فصل: دعوى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


دعوى

التّعريف

1 - الدّعوى في اللّغة‏:‏ اسم من الادّعاء، مصدر ادّعى، وتجمع على دعاوى بكسر الواو وفتحها‏.‏ ولها في اللّغة معان متعدّدة منها‏:‏ الطّلب والتّمنّي، ومن ذلك قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ الدّعاء، كما في قول اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ الزّعم‏.‏ ولا تطلق الدّعوى على القول المؤيّد بالحجّة والبرهان، بل يكون ذلك حقّاً، وصاحبه محقّاً لا مدّعياً، فلا تطلق على نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم لأنّ ما صدر عنه مقرون بالحجّة السّاطعة، وهي المعجزة‏.‏ وكانوا يسمّون مسيلمة الكذّاب مدّعياً للنّبوّة‏.‏ والدّعوى في الاصطلاح‏:‏ قول يطلب به الإنسان إثبات حقّ على الغير في مجلس القاضي أو المحكّم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القضاء‏:‏

2 - القضاء في اللّغة‏:‏ الحكم‏.‏ وهو في الاصطلاح‏:‏ تبيين الحكم الشّرعيّ، والإلزام به، وفصل الخصومة‏.‏ والصّلة بين الدّعوى والقضاء أنّ الدّعوى طلب حقّ، والقضاء نهوّ الحكم في هذا الطّلب والإلزام به‏.‏

ب - التّحكيم‏:‏

3 - التّحكيم في اللّغة‏:‏ مصدر حكّم، يقال‏:‏ حكّموه بينهم‏:‏ أي فوّضوه أن يحكم بينهم، ويقال‏:‏ حكّمنا فلاناً فيما بيننا أي أجزنا حكمه بيننا‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء هو‏:‏ تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما‏.‏

وعلى هذا يشترك التّحكيم والدّعوى في أنّ كلّاً منهما يتضمّن طلب الفصل في الخصومة، ويختلفان من حيث الحقيقة، والأثر، والمحلّ‏.‏

فالتّحكيم في حقيقته عقد مبناه على اتّفاق إرادتين، حيث يكون بتراضي الخصوم على اختيار من يحكم بينهما، ولا يصحّ بإرادة أحدهما دون الآخر‏.‏

أمّا الدّعوى فهي تصرّف قوليّ يقوم به المدّعي بإرادته المنفردة‏.‏

وللتّحكيم أثر إنشائيّ، حيث يترتّب عليه إنشاء ولاية خاصّة للمحكّم لم تكن له قبل التّحكيم، أمّا الدّعوى فليس لها مثل هذا الأثر، إذ ترفع إلى القاضي الّذي يستمدّ ولايته من عقد التّولية‏.‏

والتّحكيم يجوز في الأموال باتّفاق الفقهاء، واختلفوا في جوازه في الحدود والقصاص‏.‏

أمّا الدّعوى فتصحّ في جميع الحقوق بلا خلاف‏.‏

ج - الاستفتاء‏:‏

4 - الاستفتاء طلب الإفتاء، والإفتاء هو‏:‏ الإخبار عن حكم الشّارع في أمر من الأمور بناءً على استقراء الأدلّة واتّباع مقتضياتها‏.‏

وعليه فإنّ الاستفتاء هو طلب بيان الحكم الشّرعيّ في أمر من الأمور‏.‏

وتختلف الدّعوى عنه أنّ فيها طلب إلزام الخصم بحقّ، فتقتضي وجود خصم يطلب إلزامه بالحقّ، وليس في الاستفتاء طلب إلزام، ولا يشترط فيه وجود خصم‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - لمّا كانت الدّعوى في حقيقتها إخباراً يقصد به طلب حقّ أمام القضاء، وهي تحتمل الصّدق والكذب، فمن البدهيّ أن تكون محرّمةً إذا كانت دعوى كاذبة، وكان المدّعي يعلم ذلك، أو يغلب ذلك على ظنّه‏.‏

أمّا إذا كان يغلب على ظنّه أنّه محقّ في دعواه، فهي عندئذ تصرّف مباح، فله أن يرفعها، إلاّ إذا كان يقصد بها الضّرار، فتكون محرّمةً، كما لو كان يعلم أنّ غريمه لا ينكر حقّه، وأنّه على استعداد لتوفيته إيّاه، فيرفع الدّعوى للتّشهير به، فتكون محرّمةً‏.‏

أركان الدّعوى

6 - أركان الدّعوى عند جمهور الفقهاء هي‏:‏ المدّعي، والمدّعى عليه، والمدّعى، والقول الّذي يصدر عن المدّعي يقصد به طلب حقّ لنفسه أو لمن يمثّله‏.‏ ولكلّ ركن من هذه الأركان شروط خاصّة سيأتي ذكرها فيما بعد‏.‏

وعند الحنفيّة ركن الدّعوى هو التّعبير المقبول الّذي يصدر عن إنسان في مجلس القضاء يقصد به طلب حقّ له أو لمن يمثّله، مثل قول الرّجل‏:‏ لي على فلان أو قبل فلان كذا، أو قضيت حقّ فلان، أو أبرأني عن حقّه، ونحو ذلك‏.‏

وقد اختلفوا في أنّ الرّكن هل هو مجرّد التّعبير الطّلبيّ من قول أو كتابة أو إشارة، أو أنّه هو مدلول ذلك التّعبير، أو أنّه كلا الأمرين جميعاً، وبعبارة أخرى هل ركن الدّعوى هو الدّالّ أو المدلول أو كلاهما‏؟‏ وقد ذهب إلى كلّ واحد من هذه الأقوال جماعة منهم‏.‏

كيفيّة التّمييز بين المدّعي والمدّعى عليه

7 - تمييز القاضي المدّعي من المدّعى عليه يعتبر من أهمّ الأمور الّتي تعينه على إصابة الحقّ في الأحكام الّتي يصدرها،ذلك أنّ الشّارع جعل عبء الإثبات في الدّعوى على المدّعي‏.‏ وعبء دفعها باليمين على المدّعى عليه إن لم يستطع المدّعي إثباتها بالبيّنة‏.‏

ولا شكّ في أنّ العبء الأوّل أثقل من العبء الثّاني، فإن أخطأ القاضي في التّمييز بينهما، فإنّه سيحمّل المدّعى عليه العبء الأثقل، ويجعل على المدّعي العبء الأخفّ، ممّا قد يؤدّي إلى الخطأ في الحكم والظّلم في القضاء‏.‏

لذلك اجتهد الفقهاء في وضع الضّوابط الّتي تعين القضاة على معرفة المدّعي والمدّعى عليه في أيّة خصومة، واختلفوا في ذلك، ويمكن حصر أقوالهم في هذه المسألة في اتّجاهين‏:‏

8 - الاتّجاه الأوّل‏:‏ ما ذهب إليه جمهور فقهاء المالكيّة والشّافعيّة، واعتمدوا فيه على النّظر إلى جنبة كلّ من الطّرفين المتنازعين‏:‏ فمن كانت جنبته قويّةً بشهادة أيّ أمر مصدّق لقوله كان هو المدّعى عليه والآخر مدّعياً‏.‏ ومع اتّفاق أصحاب هذا الاتّجاه على هذا الأصل، إلاّ أنّهم اختلفوا في تفسير الأمر المصدّق الّذي إذا تجرّد عنه قول أحد المتخاصمين كان هو المدّعي، فتباينت - بناءً على ذلك - تعريفاتهم للمدّعي والمدّعى عليه على النّحو الآتي‏:‏ أوّلاً‏:‏ ذهب معظم فقهاء المالكيّة إلى أنّ المدّعي هو من تجرّدت دعواه عن أمر يصدّقه‏.‏ وزاد بعضهم‏:‏ أو كان أضعف المتداعيين أمراً في الدّلالة على الصّدق‏.‏

وفسّر آخرون منهم هذا الأمر المصدّق بقولهم‏:‏ المدّعي هو من لم يترجّح قوله بمعهود أو أصل‏.‏ والمدّعى عليه عكسه‏.‏ والمعهود هو العرف والعادة والغالب‏.‏

ورأى بعضهم تقييد التّعريف السّابق للمدّعي بقوله ‏"‏ حال الدّعوى ‏"‏، أي أنّ‏:‏ التّجرّد المقصود هو الّذي يكون حال الدّعوى، وقبل إقامة البيّنة، ولذلك قال بعضهم ‏"‏ بمصدّق غير بيّنة ‏"‏، أي أن لا يكون الأمر المصدّق الّذي تجرّد عنه قول المدّعي هو البيّنة، فإنّه يظلّ مدّعياً ولو لم يتجرّد قوله منها‏.‏

ثمّ إنّ الأمر المصدّق الّذي إذا اعتضد به جانب أحد المتخاصمين كان دليلاً على أنّه هو المدّعى عليه يمكن أن يكون أحد شيئين هما‏:‏ الأصل والظّاهر‏.‏

9 - أمّا الأصل فهو القاعدة الشّرعيّة المعمول بها في الواقعة المخصوصة، أو الدّلالة المستمرّة، أو استصحاب الحال الأوّل‏.‏ وقد ذكروا من الأصول‏:‏

أ - الأصل براءة الذّمّة من الحقوق قبل عمارتها‏:‏ فمن ادّعى ديناً على آخر، فأنكر المطلوب كان المنكر مدّعًى عليه، لأنّ الأصل براءة الذّمّة، وقد عضّده هذا الأصل، فكان القول له بيمينه إن لم تكن للمدّعي بيّنة‏.‏ ولو اعترف المطلوب بالدّين وادّعى القضاء، لكان الطّالب هو المدّعى عليه في هذا الدّفع،لأنّ الأصل استصحاب عمارة الذّمّة بعد ثبوت شغلها، فكان القول له بيمينه إن لم يكن للآخر بيّنة‏.‏

ب - الأصل في الإنسان الصّحّة قبل ثبوت مرضه، ويكون مدّعي المرض مدّعياً خلاف الأصل، فعليه البيّنة، فإذا وقع طلاق رجل لزوجته طلاقاً بائناً، ثمّ مات، فقامت المرأة على الورثة تدّعي أنّه طلّق في مرض الموت لكي ترث منه، فأنكر الورثة ذلك، كانت المرأة مدّعيةً خلاف الأصل الّذي يقضي بأنّ الإنسان سليم حتّى يثبت مرضه، فعليها البيّنة والقول للورثة‏.‏

ج - الأصل عدم المضارّة والتّعدّي، فلو ادّعى شخص على الطّبيب العمد فيما زاد على المأذون فيه، فادّعى الطّبيب الخطأ، فإنّ القول له‏.‏

د - الأصل في الإنسان الجهل بالشّيء حتّى يقوم عليه الدّليل بالعلم، فإذا قام الشّريك يطلب حصّة شريكه بالشّفعة ممّن اشتراها، وكان ذلك بعد مرور عام على عقد البيع، فادّعى المشتري علم الشّريك بالبيع، وادّعى هو جهله بذلك كان القول قول الشّريك، والمشتري هو المدّعي، وعليه البيّنة الّتي تشهد أنّ الشّريك كان على علم بالعقد‏.‏

هـ - الأصل في الإنسان الفقر، لسبقه، حيث يولد خالي اليد، فيكتسب بعمله، فيصبح غنيّاً، غير أنّهم قالوا‏:‏ إنّ النّاس محمولون على الملاء لغلبته، فهذا من جملة ما تعارض فيه الأصل والغالب، وقدّم الأخير فيه، وفرّعوا على ذلك أنّ زاعم الإعسار يعتبر مدّعياً، وإن وافقه الأصل الّذي هو الفقر، فهو المدّعي والمطالب بالبيّنة على الإعسار‏.‏

10 - وأمّا الظّاهر فيستفاد من أحد أمرين‏:‏ العرف، والقرائن المغلّبة على الظّنّ‏.‏

الأوّل‏:‏ العرف، ويسمّيه بعضهم المعهود والغالب والعادة‏.‏

واستدلّوا على حجّيّته بقول اللّه عزّ وجلّ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏‏.‏ وقد قالوا‏:‏ العرف مقدّم على الأصل، وكلّ أصل كذّبه العرف، رجّح هذا الأخير عليه، واستثني من ذلك بعض المسائل، منها ما لو ادّعى الصّالح التّقيّ العظيم المنزلة أو الشّأن في العلم والدّين على أفسق النّاس وأدناهم علماً وديناً درهماً واحداً، فإنّ الغالب صدقه، والأصل براءة الذّمّة، فيقدّم الأصل على الغالب في هذه الصّورة‏.‏

الأمر الثّاني‏:‏ القرائن وظواهر الحال وغلبة الظّنّ، فمن حاز شيئاً مدّةً يتصرّف فيه، ثمّ ادّعاه غيره، فإنّه يرجّح قول الحائز في دعوى الملكيّة، ويكون الآخر مدّعياً، لأنّ قوله يخالف الظّاهر المستنبط من الواقع والقرائن، فيكلّف بالبيّنة، فإن عجز عنها وقعت دعواه بيمين الحائز‏.‏

وقد استثنى المالكيّة من القاعدة السّابقة في التّمييز بين المدّعي والمدّعى عليه بعض المسائل، إمّا للمحافظة على المصلحة العامّة، وإمّا للضّرورة‏:‏ كما في قول الأمناء في تلف الأمانات الّتي بين أيديهم، فإنّه يقبل مع أنّ الأصل عدمه، لأنّه أمر عارض، وإنّما قبل كيلاً يزهد النّاس في قبول الأمانات، فتفوت هذه المصلحة‏.‏ وكما في قول الغاصب بتلف المغصوب، فإنّه يقبل مع يمينه، للضّرورة، ويعتبر مدّعىً عليه، إذ لو لم يقبل قوله، واعتبر مدّعيًا لكان مصيره الخلود في السّجن‏.‏

ثانياً‏:‏ ذهب معظم فقهاء الشّافعيّة إلى أنّ المدّعي هو‏:‏ من يلتمس خلاف الظّاهر، والمدّعى عليه هو‏:‏ من يتمسّك بالظّاهر‏.‏

والظّاهر عند الشّافعيّة نوعان‏:‏ ظاهر بنفسه، وظاهر بغيره، ويطلقون كثيراً لفظ ‏"‏ الأصل ‏"‏ على النّوع الأوّل، وإذا ذكروا الظّاهر في مقابلة الأصل كان المقصود به النّوع الثّاني، وهو الظّاهر بغيره‏.‏ ولكنّ الظّاهر الّذي ذكروه في التّعريف المتقدّم للمدّعي والمدّعى عليه يقصد به النّوعان جميعاً‏.‏

والظّاهر بنفسه هو أقوى أنواع الظّاهر عندهم، وهو ما يكون مستفاداً من الأصول، كالظّاهر المستفاد من البراءة الأصليّة‏:‏ براءة الذّمم من الحقوق، والأجساد من العقوبات وبراءة الإنسان من الأفعال والأقوال جميعها‏.‏

والظّاهر بغيره عندهم هو ما يستفاد من العرف والعوائد، أو من القرائن ودلائل الحال‏.‏

وإذا تعارض الظّاهر بنفسه مع الظّاهر بغيره فغالباً ما يقدّم الشّافعيّة الأوّل، ويكون الّذي يدّعي خلافه مدّعياً يكلّف بالبيّنة إن لم يقرّ خصمه، والآخر مدّعىً عليه، ومثال ذلك‏:‏ أنّ المرأة لو ادّعت على زوجها الحاضر أنّه لا ينفق عليها، فالأصل يقضي بعدم الإنفاق، والظّاهر المستفاد من قرائن الحال يقضي بأنّه ينفق عليها، والشّافعيّة يقدّمون الأوّل على الثّاني في هذه المسألة، ويكون القول قول المرأة، والبيّنة على الزّوج، وهذا بخلاف ما ذهب إليه المالكيّة، حيث يجعلون المرأة مدّعيةً، والزّوج مدّعىً عليه‏.‏

أمّا إذا تعارض ظاهران في قوّة واحدة، كأن يكونا مستفادين من أصل واحد، أو من أصلين في قوّة واحدة، كان كلّ من الطّرفين مدّعياً مكلّفاً بالبيّنة، فقد ورد في كتاب الأمّ ما نصّه‏:‏ إذا ادّعى رجل على رجل أنّه أكراه بيتاً من دار شهراً بعشرة، وادّعى المكتري أنّه اكترى الدّار كلّها ذلك الشّهر بعشرة، فكلّ واحد منهما مدّع على صاحبه، وعلى كلّ واحد منهما البيّنة‏.‏

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الشّقّة ليست بعيدةً بين المعيار الّذي قال به المالكيّة من أجل التّمييز بين المدّعي والمدّعى عليه، وبين المعيار الّذي قال به الشّافعيّة، بل إنّهما يكادان يتشابهان، والخلاف بينهما منحصر في التّطبيق، وذلك عندما يتعارض أمران من أمور الظّاهر‏:‏ فالشّافعيّة يرون الأصل أقوى منابع الظّهور غالباً، والمالكيّة يرون أنّ دلائل الحال من عرف وقرائن أقوى من ذلك، وكلّ منهما قدّم الأقوى في نظره، وجعل مخالفه مدّعياً وعليه البيّنة‏.‏

11 - الاتّجاه الثّاني‏:‏ ما ذهب إليه معظم فقهاء الحنفيّة، وبعض فقهاء المذاهب الأخرى، وهو تعريف المدّعي بأنّه‏:‏ من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها، والمدّعى عليه‏:‏ من إذا تركها يجبر عليها‏.‏

ومثله قول الحنابلة، إلاّ أنّهم ذهبوا إلى اشتقاق تعريف المدّعي والمدّعى عليه من تعريف الدّعوى نفسها‏:‏ فالمدّعي - عندهم - هو منشئ الدّعوى، والمدّعى عليه هو من توجّهت ضدّه الدّعوى، ولذلك قال بعضهم‏:‏ المدّعي هو من يضيف إلى نفسه استحقاق شيء على الآخر وإذا سكت ترك، والمدّعى عليه هو من يضاف استحقاق شيء عليه وإذا سكت لم يترك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المدّعي هو من يطالب غيره بحقّ يذكر استحقاقه عليه، والمدّعى عليه من يطالبه غيره بحقّ يذكر استحقاقه عليه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ المدّعي هو من يلتمس قبل غيره لنفسه عيناً أو ديناً أو حقّاً، والمدّعى عليه هو من يدفع ذلك عن نفسه‏.‏

الفائدة المترتّبة على التّمييز بين المدّعي والمدّعى عليه

12 - أهمّ ما يستفاد من معرفة المدّعي والمدّعى عليه هو تعيين الطّرف الّذي يقع عليه عبء الإثبات، والطّرف الّذي لا يكلّف إلاّ باليمين عند عدم وجود بيّنة تشهد للطّرف الأوّل‏.‏ وهذا الأمر هو مدار القضاء وعموده، إذ بعد تحقّقه لا يبقى على القاضي سوى تطبيق القواعد المعروفة في البيّنات والتّرجيح‏.‏ وقد روي عن سعيد بن المسيّب أنّه قال‏:‏ ‏"‏ أيّما رجل عرف المدّعي من المدّعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم بينهما ‏"‏‏.‏

وإنّما جعلت البيّنة على المدّعي، لأنّ جانبه ضعيف، إذ هو يريد تغيير الحال المستقرّ بما يزعمه، وفي هذا يقول ابن رشد‏:‏ ‏"‏ فالمعنى الّذي من أجله كان القول للمدّعى عليه، هو أنّ له سبباً يدلّ على صدقه دون المدّعي في مجرّد دعواه، وهو كون السّلعة بيده إن كانت الدّعوى في شيء بعينه، أو كون ذمّته بريئةً على الأصل في براءة الذّمم إن كانت الدّعوى فيما في ذمّته‏.‏ والمعنى الّذي وجب من أجله على المدّعي إقامة البيّنة على دعواه هو تجرّد دعواه من سبب يدلّ على صدقه فيما يدّعيه‏.‏

ويشهد لصحّة ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعطى النّاس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم»‏.‏

مكان الدّعوى

13 - الكلام في مكان الدّعوى يقتضي بيان أمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ المجلس الّذي ترفع فيه الدّعوى وتنظر فيه، وهو ما يسمّى بمجلس القضاء‏.‏ والثّاني‏:‏ القاضي المختصّ بنظر الدّعوى‏.‏

أوّلاً‏:‏ مجلس القضاء

14 - الأصل أنّ جميع الأمكنة صالحة لتلقّي المتنازعين والنّظر في خصوماتهم، وليس منها شيء يحرم فيه ذلك، إلاّ إذا ترتّب عليه إهدار حقّ أو فعل محرّم، كما لو استخدم القاضي ملك إنسان من أجل القيام بإجراءات التّقاضي من غير الحصول على إذنه‏.‏

ولكن نصّ الفقهاء على صفات وخصائص يستحبّ توافرها في الأماكن الّتي ترفع فيها الدّعاوى، ويفصل فيها بين الخصوم‏.‏ ويمكن إرجاع هذه الصّفات والخصائص إلى أمرين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن تكون بحيث توفّر التّيسير على جميع النّاس في الوصول إليها، والاهتداء إلى موضعها، وأن تكون بحيث يتوخّى العدل والإنصاف بين النّاس فيما يبذلونه من الجهد للوصول إليها‏.‏

الثّاني‏:‏ أن تكون بحيث توفّر الاستقرار النّفسيّ والرّاحة الجسديّة للنّاس الّذين يقصدونها للتّقاضي، وللقضاة الّذين يتّخذونها مجلساً للقيام بوظائفهم‏.‏

وينبني على الأمر الأوّل أن يكون مجلس القضاء في وسط البلد الّذي يختصّ به، بحيث يصل إليه كلّ قاصد للتّقاضي، ويستحبّ أن يكون في مكان بارز، وليس في موضع مستتر غير مشهور، حتّى وإن أقام القاضي على بابه من يأذن للنّاس بالدّخول عليه، لأنّه لا يظهر جلوسه به، ولا يهتدي إليه الغرباء‏.‏

وينبني على الأمر الثّاني أن يكون مجلس القضاء فسيحاً لا يتأذّى الحاضرون بضيقه، وأن يكون نزهاً لا يؤثّر فيه الحرّ والبرد والغبار والدّخان وغير ذلك، ويجلس القاضي للصّيف حيث يليق به، وللرّياح والشّتاء حيث يليق‏.‏

وللفقهاء اختلافات وتفصيلات فيما يتعلّق بمجلس القضاء من اتّخاذ البوّاب والحاجب، واتّخاذ المسجد مجلساً للتّقاضي وغير ذلك، وينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء، ومسجد، وحاجب ج 16 / 244‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ القاضي المختصّ بنظر الدّعوى

15 - لا خلاف في أنّه إذا كان في البلد قاض واحد يختصّ بالطّرفين فإنّه هو الّذي ترفع إليه الدّعوى‏.‏

أمّا إذا تعدّد القضاة، واستقلّ كلّ بمحلّة يختصّ بالقضاء بين أهلها، ولا يتعدّاها إلى غيرها، فقد اختلف الفقهاء في تحديد القاضي المختصّ بنظر الدّعوى على الآراء الآتية‏.‏

16 - الرّأي الأوّل‏:‏ أنّ الدّعوى ترفع إلى القاضي الّذي يختاره المدّعي‏.‏

وإلى هذا ذهب أبو يوسف من الحنفيّة ومعظم فقهاء الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وهو قول المالكيّة إذا تعدّد القضاة في نطاق بلد واحد، وكان المتنازعان من أهل هذا البلد‏.‏ واحتجّ أصحاب هذا الرّأي بأنّ المدّعي هو الّذي لا يجبر على الخصومة، بحيث إذا تركها ترك وشأنه، فهو المنشئ للخصومة، فيعطى الخيار‏:‏ إن شاء أنشأها عند قاضي مكانه هو، وإن شاء أنشأها عند قاضي مكان خصمه، فلأنّ الحقّ له في الدّعوى جعل الحقّ له في تعيين القاضي‏.‏

17 - الرّأي الثّاني‏:‏ أنّ الحقّ في تعيين القاضي الّذي ينظر في الدّعوى يكون للمدّعى عليه لا للمدّعي، وإلى هذا الرّأي ذهب محمّد بن الحسن، وهو المفتى به في المذهب الحنفيّ‏.‏ ويستند هذا الرّأي إلى أنّ المدّعى عليه يدافع عن نفسه، والمدافع يطلب السّلامة لنفسه، والأصل براءة ذمّته، والظّاهر يشهد له، فأخذه إلى من يأباه لريبة يثبت عنده ربّما يوقعه في ارتباك يحصل له، فيؤدّي ذلك إلى إثبات ما ليس في الحقيقة ثابتاً في ذمّته، فالأولى مراعاة جانبه بالنّظر إليه واعتبار اختياره، لأنّه يريد الدّفع عن نفسه، وخصمه يريد أن يوجب عليه، ومن طلب السّلامة أولى بالنّظر ممّن طلب ضدّها‏.‏

ويرى بعض علماء الحنفيّة أنّ مذهب محمّد بن الحسن ليس ما تقدّم، وإنّما العبرة عنده في تعيين القاضي الّذي ترفع إليه الدّعوى وينظر فيها هي لمكان المدّعى عليه، وأنّ قاضي هذا المكان هو المختصّ فيه، فليست العبرة لاختيار المدّعى عليه، وإنّما لمكانه‏.‏

18 - الرّأي الثّالث‏:‏ وهو ما ذهب إليه المالكيّة، فقد اتّفقوا مع الشّافعيّة وأبي يوسف في أنّ الاختيار يكون للمدّعي في تحديد القاضي المختصّ بنظر الدّعوى في حالة تعدّد القضاة في نطاق البلد الواحد‏.‏ إلاّ أنّهم اختلفوا معهم في تحديده عندما يتعدّد القضاة،وتتعدّد البلاد، واختلفت آراؤهم في ذلك باختلاف المدّعى به أيضاً على النّحو الآتي‏:‏

أ - ففي دعاوى الدّين، اتّفقوا على أنّ الدّعوى تنظر في المكان الّذي يتعلّق فيه الطّالب بالمطلوب‏.‏ ومعنى هذا أنّ مدّعي الدّين له أن يختار من يشاء من القضاة إذا كان هو وخصمه في بلد واحد، وتعدّد قضاته، وكانوا مستقلّين بالنّظر في جميع أنواع الدّعاوى‏.‏ فإن لم يكونا في بلد واحد فللمدّعي أن يتعلّق بخصمه في أيّ مكان يجده، ويطالب بحقّه عند قاضي ذلك المكان‏.‏

ب - وفي دعاوى العين ينظر‏:‏ إن كان المتخاصمان من بلدين مختلفين، وكلاهما في ولاية قاض واحد، فإنّ الدّعوى ترفع إلى ذلك القاضي في مجلس قضائه، سواء أكان في بلد المدّعي أم في بلد المدّعى عليه، وحيثما كان المدّعى به‏.‏

وأمّا إذا كان كلّ منهما في ولاية قاض، فعندهم في ذلك قولان‏:‏

القول الأوّل‏:‏ وهو لابن الماجشون كما نقل عنه ابن حبيب، وفيه ذهب إلى أنّ الدّعوى ينبغي أن ترفع إلى القاضي الموجود في محلّ الشّيء المدّعى‏.‏

فإذا رفعت إليه الدّعوى فإنّه يسمع بيّنة المدّعي، ويضرب لمن عنده الحقّ المدّعى أجلاً حتّى يأتي، فيدفع عن نفسه، أو يوكّل له وكيلاً يقوم عنه بالخصومة في ذلك‏.‏

ونقل فضل بن سلمة أنّ هذا الرّأي ذهب إليه سحنون وابن كنانة‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وهو قول مطرّف وأصبغ، ويريان أنّ الدّعوى إنّما ترفع إلى قاضي موضع المدّعى عليه، ولا يلتفت إلى موضع المدّعي ولا موضع المدّعى به‏.‏

وهذا هو المشهور في المذهب المالكيّ، وقد نقله فضل بن سلمة عن ابن القاسم، ونقل بعضهم أنّ هذا هو عمل أهل المدينة، غير أنّهم قالوا‏:‏ إنّ من حقّ المدّعي أن يبدأ بقاضي محلّته، فيرفع إليه أمره، ويثبت عنده بيّنته، ثمّ يكتب قاضيه إلى قاضي محلّة المدّعى عليه بذلك، فيأخذ المدّعي كتاب قاضيه ليقدّمه إلى قاضي المدّعى عليه، وإن شاء وكّل غيره، وأرسله بالكتاب، فإذا قدم المدّعي أو وكيله إلى قاضي المدّعى عليه سلّمه كتاب قاضيه، فإن ثبت عنده، قرأه على المدّعى عليه،وسأله المخرج من ذلك إن كان له مخرج، وإلاّ أنفذ الحكم عليه‏.‏ أمّا إذا لم يفعل المدّعي ذلك وإنّما قدم مباشرةً إلى قاضي المدّعى عليه، فإن كانت بيّنته معه، نظرت الدّعوى، وطلب من المدّعى عليه المخرج‏.‏

أمّا إذا أعلمه المدّعي أنّ بيّنته في مكان الشّيء المدّعى، كتب إلى قاضي محلّة ذلك الشّيء، وطلب منه تزويده بالبيّنة‏.‏

وفي جميع الأحوال يعطى المدّعي أو المدّعى عليه المدّة الكافية لتحضير الحجج والبيّنات‏.‏

غير أنّ أصبغ استثنى من ذلك ما لو وجد المدّعي خصمه في محلّته أو محلّة ذلك الشّيء المدّعى، وتعلّق به في المكان الّذي وجده فيه، فإنّ القاضي الّذي ينظر في الدّعوى في هذه الحال هو قاضي المكان الّذي تعلّق به فيه‏.‏

تلك الآراء في تحديد القاضي المختصّ بنظر الدّعوى معتبرة عند أصحابها فيما إذا تميّز المدّعي من المدّعى عليه‏.‏ ولكن قد يكون كلّ من الطّرفين مدّعياً ومدّعىً عليه في آن واحد، وذلك كاختلافهما في قسمة الملك، أو كما إذا اختلفا في قدر ثمن مبيع أو صداق اختلافاً يوجب تحالفهما، ففي هذه الحالة لا يمكن تطبيق أحد تلك الآراء السّابقة، وإنّما ترفع الدّعوى إلى أقرب القضاة من المتخاصمين، فإن تساويا في المسافة أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة كان القول له في تعيين القاضي المختصّ‏.‏

الرّأي الرّابع‏:‏ وهو قول ضعيف في المذهب الحنبليّ، هو منع المتنازعين من التّقاضي إلى أن يتّفقا على قاض معيّن‏.‏

وإنّما ضعّفه فقهاء الحنابلة لأنّه قد يؤدّي إلى ظلم أحد الطّرفين، إذ لا بدّ من أن يكون أحدهما محتاجاً إلى رفع الدّعوى أكثر من الآخر، وغالباً ما يكون هذا المحتاج هو المدّعي، وبذلك تتاح للآخر الفرصة في التّعنّت والعناد إذا طلب منه الاتّفاق على قاض معيّن‏.‏

أنواع الدّعاوى

19 - للدّعاوى تقسيمات مختلفة، وأنواع كثيرة يعود معظمها إلى اعتبارين‏:‏

الاعتبار الأوّل‏:‏ يعود إلى مدى صحّة الدّعاوى، وهذا بدوره يعود إلى مقدار توفّر الشّروط الشّرعيّة فيها‏.‏

الاعتبار الثّاني‏:‏ يعود إلى تنوّع الشّيء المدّعى‏.‏

أنواع الدّعاوى باعتبار صحّتها

20 - أوّلاً‏:‏ الدّعوى الصّحيحة‏:‏ وهي الدّعوى المستوفية لجميع شرائطها، وتتضمّن طلباً مشروعاً‏.‏ وهذه الدّعوى يترتّب عليها جميع أحكامها، فيكلّف الخصم بالحضور، وبالجواب إذا حضر، وتطلب البيّنة من المدّعي إذا أنكر خصمه، وتوجّه اليمين إلى المدّعى عليه إن عجز المدّعي عن البيّنة‏.‏

21 - ثانياً‏:‏ الدّعوى الفاسدة‏:‏ وهي الدّعوى الّتي استوفت جميع شرائطها الأساسيّة، ولكنّها مختلّة في بعض أوصافها بصورة يمكن إصلاحها وتصحيحها، كأن يدّعي شخص على آخر بدين، ولا يبيّن مقداره، أو يدّعي عليه استحقاق عقار، ولا يبيّن حدوده‏.‏ وترجع أسباب الفساد في الدّعوى إلى تخلّف أحد شرطين هما‏:‏

أ - شرط المعلوميّة‏:‏ معلوميّة المدّعى، كما في المثالين السّابقين، أو معلوميّة سبب الاستحقاق فيما يشترط فيه ذكره من الدّعاوى‏.‏

ب - الشّروط المطلوبة في التّعبير المكوّن للدّعوى، كما لو كانت الدّعوى في طلب عين من الأعيان، ولم يذكر المدّعي فيها أنّها بيد المدّعى عليه، أو يكون متردّداً في الألفاظ الّتي يستعملها، كأن يقول‏:‏ أشكّ أو أظنّ أنّ لي على فلان ألف درهم مثلاً‏.‏

ففي جميع هذه الحالات لا تردّ الدّعوى، وإنّما يطلب من المدّعي إكمال ما ينقصها، فإن فعل ذلك نظرت دعواه، وطلب الجواب من خصمه، وإلاّ فتردّ إلى أن يصحّحها‏.‏

وهذا الاصطلاح في تسمية هذه الأنواع من الدّعاوى بالفاسدة اختصّ به فقهاء الحنفيّة‏.‏

غير أنّ فقهاء الشّافعيّة ذكروا هذا النّوع من الدّعاوى، وجعلوا له الأحكام ذاتها، إلاّ أنّهم يسمّونها بالدّعاوى النّاقصة‏.‏ والدّعوى النّاقصة عندهم هي‏:‏ كلّ دعوى يفتقر الحاكم في فصل الخصومة معها إلى شيء آخر‏.‏ وقد جعلوا الدّعوى النّاقصة على ضربين‏:‏ ناقصة الصّفة وناقصة الشّرط‏:‏ أمّا ناقصة الصّفة فهي الدّعوى الّتي لم يفصّل المدّعي فيها أوصاف الشّيء المدّعى اللّازم ذكرها، كأن يهمل ذكر حدود العقار المدّعى، أو مقدار الدّين، وفيها يجب على القاضي أن يسأل المدّعي عن النّقص، فإن أكمله صحّت الدّعوى وإلاّ فلا‏.‏

وأمّا ناقصة الشّرط فيقصدون بها دعوى النّكاح الّتي لا يذكر فيها الوليّ والشّهود‏.‏

ولا يختلف حكم هذه الدّعاوى عند المذاهب الأخرى عمّا ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏ وهناك نوع من الدّعاوى عند فقهاء المالكيّة تكون ناقصةً في حكمها لنقصان شرط من شروطها‏.‏ وهذه هي الدّعاوى الّتي ينقصها حصول خلطة أو معاملة بين المدّعي والمدّعى عليه، فإنّها تسمع، ولكنّ المدّعى عليه لا يطالب باليمين إذا عجز المدّعي عن إثباتها بالبيّنة‏.‏

والفرق بين هذا النّوع والدّعوى الفاسدة بالمعنى السّابق، أنّ هذه الدّعوى صحيحة في ذاتها، وتترتّب عليها أحكامها جميعها إلاّ اليمين‏.‏ والشّرط النّاقص فيها لا يمكن استكماله خلافاً للدّعوى الفاسدة‏.‏

22 - ثالثاً‏:‏ الدّعوى الباطلة‏:‏ وهي الدّعوى غير الصّحيحة أصلاً، ولا يترتّب عليها حكم، لأنّ إصلاحها غير ممكن‏.‏

وتعود أسباب البطلان في الدّعاوى إلى فقد أحد الشّروط الأساسيّة المطلوبة فيها‏.‏

ومن أمثلة الدّعوى الباطلة الدّعوى الّتي يرفعها الشّخص، ولا يكون له في رفعها صفة، كأن يكون فضوليّاً، فلا تسمع دعواه وتكون باطلةً‏.‏

وكذلك الدّعوى المرفوعة على من ليس بخصم، والدّعوى المرفوعة ممّن ليس له أهليّة التّصرّفات الشّرعيّة، والدّعوى الّتي لا تستند إلى حقّ ولو في الظّاهر، كمن يطلب في دعواه الحكم على آخر بوجوب إقراضه مالاً لأنّه معسر، ودعوى ما ليس مشروعاً، كدعوى المطالبة بثمن خمر، أو خنزير، أو ميتة‏.‏ وقد تسمّى هذه الدّعاوى عند غير الحنفيّة بالدّعاوى الفاسدة، وهو اصطلاح عامّ عندهم يدخل تحته جميع الدّعاوى المختلّة في أيّة ناحية من نواحيها الأساسيّة، وقد صنّفها الماورديّ من علماء الشّافعيّة إلى صنفين‏:‏

الصّنف الأوّل‏:‏ ما عاد فساده إلى المدّعي، وذلك كمسلم ادّعى نكاح مجوسيّة، فهذه دعوى باطلة لامتناع مقصودها في حقّ المدّعي‏.‏

الصّنف الثّاني‏:‏ ما عاد فساده إلى الشّيء المدّعى، وجعل هذا الصّنف على ثلاثة أضرب‏:‏ الضّرب الأوّل‏:‏ دعوى ما لا تقرّ اليد عليه، كالخمر والخنزير‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ دعوى ما تقرّ عليه اليد، ولا تصحّ المعاوضة عنه، كجلد الميتة والسّماد النّجس، فهذه تقرّ عليها اليد، للانتفاع بجلد الميتة إذا دبغ، وبالسّماد في الزّروع والشّجر، فإذا توجّهت الدّعوى إلى شيء من هذا، لم يخل من أن يكون باقياً أو تالفاً، فإن كان تالفاً كانت الدّعوى باطلةً، لأنّه لا يستحقّ بتلفها مثل ولا قيمة، وإن كانت باقيةً لم يخل أن يدّعيها بمعاوضة أو بغير معاوضة، فإن كانت الأولى، كأن يدّعيها بالابتياع، كانت الدّعوى باطلةً، إلاّ أن يكون قد دفع ثمنها، فتكون دعواه متوجّهةً إلى الثّمن إن طلبه، ويكون ذكر ابتياعها إخبارًا عن السّبب الموجب لاسترجاع الثّمن‏.‏ أمّا إذا ادّعاها بغير معاوضة، فقد صحّت دعواه من أحد ثلاثة أوجه‏:‏ دعوى غصبها، ودعوى الوصيّة بها، ودعوى هبتها‏.‏ الضّرب الثّالث‏:‏ دعوى ما تقرّ اليد عليه ملكاً، ولا يجوز أن ينتقل من مالك إلى مالك، وهذا كالوقف، فالدّعوى فيه على المالك فاسدة، ولا يجوز أن يسمعها القاضي على مالك، لاستحالة انتقاله عن ملكه إلى ملك غيره‏.‏

23 - الدّعاوى الممنوع سماعها‏:‏ وهذه الدّعاوى صحيحة في أصلها، وإنّما منع القضاة من سماعها، لاقتضاء المصلحة ذلك، وهذه كدعوى ما تقادم زمانه في يد المدّعى عليه أو ذمّته، قال في الدّرّ المختار‏:‏ ‏"‏ القضاء مظهر لا مثبت، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة، حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى بعد خمس عشرة سنةً، فسمعها لم ينفذ ‏"‏ قال ابن عابدين‏:‏ ‏"‏ سلاطين آل عثمان يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم أن لا يسمعوا دعوى بعد مضيّ خمس عشرة سنةً سوى الوقف والإرث، ونقل في الحامديّة فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النّهي المذكور، لكن هل يبقى النّهي بعد موت السّلطان الّذي نهى بحيث لا يحتاج بعده إلى نهي جديد‏؟‏ أفتى في الخيريّة بأنّه لا بدّ من تجديد النّهي، ولا يستمرّ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

وعدم سماع الدّعوى بمرور الزّمان إنّما هو للنّهي عنه من السّلطان، فيكون القاضي معزولاً عن سماعها، لما تقدّم من أنّ القضاء يتخصّص بالزّمان، فإذا أمر السّلطان بسماعها بالرّغم من مرور الزّمان عليها فإنّها تسمع، والغرض من النّهي قطع الحيل والتّزوير، وعدم سماع القاضي لها إنّما هو عند إنكار الخصم، فلو اعترف تسمع، إذ لا تزوير مع الإقرار‏.‏ وعدم سماعها لا يكون إلاّ حيث يتحقّق تركها المدّة المقرّرة، فلو ادّعى المدّعي في أثنائها، لم يمنع من سماع دعواه ثانيةً، ما لم يكن بين الدّعوى الأولى والثّانية هذه المدّة، وشرط الدّعوى القاطعة للمدّة أن تكون في مجلس القاضي، فلو أنّ شخصاً ترك دعواه مدّة خمس عشرة سنةً ولم يدّع عند القاضي، بل طالب خصمه بحقّه مراراً في غير مجلس القاضي، فمقتضى ما تقدّم أن لا تسمع دعواه‏.‏

وترك الدّعوى إنّما يتحقّق بعد ثبوت حقّ طلبها، فلو مات زوج المرأة، أو طلّقها بعد عشرين سنةً مثلاً من وقت النّكاح فلها طلب مؤخّر المهر، لأنّ حقّ طلبه إنّما ثبت لها بعد الموت أو الطّلاق، لا من وقت النّكاح‏.‏ ومثله ما لو أخّر المدّعي دعواه مدّة التّقادم لإعسار المديون، ثمّ ثبت يساره بعد ذلك، فتحسب المدّة من وقت ثبوت اليسار‏.‏

أنواع الدّعاوى باعتبار تنوّع الشّيء المدّعى

24 - المدّعى في الدّعوى لا يخلو من أن يكون أحد الحقوق الّتي قرّرها الشّارع، وهذه الحقوق تعود في مجملها إمّا إلى حفظ النّوع الإنسانيّ وبقاء النّسل وما يتبع ذلك، وإمّا إلى حفظ الفرد الإنسانيّ وما يتّبعه من حفظ عرضه وعقله ودينه وغير ذلك‏.‏

وقد شرعت الدّعاوى من أجل حماية هذه الحقوق، فتتنوّع بتنوّعها، وذلك من جهات مختلفة‏:‏

25 - أوّلاً‏:‏ المدّعى قد يكون فعلاً محرّماً وقع من شخص ويوجب عقوبته، كالقتل، أو قطع الطّريق، أو السّرقة، أو غير ذلك من أسباب العدوان، وقد لا يكون كذلك، بأن يدّعي شخص عقداً من بيع، أو قرض، أو رهن، أو غيرها‏.‏ فيتفرّع على ذلك تقسيم الدّعاوى إلى قسمين رئيسيّين هما‏:‏ دعاوى التّهمة، ودعاوى غير التّهمة‏.‏

وفائدة هذا التّقسيم تظهر في الإجراءات وطرق الإثبات المتّبعة في كلّ من القسمين‏:‏

أ - فإنّ بعض دعاوى التّهم والعدوان لا يثبت إلاّ بنصاب معيّن من الشّهود يزيد على النّصاب المطلوب في الدّعاوى الأخرى‏.‏

وكثير منها لا يثبت بالنّكول إذا صدر من المدّعى عليه‏.‏

ب - ثمّ إنّ كثيراً من الفقهاء قد أجازوا في حقّ المتّهم في دعاوى التّهمة أساليب من الإجراءات لا يجوز اتّخاذها في الدّعاوى الأخرى، وذلك كحبس المتّهم إذا كان ممّن تلحقهم التّهمة المنسوبة إليه، أو كان مجهول الحال‏.‏

26 - ثانياً‏:‏ المدّعى إمّا أن يكون عيناً، أو ديناً، أو حقّاً شرعيّاً محضاً‏.‏

وبناءً على ذلك يمكن تصنيف الدّعاوى إلى ثلاثة أصناف‏:‏

الصّنف الأوّل‏:‏ دعاوى العين‏:‏ وهي الّتي يكون محلّها عيناً من الأعيان، والعين إمّا أن تكون عقاراً فتسمّى بدعوى العقار، أو تكون منقولًا فتسمّى دعوى المنقول‏.‏

الصّنف الثّاني‏:‏ دعاوى الدّين‏:‏ وهي ما يكون محلّها ديناً في الذّمّة، مهما كان سبب هذا الدّين، سواء أكان عقد قرض، أم ثمن مبيع، أم ضماناً لشيء أتلفه المدّعى عليه‏.‏

الصّنف الثّالث‏:‏ دعاوى الحقوق الشّرعيّة‏:‏ ويقصد بها الدّعاوى الّتي يطلب فيها الحقوق الأخرى الّتي لا تدخل في زمرة الأعيان ولا زمرة الدّيون، وليس لها خصائصها من قابليّة الانتقال بعوض أو بغيره، ومعظمها يتعلّق بالحقوق العائليّة من نسب ونكاح وحضانة وغير ذلك‏.‏ ومنها دعاوى الشّفعة‏.‏

ويستفاد من هذا التّصنيف لأنواع الدّعاوى أمران هما‏:‏

أ - معرفة الخصم الّذي توجّه إليه الدّعوى، فقد وضع الفقهاء قواعد - سيأتي ذكرها - لتعيين المدّعى عليه في كلّ صنف من تلك الأصناف، وجعلوا لكلّ نوع قاعدةً خاصّةً، لمعرفة من هو الخصم في الدّعوى‏.‏

ب - معرفة الطّريقة الّتي يعلم بها المدّعى في كلّ نوع، فجعلوا لمعلوميّة المدّعى في دعاوى الدّين قاعدةً عامّةً، وكذلك لدعاوى العين، ودعاوى الحقوق المحضة‏.‏ وفي كلّ مرّة يريد القاضي تحديد الشّيء المدّعى في الدّعوى ينبغي عليه أن يعرف من أيّ صنف هي‏.‏ 27 - ثالثاً‏:‏ المدّعى قد يكون حقّاً أصليّاً، وقد يكون يداً وتصرّفاً، وبناءً عليه تنقسم الدّعاوى إلى قسمين‏:‏ دعاوى الحقّ، ودعاوى الحيازة أو دعاوى وضع اليد، وفي الأولى يطلب الحكم بالحقّ الأصليّ، وهو حقّ الملك وما يتفرّع عنه من الحقوق، ويطلب في الثّاني الحكم بوضع اليد على العين محلّ الدّعوى‏.‏

والحيازة مصلحة يرعاها الشّارع ويحميها إلى أن يتبيّن ارتكازها على سبب باطل، فلا يعترف بها عندئذ وإن طالت‏.‏ ولذلك صرّح كثير من الفقهاء بأنّ اليد أو ‏"‏ الحيازة ‏"‏ حقّ مقصود للإنسان، فيصحّ أن تطلب بالدّعوى، سواء أطلب الحكم بها أم طلبت إعادتها لمن سلبت منه، أم طلب دفع التّعرّض لها أم غير ذلك‏.‏

ومن الدّعاوى الّتي شرعت لهذا الغرض‏:‏

28 - أ - دعوى دفع التّعرّض‏:‏ والتّعرّض المقصود في هذا المقام هو أن يحاول غير ذي حقّ الاستيلاء على ما هو لغيره بالقهر والغلبة، أو بالاستعانة بقضاء القاضي، فيرفع صاحب الحقّ دعوى يطلب بها منع تعرّضه له إن لم يستطع دفعه بنفسه‏.‏

وقد قرّر فقهاء الشّافعيّة أنّ التّعرّض هو كلّ ما يستضرّ به صاحب الحقّ المدّعى‏:‏ إمّا بمدّ اليد إلى ملكه‏.‏ أو بما يمنعه من التّصرّف فيه، أو بملازمته عليه وقطعه عن أشغاله‏.‏

وقد أجاز الفقهاء هذه الدّعوى مهما كان محلّها عقاراً أو منقولاً، بل ذهب الشّافعيّة إلى جوازها لدفع تعرّض موجّه إلى ذمّة شخص آخر، كأن يطالبه بدين يدّعيه في ذمّته، فيتضرّر من هذه المطالبة، كأن يلازمه في نفسه أو يشنّع عليه في جاهه، أو غير ذلك‏.‏ أمّا إذا كانت مطالبته لا تضرّه، فإنّها لا تصحّ دعوى دفع التّعرّض منه‏.‏

وتختلف هذه الدّعوى عن دعوى قطع النّزاع بأنّ هذه الأخيرة عبارة عن طلب إنسان غيره عند القاضي بدون أن يعارضه في شيء يضرّه، ويقول للقاضي‏:‏ بلغني أنّ فلاناً يريد منازعتي ومخاصمتي، وأريد قطع النّزاع بيني وبينه، فأطلب إحضاره، حتّى إذا كان له عليّ حقّ فليبيّنه أمامك بالحجّة، وإلاّ فليعترف أنّي بريء من كلّ حقّ يدّعيه، فهذا القول لا يسمع منه، لأنّ المدّعي لا يجبر على الخصومة‏.‏

29 - ب - دعوى استرداد الحيازة‏:‏ يجوز لصاحب اليد المحقّة أن يطلب من القاضي إعادة حيازته المغصوبة منه بالقهر أو الحيلة أو الخداع، فلمالك العين أو مستعيرها أو مستأجرها أو مرتهنها أن يرفع الدّعوى لاسترداد ما سلب منه، إلاّ إذا كان سالب الحيازة محقّاً فيما فعل فيقضى له بحقّه وحيازته‏.‏

شروط الدّعوى

30 - يشترط لصحّة الدّعوى جملة شروط بعضها في القول الّذي يصدر عن المدّعي يقصد به طلب حقّ لنفسه، وبعضها في المدّعي والمدّعى عليه، وبعضها في المدّعى به، وبعضها في ركن الدّعوى‏.‏

أوّلاً‏:‏ ما يشترط في القول الّذي يصدر عن المدّعي ويطلب به حقّاً لنفسه

يشترط في هذا القول عدّة شروط، وهي‏:‏

31 - الشّرط الأوّل‏:‏ أن لا تكون الدّعوى مناقضةً لأمر سبق صدوره عن المدّعي‏.‏ والتّناقض في اصطلاح الأصوليّين تقابل الدّليلين المتساويين على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه‏.‏ والمقصود به في هذا المقام أن يسبق من المدّعي ما يعارض دعواه بحيث به يستحيل الجمع بين السّابق واللّاحق، وذلك كما لو ادّعى شخص أنّ هذه الدّار وقف عليه، ثمّ ادّعاها لنفسه أو لغيره، فلا تقبل لوجود التّناقض بين الدّعويّين، إذ الوقف لا يصيرملكاً‏.‏ والتّناقض المانع من سماع الدّعوى قد يقع من المدّعي في الدّعوى الأصليّة، كما لو طلب شخص شراء شيء من غيره، أو هبته منه، أو إيداعه عنده أو إجارته له، ثمّ ادّعى ملكيّة هذا الشّيء، وكما لو خطب رجل امرأةً يريد نكاحها، ثمّ ادّعى أنّه زوجها‏.‏

وقد يقع من المدّعى عليه في دفع من الدّفوع الّتي يقدّمها، كما لو ادّعى شخص على آخر وديعةً، فأنكرها المدّعى عليه، فأقام المدّعي البيّنة على الإيداع، فدفع المدّعى عليه بردّها أو هلاكها، فلا يقبل دفعه، لتناقضه مع إنكاره السّابق‏.‏

ويجمع هذه الأمثلة وأشباهها أنّ من ادّعي عليه بحقّ من الحقوق فجحد أن يكون عليه شيء، فلمّا خاف أن تقوم عليه البيّنة بذلك أقرّ به وادّعى فيه وجهاً من وجوه الإسقاط، لم ينفعه ذلك ولم يقبل منه‏.‏ ولا يتحقّق التّناقض المانع من سماع الدّعوى إلاّ بشروط هي‏:‏

32 - أ - أن يكون الأمران المتناقضان ‏"‏ وهما الدّعوى وما صدر قبلها من قول أو فعل ‏"‏ صادرين عن شخص واحد، وهو المدّعي، أو عن شخصين هما في حكم الشّخص الواحد، كما هو الحال في الوكيل والموكّل، والوارث والمورّث‏.‏

فلو أنّ الوكيل ادّعى عيناً لموكّله، وكان هذا الموكّل قد سبق منه إقرار بأنّ تلك العين ليست له، وإنّما هي لغيره، لم تقبل دعوى الوكيل لمناقضتها لإقرار الموكّل‏.‏

33 - ب - أن لا يقع من المدّعي توفيق بين دعواه وما صدر عنه ممّا يناقضها، وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ‏"‏‏.‏

وأمّا فقهاء الحنفيّة فقد اختلفت آراؤهم في هذا الشّرط على أربعة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ مثل رأي الجمهور‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّه لا يشترط وقوع التّوفيق الفعليّ من المدّعي بين المتناقضين، وإنّما يشترط عدم إمكان التّوفيق بينهما بأيّ وجه من الوجوه، وذلك في جميع صور التّناقض، وسواء أوقع في الدّعوى الأصليّة، أم وقع في الدّفع من المدّعى عليه، وسواء أكان وجه التّوفيق بيّناً أم مبهماً‏.‏

فبناءً على هذا الرّأي إذا دفع الخصم بتناقض خصمه في دعواه اكتفي لردّ هذا الدّفع أن يتصوّر القاضي إمكان الجمع بين المتناقضين، ولا يشترط سؤال المتناقض - ظاهراً - أن يوفّق بينهما فعلاً‏.‏

فلو أنّ شخصاً ادّعى داراً بهبة أو شراء من أبيه، ثمّ ادّعاها إرثاً منه تسمع دعواه الثّانية لإمكان التّوفيق بين الكلامين، بأن يكون قد ابتاع الدّار من أبيه، فعجز عن إثبات ذلك لعدم البيّنة، ثمّ ورثها بعد ذلك‏.‏ غير أنّه لو ادّعى أوّلاً انتقال الدّار إليه بالإرث، ثمّ ادّعاها بالشّراء لم تقبل دعواه الأخرى، للتّناقض وتعذّر التّوفيق‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّه يشترط عدم إمكان التّوفيق إذا وقع التّناقض في كلام المدّعى عليه ‏"‏ أي‏:‏ في دفعه للدّعوى الأصليّة ‏"‏‏.‏

أمّا إذا وقع التّناقض من المدّعي في الدّعوى الأصليّة، فلا يشترط في اعتباره عدم إمكان التّوفيق، وإنّما عدم وقوع التّوفيق الفعليّ من المتناقض‏.‏ ويعتبر التّناقض مانعاً من سماع الدّعوى، وإن كان التّوفيق ممكناً،إذا لم يقم المدّعي بالتّوفيق الفعليّ بين أقواله المتناقضة‏.‏ الرّابع‏:‏ أنّه يشترط عدم التّوفيق الفعليّ لاعتبار التّناقض مانعاً من سماع الدّعوى إذا كان ظاهراً لنفي وإثبات، وكان التّوفيق خفيّاً، وإلاّ فيشترط عدم الإمكان، فمن كان قد ادّعى لغيره عيناً لا يمكن أن يدّعيها لنفسه بعد ذلك، مع أنّه يحتمل أن يكون قد اشتراها منه بعد تأريخ الدّعوى السّابقة، فإن وفّق بهذا فعلاً، وبرهن عليه قبلت دعواه وسمعت بيّنته، وإلاّ فلا، لأنّ دعواه الأولى إقرار بالملك لغيره ونفي للملك عن نفسه، ودعواه الثّانية إيجاب الملك لنفسه ونفيه عن غيره، فتناقض النّافي والمثبت، فلا بدّ من التّوفيق الفعليّ في هذه الحالة، لظهور التّناقض وخفاء التّوفيق‏.‏

بخلاف ما لو ادّعى شخص على آخر مبلغاً من المال، فدفع المدّعى عليه بأنّه أدّاه له في مكان كذا، فلمّا لم يستطع إثبات ذلك دفع بأنّه أدّاه الدّين في مكان آخر غير الّذي ذكره في الدّفع الأوّل، فيقبل دفعه الثّاني، لإمكان التّوفيق بأن يكون أدّاه مرّتين لقطع مطالبته‏.‏

34 - ج - ويشترط لتحقّق التّناقض المانع من سماع الدّعوى أن لا يكون الكلام الأوّل قد كذّب شرعاً بالقضاء، فلو ادّعى شخص على آخر أنّه كفل له عن مديونه بألف، فأنكر الكفالة، وبرهن الدّائن أنّه كفل عن مديونه، وحكم به القاضي،وأخذ المكفول له منه المال، ثمّ إنّ الكفيل ادّعى على المديون أنّه كفل عنه بأمره وبرهن على ذلك، قبلت هذه الدّعوى وسمعت البيّنة، وإن كانت هذه الدّعوى مناقضةً لما سبق منه من إنكار الكفالة عندما ادّعاها عليه الدّائن، وذلك لأنّ إنكاره السّابق بطل أثره بتكذيب الحاكم له‏.‏

هذا وقد قرّر فقهاء الحنفيّة أنّ التّناقض يغتفر في الدّعوى في المسائل الّتي تخفى أسبابها مثل مسائل النّسب وبعض المسائل المتعلّقة بالطّلاق وغيرها‏.‏

ما يرتفع به التّناقض

35 - يرتفع التّناقض عند فقهاء الحنفيّة بأمرين اثنين هما‏:‏

التّوفيق الفعليّ بين المتناقضين، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك، وتصديق الخصم‏.‏

فلو أنّ شخصاً ادّعى على آخر ألف دينار بسبب القرض، ثمّ ادّعاه عليه بسبب الكفالة، فصدّقه المدّعى عليه سمعت دعواه بالرّغم من تناقضه‏.‏

هذا وقد قرّر الحنفيّة أنّ التّناقض يغتفر فيما كان مبنيّاً على الخفاء‏.‏

ففي مجلّة الأحكام العدليّة ‏(‏م 1655‏)‏‏:‏ ‏"‏ يعفى عن التّناقض إذا ظهرت معذرة المدّعي وكان محلّ خفاء ‏"‏‏.‏ ومن أمثلة ذلك ما أفتى به في الحامديّة من أنّه إذا مات زيد عن ورثة بالغين، وخلّف حصّته من دار، وصدّق الورثة أنّ بقيّة الدّار لفلان وفلان، ثمّ ظهر أنّ مورّثهم المذكور اشترى بقيّة الدّار من ورثة فلان وفلان في حال صغر المصدّقين، وأنّه خفي عليهم ذلك، تسمع دعواهم، لأنّ هذا تناقض في محلّ الخفاء فيكون عفواً‏.‏

ومن ذلك دعوى النّسب أو الطّلاق، لأنّ النّسب مبنيّ على أمر خفيّ وهو العلوق، إذ هو ممّا يغلب خفاؤه على النّاس، فالتّناقض في مثله غير معتبر، والطّلاق ينفرد به الزّوج‏.‏ ومن ذلك‏:‏ المدين بعد قضاء الدّين لو برهن على إبراء الدّائن له‏.‏ والمختلعة بعد أداء بدل الخلع لو برهنت على طلاق الزّوج قبل الخلع‏.‏ وغير ذلك‏.‏

وهكذا كلّ ما كان مبنيّاً على الخفاء فإنّه يعفى فيه عن التّناقض‏.‏

هذا هو الصّحيح من مذهب الحنفيّة كما أفتى في الحامديّة، وهو قول الأكثرين من فقهاء مذهب المالكيّة، فقد نقل الحطّاب عن القرافيّ أنّه‏:‏ إذا أقرّ الوارث أنّ ما تركه أبوه ميراث بين الورثة على ما عهد في الشّريعة وعلى ما تحمل عليه الدّيانة، ثمّ جاء بشهود أخبروه أنّ أباه أشهدهم أنّه تصدّق عليه في صغره بهذه الدّار وحازها له، أو أقرّ الأب أنّه ملكها عليه بوجه شرعيّ، فإنّه إذا رجع عن إقراره بأنّ التّركة كلّها موروثة إلاّ هذه الدّار المشهود له بها دون الورثة واعتذر بإخبار البيّنة له، وأنّه لم يكن عالماً، بذلك بل أقرّ بناءً على العادة ومقتضى ظاهر الشّريعة، فإنّه تسمع دعواه ويقبل عذره ويقيم بيّنته، ولا يكون إقراره السّابق مكذّبًا للبيّنة وقادحًا فيها، لأنّ هذا عذر عاديّ يسمع مثله‏.‏

ونقل عن سحنون ما يخالف ذلك‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ البيّنة تقبل للعذر، ومقابل الأصحّ لا تقبل للمناقضة‏.‏

وهذا على ما جاء في نهاية المحتاج والقليوبيّ‏.‏

وفي حواشي الشّروانيّ وابن قاسم على تحفة المحتاج‏:‏ لو أقرّ مدين لآخر، ثمّ ادّعى أداءه إليه وأنّه نسي ذلك حالة الإقرار سمعت دعواه للتّحليف فقط‏.‏

فإن أقام بيّنةً بالأداء قبلت على ما أفتى به بعضهم لاحتمال ما قاله، فلا تناقض،كما لو قال‏:‏ لا بيّنة لي، ثمّ أتى ببيّنة تسمع‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ لا تسمع البيّنة بعد الإنكار، فمن ادّعي عليه بحقّ فأنكره، ثمّ ثبت عليه الحقّ فادّعى القضاء أو إبراء المدّعي له سابقاً على زمن إنكاره، كما لو ادّعى عليه ألفاً من قرض أو ثمن مبيع فقال‏:‏ ما اقترضت منه وما اشتريت منه، فثبت أنّه اقترض أو اشترى منه ببيّنة أو إقرار فقال‏:‏ قضيته أو أبرأني قبل هذا الوقت، لم يقبل منه ذلك وإن أقام به بيّنةً، لأنّ إنكار الحقّ يقتضي نفي القضاء أو الإبراء منه، لأنّهما لا يكونان إلاّ عن حقّ سابق، فيكون مكذّباً لنفسه‏.‏

36 - الشّرط الثّاني‏:‏ أن تكون الدّعوى بتعبيرات جازمة وقاطعة ولا تردّد فيها، فلا تصحّ الدّعوى بنحو‏:‏ أشكّ أو أظنّ أنّ لي على فلان مبلغ كذا، أو أنّه غصب منّي دابّتي‏.‏

وقد استثني من هذا الشّرط دعاوى الاتّهام ‏"‏ الدّعاوى الجنائيّة ‏"‏، فإنّها تجوز بالألفاظ المتردّدة، فإذا قال‏:‏ أتّهمه بسرقة دينار مثلًا، فإنّ دعواه تسمع، لأنّ دعاوى الاتّهام ترجع في أساسها إلى الشّكّ والظّنّ‏.‏

37 - الشّرط الثّالث‏:‏ أن يذكر المدّعي في دعواه أنّه يطالب بالحقّ الّذي يدّعيه‏:‏ وهذا الشّرط اختلف فيه الفقهاء، وفي معظم المذاهب قولان بخصوصه‏.‏ الرّاجح منهما‏:‏ عدم اشتراطه، والاكتفاء بدلالة الحال‏.‏ واشترطه أصحاب المتون والشّروح من فقهاء الحنفيّة ولم يصرّحوا بتصحيحه، بينما صرّح أصحاب الفتاوى منهم بتصحيح خلافه‏.‏

وعدم اشتراطه ظاهر مذهب المالكيّة، وأحد قولين في المذهب الشّافعيّ، والرّاجح عند الحنابلة‏.‏

واحتجّ القائلون باشتراطه بأنّ حقّ الإنسان يجب إيفاؤه بطلبه، والحكم حقّ المدّعي، فيجوز أن يكون غير طالب له إن لم يصرّح بذلك،وإنّما ذكر القضيّة على سبيل الحكاية والاستفتاء، فإذا طلبه تبيّن غرضه، وبأنّ القاضي نصّب لقطع الخصومات، لا لإنشائها، فإذا طلب المدّعي القضاء له بحقّه أجابه إلى طلبه، وإن سكت سكت، فإن نظر في الدّعوى من غير ما طلب للحقّ من المدّعي كان منشئاً للخصومة، وهو ما لم يجعل القضاء لأجله‏.‏

واحتجّ الآخرون بأنّ المقدّمات ودلائل الحال تشير إلى أنّ المدّعي لا يقصد بدعواه إلاّ الحكم له بحقّه، وتسليمه إليه، وكون المدّعي يقول ذلك حكايةً بعيد جدّاً، لأنّ مجالس القضاء لم تنشأ لهذا الغرض‏.‏

38 - الشّرط الرّابع‏:‏ أن تكون الدّعوى بلسان المدّعي عيناً‏:‏ وهذا الشّرط اختصّ به أبو حنيفة، فلم يجز التّوكيل إلاّ أن يكون في المدّعي عذر مقبول، أو يرضى خصمه بالتّوكيل‏.‏ وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم اشتراطه، وجواز التّوكيل بالخصومة شاء المدّعى عليه أم أبى‏.‏

39 - الشّرط الخامس‏:‏ أن يذكر المدّعي في دعوى العين أنّ المدّعى به في يد الخصم‏.‏ ويستثنى من هذا الشّرط دعوى منع التّعرّض، لأنّ الخصم فيها يتعرّض للمدّعي ويكون العين في يد هذا الأخير‏.‏

ثانياً‏:‏ شروط المدّعي والمدّعى عليه

يشترط في كلّ من المدّعي والمدّعى عليه شرطان‏:‏ شرط الأهليّة، وشرط الصّفة‏.‏

40 - شرط الأهليّة‏:‏ لمّا كانت الدّعوى تصرّفاً يترتّب عليه أحكام شرعيّة وكذلك الجواب عنها، فقد ذهب الفقهاء في الجملة على أن يكون كلّ من المدّعي والمدّعى عليه أهلاً للقيام بالتّصرّفات الشّرعيّة‏.‏ وأمّا من ليس أهلاً فيطالب له بحقّه ممثّله الشّرعيّ من وليّ أو وصيّ‏.‏ والحنفيّة لا يشترطون كمال الأهليّة في كلا الطّرفين، ويكتفون بالأهليّة النّاقصة، وكذلك المالكيّة في حقّ المدّعي، ويشترط الرّشد عندهم في المدّعى عليه‏.‏

والشّافعيّة والحنابلة يستثنون بعض الحالات ولا يشترطون فيها كمال الأهليّة، وتفصيل ذلك فيما يأتي‏:‏

أ - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للصّبيّ المميّز المأذون له أن يرفع الدّعوى وأن يكون مدّعًى عليه، وذلك لأنّ الدّعوى والجواب عليها من التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر، فتصحّ من الصّبيّ الّذي أذن له وليّه، ولا تصحّ ممّن لم يؤذن له‏.‏

ب - والمالكيّة يفرّقون بين المدّعي والمدّعى عليه‏:‏ فأمّا المدّعي فلا يشترط فيه الرّشد، وتصحّ الدّعوى من السّفيه والصّبيّ، ولا يشترطون أن يكون مأذوناً له كما هو الحال عند الحنفيّة‏.‏ وأمّا المدّعى عليه، فتشترط فيه الأهليّة الكاملة، فإن كان عديمها أو ناقصها لم تصحّ الدّعوى عليه‏.‏

ج - وأمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم اشتراط البلوغ في المدّعي والمدّعى عليه، ولكنّهم قالوا‏:‏ تسمع الدّعوى على المحجور عليهم فيما يصحّ إقرارهم به، فتسمع الدّعوى بالقتل على السّفيه‏.‏

د - وقال الحنابلة‏:‏ تصحّ الدّعوى على السّفيه فيما يؤخذ به حال سفهه، فتصحّ عليه دعوى الطّلاق والقذف‏.‏

والفقهاء الّذين يجيزون القضاء على الغائب، وهم غير الحنفيّة قالوا بسماع الدّعوى على الصّغير والمجنون والميّت إذا كان مع المدّعي بيّنة بما يدّعيه، وكانت حاضرةً لديه وبشروط أخرى ستأتي‏.‏ ويحلّفه القاضي يميناً سمّاها بعضهم ‏"‏ يمين الاستظهار ‏"‏، ويذكر فيها أنّه لم يستوف ما ادّعى به ممّن أقام البيّنة عليهم، ولا أبرأهم من ذلك‏.‏

وأمّا الحنفيّة، فلأنّهم لا يجيزون الدّعوى إلاّ على خصم حاضر ومكلّف، ولا يجيزون القضاء على الغائب، وإن أحضر المدّعي بيّنةً بدعواه، فهم من طريق أولى لا يجيزون سماع الدّعوى على الصّغير أو المجنون أو الميّت، حيث هم أضعف حالاً من الغائب‏.‏

شرط الصّفة

41 - المقصود به أن يكون كلّ من المدّعي والمدّعى عليه ذا شأن في القضيّة الّتي أثيرت حولها الدّعوى، وأن يعترف الشّارع بهذا الشّأن ويعتبره كافياً لتخويل المدّعي حقّ الادّعاء، ولتكليف المدّعى عليه بالجواب والمخاصمة‏.‏

ويتحقّق ذلك في المدّعي إذا كان يطلب الحقّ لنفسه، أو لمن يمثّله‏.‏ ويحقّ للدّائن أن يرفع دعوى لمدينه يطالب فيه بحقوقه إذا أحاط الدّين بأمواله وأشهر إفلاسه‏.‏

والقاعدة في هذا عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ من يدّعي حقّاً لغيره، فإن كان هذا الحقّ منتقلاً إليه صحّت دعواه، وإلاّ فلا، فتصحّ الدّعوى من الوارث فيما يدّعيه لمورثه، ولا تصحّ من الدّائن الّذي يرفع دعوى لمدينه إذا لم يشهر إفلاسه‏.‏

والمدّعى عليه أيضاً يجب أن يكون ذا صفة، فلا تصحّ الدّعوى إلاّ إذا رفعت في وجه من يعتبره المشرّع خصماً، ويجبره على الدّخول في القضيّة، ليجيب بالاعتراف أو بالإنكار‏.‏ والقاعدة في ذلك‏:‏ أنّ من ادّعى على إنسان شيئاً، فإن كان المدّعى عليه لو أقرّ يصحّ إقراره، ويترتّب عليه حكم، فإنّه يكون بإنكاره خصماً في الدّعوى، وتصحّ بتوجيهها إليه‏.‏ أمّا إذا كان لا يترتّب على إقراره حكم لم يكن خصماً بإنكاره، وبناءً على هذه القاعدة حدّد الفقهاء الخصم في مختلف أنواع الدّعاوى‏:‏

أ - ففي دعاوى العين يكون الخصم من كانت هذه العين في يده‏.‏

وذلك لأنّ أيّ شخص ليست العين المدّعاة في يده ليس له أن يقربها، والحائز لها هو الّذي يملك أن يقربها، فهو إذن الخصم في دعواها‏.‏

واليد الّتي يكون صاحبها خصماً في الدّعوى هي الّتي تدلّ على الملك في الظّاهر، فإن لم تكن كذلك بأن كانت يداً طارئةً، كيد مستأجر، أو مستعير، أو مرتهن، لم يصحّ توجيه الدّعوى إلى صاحبها منفرداً، ولكن يطلب من الحائز العرضيّ الحضور إلى مجلس القضاء ليؤمر بتسليم الشّيء المدّعى عند إثبات الدّعوى‏.‏

وإذا وجّهها المدّعي إليه، كان لهذا الحائز العرضيّ أن يدفع الدّعوى بأنّ يده ليست يد ملك، وإنّما هي يد عارضة، بشرط أن يبرهن على دفعه، وعندئذ تردّ دعوى المدّعي‏.‏ ويطلب منه رفعها في مواجهة المالك‏.‏

وهذا الّذي تقدّم مختصّ بدعاوى الملك المطلق عن السّبب، أمّا إذا ادّعى المدّعي أنّ فلاناً غصب منه ماله، لم يكن للمدّعى عليه دفع هذه الدّعوى بحجّة أنّ العين المدّعاة ليست في يده، لأنّ الأصل في دعوى الفعل - كما سيأتي - أنّها يصحّ توجيهها ضدّ الفاعل‏.‏

42 - ويتفرّع على ما تقدّم ما يأتي‏:‏

أ - إذا باع رجل ملك غيره، وسلّمه بدون إذنه، كان الخصم هو المشتري، ولكنّ محلّ ذلك إذا طلب المدّعي استرداد العين، أمّا إذا أراد التّضمين سمعت الدّعوى على البائع الغاصب وإن كانت العين في يد غيره، لأنّها تكون دعوى فعل عندئذ‏.‏

ب - إذا توفّي شخص عن تركة فيها أعيان وله ورثة، وأراد شخص الادّعاء بعين من أعيانها كان الخصم له هو الوارث الّذي في يده تلك العين، ولا تسمع الدّعوى بها على غيره من الورثة‏.‏

ج - إذا بيع عقار، فطلب الشّفيع أخذه بالشّفعة، فإن تسلّمه المشتري كان هو الخصم للشّفيع، وإن لم يتسلّمه كان الخصم له كلّاً من البائع والمشتري، لأنّ الأوّل واضع اليد، فيحضر من أجل التّسليم، والآخر مالك، فلا تسمع الدّعوى إلاّ بحضورهما جميعاً‏.‏

د - إذا باع شخص لغيره عينًا، ولم يسلّمها إليه، فأراد آخر ادّعاء ملكيّتها، كان الخصم له كلّاً من البائع والمشتري، لأنّ الأوّل واضع اليد، فلا بدّ من حضوره ليؤمر بالتّسليم عند ثبوت الدّعوى، وأمّا إذا سلّمها البائع للمشتري كان الخصم هو المشتري‏.‏

ففي جميع الحالات الّتي تكون فيها العين المدّعاة في يد غير المالك يشترط في صحّة الدّعوى بالملك حضور الاثنين‏.‏

والحقّ أنّ المدّعى عليه هو المالك للعين، وإن لم تكن يده على المدّعى به فعلاً، ولكنّها عليه حكماً، والآخر حيازته لها عرضيّة ومؤقّتة، ولأنّه هو الّذي يترتّب على إقراره حكم، وإنّما يطلب حضور الآخرين لغاية أخرى، وهي الحكم عليهم بتسليم العين للمدّعي عند ثبوت الدّعوى‏.‏

هـ- وفي دعاوى الدّين، الخصم هو من كان الدّين في ذمّته أو نائبه، لأنّ المدين هو الّذي إذا أقرّ بالدّين حمل نتيجة إقراره وألزم به‏.‏ وبناءً على ذلك لا توجّه الدّعوى ضدّ حائز العين الّتي يتملّكها المدين، كالمستأجر منه، ولا الغاصب منه، ولا المستعير منه‏.‏

و- وفي دعوى الفعل كالغصب وغيره، الخصم هو الفاعل، أي الّذي يدّعى عليه أنّه قام بالفعل‏.‏

ز- وفي دعوى القول، الخصم هو القائل، أي الّذي يدّعى عليه أنّه قال القول، فدعوى الطّلاق تقيمها الزّوجة على زوجها، وكذلك دعوى القذف أو الشّتم‏.‏

ح- وفي دعوى العقد، الخصم هو المباشر له، أو من قام مقامه، كالوكيل، أو الوارث، أو الوصيّ‏.‏

ط- وفي دعوى الحقّ، كحقّ الحضانة والرّضاع، الخصم هو كلّ شخص له شأن في الدّعوى، وهو الّذي ينازع المدّعي في ذلك الحقّ، ويمنعه من التّمتّع به‏.‏

دعوى الحسبة

43 - الدّعوى هي طلب شخص حقّه من آخر في حضور الحاكم كما سبق، فهي أصلاً تحتاج إلى طالب ‏"‏ المدّعي ‏"‏ ومطلوب ‏"‏ المدّعى ‏"‏ ومطلوب منه ‏"‏ المدّعى عليه ‏"‏‏.‏

وإذا كان المدّعى من حقوق العباد فلا تتحقّق الدّعوى بغير الطّلب من مدّع معيّن كما هو الأصل‏.‏ أمّا إذا كان من حقوق اللّه تعالى كالحدود والتّعدّي على ما يرجع منافعه للعامّة، فلا تحتاج إلى مدّع خاصّ، وتقبل فيها شهادة الحسبة‏.‏ ‏"‏ أي‏:‏ للأجر لا لإجابة مدّع ‏"‏ مع مراعاة طرق الإثبات الخاصّة بها حسب تنوّع موضوعاتها‏.‏

فقد ورد في المجلّة أنّه يشترط سبق الدّعوى في الشّهادة بحقوق النّاس‏.‏

قال الأتاسيّ‏:‏ لأنّ ثبوت حقوقهم يتوقّف على مطالبتهم، ولو بالتّوكيل‏.‏ بخلاف حقوق اللّه تعالى، حيث لا يشترط فيها الدّعوى، لأنّ إقامة حقوق اللّه تعالى واجبة على كلّ أحد، فكلّ أحد خصم في إثباتها، فصار كأنّ الدّعوى موجودة‏.‏

وفي موضع آخر قال‏:‏ ينتصب أحد العامّة خصماً عن الباقين من العامّة في المحالّ الّتي منفعتها عائدة إلى العموم‏.‏ ثمّ قال نقلاً عن جامع الفصولين‏:‏ بنى حائطاً على الفرات واتّخذ عليه رحًى، أو بنى في طريق العامّة، فخاصمه أحد يقضى عليه بهدمه‏.‏

وذكر في الدّرّ في بحث الشّهادة‏:‏ والّذي تقبل فيه الشّهادة حسبةً بدون الدّعوى أربعة عشر‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ هي الوقف للفقراء أو للمسجد ونحوه ‏"‏ أي للعامّة ‏"‏، وطلاق الزّوجة، وتعليق طلاقها، وحرّيّة الأمة وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنّسب، وحدّ الزّنى، وحدّ الشّرب، والإيلاء، والظّهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد، والشّهادة بالرّضاع‏.‏

ثمّ قال‏:‏ ولا يخفى أنّ شاهد الحسبة لا بدّ أن يدّعي ما يشهد به إن لم يوجد مدّع آخر‏.‏ وعلى هذا فكلّ ما تعتبر فيه الشّهادة حسبةً يصدق عليه أنّه تقبل فيه الدّعوى حسبةً‏.‏

ثمّ علّق على كلام الدّرّ نقلاً عن الأشباه‏:‏ وليس لنا مدّع حسبةً إلاّ في دعوى الموقوف عليه، فقال‏:‏ مراده أنّه لا يسمّى مدّعياً، أو أنّ مدّعي الحسبة لا يحلف له الخصم عند عدم البيّنة، فلا يتحقّق بدون الشّهادة‏.‏

وذكر المالكيّة في بحث الشّهادة أنّه تجب المبادرة في حقّ اللّه بالرّفع للحاكم بقدر الإمكان إن استديم ارتكاب التّحريم عند عدم الرّفع، كعتق لرقيق، مع كون السّيّد يتصرّف فيه تصرّف المالك من استخدام وبيع ووطء ونحو ذلك، وكطلاق لزوجة مع كون المطلّق لم ينكفّ عنها فتجب المبادرة بالرّفع، وكوقف على معيّن أو غيره، ولا سيّما إذا كان مسجداً أو رباطاً أو مدرسةً، وواضع اليد يتصرّف تصرّف الملّاك، فتجب المبادرة بالرّفع لردّه إلى أصله‏.‏ وكرضاع بين زوجين‏.‏ وإن لم يستلزم ارتكاب التّحريم بأن كان التّحريم ينقضي بالفراغ من متعلّقه كالزّنى وشرب الخمر، خيّر في الرّفع وعدمه، والتّرك أولى لما فيه من السّتر المطلوب في غير المجاهر، وإلاّ فالرّفع أولى‏.‏

ومثله ما ذكر في كتب الشّافعيّة حيث قالوا‏:‏ وتقبل شهادة الحسبة في حقوق اللّه تعالى كالصّلاة، والزّكاة، والصّوم، بأن يشهد بتركها، وفيما له حقّ مؤكّد، كطلاق، وعتق، وعفو عن قصاص، وبقاء عدّة وانقضائها، بأن يشهد بما ذكر ليمنع ما يترتّب عليه‏.‏ وكذلك في حدّ للّه تعالى، بأن يشهد بموجبه، كحدّ الزّنى، والسّرقة، وقطع الطّريق‏.‏ والأفضل فيه السّتر إذا رأى فيه المصلحة، وكذا النّسب على الصّحيح‏.‏ كما ذكروا منها الرّضاع‏.‏

قال الشّربينيّ‏:‏ تقبل فيه شهادة أمّ الزّوجة وبنتها مع غيرهما حسبةً بلا تقدّم دعوى، لأنّ الرّضاع تقبل فيه شهادة الحسبة، كما لو شهد أبوها وابنها، أو ابناها بطلاقها من زوجها حسبةً‏.‏

وقال في محلّ آخر‏:‏ وما تقبل فيه شهادة الحسبة هل تسمع فيه دعواها‏؟‏ وجهان‏:‏أوجههما‏:‏ تسمع، لأنّه لا حقّ للمدّعي في المشهود به،والوجه الثّاني‏:‏ أنّها تسمع في غير حدود اللّه‏.‏

وذكر الحنابلة أيضاً في باب الشّهادة أنّها تقبل في حقوق اللّه الخالصة حسبةً، كما تقبل فيما كان حقّاً لآدميّ غير معيّن، ولا تفتقر إلى تقدّم الدّعوى‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ الحقوق على ضربين‏:‏

44 - أحدهما‏:‏ حقّ لآدميّ معيّن، كالحقوق الماليّة والنّكاح وغيره من العقود، والعقوبات كالقصاص، وحدّ القذف، والوقف على آدميّ معيّن، فلا تسمع الشّهادة فيه إلاّ بعد الدّعوى، لأنّ الشّهادة فيه حقّ لآدميّ، فلا تستوفى إلاّ بعد مطالبته وإذنه، ولأنّها حجّة على الدّعوى ودليل لها فلا يجوز تقدّمها عليها‏.‏

45 - الضّرب الثّاني‏:‏ ما كان حقّاً لآدميّ غير معيّن، كالوقف على الفقراء والمساكين، أو جميع المسلمين، أو على مسجد، أو سقاية، أو مقبرة مسبّلة، أو الوصيّة لشيء من ذلك ونحو هذا، أو ما كان حقّاً للّه تعالى كالحدود الخالصة للّه تعالى، أو الزّكاة، أو الكفّارة، فلا تفتقر الشّهادة به إلى تقدّم الدّعوى، لأنّ ذلك ليس له مستحقّ معيّن من الآدميّين يدّعيه ويطالب به‏.‏ ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة، وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر، وشهد الّذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر أيضًا من غير تقدّم دعوى فأجيزت شهادتهم، ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضىً منه، وكذلك ما لا يتعلّق به حقّ أحد الغريمين كتحريم الزّوجة بالطّلاق، أو الظّهار، أو إعتاق الرّقيق، تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه دعوى‏.‏

هذا، وقد تقدّم ما قاله ابن عابدين أنّ كلّ ما تعتبر فيه الشّهادة حسبةً يصدق عليه أنّه تقبل فيه الدّعوى حسبةً‏.‏

ثالثاً‏:‏ شروط المدّعى به

الشّرط الأوّل‏:‏

46 - يشترط في المدّعى به أن يكون معلوماً، والمراد بعلم المدّعى به تصوّره، أي تميّزه في ذهن المدّعي والمدّعى عليه والقاضي‏.‏

وذلك لأنّ المقصود بالدّعوى هو إصدار الحكم فيها، والمقصود بالحكم فصل الخصومة بإلزام المحقوق بردّ الحقّ إلى صاحبه، ولا إلزام مع الجهالة‏.‏

وبناءً عليه لا يصحّ الحكم بما لا إلزام فيه، وهكذا لا يتحصّل مقصود الدّعوى بدون العلم فوجب اشتراطه لصحّتها‏.‏ ومن جهة أخرى فإنّ صحّة الشّهادة مرهونة بمطابقتها للدّعوى، فإن كانت الدّعوى مجهولة المدّعى به لم تصحّ الشّهادة عليها، لأنّها لا تصحّ على المجهول، فتكون الدّعوى مرفوضةً لعدم إمكان إثباتها‏.‏

حدود هذا الشّرط

47 - للمدّعى به جوانب متعدّدة‏:‏ فهناك ذات الشّيء المدّعى، وهذا يختلف حدوده حسب الأحوال، فيفصل فيه بين ما يكون عينًا وما يكون ديناً، والأوّل يفصل فيه بين ما هو عقار وما هو منقول‏.‏ كما أنّ الدّعاوى الأخرى الّتي يطلب بها غير العين والدّين، كدعوى النّسب لها قواعد تختلف في تحديد المدّعى به‏.‏

وهناك سبب استحقاق المدّعى به، وهو عبارة عن الواقعة الشّرعيّة الّتي يعتمد عليها المدّعي في استحقاق ما يدّعيه، وهناك أيضاً شروط هذا السّبب، وقد وضع بعض علماء الشّافعيّة قاعدةً عامّةً في كيفيّة العلم بالمدّعى به، فقالوا‏:‏ ‏"‏ إنّما يقدح في صحّة الدّعوى جهالة تمنع من استيفاء المحكوم به، وتوجيه المطالبة نحوه، حيث يكون المدّعى به مجهولاً يتردّد بين أن يكون هذا أو ذاك، أمّا إذا سلم المدّعى به من هذا، وكان محصوراً بما يضبط به فلا ‏"‏ وفيما يلي تفصيل هذا الشّرط حسب أنواع الدّعاوى المختلفة‏:‏

كيفيّة العلم بالمدّعى به في دعاوي العين

المدّعى به في دعوى العين إمّا أن يكون عقاراً، وإمّا أن يكون منقولاً، ولكلّ طريقة خاصّة في التّعريف به‏:‏

48 - في دعوى العقار‏:‏ يشترط في هذه الدّعوى ذكر ما يميّز العقار المدّعى عن غيره، واتّفق الفقهاء على أنّ ذلك لا يكون إلاّ بذكر حدوده، وناحيته من البلد الموجود فيها‏.‏

لكنّ بعض الفقهاء اشترطوا تخصيصه بقيود أكثر من تلك، فاشترطوا ذكر المحلّة والسّكّة الّتي ينتمي إليها ذلك العقار، مع ذكر جهة الباب الّتي يفتح عليها‏.‏

هذا إذا لم يكن مشهوراً، وأمّا في العقار المشهور فلا يشترط لتحديده غير ذكر اسمه عند جمهور الفقهاء والصّاحبين‏.‏

وعند أبي حنيفة لا بدّ من ذكر الحدود في تعريف العقار سواء أكان مشهوراً أم غير مشهور‏.‏

ويشترط في تعريف الحدود عند الحنفيّة أن يذكر أسماء أصحابها وأنسابهم إلاّ المشهورين منهم، فيكتفى بأسمائهم، ويكتفى عندهم بذكر ثلاثة حدود للعقار، واستدلّوا على جواز الدّعوى بذكر ثلاثة حدود بأنّ للأكثر حكم الكلّ غالباً، واشترط زفر أن تذكر جميع الحدود، وهو المفتى به عند الحنفيّة، وقد روي عن أبي يوسف الاكتفاء بالحدّين والحدّ الواحد، وصرّحوا بأنّ الخطأ في ذكر واحد من الحدود الأربعة يجعل الدّعوى غير مقبولة، لأنّ ذلك يورث الشّكّ في معرفة المدّعي لما يدّعيه، ولعدم انطباق الدّعوى على محلّ النّزاع، ولا يقاس على حالة الابتداء‏.‏

وأمّا غير الحنفيّة فقد اشترطوا ذكر جميع الحدود لأنّ التّعريف لا يتمّ إلاّ بذكر الحدود الأربعة، وأضاف علماء الشّافعيّة أنّه قد يكتفى بثلاثة وأقلّ منها إذا عرف العقار بها‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ المعرفة في العقار لا تتقيّد بالحدود الأربعة، فقد يعرف بالشّهرة العامّة فلا تحتاج لذكر حدّ ولا غيره‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يشترط في صحّة دعوى العقار ذكر سبب استحقاقه‏.‏

وذهب المتأخّرون من الحنفيّة إلى صحّة دعوى الملك المطلق في البلاد الّتي لم يقدم بناؤها، أي حديثة العهد في تأسيسها، فلا يسأل فيها عن سبب الاستحقاق، لاحتمال أنّ المدّعي تملّكه بسبب الخطّة، أي‏:‏ أنّه يملكه من الأصل، ولم ينتقل إلى ملكه بسبب من الأسباب النّاقلة للملكيّة كالبيع، وذلك لقرب عهد تأسيسه، وأمّا دعوى الملك المطلق في البلاد الّتي قدم بناؤها، وطال العهد على تأسيسها فلا تصحّ، وذلك لأنّ قدم البناء قرينة قاطعة على أنّ المدّعي يدّعيه بسبب من الأسباب النّاقلة للملكيّة، لاستحالة كونه تملّكه بسبب الخطّة لبعد عهدها، فلا يجوز الحكم بالملك المطلق في هذه الحالة، ولا بدّ من بيان السّبب، إذ لا يجوز الحكم بالملك بسبب مجهول، وما دام حدوث السّبب متيقّناً، فيحتمل أنّ السّبب الّذي يدّعيه المدّعي باطل، ولا يترتّب عليه ملك‏.‏

وصرّح علماء المالكيّة بوجوب ذكر سبب الاستحقاق، ولم يميّزوا في ذلك بين دعوى العقار وغيرها‏.‏ بل رأى بعض علمائهم أنّ القاضي إن لم يسأل عنه وقبل الدّعوى من غير ذلك كان كالخابط خبط عشواء، وعلّلوا ذلك بأنّ السّبب قد يكون فاسداً، فلا بدّ من ذكره ليعرف ذلك، ولكن لو ادّعى المدّعي نسيان السّبب لم يكلّف ببيانه‏.‏

في دعوى المنقول

49 - اختلف الفقهاء في الطّريقة الّتي يعلم بها المدّعى به المنقول‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى التّمييز بين المنقول القائم والهالك، وبين المنقول الغائب عن مجلس القضاء والحاضر فيه‏:‏ فأمّا المنقول القائم الحاضر في مجلس القضاء فيعلم بالإشارة إليه لأنّ هذه الوسيلة ممكنة في هذه الحال، فلا يصار إلى أقلّ منها‏.‏

فإن لم تكن العين المنقولة حاضرةً في مجلس القاضي‏:‏ فإن كان إحضارها إلى مجلس القضاء ميسّراً بحيث لا يكلّف نفقةً، طلب من المدّعى عليه إحضارها ليشار إليها، وإن كان إحضارها يكلّف نفقةً، فيذهب القاضي أو أمينه إلى مكان وجودها ليشار إليها‏.‏

وأمّا المنقول الهالك فيعرف بذكر القيمة فقط، لأنّ عين المدّعى به تعذّر مشاهدتها، ولا يمكن معرفتها بالوصف، إذ العين عند الحنفيّة لا تعرف بالوصف، فاشترط بيان القيمة، حيث تعرف بها العين الهالكة‏.‏ وهذا كلّه بالنّسبة للمنقول القيميّ، وأمّا المثليّ فإنّ دعواه تعتبر دعوى دين في الذّمّة، فيشترط في تعريفه ما يشترط في الدّين، وسيأتي ذكره قريباً‏.‏ وأمّا غير الحنفيّة فلم يقصروا طريقة العلم بالمنقول على الإشارة إليه، إلاّ إذا كان في مجلس القضاء، أو كان حاضراً في البلد عند الحنابلة أمّا إذا كان غائباً‏:‏ فإن كان مثليّاً وجب على المدّعي ذكر وصفه المشروط في عقد السّلم‏.‏ وإن كان قيميّاً‏:‏ فإن كان منضبطاً بالوصف، فيجب وصفه بما ينضبط به، وإلاّ فيجب ذكر قيمته‏.‏

وأصل الخلاف في هذه المسألة بين الفريقين أنّ الأعيان القيميّة، هل تنضبط بالوصف أو لا تنضبط‏؟‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ القيميّ لا ينضبط بالوصف، لأنّ العين قد تشترك مع عين أخرى في الوصف والحلية، وبناءً عليه قالوا‏:‏ لا بدّ من الإشارة في تعريف القيميّ، لأنّ الشّكّ لا ينقطع إلاّ بها‏.‏

وذهب الجمهور إلى أنّ كثيرًا من الأعيان القيميّة يمكن أن تنضبط بالوصف‏.‏

وبناءً عليه ذهبوا إلى الاكتفاء بوصف مثل هذه الأعيان في الدّعوى، ولم يشترطوا إحضارها ليشار إليها‏.‏

العلم بسبب الاستحقاق في دعوى المنقول

50 -اختلف الفقهاء في وجوب ذكر سبب الاستحقاق في دعوى المنقول على الآراء التّالية‏:‏

أ - ذهب الحنفيّة إلى التّمييز بين دعوى المثليّ ودعوى القيميّ‏:‏ فاشترطوا ذكر سبب الاستحقاق في الأولى دون الثّانية، وذلك لاختلاف أحكام الأسباب المرتّبة للدّيون في الذّمم، ولأنّ الأصل براءة الذّمم من الدّيون، فلا بدّ لصحّة دعوى اشتغالها من بيان سبب هذا الاشتغال‏.‏

ب - وذهب المالكيّة إلى وجوب ذكر السّبب في دعاوى العين، سواء أكانت مثليّةً أم قيميّةً، وعلى القاضي أن يسأل المدّعي عن سبب استحقاقه للمدّعى به، فإن لم يفطن لذلك كان للمدّعى عليه أن يوجّه هذا السّؤال، فإن امتنع المدّعي عن ذكره لم يكلّف المدّعى عليه بالجواب عن الدّعوى، وبذلك لا تنتج أثرها، وهو وجوب الجواب على الخصم‏.‏

وعلّلوا ذلك بأنّ المدّعي قد يكون معتمداً في دعواه على سبب فاسد، كأن يكون ثمن خمر أو خنزير أو ميتة، فإنّ كلّ هذا ونحوه لا يصلح سبباً لاستحقاق شيء من الأشياء‏.‏

ج - وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم اشتراط ذكر سبب الاستحقاق في دعوى المنقول، سواء أكان قيميّاً أم مثليّاً، لتعدّد الأسباب وكثرتها، وفي إيجاب ذكرها على المدّعي حرج كبير، فيترتّب على ذلك ضياع حقوق كثير من النّاس، فوجب عدم اشتراط ذلك‏.‏

وفي الأشياء الّتي منها ذكور ومنها إناث لا بدّ من ذكر صفة الأنوثة أو الذّكورة في الدّعوى‏.‏

كيفيّة العلم بالمدّعى به في دعوى الدّين

51 - إذا كان المدّعى به نقداً، فإنّه يعلم ببيان جنسه ونوعه ووصفه وقدره، وذلك إذا كان في البلد نقود مختلفة، وأمّا إذا كان النّقد متعارفاً عليه فلا حاجة لذكر غير قدره‏.‏

وكذلك إذا كان المدّعى به مثليّاً، فإنّه يعلم بمثل ما يعلم به النّقد‏.‏ وإذ كان المدّعى به عيناً قيميّةً، فعند الحنفيّة لا تكون في الدّعوى في هذه الحال دعوى دين إلاّ إذا كانت هالكةً، فإذا كانت هالكةً تعلم بذكر قيمتها كما تقدّم، وإلاّ فلا تعلم إلاّ بالإشارة إليها‏.‏

وعند جمهور الفقهاء تثبت الأعيان القيميّة في الذّمّة إذا كانت ممّا ينضبط بالوصف، وعندئذ تعلم عندهم بذكر أوصافها الّتي تنضبط بها، وهي الأوصاف الّتي يشترط ذكرها في عقد السّلم‏.‏

العلم بسبب الاستحقاق في دعوى الدّين

52 - اختلف الفقهاء في وجوب ذكر سبب الاستحقاق في دعوى الدّين على الآراء الآتية‏:‏

أ - فذهب أكثر فقهاء الحنفيّة وأكثر فقهاء المالكيّة إلى وجوب ذكر السّبب في دعوى الدّين، وإلى أنّه يجب على المدّعي أن يبيّن من أيّ وجه ترتّب له الدّين في ذمّة المدّعى عليه، وهل هو من قرض أو عقد أو إتلاف أو غير ذلك من الأسباب الشّرعيّة‏.‏

وقد استدلّوا على ذلك بأنّ كلّ دين لا بدّ لترتّبه في الذّمّة من سبب شرعيّ، لأنّ الأصل براءة الذّمم من اشتغالها بالدّيون، فإن كان لا بدّ من سبب لكلّ دين فيجب على مدّعي الدّين بيان سببه، لأنّ الأسباب تختلف أحكامها، فإن كان سبب الدّين عقد السّلم مثلاً، فإنّه يحتاج إلى بيان مكان الإيفاء، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض، بخلاف ما إذا كان الدّين ثمن مبيع، حيث يجوز الاستبدال به قبل قبضه ولا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء‏.‏

ومن جهة أخرى قد يكون السّبب باطلاً كأن يكون الدّين ثمن خمر أو خنزير أو نتيجة مقامرة أو نحو ذلك، فيحتاج إلى ذكره ليعرف ذلك‏.‏ ومن جهة ثالثة فإنّ بعض الأسباب لا يصحّ الاعتماد عليها في دعوى الدّين، كما لو ادّعى ديناً على شخص وقال‏:‏ إنّه نتيجة لحساب بينهما، أو أنّه أقرّ له به، فيدّعي عليه بسبب هذا الإقرار‏.‏

ب - وذهب بعض علماء الحنفيّة إلى أنّه لا يجب ذكر سبب الاستحقاق في دعوى الدّين إلاّ فيما إذا كان المدّعى به من النّقود الّتي انقطع التّعامل بها وفي المثليّات‏.‏

وفي حالة دعوى المرأة الدّين في تركة زوجها، لأنّها قد تظنّ أنّ النّفقة تصلح سبباً لإيجاد الدّين في جميع الحالات مع أنّها لا تصلح لذلك بعد وفاة الزّوج‏.‏

وعلّلوا عدم اشتراط ذكر السّبب في غير هذه الحالات بأنّ المدّعي قد يستحيي من ذكر السّبب، فلا يجوز أن يدخل في الحرج، وبأنّ هناك بعض الأسباب لا يمكن بيانها، وذلك كما إذا انتقل إلى المدّعي سند دين من مورثه، وكان سبب الدّين غير مذكور في السّند، والمدّعي لا يعرفه‏.‏

ج - وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دعوى الدّين تكون صحيحةً ولو لم يذكر فيها سبب استحقاق الدّين المدّعى‏.‏

واستدلّوا بأنّ أسباب الملك تكون من جهات شتّى يكثر عددها، كالإرث والابتياع والهبة والوصيّة وغير ذلك، فسقط وجوب الكشف عن سببها لكثرتها واختلافها‏.‏

كيفيّة العلم بالمدّعى به في دعوى العقد

53 - اختلف الفقهاء في وجوب ذكر شروط العقد لصحّة دعواه على أقوال‏:‏

أ - فذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط في الدّعوى بيان شروط كلّ سبب له شروط كثيرة ومعقّدة، فلا تصحّ دعوى النّكاح والسّلم إلاّ بذكر شروطهما مفصّلةً‏.‏

واشترط بعضهم ذكر الطّوع والرّغبة في دعوى العقد، وخالف آخرون، لأنّ الظّاهر بين النّاس هو الطّوع، والإكراه نادر لا حكم له‏.‏

ب - وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجب ذكر شروط العقد في دعواه، لأنّ ظاهر عقود المسلمين الصّحّة، فتحمل الدّعوى على الصّحيح‏.‏

ج - وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يجب ذكر شروط العقد في دعواه إلاّ إذا كان العقد عقد نكاح، حيث اشترطوا ذكر أنّه تزوّج المرأة بشاهدين ووليّ ورضاها‏.‏ وهذا منقول عن الشّافعيّ، واستدلّوا بأنّ الفائت في الزّواج بالحكم الخاطئ لا يعوّض، خلافاً للعقود الأخرى، فإنّها أقلّ خطراً، فأشبهت دعواه دعوى القتل، حيث اتّفق على وجوب ذكر شروطه‏.‏

واستدلّوا أيضاً بأنّ الاختلاف في عقد النّكاح أكثر منه في أيّ عقد آخر، وبأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خصّه من بين سائر العقود فقال‏:‏ «لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدي عدل»‏.‏ ولولا هذا التّخصيص لكان كغيره، ولكنّ بعض علماء الشّافعيّة حملوه على الاستحباب‏.‏

د - وذهب الحنابلة إلى وجوب ذكر شروط العقد في دعواه مهما كان، ولم يفرّقوا بين عقد النّكاح وغيره، ولا بين ما هو كثير الشّروط وقليلها‏.‏

ذكر السّبب في الدّعاوي الجنائيّة

54 - لم يختلف الفقهاء في وجوب ذكر السّبب في الدّعوى الجنائيّة، ففي دعوى القتل مثلاً يشترط ذكر القتل وهل هو عن عمد أو عن خطأ، وإلاّ فإنّ الدّعوى لا تكون صحيحةً حتّى يصحّحها صاحبها، وسبب ذلك أنّ الفائت بالقتل ونحوه من الجنايات لا يعوّض، وقد يحكم بشيء لا يمكن ردّه بعد الحكم، ولأنّ الأحكام الصّادرة في هذه الدّعاوى تتعلّق بالأصول الّتي جاء الإسلام لحفظها، وهي الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال، فلا يجوز التّهاون في أمرها، ولأنّ الحدود والقصاص تدفع بالشّبهات، وعدم التّفصيل في دعواها يورث شبهةً، فلا تقبل‏.‏

ولا بدّ في دعوى الإرث من ذكر سببه، فيذكر من أيّة جهة استحقّ الإرث من الميّت‏.‏

الاستثناءات الواردة على شرط المعلوميّة

55 - لمّا كان اشتراط العلم بالمدّعى به في الدّعوى هو تحقيق مقصود مشروعيّة الدّعوى من فصل المنازعة، والإلزام بالحقّ، فإنّ الفقهاء يرون عدم اشتراط هذا الشّرط في كلّ مرّة يتحقّق ذلك المقصود بدونه، وذلك في كثير من الاستثناءات‏.‏

وقد حاول كثير منهم وضع ضوابط لهذه الاستثناءات‏.‏ إلاّ أنّهم اختلفوا في معظمها، وفيما يأتي بعض الضّوابط وبعض المسائل الّتي تجوز فيها الدّعوى بالمجهول‏:‏

أ - ذكر ابن رجب الحنبليّ ضابطاً لما تصحّ الدّعوى به مجهولاً، وهو أنّ الدّعوى بالمجهول تقبل إذا كان المدّعى به فيها ممّا يصحّ وقوع العقد عليه بينهما، كالوصيّة، فإنّه لمّا جاز أن يكون الموصى به فيها مجهولاً، كذلك تصحّ الدّعوى بالوصيّة المجهولة‏.‏

ب - وقال بعض الشّافعيّة‏:‏ تجوز الدّعوى بالمجهول إذا كان المطلوب فيها موقوفاً على تقدير القاضي كالنّفقة وأجرة الحضانة وأجر المثل ونحوها‏.‏

ج - وقال المالكيّة‏:‏ إذا كان هنالك عذر للمدّعي في جهله بما يدّعيه قبلت دعواه، وذلك كدعوى شخص نصيباً من وقف كثر مستحقّوه،فإنّه يعذر لغلبة الجهل بكيفيّة قسمة الأوقاف‏.‏

د - ويرى الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة ومعظم الحنابلة جواز دعوى الإقرار بالمجهول، لأنّ الإقرار إخبار عن الوجوب في الذّمّة، فتجوز الدّعوى به مجهولاً، وعلى المدّعى عليه بيان ما أخبر عن وجوبه‏.‏

وقد قاسه بعض الشّافعيّة على دعوى الوصيّة بالمجهول‏.‏

هـ- وذهب الحنفيّة أيضاً وبعض علماء الشّافعيّة إلى جواز الدّعوى بالمجهول في حالة الغصب، وذلك لأنّ الإنسان قد لا يعرف قيمة ماله المغصوب، فإنّ الغصب كثيراً ما يحدث ولا يتمكّن الشّهود من معاينة المغصوب، وقد يقولون‏:‏ رأينا فلاناً يغصب مال فلان ولا ندري قيمة ما غصب، فيقبل ذلك‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏

56 - أن يكون المدّعى به محتمل الثّبوت‏:‏

ذهب الفقهاء إلى أنّه لا تصحّ الدّعوى بما يستحيل ثبوته في العرف والعادة كمن يدّعي بنوّة من هو أكبر سنّاً أو من هو مساويه، وكمن يدّعي على شخص معروف بالصّلاح والتّقوى أنّه غصب ماله، وكادّعاء رجل من السّوقة على الخليفة أو على عظيم من الملوك أنّه استأجره لكنس داره وسياسة دوابّه، ونقل العزّ بن عبد السّلام عن الشّافعيّ القول بقبول الدّعوى في المثال الأخير، مع مخالفة بعض أصحابه له في هذا القول‏.‏

واستدلّ الفقهاء على وجوب كون المدّعى به محتملًا في العرف والعادة بأنّ اللّه تعالى أمر باعتبار العرف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏‏.‏

وممّا ورد عن عبد اللّه بن مسعود موقوفاً عليه أنّه قال‏:‏ «ما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن، وما رأوا سيّئاً فهو عند اللّه سَيِّئٌ» ففي هذا دعوة إلى وجوب اعتبار العرف السّائد بين المسلمين لأنّهم لا يتّفقون إلاّ على ما يرضاه اللّه تعالى‏.‏

ويرى المالكيّة سماع الدّعوى إذا كانت بين طرفين لم يجر بينهما تعامل ولا خلطة، فإن أقام المدّعي البيّنة حكم له بما ادّعى، وإن لم يقدر على البيّنة لم يكن له تحليف خصمه، فالتّعامل والخلطة شرط عندهم في توجيه اليمين على الخصم عند عدم البيّنة، وذلك على قول مالك وعامّة أصحابه وهو المشهور من المذهب، وهو قول ابن القيّم من الحنابلة‏.‏

لكنّ المعتمد في مذهب المالكيّة أنّه لا يشترط في توجّه اليمين ثبوت خلطة وهو قول ابن نافع، لجريان العمل به، ومعلوم أنّ ما جرى به العمل مقدّم على المشهور في المذهب إن خالفه‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏

57 - أن يكون المدّعى به حقّاً أو ما ينفع في الحقّ، وأن يكون هذا الحقّ قد تعرّض لإضرار الخصم‏:‏ فقد صرّح الحنفيّة بأنّه يشترط في الدّعوى أن لا تكون عبثاً، والمالكيّة ذكروا صيغةً لهذا الشّرط قريبةً ممّا سبق، فاشترطوا في الدّعوى أن تكون ذات غرض صحيح بأن يترتّب عليها نفع معتبر شرعاً‏.‏ وفروع الشّافعيّة والحنابلة تدلّ على ذلك أيضاً‏.‏ وقد وضع علماء المالكيّة قاعدةً عامّةً لتحقّق هذا الشّرط في الدّعوى فقالوا‏:‏ بأنّه لا يتحقّق إلاّ إذا كان المدّعى به ممّا ينتفع به المدّعي لو أقرّ به خصمه‏.‏

وبناءً على هذا الشّرط تردّ الدّعوى في الحالات الآتية‏:‏

أ - إذا لم يكن المدّعى حقّاً، أو كان كذلك ولكنّه حقير لا يستحقّ شغل القضاء به، ومثال الأوّل أن تدّعي امرأة زوجيّة شخص مات، ولم تطلب في دعواها حقّاً آخر من إرث أو صداق مؤخّر، أو كمن يطلب إلحاقه بنسب شخص مات، ولا يطلب حقّاً آخر من إرث ونحوه‏.‏ ومثال الثّاني أن يطلب المدّعي في دعواه حبّة قمح أو شعير أو نحو ذلك من الأشياء التّافهة‏.‏

ب - أن لا يكون الحقّ المدّعى مختصّاً بالمدّعي، وإنّما يعود إلى غيره، ولمس المدّعي نائباً عن صاحب الحقّ‏.‏

ج - أن لا يكون هناك منازع للمدّعي في الحقّ الّذي يطلبه في دعواه، كمن يرفع دعوى أمام القضاء ويطلب فيها الحكم له بالدّار الّتي يسكنها من غير أن ينازعه أحد فيها‏.‏

وبناءً على هذا الشّرط اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لصحّة الدّعوى أن تكون فيما يلزم شيئاً على المدّعى عليه على فرض ثبوت الدّعوى‏.‏ ولذلك لا تصحّ الدّعوى بما يكون المدّعى عليه مخيّراً فيه، فلا تصحّ دعوى الهبة غير المقبوضة عند من يقول بعدم لزومها قبل القبض، وكذلك الوكالة الّتي لا يأخذ الوكيل عليها أجراً، وكذلك دعوى الوعد ودعوى الوصيّة على الموصي في الحالات الّتي يجوز له الرّجوع عن وصيّته‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في دعوى الدّين المؤجّل‏:‏ فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الرّاجح والحنابلة في أحد قولين إلى عدم صحّة هذه الدّعوى‏.‏ وذلك لأنّ الدّين المؤجّل غير لازم في الحال، فدعواه طلب لما ليس بلازم وقت البيّنة، فلا تكون مفيدةً قبل حلول الأجل‏.‏

واستثنى الشّافعيّة من ذلك بعض الحالات فقبلوا فيها دعوى الدّين المؤجّل، ومن هذه الحالات ما لو كان الدّين المطلوب بالدّعوى قد حلّ بعضه، فتصحّ الدّعوى به جميعاً، على أن يراعى الأجل بالنّسبة للجزء الّذي لم يحلّ بعد‏.‏ ومنها ما لو ادّعى الدّائن على مدينه المعسر، وقصد بدعواه إثبات دينه، ليطالب به إذا أيسر الغريم‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة في قول، والحنابلة في قول إلى جواز الدّعوى بالدّين المؤجّل إذا قصد بها حفظ البيّنات من الضّياع، وذلك استحساناً لأنّ القياس عدم صحّة الدّعوى بحقّ غير لازم في الحال‏.‏ ووجه الاستحسان حاجة النّاس إلى حفظ حقوقهم المؤجّلة احتياطاً لما قد تئول إليه البيّنات من الفقدان‏.‏

وبناءً على الشّرط السّابق ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحّة ما يسمّى بدعوى قطع النّزاع، وصورتها أن يدّعي شخص أنّ آخر يزعم أنّ له قبله حقّاً، ويهدّد من حين لآخر باستعمال هذا الحقّ فيلجأ إلى القضاء طالبًا منه إحضار صاحب الزّعم وتكليفه بعرض دعواه وأسانيدها ليبرهن هو على كذبها ويطلب الحكم بوضع حدّ لهذه المزاعم‏.‏

الأثّار المترتّبة على الدّعوى

إذا رفعت الدّعوى مستوفية الشّروط، ترتّب عليها ثلاثة آثار هي‏:‏ نظر القاضي فيها، وحضور الخصم، والجواب عنها، وتفصيل هذا فيما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ نظر الدّعوى

58 - إذا رفعت الدّعوى إلى القاضي كان مكلّفاً بالنّظر فيها والفصل بين المتنازعين، وليس له الامتناع عن ذلك، إذ الفصل في خصومات النّاس فرض عليه، لأنّه إحقاق للحقّ ورفع للظّلم، ورفع الظّلم واجب على القاضي على الفور‏.‏ وفي خلال نظر القاضي في الدّعوى المرفوعة إليه ينبغي عليه مراعاة مبادئ وأصول أشار إليها الفقهاء، بعضها واجب عليه، وبعضها مستحبّ، وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ حضور الخصم

59 - إذا أراد المدّعي المطالبة بحقّه عن طريق القضاء سلك أحد سبيلين‏:‏

الأوّل - أن يتوجّه أوّلًا إلى خصمه يطلب منه الحضور معه إلى مجلس التّقاضي‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يتوجّه إلى القاضي في مجلسه مباشرةً، فيرفع الدّعوى ويطلب منه إحضار خصمه من أجل مقاضاته والنّظر في الخصومة‏.‏

فإذا سلك المدّعي السّبيل الأوّل فإنّه ينبغي عليه أن يدعو خصمه إلى مجلس القضاء بأرفق الوجوه وأجمل الأقوال، والأصل أنّه يجب على المدّعى عليه الإجابة إلى ذلك وعدم التّأخّر‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

فقد دلّت هذه الآيات الكريمة على أنّه يجب على كلّ مؤمن أن يستجيب لمن يدعوه إلى التّحاكم إلى شرع اللّه تعالى، وأنّ من أعرض عن ذلك كان ظالماً فاجراً‏.‏

60 - وأمّا إذا سلك المدّعي الطّريق الآخر، أو رفض خصمه الحضور معه إلى مجلس القضاء، فالأصل أنّه يجب على القاضي إحضاره، ولكنّ للفقهاء تفصيلاً وخلافاً في وجوب إحضار المدّعى عليه بمجرّد الدّعوى‏.‏

فعند الحنفيّة يفرّق بين حالتين‏:‏ الأولى‏:‏ أن يكون المدّعى عليه قريباً من مجلس القضاء بحيث إذا أحضره القاضي أمكنه أن يرجع إلى منزله فيبيت فيه‏.‏

والثّانية‏:‏ أن يكون بعيداً عن مجلس القضاء بحيث إذا أحضر إليه لم يتمكّن من المبيت في منزله‏.‏

ففي الحالة الأولى يجب على القاضي إحضاره بمجرّد الدّعوى، إذ لا يتمّ إنصاف المظلومين من الظّالمين إلاّ بذلك‏.‏

وفي الحالة الثّانية لا يجب على القاضي إحضاره بمجرّد الدّعوى، وإنّما يجوز له ذلك، لأنّ حضور مجلس القضاء يزري ببعض النّاس، وقد لا يكون للمدّعي غرض من دعواه إلاّ أذيّة خصمه‏.‏ ولكن يجب على القاضي إحضار الخصم إذا استطاع المدّعي أن يعضّد دعواه ببيّنة يقيمها، فإن فعل أمر القاضي بإحضاره‏.‏ ثمّ إذا حضر أعيدت البيّنة من أجل القضاء بها‏.‏ وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه لا يطلب من المدّعي بيّنةً من أجل إحضار خصمه، وإنّما يكتفي منه باليمين على صدق دعواه، فإن حلف أمر القاضي بإحضار خصمه، وإلاّ فلا‏.‏

وعند المالكيّة يفرّق بين البعيد والقريب، وحدّ البعد عندهم مسيرة ثلاثة أيّام، فأمّا القريب فينبغي على القاضي أن يأمر بإحضاره بمجرّد الدّعوى، فإن أبى لغير عذر أحضره قهراً‏.‏ على أنّه لا يأمر بإحضاره إلاّ إذا قدّم المدّعي وجهًا يستوجب إحضاره، فإن أظهر حجّةً أو قولًا يوجب ذلك أجابه، وإن لم يظهر شيئًا لم يأمر بإحضار المدّعى عليه‏.‏

وأمّا إذا كان المطلوب بعيداً عن مجلس القضاء أكثر من مسافة القصر، فإنّه لا يجب إحضاره، وقد أجاز المالكيّة القضاء على الغائب البعيد إذا كان مع المدّعي بيّنة، فإن لم يكن معه بيّنة فقد جعلوا للقاضي الّذي رفعت إليه الدّعوى أن يكتب إلى قاضي المدّعى عليه، ويطلب منه استجوابه، ويسجّل ما يبديه من حجج ثمّ يرسلها إليه، ثمّ ينظر في الدّعوى على ضوء ما يصله من قاضي المدّعى عليه، وذهب بعضهم إلى أنّه إذا كان مع المدّعي شاهد بدعواه كتب القاضي إلى المدّعى عليه‏:‏ إمّا أن تحضر أو ترضي خصمك‏.‏

وعند الشّافعيّة يجب إحضار الخصم الحاضر في البلد، أو من كان قريباً من مجلس الحكم، بحيث يستطيع الحضور إليه والرّجوع إلى بلده في اليوم نفسه‏.‏

ولكنّهم اشترطوا من أجل وجوب إحضار الخصم أن لا يعلم كذب المدّعي، وأن لا يكون المدّعى به مستحيلاً عقلاً أو عادةً، وأن لا يكون المدّعى عليه مستأجراً لعين يعطّل حضوره استيفاء منفعتها، وإنّما يحضره إذا انقضت مدّة الإجارة، وقد ضبطوا التّعطيل المضرّ بأن يمضي زمن يقابل بأجرة وإن قلّت‏.‏

والشّافعيّة كالمالكيّة والحنابلة يجيزون القضاء على الغائب إذا كان مع المدّعي بيّنة مقبولة، وبهذا يستطيع المدّعي على الغائب البعيد أن يسلك هذا الطّريق من غير أن يطلب إحضار خصمه‏.‏

وعند الحنابلة مسلك قريب ممّا ذهب إليه الشّافعيّة‏:‏ فقد فصّلوا بين القريب من مجلس الحكم والبعيد عنه، فالقريب يحضر بمجرّد الدّعوى، ولا يطلب من المدّعي تفصيل مطالبه، ولا ذكر الشّروط المصحّحة للدّعوى، والبعيد لا يحضر إلاّ إذا فصّل المدّعي دعواه وذكر جميع شروطها، ولكنّ مقتضى كلامهم أنّه يجب على القاضي في القريب أن يستفسر عن بعض شروط الدّعوى، فيسأل مثلاً عن المدّعى به ليعلم إن كان تافهاً لا تتّبعه الهمّة أو غير تافه‏.‏ ويجدر بالذّكر أنّ الحنابلة هم ممّن أجاز القضاء على الغائب البعيد، ولذلك فإنّ المدّعي على الغائب البعيد يستطيع أن يطلب الحكم على خصمه مع غيابه، ولا يطلب إحضاره، إلاّ أنّه يشترط في هذه الحالة أن يكون معه بيّنة بما يدّعيه، فإن لم يكن معه بيّنة لم ينظر في دعواه‏.‏

كيفيّة إحضار المدّعى عليه

61 - إذا استجاب المدّعى عليه لدعوة خصمه، وحضر معه إلى مجلس القصاء، فلا حاجة عندئذ لأيّ إجراء يتّخذ من أجل إحضاره‏.‏

وأمّا إذا جاء المدّعي إلى القاضي وقال له‏:‏ إنّ لي على فلان حقّاً، وهو في منزله توارى عنّي وليس يحضر معي، فإنّ القاضي ينظر في الدّعوى، ويسأل عن مكان المدّعى عليه، فإن كان الحال بحيث ينبغي إحضار المطلوب أمر القاضي بإحضاره بكتاب أو رسول‏.‏

ثمّ إذا أطلع الخصم على طلب الحضور وجب عليه الحضور ديانةً وقضاءً، إلاّ إذا وكّل عن نفسه من يرضاه لينوب عنه في المخاصمة، وإلاّ فإن أثبت المدّعي أنّه تعنّت ورفض المجيء بعد أن أطلعه على طلب القاضي، فإنّ هذا يرسل إليه بعض أعوانه، فيحضرونه قهراً إذا وجدوه وامتنع عن الحضور‏.‏

ثمّ إذا حضر إلى مجلس القاضي وقام الدّليل على تعنّته وامتناعه من غير عذر أدّب بما يراه القاضي مناسباً لمثله‏.‏ وذلك لأنّه امتنع عن القيام بواجبين هما‏:‏ التّحاكم إلى شرع اللّه بعد أن دعي إليه، وطاعة وليّ الأمر‏.‏ ثمّ إذا عجز الأعوان عن إحضاره بعث القاضي إلى صاحب الشّرطة أو الوالي، فيعرّفه بالأمر، فيحضره إليه‏.‏

ثالثاً‏:‏ الجواب على الدّعوى

62 - إذا استوفى المدّعي في دعواه جميع الشّروط المطلوبة لصحّتها ترتّب على المدّعى عليه الإجابة عنها‏.‏

والجواب عن الدّعوى باعتباره تصرّفاً شرعيّاً، لا يصحّ إلاّ بشروط، وهي‏:‏

أ - أن يكون صريحًا بصيغة جازمة، فلا يقبل من المدّعى عليه أن يقول في الجواب على دعوى المدّعي‏:‏ ‏"‏ ما أظنّ له عندي شيئاً ‏"‏‏.‏

ب - أن يكون مطابقاً للدّعوى، وذلك بأن يجيب المدّعى عليه عن جميع طلبات المدّعي، ولا يتوقّف عن الإجابة عن جزء منها‏.‏ بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الجواب لا ينبغي أن يكون أكثر عموميّةً من الدّعوى، بأن يعمّها ويعمّ غيرها، كما لو أجاب بقوله‏:‏ ‏"‏ لا حقّ لك قبلي ‏"‏ وذهب آخرون إلى أنّ مثل هذا الجواب مقبول، لأنّ قوله‏:‏ ‏"‏ لا حقّ لك ‏"‏ نكرة في سياق النّفي فتفيد العموم‏.‏

وكذلك قالوا‏:‏ لا يكفي في الجواب على الدّعوى بمائة دينار مثلاً أن يقول‏:‏ ‏"‏ ليس لك عليّ مائة ‏"‏ حتّى يقول‏:‏ ‏"‏ ولا شيء منها ‏"‏، لأنّه بدون ذلك ينكر استحقاق مائة عليه، ولا ينكر استحقاق الأقلّ، والمدّعي يدّعي عليه كلّ جزء من أجزاء المائة، فلا يكون في جوابه مستغرقاً لجميع طلبات المدّعي، وإنّما لجزء منها، ويظلّ متوقّفاً عن الجواب في حقّ باقي الأجزاء‏.‏

بل ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى أنّه لا بدّ من أن يكون الجواب نصّاً، فلو ادّعى شخص على آخر ديناراً، فأجاب المدّعى عليه‏:‏ لا يستحقّ عليّ فلساً، لا يقبل الجواب حتّى يصرّح بنفي جميع أجزاء الدّينار‏.‏

والظّاهر عند الحنابلة على خلاف هذا، لأنّ مثل هذا الجواب يتضمّن نفي الجزء الأصغر نصّاً، ويتضمّن نفي الباقي من طريق الفحوى أو الدّلالة‏.‏

أوجه الجواب‏:‏

جواب الدّعوى الّذي يصدر عن المدّعى عليه لا يخرج عن أحد الأوجه الآتية‏:‏

63 - أ - أن يكون إقراراً بالحقّ المدّعى‏:‏ ويقصد بالإقرار إخبار الشّخص بحقّ لآخر عليه‏.‏ وقد يكون الإقرار تامّاً بأن يقرّ المدّعى عليه بجميع المدّعى به، وقد يكون ناقصاً بأن يقرّ ببعض المدّعى به وينكر الباقي‏:‏ فإذا أقرّ المدّعى عليه بجميع المدّعى به ألزمه القاضي به، وإن كان المدّعى عليه كامل الأهليّة مختاراً، فيلزم المقرّ بمقتضى إقراره‏.‏

والإقرار بالمدّعى قسمان‏:‏ صريح وضمنيّ‏.‏ والأوّل واضح، والضّمنيّ يكون في بعض الأحوال الّتي يدفع فيها المدّعى عليه دعوى خصمه، فيفهم من هذا الدّفع أنّه مقرّ بأصل الدّعوى، وذلك كأن يدّعي عليه مالاً، فيقول في الجواب‏:‏ لقد أبرأني المدّعي عن هذا المال، فيكون هذا الدّفع متضمّناً للإقرار بالمدّعي‏.‏ وللإقرار تفصيل ينظر في مصطلحه‏.‏

64 - ب - أن يكون الجواب إنكاراً للحقّ المدّعى‏:‏ والإنكار قد يكون كلّيّاً فيسري حكمه على جميع المدّعى به، وقد يكون جزئيّاً، فيسري حكمه على الجزء المنكر‏.‏

ويشترط في الإنكار أن يكون صريحاً وبصيغة الجزم، فلا يصحّ قول المدّعى عليه‏:‏ ‏"‏ ما أظنّ له عندي شيئاً ‏"‏‏.‏ ويستلزم هذا الشّرط أنّه يجب أن يتناول الإنكار الحقّ الّذي تقتضيه الدّعوى، فلا يصحّ إذا كان يتناول حقّاً آخر لم تقتضه الدّعوى، ففي جواب دعوى الوديعة مثلاً يقبل من المدّعى عليه أن يقول‏:‏ ‏"‏ لم تودعني، أو لا تستحقّ عليّ شيئاً ‏"‏، فلو قال‏:‏ ‏(‏لا يلزمني دفع شيء أو تسليم شيء إليك ‏"‏، لم يكن هذا إنكارًا للدّعوى، لأنّه لا يلزمه ذلك، وإنّما يلزمه التّخلية بين المودع الوديعة، فهو قد نفى حقّاً لم يدّعه عليه المدّعي، فلا يعتبر إنكاراً لدعوى الوديعة‏.‏

وفي دعوى الطّلاق لا يشترط أن يقول في إنكارها‏:‏ ‏"‏ لم أطلّق ‏"‏، وإنّما يكفي أن يقول‏:‏ ‏"‏ أنت زوجتي ‏"‏، وفي دعوى النّكاح يكفي في إنكارها أن يقول‏:‏ ‏"‏ ليست زوجتي ‏"‏‏.‏

ويترتّب على الإنكار أنّه يخيّر المدّعي بين تحليف المدّعى عليه وبين إقامة البيّنة على صحّة دعواه إذا كان قادراً على ذلك، فإن لم يستطع فليس له غير تحليفه‏.‏

65 - ج - وقد لا يكون الجواب إقراراً ولا إنكاراً، بأن يسكت المدّعى عليه، فلا يتكلّم بإقرار ولا إنكار، أو يقول‏:‏ ‏"‏ لا أقرّ ولا أنكر ط‏.‏ وحكم ذلك عند جمهور الفقهاء أن ينظروا إلى حال المدّعى عليه ليعرف إن كان سكوته متعمّداً أو ناتجاً عن عاهة أو دهشة أو غباوة، فإذا علم أنّه لا عاهة به وأصرّ على الامتناع ينزل منزلة المنكر ويأخذ حكمه‏.‏

وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ السّاكت لا ينزل منزلة المنكر بحال من الأحوال، وإنّما يجبر على الجواب، بالأدب المناسب‏.‏

66 - د - وقد يجيب المدّعى عليه بجواب غير صحيح، فينبّه إليه، فلا يصحّحه، كأن يقول بعد طلب الجواب منه‏:‏ فليثبت المدّعي دعواه، فلا يكون هذا جواباً صحيحاً، فإن أصرّ عليه اعتبر في حكم الممتنع عن الجواب، لأنّ طلب الإثبات لا يستلزم اعترافاً ولا إنكاراً‏.‏ ومن القواعد الّتي ذكرها بعض الفقهاء في هذا الصّدد أنّ من اعترف بسبب شرعيّ يوجب عليه شيئاً، فإنّه لا يكفيه في نفي ما يوجبه ذلك السّبب أن يجيب بما هو عامّ يشمل الحقّ وغيره، ولكن لا بدّ من إثبات عدم ما أوجبه ذلك السّبب بالطّريق الشّرعيّ، مثال ذلك‏:‏ لو ادّعت امرأة على من يعترف بأنّها زوجته المهر، فقال الزّوج في الجواب عليها‏:‏ ‏"‏ لا تستحقّ عليّ شيئاً ‏"‏، لم يصحّ هذا الجواب، واعتبر مقرّاً بالحقّ المدّعى به، فيلزمه، لأنّه أقرّ بسبب الاستحقاق إن لم يقم بيّنةً بإسقاط المهر‏.‏

67 - 5 - وقد يكون الجواب دفعًا للدّعوى‏:‏ الدّفع - كما يستخلص من كلام الفقهاء - دعوى من المدّعى عليه يقصد بها دفع الخصومة عنه، أو إبطال دعوى المدّعي، وعليه فإنّ الدّفع عند الفقهاء نوعان‏:‏

الأوّل‏:‏ الدّفع الّذي يقصد به إبطال دعوى المدّعي نفسها، ومثاله‏:‏ أن يدّعي المدّعى عليه في دعوى العين أنّه اشتراها منه وقبضها، أو أنّه وهبها له وقبضها، أو أيّ سبب شرعيّ لانتقالها إلى يده‏.‏

الثّاني‏:‏ الدّفع الّذي يقصد به دفع الخصومة عن المدّعى عليه بدون تعرّض لصدق المدّعي أو كذبه في دعواه، وهو ما يسمّيه الفقهاء بدفع الخصومة، ومثاله‏:‏ أن يدفع المدّعى عليه في دعوى العين بأنّ يده على الشّيء ليست يد خصومة، وإنّما يد حفظ، كأن يدّعي بأنّه مستعير لهذه العين أو مستأجر لها، أو أنّها مودعة عنده أو مرهونة لديه، فإذا أقام بيّنةً على دعواه، فإنّ الخصومة تندفع عنه‏.‏

ومحلّ هذا الدّفع أن يكون المدّعي يدّعي على خصمه ملكاً مطلقاً، فإن كان يدّعي عليه فعلاً، كغصب أو بيع أو سرقة ونحو ذلك لم يقبل ما تقدّم، لأنّ الخصم في دعوى الفعل هو الّذي يدّعى عليه أنّه فعله، ولا ينظر إلى يده‏.‏

ومن صور دفع الخصومة أن يدفع المدّعى عليه بأنّ المدّعي قد أبرأه من الدّعوى أو من الخصومة عند من يجيز هذا الإبراء، فإنّ ثبوت ذلك يدفع الخصومة من غير أن يؤثّر على الحقّ ذاته، ولذلك قال الفقهاء‏:‏ إنّ الدّفع بالإبراء من الدّعوى لا يتضمّن إقراراً بالحقّ المدّعى، حتّى لو عجز الدّافع عن إثبات دفعه جاز له دفع الدّعوى بأيّ دفع آخر من إبراء من الحقّ أو قضاء أو حوالة ونحوه‏.‏

وهذا الدّفع أجازه جمهور الفقهاء ونصّ الشّافعيّة على بطلانه‏.‏

ومن صوره أيضاً دفع المدّعى عليه بنقصان أهليّته أو بنقصان أهليّة خصمه المدّعي، فلو رفعت الدّعوى على ناقص الأهليّة فقال‏:‏ أنا صبيّ، وقفت الخصومة حتّى يبلغ‏.‏

والنّوع الأوّل من الدّفوع يصحّ إيراده في أيّة مرحلة تكون عليها الدّعوى قبل إصدار الحكم بلا خلاف، فيصحّ قبل البيّنة، كما يصحّ بعدها‏.‏ وأمّا بعد الحكم، فذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة إلى صحّته إذا تضمّن إبطال الحكم‏.‏ ولم يمكن التّوفيق بينه وبين الدّعوى الأصليّة‏.‏ وذهب بعض فقهاء المالكيّة إلى أنّه لا يقبل من المحكوم عليه أيّ دفع بعد فصل الدّعوى، ولكنّ له أن يطعن بأنّ بينه وبين القاضي عداوةً، فإذا أثبت ذلك وجب فسخ الحكم، وإعادة المحاكمة‏.‏

وأمّا دفع الخصومة فيجوز إبداؤه عند الحنفيّة قبل الحكم ولا يصحّ بعده، لأنّ تأخّر المدّعى عليه في دفع الخصومة عن نفسه إلى ما بعد الحكم يجعل الدّعوى صحيحةً في جميع مراحلها، لأنّها قامت على خصم حسب الظّاهر، فيكون الحكم قد صدر صحيحاً، فليس له بعد ذلك أن يدفع بأنّ يده مثلًا كانت يد حفظ على العين الّتي حكم بها للمدّعي، إذ يغدو بمثابة أجنبيّ يريد إثبات الملك للغائب، فلم تتضمّن دعواه إبطال القضاء السّابق‏.‏

والشّافعيّة لا يرون صحّة دفع الخصومة إلاّ قبل الشّروع في إقامة البيّنة من المدّعي، قال القفّال‏:‏ إذا أقام المدّعي شاهداً على ملكيّته للعين، ثمّ قبل إكمال الشّهادة دفع المدّعى عليه بأنّ العين ليست ملكه، وإنّما هي لزوجته مثلاً لم يقبل منه هذا الدّفع، وطلب من المدّعي إكمال الشّهادة، حتّى إذا أتمّها بشروطها قضي له بالمدّعى به، وللزّوجة بعد ذلك أن ترفع دعوى عليه بالعين الّتي قضي له بها، فمنع من إبداء الدّفع بعد الشّروع في إقامة البيّنة، لأنّه مقصّر لسكوته إلى هذا الوقت‏.‏

والأصل في الدّفع أن يكون من المدّعى عليه، سواء أكان مدّعىً عليه في الدّعوى الأصليّة أم كان في دفعها، إذ من المقرّر عند الفقهاء أنّ الدّفع نفسه دعوى يصبح فيها المدّعي مدّعًى عليه، والمدّعى عليه في الدّعوى الأصليّة مدّعياً في الدّفع، فيكون للمدّعي الّذي انقلب مدّعًى عليه في الدّفع أن يدفع الدّفع الموجّه إليه‏.‏

ولكنّه يسمع من غير المدّعى عليه إذا تعدّى إليه الحكم على فرض صدوره، كما لو ادّعى رجل ديناً على مورث وخاصم أحد الورثة، وأثبته بالبيّنة، كان لغير المخاصم من الورثة دفع هذه الدّعوى، لأنّ أحد الورثة ينتصب خصماً عن الجميع بالنّسبة للتّركة، فالحكم يتعدّى إلى غير الوارث المخاصم، فيكون له الحقّ في دفعه‏.‏

68 - هذا، ويشترط في الدّفع ما يشترط في الدّعوى، لأنّه نوع منها، فإن كان صحيحاً ترتّب عليه من الآثار ما يترتّب على الدّعوى الصّحيحة، فإذا عجز الدّافع عن إثبات دفعه بوسائل الإثبات الشّرعيّة، وطلب يمين المدّعي حلف المدّعي، فإن نكل هذا عن اليمين ثبت الدّفع عند من يقول بالنّكول، وأمّا عند الآخرين فيحلف الدّافع يمين الرّدّ، فإن فعل ثبت الدّفع واندفعت الدّعوى، وأمّا إذا حلف المدّعي عادت دعواه الأصليّة‏.‏

ثمّ ينظر بعد ذلك في طبيعة الدّفع، فقد يكون متضمّناً للإقرار بالمدّعى به، كما لو ادّعى شخص على آخر بدين معيّن، فدفع المدّعى عليه قائلاً‏:‏ إنّ المدّعي كان أبرأني من المبلغ المذكور، وعجز عن إثبات الإبراء، وحلف المدّعي على عدمه، فإنّ المدّعي يستحقّ ما ادّعى به من غير أن يكلّف بيّنةً أخرى، لأنّ المدّعى عليه بدفعه قد أقرّ أنّه كان مديناً بالمبلغ المدّعى، والأصل بقاء اشتغال ذمّته إلى أن يثبت العكس، وهذا لم يثبت، فيحكم للمدّعي بالمبلغ الّذي يطالب به‏.‏ وقد لا يكون الدّفع متضمّناً إقرار الدّافع بالحقّ المدّعى، كما في صور دفع الخصومة الّتي تقدّم بعضها‏.‏ وتفصيله في‏:‏ ‏(‏إقرار، وإنكار، ونكول‏)‏‏.‏

انتهاء الدّعوى

69 - تنتهي الدّعوى غالباً بصدور حكم في موضوعها يحسم النّزاع، بحيث لا تقبل بعد ذلك إثارته، ولكنّها قد تنتهي بعارض من العوارض يضع حدّاً للخصومة قبل وصولها إلى تلك النّهاية‏.‏

أمّا الحكم فقد عرّفه بعض الفقهاء بأنّه فصل الخصومة‏.‏ ويشترط لصحّته‏:‏ أن تتقدّمه خصومة ودعوى صحيحة، وأن يكون بصيغة الإلزام، وأن يكون واضحاً بحيث يعيّن فيه ما يحكم به ومن يحكم له بصورة واضحة، وشروط أخرى مختلف فيهما بين الفقهاء، وينظر تفصيلها وتفصيل أنواع الحكم وأثره في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

وأمّا العوارض الّتي تنتهي الدّعوى قبل صدور حكم فيها، فإنّه بالرّغم من أنّ الفقهاء لم يعنوا بحصرها، إلاّ أنّه يمكن استنتاجها من القواعد والأصول الّتي اعتمدوا عليها في التّقاضي ونظر الدّعاوى، ومن بعض الفروع الفقهيّة الّتي ذكروها‏:‏

أ - بناءً على تعريف المدّعي بأنّه من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها، فإنّ الدّعوى تنتهي بتنازل المدّعي عنها بإرادته، قال الباجوريّ‏:‏ ‏"‏ إنّ مشيئة المدّعي لا تتقيّد بمجلس الحكم، فله إمهال المدّعى عليه إلى الأبد بل له الانصراف وترك الخصومة بالكلّيّة ‏"‏‏.‏

ب - وبناءً على ما تقدّم من شروط الدّعوى فإنّها تنتهي إذا طرأ ما يجعل بعض تلك الشّروط متخلّفاً، كما لو أضحى المدّعي لا مصلحة له في متابعة السّير في الدّعوى والخصومة‏.‏

وقد تقدّم أنّ كون الدّعوى مفيدةً شرط في صحّتها، ويمكن حدوث ذلك في بعض الصّور منها‏:‏ أن يتوفّى الصّغير المتنازع على حضانته، فيصبح الاستمرار في الدّعوى غير مفيد للمدّعي، ومنها أن يتوفّى الزّوج الّذي تطلب الزّوجة الحكم بتطليقها منه، حيث تنتفي المصلحة في استمرار نظر الدّعوى‏.‏

غير أنّه يجدر بالملاحظة في هذا المقام أنّ المدّعي الأصليّ في الدّعوى قد يصبح في مركز المدّعى عليه إذا تقدّم المدّعى عليه الأصليّ بدفع صحيح للدّعوى الأصليّة، ولذلك فإنّ القاعدة السّابقة تقتضي أن لا يسمح للمدّعي الأصليّ أن يترك دعواه إذا كان المدّعى عليه قد أبدى دفعاً لهذه الدّعوى إلاّ إذا تراضياً على ذلك‏.‏

وكذلك تنتهي الدّعوى إذا انتهى التّنازع في الحقّ المطلوب قبل صدور حكم في موضوع الدّعوى، كما لو تصالح الخصوم على الحقّ المدّعى‏.‏