشتهىً‏,‏ فتجب فيه الكفّارة كالوطء في القبل‏.‏

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ الوطء في الدبر لا يوجب كفّارةً‏,‏ لقصور الجناية لأنّ المحلّ مستقذر‏,‏ ومن له طبيعة سليمة لا يميل إليه‏,‏ فلا يستدعي زاجراً‏,‏ للامتناع بدونه‏,‏ فصار كالحدّ في عدم الوجوب‏.‏

الكفّارة بوطء البهيمة

22 - وجوب الكفّارة بالوطء في فرج البهيمة فيه قولان‏:‏

الأوّل‏:‏ لا تجب فيه الكفّارة‏,‏ وهو قول الحنفيّة وبعض الشّافعيّة والحنابلة وذكره أبو الخطّاب‏,‏ وحكاه الدّارمي عن أبي عليّ بن خيران وأبي إسحاق المروزيّ‏.‏

واستدلوا‏:‏ بأنّه لا نصّ فيه‏,‏ ولا هو في معنى المنصوص عليه‏,‏ فإنّه مخالف لوطء الآدميّة في إيجاب الحدّ وفي كثيرٍ من أحكامه‏.‏

وسواء في هذا كلّه أنزل أم لا‏.‏

الثّاني‏:‏ تجب فيه الكفّارة‏,‏ ذكره القاضي وهو الأصح عند الشّافعيّة‏,‏ وبه قال المالكيّة‏,‏ لأنّه وطء في فرجٍ موجبٍ للغسل‏,‏ مفسد للصّوم‏,‏ فأشبه وطء الآدميّة‏.‏

وجوب الكفّارة على من باشر فيما دون الفرج

23 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المباشرة فيما دون الفرج إذا لم يقترن بها الإنزال لا توجب الكفّارة‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم فيما إذا اقترن بها الإنزال على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم وجوب الكفّارة بالإنزال بالمباشرة فيما دون الفرج‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وأحمد في روايةٍ‏.‏

واستدلّ الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه أفطر بغير جماعٍ تامٍّ فأشبه القبلة‏,‏ ولأنّ الأصل عدم وجوب الكفّارة‏,‏ ولا نصّ في وجوبها‏,‏ ولا إجماع ولا قياس‏,‏ ولا يصح القياس على الجماع في الفرج‏,‏ لأنّه أبلغ بدليل أنّه يوجبها من غير إنزالٍ‏,‏ ويجب به الحد إذا كان محرّماً‏,‏ ويتعلّق به اثنا عشر حكماً‏,‏ ولأنّ العلّة في الأصل الجماع بدون الإنزال‏,‏ والجماع هاهنا غير موجبٍ فلم يصحّ اعتباره به‏.‏

قال النّووي‏:‏ إذا أفسد صومه بغير الجماع كالأكل والشرب‏,‏ والاستمناء والمباشرات المفضيات إلى الإنزال‏,‏ فلا كفّارة‏,‏ لأنّ النّصّ ورد في الجماع‏,‏ وهذه الأشياء ليست في معناه‏.‏

وقال الزّيلعي‏:‏ ولا كفّارة بالإنزال فيما دون الفرج‏,‏ لانعدام الجماع صورةً‏,‏ وعليه القضاء لوجوده معنىً‏,‏ والمراد بما دون الفرج غير القبل والدبر كالفخذ والإبط والبطن‏,‏ وهو في معنى اللّمس والمباشرة والقبلة‏.‏

وقال‏:‏ ولو أنزل بقبلة فعليه القضاء لوجود معنى الجماع وهو الإنزال بالمباشرة‏,‏ دون الكفّارة لقصور الجناية‏,‏ فانعدم صورة الجماع‏,‏ وهذا لأنّ القضاء يكفي لوجوبه وجود المنافي صورةً أو معنىً‏,‏ ولا يكفي ذلك لوجوب الكفّارة‏,‏ فلا بدّ من وجود المنافي صورةً ومعنىً‏,‏ لأنّها تندرئ بالشبهات‏,‏ بخلاف سائر الكفّارات حيث تجب مع الشبهة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة بالإنزال بالمباشرة فيما دون الفرج‏,‏ وهو مذهب المالكيّة‏,‏ قالوا‏:‏ ولو تعمّد إنزال منيٍّ بتقبيل أو مباشرةٍ أو بإدامة فكرٍ أو نظرٍ وكان عادته الإنزال‏.‏ وهو قول عطاءٍ والحسن وابن المبارك وإسحاق‏,‏ ورواية عن أحمد‏,‏ وأبي خلفٍ الطّبريّ من تلامذة القفّال المروزيّ‏.‏

واستدلوا بأنّه فطر بجماع فأوجب الكفّارة كالجماع في الفرج‏.‏

وجوب الكفّارة على من جامع ناسياً وما أشبهه

24 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من جامع في القبل متعمّداً لغير عذرٍ‏,‏ وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا كفّارة على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وبه قال‏:‏ إسحاق واللّيث والأوزاعي‏,‏ وهو قول ابن المنذر والحسن ومجاهدٍ والثّوريّ‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

ففي الآية والحديث نص على رفع الخطأ والنّسيان والإكراه‏,‏ والمراد رفع الحكم‏,‏ لأنّ كلّ واحدٍ من الثّلاثة موجود حساً‏,‏ والحكم نوعان‏:‏ دنيوي وهو الفساد‏,‏ وأخروي وهو الإثم‏,‏ ومسمّى الحكم يشملهما‏,‏ فيتناول الرّفع الحكمين‏,‏ فلا كفّارة عليه‏,‏ لأنّ الكفّارة لرفع الإثم وهو محطوط عن النّاس‏.‏

وبما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفّارة»‏.‏

والدّلالة من هذا الحديث ظاهرة في عدم وجوب الكفّارة على من أفطر في رمضان ناسياً سواء كان الفطر بالجماع أو غيره‏.‏

وبأنّ كفّارة الفطر في نهار رمضان تختلف عن سائر الكفّارات حيث تجب هذه الكفّارات مع الشبهة‏,‏ أمّا كفّارة الفطر في نهار رمضان فتسقط مع الشبهة‏.‏

والفرق‏:‏ أنّ الكفّارة إنّما تجب لأجل جبر الفائت‏,‏ وفي الصّوم حصل الجبر بالقضاء‏,‏ فكانت الكفّارة زاجرةً فقط‏,‏ فشابهت الحدود فتندرئ بالشبهات‏.‏

وبقياس الجماع على الأكل والشرب‏,‏ فكما أنّ من أكل أو شرب ناسياً لا تجب عليه الكفّارة‏,‏ كذلك من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً لا تجب عليه الكفّارة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً‏.‏

وإليه ذهب الحنابلة‏,‏ وهو رواية عن عطاءٍ‏,‏ وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الملك‏.‏ واستدلّ الحنابلة ومن معهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «بينا نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه هلكت ، قال‏:‏ ما لك ‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تجد رقبةً تعتقها ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فمكث النّبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر - والعرق المكتل – قال‏:‏ أين السّائل ‏؟‏ فقال‏:‏ أنا ، قال‏:‏ خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل‏:‏ على أفقر منّي يا رسول اللّه ‏؟‏ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال‏:‏ أطعمه أهلك»‏.‏

فهذا الحديث نص في وجوب الكفّارة على من جامع في نهار رمضان مطلقاً‏,‏ سواء أكان عامداً أم ساهياً أم جاهلاً أم مخطئاً مختاراً كان أو مكرهاً‏,‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابيّ ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله‏,‏ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز‏,‏ والسؤال معاد في الجواب‏,‏ كأنّه قال‏:‏ إذا واقعت في صوم رمضان فكفّر‏.‏

وبأنّ الصّوم عبادة يحرم الوطء فيه‏,‏ فاستوى عمده وغيره كالحجّ‏.‏

وبأنّ إفساد الصّوم ووجوب الكفّارة حكمان يتعلّقان بالجماع‏,‏ لا تسقطهما الشبهة‏,‏ فاستوى فيهما العمد والسّهو كسائر أحكامه‏.‏

وجوب الكفّارة بتعمد الإفطار بالأكل والشرب ونحوهما

25 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب في نهار رمضان ناسياً أو جاهلاً أو مخطئاً‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها بتعمد الأكل أو الشرب ونحوهما على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ وجوب الكفّارة بتعمد الأكل والشرب ونحوهما في نهار رمضان‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ وبه قال عطاء والحسن والزهري والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثورٍ‏.‏

واستدلوا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رجلاً أفطر في رمضان فأمره عليه الصلاة والسلام أن يعتق رقبةً»‏.‏

وبما روي من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أفطر في رمضان متعمّداً فعليه ما على المظاهر»‏.‏

ووجه الدّلالة من هذين الحديثين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث الأوّل من أفطر في نهار رمضان أن يعتق رقبةً دون أن يفرّق بين إفطارٍ وإفطارٍ‏,‏ وجعل جزاء الفطر متعمّداً في الحديث الثّاني جزاء المظاهر مطلقاً‏,‏ والمظاهر تجب عليه الكفّارة‏,‏ فتجب على كلّ من أفطر بأكل أو بغيره‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الكفّارة تتعلّق بالإفساد لهتك حرمة الشّهر على سبيل الكمال لا بالجماع‏,‏ لأنّ المحرّم هو الإفساد دون الجماع‏,‏ ولهذا تجب عليه بوطء منكوحته ومملوكته إذا كان بالنّهار لوجود الإفساد‏,‏ لا باللّيل لعدمه‏,‏ بخلاف الحدّ‏,‏ ألا ترى أنّه عليه الصلاة والسلام جعل علّةً لها بقوله‏:‏ «من أفطر في رمضان‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏,‏ فبطل القول بتعلقها بالجماع‏.‏

ولا نسلّم أنّ شهوة الفرج أشد هيجاناً ولا الصّبر عن اقتضائه أشد على المرء‏,‏ بل شهوة البطن أشد‏,‏ وهو يفضي إلى الهلاك‏,‏ ولهذا رخّص فيه في المحرّمات عند الضّرورة لئلا يهلك‏,‏ بخلاف الفرج‏,‏ ولأنّ الصّوم يضعف شهوة الفرج‏,‏ ولهذا أمر عليه الصلاة والسلام العزب بالصّوم والأكل يقوّي شهوة البطن‏,‏ فكان أدعى إلى الزّاجر‏.‏

القول الثّاني‏:‏ عدم وجوب الكفّارة بتعمد الأكل والشرب ونحوهما في نهار رمضان‏.‏

وإليه ذهب الشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ وبه قال سعيد بن جبيرٍ والنّخعي وابن سيرين وحمّاد وداود‏.‏

واستدلوا بأنّ الأصل عدم الكفّارة إلا فيما ورد به الشّرع‏,‏ وقد ورد الشّرع بإيجاب الكفّارة في الجماع‏,‏ وما سواه ليس في معناه‏,‏ لأنّ الجماع أغلظ‏,‏ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير‏,‏ ولا يجب فيما سواه فبقي على الأصل‏,‏ وإن بلغ ذلك السلطان عزّره‏,‏ لأنّه محرّم ليس فيه حد ولا كفّارة‏,‏ فثبت فيه التّعزير‏,‏ كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبيّة‏.‏

وبأنّه أفطر بغير جماعٍ‏,‏ فلم يوجب ذلك الكفّارة‏,‏ كبلع الحصاة أو التراب‏,‏ أو كالرّدّة عند مالكٍ‏,‏ ولأنّه لا نصّ في إيجاب الكفّارة بهذا‏,‏ ولا إجماع‏.‏

ولا يصح قياسه على الجماع‏,‏ لأنّ الحاجة إلى الزّجر عنه أمس‏,‏ والحكم في التّعدّي به آكد‏,‏ ولهذا يجب به الحد إذا كان محرماً ويختص بإفساد الحجّ دون سائر محظوراته‏,‏ ووجوب البدنة‏,‏ ولأنّه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره‏.‏

وجوب الكفّارة بالإكراه على الجماع

اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على الرّجل أو المرأة إذا أكرها على الجماع في نهار رمضان‏:‏

أ - إذا كان المكرَه رجلاً‏:‏

26 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على الرّجل المكرَه على الجماع في نهار رمضان على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم وجوب الكفّارة على الرّجل المكره على الجماع في نهار رمضان‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وهو رواية أبي الخطّاب عن الإمام أحمد‏.‏ واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

وبأنّ الكفّارة إمّا أن تكون عقوبةً أو ماحيةً للذّنب‏,‏ ولا حاجة إليها مع إكراهٍ‏,‏ لعدم الإثم فيه‏.‏

وبأنّ الشّرع لم يرد بوجوب الكفّارة فيه‏,‏ ولا يصح قياسه على ما ورد الشّرع فيه‏,‏ لاختلافهما في وجود العذر وعدمه‏.‏

وبأنّ فساد الصّوم يتحقّق بالإيلاج‏,‏ وهو مكره فيه‏,‏ لأنّه ليس كل من انتشرت آلته يجامع‏.‏ القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة على الرّجل المكره على الجماع في نهار رمضان‏.‏

وإليه ذهب الحنابلة‏,‏ وابن الماجشون وابن عبد الملك من المالكيّة‏.‏

واستدلوا بحديث أبي هريرة قال‏:‏ «بينا نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه هلكت ، قال‏:‏ ما لك ‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تجد رقبةً تعتقها ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ‏؟‏ قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فمكث النّبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر - والعرق المكتل – قال‏:‏ أين السّائل ‏؟‏ فقال‏:‏ أنا ، قال‏:‏ خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل‏:‏ على أفقر منّي يا رسول اللّه ‏؟‏ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال‏:‏ أطعمه أهلك»‏.‏

ففي الحديث دلالة على وجوب الكفّارة على كلّ من جامع في نهار رمضان مختاراً كان أو مكرهاً لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابي‏,‏ ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله‏,‏ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز‏,‏ والسؤال معاد في الجواب‏,‏ كأنّه قال‏:‏ إذا واقعت في صوم رمضان فكفّر‏.‏

وبأنّه عبادة يحرم الوطء فيه‏,‏ فاستوى عمده وغيره كالحجّ‏.‏

وبأنّ الإكراه على الوطء لا يمكن‏,‏ لأنّه لا يطأ حتّى ينتشر‏,‏ ولا ينتشر إلا عن شهوةٍ‏,‏ فكان كغير المكره‏,‏ لأنّه ملتذ بالجماع‏,‏ لأنّ الانتشار أمارة الاختيار‏.‏

ب - إذا كان المكره امرأةً‏:‏

27 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على المرأة إذا أكرهت على الجماع في نهار رمضان على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم وجوب الكفّارة عليها إذا أكرهت على الجماع في نهار رمضان‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ وبه قال الحسن والثّوري والأوزاعي‏.‏ واستدلوا بأنّها لم يوجد منها فعل‏,‏ فلم تفطر كما لو صبّ في حلقها ماء بغير اختيارها‏.‏ وبأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابيّ الّذي واقع إلا بكفّارة واحدةٍ‏,‏ مع مساس الحاجة إلى البيان‏.‏

وبأنّ صوم المرأة ناقص‏,‏ لأنّه يعرض أن يبطل بعروض الحيض‏,‏ وإذا كان كذلك لم يكن كامل الحرمة‏,‏ فلم تتعلّق به الكفّارة‏.‏

وبأنّ الواجب لو تعلّق بها لأمرت بإخراجه‏,‏ فعدم أمرها بإخراجه دليل على عدم وجوبه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة على المرأة المكرَهة على الجماع في نهار رمضان ويتحمّلها الزّوج عنها‏.‏

وإليه ذهب المالكيّة‏,‏ والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم‏.‏

واستدلّ المالكيّة ومن وافقهم بأنّ الزّوج بإكراه زوجته على الجماع في نهار رمضان‏,‏ أوجب على الزّوجة ما لم يكن واجباً عليها‏,‏ فيتحمّله هو‏,‏ وتلزمه الكفّارة عنها

وجوب الكفّارة على من طلع عليه الفجر وهو مجامع

فرّق الفقهاء بين النّزع في الحال مع أوّل طلوع الفجر‏,‏ وبين استدامة الجماع‏,‏ وخصوا كلّ حالةٍ بأحكامها‏.‏

أ - النّزع مع أوّل طلوع الفجر‏:‏

28 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على من نزع مع أوّل طلوع الفجر على قولين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ لا كفّارة عليه‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏,‏ وبه قال أبو حفصٍ من الحنابلة‏.‏

واستدلوا بأنّ النّزع ترك للجماع‏,‏ فلا يتعلّق به ما يتعلّق بالجماع‏,‏ لأنّ ما تعلّق بفعل شيءٍ لا يتعلّق بتركه‏,‏ كما لو حلف لا يدخل داراً وهو فيها‏,‏ فخرج منها‏,‏ أو حلف لا يلبس هذا الثّوب وهو عليه فبدأ ينزعه‏,‏ فلا يحنث فكذلك ها هنا‏.‏

وبأنّ الإنزال من مباشرةٍ مباحةٍ‏,‏ فلم يجب فيه شيء‏,‏ كما لو قطع يد رجلٍ قصاصاً فمات المقتص منه‏.‏

وبأنّ ذلك ممّا لا يستطاع الامتناع عنه‏,‏ وممّا لا يمكن التّحرز عنه فكان عفواً‏.‏

القول الثّاني‏:‏ عليه الكفّارة‏.‏

وبه قال ابن حامدٍ والقاضي وجمهور الحنابلة‏,‏ وزفر من الحنفيّة‏.‏

واستدلوا بأنّه في حال النّزع مباشر للجماع‏,‏ لأنّ النّزع جماع يتلذّذ به‏,‏ فتعلّق به ما يتعلّق بالاستدامة‏.‏

ب - استدامة الجماع مع طلوع الفجر‏:‏

29 - اختلف الفقهاء في الواجب على من طلع عليه الفجر وهو مجامع‏,‏ فاستدام الجماع على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عليه كفّارة‏.‏

وإليه ذهب‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

واستدلوا بأنّه منع صوم يومٍ من رمضان بجماع من غير عذرٍ‏,‏ فأثم به لحرمة الصّوم‏,‏ فوجبت عليه الكفّارة‏,‏ كما لو وطئ بعد طلوع الفجر أو في أثناء النّهار‏.‏

وبأنّ ابتداء الفعل هنا لم يتعلّق به كفّارة‏,‏ فوجبت الكفّارة باستدامته‏,‏ لئلا يخلو جماع في نهار رمضان عمداً من كفّارةٍ‏.‏

القول الثّاني‏:‏ لا كفّارة عليه‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏.‏

واستدلوا بأنّ الموجب للكفّارة عندهم هو الفطر على وجهٍ تتكامل به الجناية وذلك لم يوجد فيما إذا طلع الفجر‏,‏ وهو مخالط لأهله‏,‏ فداوم على ذلك‏,‏ لأنّ شروعه في الصّوم لم يصحّ مع المجامعة‏,‏ والفطر إنّما يكون بعد الشروع في الصّوم‏,‏ ولم يوجد‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ ولئن كان الموجب للكفّارة الجماع المعدم للصّوم فالجماع هو إدخال الفرج في الفرج‏,‏ ولم يوجد منه بعد التّذكر ولا بعد طلوع الفجر إدخال الفرج في الفرج‏,‏ وإنّما وجد منه الاستدامة وذلك غير الإدخال‏,‏ ألا ترى أنّ من حلف لا يدخل داراً وهو فيها لم يحنث وإن مكث في الدّار ساعةً‏,‏ فهذا مثله‏.‏

ج - كفّارة من جامع يظن عدم طلوع الفجر‏:‏

30 - اختلف الفقهاء فيما يجب على من جامع وهو يظن أنّ الفجر لم يطلع بعد‏,‏ فتبيّن أنّه قد طلع‏,‏ على مذهبين‏:‏

المذهب الأوّل‏:‏ لا كفّارة عليه‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وبه قال ابن عبّاسٍ ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم‏,‏ وعطاء‏,‏ وسعيد بن جبيرٍ‏,‏ ومجاهد والثّوري والزهري‏,‏ وأبو ثورٍ‏,‏ وإسحاق بن راهويه‏,‏ وعروة بن الزبير والحسن‏.‏

واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

ولأنّ الكفّارة لرفع المأثم وهو محطوط عن المخطئ‏.‏

وبأنّه جامع وهو يعتقد أنّه يحل له ذلك‏,‏ وكفّارة الصّوم عقوبة تجب مع المأثم‏,‏ فلا تجب مع اعتقاد الإباحة كالحدّ‏,‏ لأنّه معذور‏.‏

وأنّه بنى الأمر على الأصل‏,‏ فلا تجب الكفّارة لتصور الجناية لأنّه لم يتعمّد انتهاك حرمة الصّوم بالجماع‏.‏

المذهب الثّاني‏:‏ عليه الكفّارة‏.‏

وإليه ذهب الحنابلة‏.‏

واستدلوا بحديث المجامع المذكور آنفاً حيث أمره النّبي صلى الله عليه وسلم بالتّكفير من غير تفريقٍ ولا تفصيلٍ‏.‏

وبأنّه أفسد صوم رمضان بجماع تامٍّ‏,‏ فوجبت الكفّارة كما لو علم‏.‏

أثر العارض في سقوط الكفّارة

31 - اختلف الفقهاء في سقوط الكفّارة عمّن جامع في أوّل النّهار‏,‏ ثمّ مرض أو جنّ‏,‏ أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النّهار على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ عدم سقوط الكفّارة بحدوث العارض‏.‏

وإليه ذهب المالكيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ والشّافعيّة في الأظهر‏,‏ وبه قال اللّيث وإسحاق‏,‏ وابن أبي ليلى‏,‏ وأبو ثورٍ‏.‏

واستدلوا بأنّه معنى طرأ بعد وجوب الكفّارة‏,‏ فلم يسقطها كالسّفر‏.‏

وبأنّه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تامٍّ‏,‏ فاستقرّت الكفّارة عليه كما لو لم يطرأ عذر‏.‏

وأنّه قصد هتك حرمة الصّوم أوّلاً بما فعل‏.‏

القول الثّاني‏:‏ سقوط الكفّارة بحدوث العارض‏,‏ وإليه ذهب الحنفيّة وبه قال الثّوري‏,‏ وهو القول الآخر عند الشّافعيّة‏.‏

واستدلوا بأنّ المرض الطّارئ يبيح الفطر‏,‏ فتبيّن به أنّ الصّوم لم يقع مستحقاً‏,‏ لأنّ المرض معنىً يوجب تغير الطّبيعة إلى الفساد‏,‏ يحدث أوّلاً في الباطن‏,‏ ثمّ يظهر أثره‏,‏ فلمّا مرض في ذلك اليوم‏,‏ ظهر أنّه كان المرخّص موجوداً وقت الفطر‏,‏ فمنع انعقاده موجباً للكفّارة‏.‏

وبأنّ وجود أصل المرض شبهة‏,‏ والكفّارة لا تجب معها‏.‏

وبأنّ الحيض دم يجتمع في الرّحم شيئاً فشيئاً‏,‏ حتّى يتهيّأ للبروز فلمّا برز من يومه‏,‏ ظهر تهيؤُه ويجب الفطر‏,‏ أو تهيؤُ أصله فيورث الشبهة‏.‏

وبأنّ الجنون ينافي الصّوم‏,‏ فتبيّن بعروضه أنّه لم يكن صائماً في ذلك اليوم‏.‏

إلا أنّ الحنفيّة خصوا ذلك بالعارض السّماويّ الّذي لا صنع له فيه ولا في سببه فإن كان العارض بصنعه كالسّفر وجرح نفسه فالمعتمد لزومها‏.‏

وجوب الكفّارة بالجماع في صوم غير رمضان

32 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم وجوب الكفّارة على من جامع في صوم التّطوع‏,‏ أو في صومٍ هو كفّارة الجماع‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع في صوم قضاء رمضان‏,‏ أو صوم النّذر‏,‏ على ثلاثة أقوالٍ‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا كفّارة عليه مطلقاً‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏.‏

واستدلوا بأنّ الكفّارة وردت في هتك حرمة رمضان‏,‏ إذ لا يجوز إخلاؤُه عن الصّوم بخلاف غيره من الزّمان‏.‏

وبأنّه جامع في غير رمضان‏,‏ فلم تلزمه الكفّارة‏,‏ كما لو جامع في صيام الكفّارة‏,‏ ويفارق القضاء الأداء‏,‏ لأنّه متعيّن بزمان محترمٍ فالجماع فيه هتك له‏,‏ بخلاف القضاء‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وجوب الكفّارة على من أفسد قضاء رمضان بالجماع‏,‏ وبه قال قتادة‏.‏ واستدلّ على وجوب الكفّارة على من جامع في قضاء رمضان بالمعقول فقال‏:‏ إنّ قضاء رمضان عبادة تجب الكفّارة في أدائها‏,‏ فوجبت في قضائها كالحجّ‏.‏

القول الثّالث‏:‏ تجب الكفّارة على من أفطر عامداً في نذر صوم الدّهر كلّه‏.‏

وإليه ذهب سحنون‏,‏ وابن الماجشون من المالكيّة‏.‏

واستدلوا بأنّه لمّا أفطر متعمّداً فيما لا يجبر بقضاء‏,‏ أشبه الفطر في رمضان متعمّداً‏,‏ فإنّه لا يجبر بقضاء‏,‏ إذ قد جاء فيه أنّه لا يقضيه بصيام الدّهر وإن صامه‏.‏

تعدد الكفّارة بتعدد الجماع في نهار رمضان

33 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من تكرّر جماعه في نهار يومٍ واحدٍ من رمضان قبل تكفيره‏,‏ فإنّ الواجب عليه كفّارة واحدة‏.‏

كما لا خلاف بينهم في أنّ من كفّر‏,‏ ثمّ جامع ثانيةً في يومٍ آخر فإنّ الواجب عليه كفّارة ثانية‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في تعدد الكفّارة على من جامع في يومين ولم يكفّر‏.‏

كما اختلفوا في تعدد الكفّارة على من جامع ثمّ كفّر‏,‏ ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم‏,‏ وإليك ما قاله الفقهاء في ذلك‏:‏

أ - تعدد الكفّارة على من جامع في يومين ولم يكفّر‏:‏

34 - إذا جامع في يومين من رمضان ولم يكفّر‏,‏ فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمه بذلك على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ تلزمه كفّارتان‏.‏

وإليه ذهب المالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وهو قول اللّيث وابن المنذر‏,‏ وروي ذلك عن عطاءٍ ومكحولٍ‏,‏ واختاره القاضي وأحمد في أصحّ الرّوايتين عنه‏.‏

وقد استدلّ الجمهور بأنّ صوم كلّ يومٍ عبادة منفردة‏,‏ فإذا وجبت الكفّارة بإفساده‏,‏ لم تتداخل كفّاراتها‏,‏ كرمضانين‏,‏ وكالحجّتين‏,‏ وكالعمرتين‏.‏

القول الثّاني‏:‏ تجزئه كفّارة واحدة‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ وبه قال الزهري والأوزاعي‏,‏ وهو ظاهر إطلاق الخرقيّ‏,‏ واختيار أبي بكرٍ من الحنابلة‏.‏

واستدلّ الحنفيّة ومن معهم بأنّها جزاء عن جناياتٍ تكرّر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحدّ‏.‏

ب - تعدد الكفّارة على من جامع فكفّر ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم‏:‏

35 - إذا جامع في نهار رمضان فكفّر‏,‏ ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمه بالجماع الثّاني على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا شيء عليه بذلك الجماع‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏.‏

واستدلوا بأنّ الجماع الثّاني لم يصادف صوماً منعقداً‏,‏ ولم يمنع صحّته‏,‏ فلم يوجب شيئاً كالجماع في اللّيل‏,‏ بخلاف الجماع الأوّل‏.‏

القول الثّاني‏:‏ تلزمه كفّارة ثانية‏,‏ نصّ عليه أحمد‏.‏

واستدلّ الحنابلة بأنّ الصّوم في رمضان عبادة تجب الكفّارة بالجماع فيها‏,‏ فتكرّرت بتكرر الوطء إذا كان بعد التّكفير كالحجّ‏.‏

وبأنّه وطء محرّم لحرمة رمضان فأوجب الكفّارة كالأوّل‏,‏ وفارق الوطء في اللّيل فإنّه غير محرّمٍ‏.‏

من تقيّأ عمداً في نهار رمضان

36 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من ذرعه القيء‏,‏ لا قضاء عليه ولا كفّارة‏,‏ وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الكفّارة على من تقيّأ عمداً في نهار رمضان على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا كفّارة عليه‏,‏ وإنّما عليه القضاء‏.‏

وإليه ذهب‏:‏ الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ وبه قال علي وابن عمر وزيد ابن أرقم وعلقمة والزهري وإسحاق والثّوري والأوزاعي‏.‏

واستدلوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض»‏.‏

ووجه الدّلالة من هذا الحديث‏:‏ أنّه نص في وجوب القضاء على من استقاء دون الكفّارة‏,‏ لأنّها لو كانت واجبةً لبيّنها الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز‏.‏

وبأنّ الإفطار عمداً في نهار رمضان لم يتحقّق صورةً فقصرت‏,‏ فانتفت الكفّارة‏,‏ لأنّ الكفّارة أقصى عقوبةٍ في الإفطار‏,‏ فيحتاج إلى كمال الجناية‏,‏ لأنّ في نقصانها شبهة العدم وهي تندرئ بالشبهات‏.‏

القول الثّاني‏:‏ عليه القضاء والكفّارة‏,‏ وبه قال عطاء وأبو ثورٍ‏.‏

رابعاً‏:‏ محظورات الحجّ أو الإحرام

37 - قد يعرض لقاصد الحجّ ما يمنعه من إتمامه أو الإتيان به على الوجه الأكمل‏,‏ كمرض أو عذرٍ أو موتٍ‏,‏ أو فوات وقتٍ أو تجاوز ميقاتٍ أو غير ذلك‏,‏ ولجبر ذلك شرعت الكفّارة‏,‏ والكفّارات الواجبة في ذلك إمّا منصوص عليها‏,‏ وإمّا غير منصوصٍ عليها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏الإحرام ف 145 - 185 وإحصار ف 33 وحرم ف 13‏)‏‏.‏

تعدد الجزاء بتعدد الصّيد

38 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم قتل الصّيد والدّلالة عليه في الحرم‏,‏ كما لا خلاف بينهم على أنّ المحرم إذا قتل الصّيد‏,‏ أو اصطاد أو دلّ عليه فعليه الجزاء للنّصّ على ذلك‏.‏ وإنّما اختلف الفقهاء في تعدد الجزاء بتعدد الصّيد على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ في كلّ صيدٍ جزاء‏,‏ وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وهو أظهر الرّوايتين عن الإمام أحمد وبه قال الثّوري وإسحاق وابن المنذر‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏‏.‏

ووجه الدّلالة من الآية‏:‏ أنّها أوجبت الجزاء على العامد بعمومها‏,‏ وذكر العقوبة في الثّانية لا يمنع الوجوب‏,‏ كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

فأثبت أنّ العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى اللّه‏.‏

يقول النّووي‏:‏ وفي هذه الآية دلالتان‏:‏

الأولى‏:‏ أنّ لفظ الصّيد إشارة إلى الجنس‏,‏ لأنّ الألف واللام يدخلان للجنس أو للعهد‏,‏ وليس في الصّيد معهود‏,‏ فتعيّن الجنس وأنّ الجنس يتناول الجملة والأفراد‏,‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم‏}‏ يعود إلى جملة الجنس وآحاده‏.‏

الثّانية‏:‏ أنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ وحقيقة المماثلة‏:‏ أن يفدي الواحد بواحد‏,‏ والاثنين باثنين‏,‏ والمائة بمائة‏,‏ ولا يكون الواحد من النّعم مثلاً لجماعة صيود‏.‏

وقالوا إنّ الصّيد نفس تضمن بالكفّارة‏,‏ فتكرّرت بتكرر القتل‏,‏ فيستوي فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدميّ‏.‏

وإنّها غرامة متلفٍ يجب به المثل أو القيمة‏,‏ فتكرّر بتكرر الإتلاف‏,‏ كما في الآدميّ‏.‏

وإنّه لا يصح قياس جزاء الصّيد على غيره‏,‏ لأنّ جزاءه مقدّر به ويختلف بصغره وكبره‏,‏ وإنّما يقاس على من أتلف صيدين معاً‏,‏ حيث يجب جزاؤُهما عليه‏,‏ وكذلك إذا تفرّقا‏.‏

قال القاضي أبو الطّيّب‏:‏ ولأنّا أجمعنا على أنّه لو قتل صيدين دفعةً واحدةً لزمه جزاءان‏,‏ فإذا تكرّر قتلهما معاً‏,‏ وجب تكرره بقتلهما مرتّباً كالعبدين وسائر الأموال‏.‏

القول الثّاني‏:‏ يجب الجزاء بالصّيد الأوّل دون ما بعده‏,‏ وهذا مروي عن ابن عبّاسٍ‏,‏ وبه قال شريح والحسن وسعيد بن جبيرٍ ومجاهد والنّخعي وقتادة وهي الرّواية الثّانية عن أحمد‏.‏ وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ إن كفّر عن الأوّل فعليه الكفّارة‏,‏ وإلا فلا شيء للثّاني‏.‏ واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ‏}‏ ووجه الدّلالة من هذه الآية‏:‏ أنّ اللّه تعالى علّق وجوب الجزاء على لفظ ‏"‏ مَن ‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ وما علّق على لفظ ‏"‏ مَن ‏"‏ لا يقتضي تكراراً‏,‏ كما لو قال‏:‏ من دخل الدّار فله درهم‏,‏ أو من دخلت الدّار فهي طالق فإذا تكرّر دخوله لم يستحقّ إلا درهماً بالدخول الأوّل‏,‏ وإذا تكرّر دخولها لا يقع إلا طلقة بالدخول الأوّل‏,‏ فلا يتكرّر الجزاء بتكرار القتل‏,‏ ولأنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ‏}‏‏,‏ ولم يرتّب على العود غير الانتقام‏,‏ إذ لو كان تكرر الجزاء واجباً لرتّبه على العود مع الانتقام‏,‏ فكان عدم ذكره دليلاً على عدم وجوبه وتكرره‏.‏

صيد حرم المدينة‏:‏

39 - اختلف الفقهاء في وجوب الجزاء بقتل صيد حرم المدينة على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ لا جزاء فيه‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول الشّافعيّ في الجديد‏,‏ والرّواية الأولى عن الإمام أحمد‏.‏

واستدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المدينة حرم ما بين عيرٍ إلى ثورٍ فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين لا يقبل اللّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»‏.‏

ووجه الدّلالة من الحديث‏:‏ أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنّ المدينة حرم‏,‏ وبأنّ كلّ من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً استحق الطّرد من رحمة اللّه واستحق الوعيد الشّديد‏,‏ ولم يذكر كفّارةً‏,‏ ولو كانت الكفّارة واجبةً لذكرها لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز‏.‏

وبما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الصّبيان بالمدينة طائراً‏,‏ فطار من يده‏,‏ فجعل يتأسّف على ذلك‏,‏ ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يا أبا عميرٍ ما فعل النغير» - اسم ذلك الطّير وهو طير صغير مثل العصفور - فهذا الحديث يدل على عدم وجوب الجزاء بصيد حرم المدينة‏,‏ لأنّه لو كان لصيد المدينة حرمة الحرم‏,‏ لما ناوله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صبياً‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ هذه بقعة يجوز دخولها بغير إحرامٍ فلا يجب بصيد حرمها جزاء قياساً على سائر البلدان‏,‏ بخلاف الحرم فإنّه ليس لأحد أن يدخله إلا محرماً‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وجوب الجزاء بقتل صيد حرم المدينة‏,‏ وهذا مروي عن ابن أبي ذئبٍ وابن المنذر‏,‏ وهو قول الشّافعيّ في القديم‏,‏ والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد‏.‏

واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة»‏.‏

ووجه الدّلالة‏:‏ أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنّه حرّم المدينة‏,‏ كما حرّم إبراهيم مكّة‏,‏ فيجب في قتل صيده الجزاء كما يجب في قتل صيد حرم مكّة‏,‏ لاستوائهما في التّحريم‏.‏

تعدد الجزاء بقتل الصّيد والأكل منه

40 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المحرم إذا قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه أثم‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في الجزاء الواجب عليه‏,‏ إذا قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه على قولين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ عليه جزاء واحد‏.‏

وإليه ذهب المالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ وصاحبا أبي حنيفة‏.‏

واستدلوا بأنّه صيد مضمون بالجزاء‏,‏ فلم يضمن ثانياً كما لو أتلفه بغير الأكل‏.‏

وبالقياس على صيد الحرم إذا قتله أو أكله‏.‏

وبالقياس على ما لو قتله محرم آخر‏,‏ ثمّ أكل هذا منه‏.‏

وبأنّ تحريم أكله لكونه ميتةً‏,‏ فأشبه سائر الميتات‏,‏ لأنّ الميتة لا تضمن بالجزاء‏,‏ وإنّما توجب الاستغفار‏.‏

القول الثّاني‏:‏ عليه جزاءان‏.‏

وبه قال أبو حنيفة‏,‏ وعطاء‏.‏

واستدلا بأنّ قتل هذا الصّيد من محظورات إحرامه‏,‏ والقتل غير مقصودٍ لعينه بل للتّناول من الصّيد‏,‏ فإذا كان ما ليس بمقصود من محظورات إحرامه يلزمه الجزاء به‏,‏ فما هو مقصود بذلك أولى‏.‏

منشأ الخلاف بين الفقهاء

ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في ذلك إلى اختلافهم في اعتبار أكل الصّيد تعدّياً ثانياً عليه سوى تعدّي القتل أم لا ‏؟‏

وإذا كان تعدّياً فهل هو مساوٍ للتّعدّي الأوّل أم لا ‏؟‏‏.‏

وقد استدلّ كل فريقٍ بأدلّة تؤيّد ما ذهب إليه‏.‏

الجزاء في إتلاف بيض الصّيد

41 - اختلف الفقهاء في ضمان بيض الصّيد المحرّم على المحرم إذا كسره على قولين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ وجوب الجزاء فيه‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والحنابلة‏.‏

وقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إنّ الجزاء في إتلاف المحرم بيض الصّيد هو القيمة واستدلوا بما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «في بيض النّعام يصيبه المحرم ثمنه»‏,‏ ولأنّ البيض لا مثل له فتجب قيمته‏,‏ فإن لم تكن له قيمة لكونه مذراً فلا شيء فيه‏,‏ إلا بيض النّعام فإنّ لقشره قيمةً في الجملة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الجزاء الواجب في إتلاف بيض الصّيد هو عشر قيمة أمّه‏.‏

القول الثّاني‏:‏ لا جزاء في إتلاف المحرم بيض الصّيد‏,‏ وبه قال المزني من الشّافعيّة واستدلّ بأنّه لا روح فيه فلا جزاء عليه‏.‏