فصل: قيام ليالي العشر من ذي الحجة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


قَوَادِح

التعريف

1 - القوادح في اللّغة جمع قادح‏:‏ يقال قدح الرجل يقدحه قدحاً إذا عابه بالطعن في نسبه أو عدالته‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ الفقهيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليّين قال العضد‏:‏ هي في الحقيقة اعتراضات على الدليل الدالّ على العلّية‏.‏

الحكم الإجماليّ

ما ترد عليه القوادح

2 - لا ترد القوادح على كلّ قياس ‏;‏ لأنّ من الأقيسة ما لا ترد عليه كالقياس مع عدم النص أو الإجماع، فلا يتجه عليه فساد الاعتبار إلا ممن ينكر القياس أصلاً‏.‏

تعدّد القوادح

3 - القوادح متعدّدة وقد اختلف الأصوليّون في عددها‏:‏

ومنها‏:‏ تخلّف الحكم عن العلة بأن وجدت العلة في صورة مثلاً بدون الحكم‏.‏

ومنها‏:‏ العكس‏:‏ وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة‏.‏

ومنها‏:‏ عدم التأثير‏:‏ وهو أن لا يكون بين الوصف والحكم مناسبة‏.‏

ومنها‏:‏ القلب‏:‏ وهو دعوى المعترض أنّ ما يستدلّ به المستدلّ في المسألة المتنازع فيها على ذلك الوجه عليه لا له إن صح ذلك المستدلّ به‏.‏

ومنها‏:‏ القول بالموجب وهو‏:‏ تسليم دليل المستدلّ مع بقاء محلّ النّزاع، كأن يقول المستدلّ في القصاص بالقتل بالمثقل‏:‏ قتل بما يقتل غالباً فلا ينافي القصاص، فيسلّم المعترض بعدم المنافاة بين القتل بالمثقل والقصاص، ويقول‏:‏ ولكن لم قلت إنّه يقتضي القصاص وهو محلّ النّزاع‏.‏

والتفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

قوادح العدالة

4 - من قوادح العدالة ما يأتي‏:‏

أ - الفسق فلا تقبل الشهادة من فاسق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏ والفاسق ليس بمرضيّ‏.‏

ب - عدم المروءة‏:‏ وهي سقوط الهمة، وعدم الترفّع عن الدنايا، فلا يقبل شهادة من لا مروءة له ‏;‏ لأنّه قد لا يترفع عن الكذب‏.‏

ج - عدم النّطق‏:‏ فلا يقبل شهادة الأبكم‏.‏

د - التّهمة‏:‏ فلا يقبل شهادة من يتهم بجرّ نفع، أو دفع ضرر كأن يشهد لأصله،أو فرعه‏.‏

وقال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ المداومة على ترك السّنن الراتبة ومستحبات الصلاة تقدح في الشهادة لتهاون مرتكبها بالدّين وإشعاره بقلة مبالاته بالمهمات‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏عدالة ف / 17 وشهادة ف / 22‏)‏ وما بعدها‏.‏

قَوَاعِد

التعريف

1 - القواعد لغةً جمع قاعدة وهي أساس الشيء وأصله‏.‏

فقواعد البناء أساسه الذي يعتمده، قال الزجاج‏:‏ القواعد أساطين البناء التي تعمّده ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ‏}‏‏.‏

والقواعد من النّساء العجز اللواتي قعدن عن التصرّف من أجل السّنّ وقعدن عن الولد والمحيض‏.‏

وفي الاصطلاح يطلق الفقهاء القواعد على معان منها‏:‏

القواعد الفقهية، والقاعدة الفقهية قضية كلّية منطبقة على جميع جزئياتها، وقال الحمويّ‏:‏ هي حكم أكثريّ لا كلّيّ ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه، كما يطلق الفقهاء القواعد من النّساء على المرأة التي قعدت عن الحيض والزواج من أجل السّنّ‏.‏

ويطلق الفقهاء قواعد البيت على أسسه التي يقوم عليها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الأصول‏:‏

2 - الأصول في اللّغة جمع أصل، وهو ما ينبني عليه غيره، أو هو ما يفتقر إليه ولا يفتقر هو إلى غيره‏.‏

والأصل في الشرع‏:‏ عبارة عما يبنى عليه غيره ولا يبنى هو على غيره أو هو ما يثبت حكمه بنفسه ويبنى عليه غيره‏.‏

والصّلة بين الأصول وبين القواعد أنّ القاعدة الكلّية أصل لجزئياتها‏.‏

أولاً‏:‏ القواعد الفقهية

3 - أورد العلماء قواعد كلّيةً للفقه متفق عليها ترجع إليها مسائل الفقه في الجملة ويندرج تحتها ما لا ينحصر من الصّور الجزئية، ومن هذه القواعد ما يلي‏:‏

أ - الأمور بمقاصدها‏:‏

وقد استخرج الفقهاء من هذه القاعدة أحكاماً منها‏:‏ أنّ الشيء الواحد يتصف بالحلّ والحرمة باعتبار ما قصد به‏.‏ فمثلاً أخذ اللّقطة بقصد حفظها وردّها إلى أصحابها جائز، أما أخذها بقصد الاستيلاء عليها وتملّكها فلا يجوز بل يكون الآخذ غاصباً آثماً أو إلى غير ذلك‏.‏

ب - اليقين لا يزول بالشكّ‏:‏

قال السّيوطيّ‏:‏ هذه القاعدة يتفرع عليها مسائل من الطهارة والعبادات والطلاق وإنكار المرأة وصول النفقة إليها واختلاف الزوجين في التمكين من الوطء والسّكوت والردّ، واختلاف المتبايعين ودعوى المطلقة الحمل وغير ذلك‏.‏

والتفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

ثانياً‏:‏ القواعد من النّساء

4 - قال بعض الفقهاء‏:‏ يجوز النظر إلى ما يظهر غالباً من المرأة العجوز التي لا يشتهى مثلها كما يجوز لها أن تضع الجلباب والخمار بشرط أن لا تكون مظهرةً لما يتطلع إليه الرّجال منها، ولا متعرّضةً بالتزيّن للنظر إليها، ولكن خير لها أن تستعف بالتستّر الكامل كالشابة‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ إنّما خص القواعد من النّساء بذلك لانصراف الأنفس عنهنّ، إذ لا مذهب للرّجال فيهنّ فأبيح لهنّ ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهنّ كلفة التحفّظ المتعب لهنّ، ودليل ما ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

والتفصيل في ‏(‏عجوز ف / 5‏)‏‏.‏

قِوامة

التعريف

1 - القِوامة في اللّغة من قام على الشيء يقوم قياماً‏:‏ أي حافظ عليه وراعى مصالحه، ومن ذلك القيّم وهو الذي يقوم على شأن شيء ويليه ويصلحه، والقوّام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد‏.‏

قال البغويّ‏:‏ القوام والقيّم بمعنى واحد، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب‏.‏

وبتتبّع عبارات الفقهاء يتبين أنّهم يطلقون لفظ القوامة على المعاني الآتية‏:‏

أ - ولاية يفوّضها القاضي إلى شخص كبير راشد بأن يتصرف لمصلحة القاصر في تدبير شؤونه المالية ‏(‏ر‏:‏ قيّم‏)‏‏.‏

وكثيراً ما يسمّي الفقهاء القيّم بهذا المعنى وصي القاضي، ويسمّي المالكية القيّم مقدم القاضي‏.‏

ب - ولاية يفوّض بموجبها صاحبها بحفظ المال الموقوف والعمل على إبقائه صالحاً نامياً بحسب شرط الواقف‏.‏

ج - ولاية يفوَّض بموجبها الزوج بتدبير شؤون زوجته وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز‏.‏

ويستعمل الفقهاء القيّم والناظر والمتولّي في باب الوقف بمعنىً واحد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإيصاء‏:‏

2 - الإيصاء في اللّغة مصدر أوصى، يقال أوصى فلان بكذا يوصي إيصاءً، والاسم الوصاية ‏"‏ بفتح الواو وكسرها ‏"‏ وهو أن يعهد إلى غيره في القيام بأمر من الأمور، سواء أكان القيام بذلك الأمر في حال حياة الطالب أم كان بعد وفاته‏.‏

وأما في الاصطلاح فالإيصاء بمعنى الوصية، وعند بعض الفقهاء هو إقامة الإنسان غيره مقامه بعد وفاته في تصرّف من التصرّفات، أو في تدبير شؤون أولاده الصّغار ورعايتهم، وذلك الشخص المقام يسمى الوصي‏.‏

أما إقامة غيره مقامه في القيام بأمر في حال حياته فلا يقال له في الاصطلاح إيصاء، وإنّما يقال له وكالة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إيصاء ف / 1‏)‏‏.‏

وفرق بعض الفقهاء بين الوصيّ والقيّم بأنّ القيّم من فوّض إليه حفظ المال والقيام عليه وجمع الغلات دون التصرّف، والوصيّ من فوّض إليه التصرّف والحفظ جميعاً فيكون بمنزلة الوكيل بالتصرّف والحفظ جميعاً، وعقب على ذلك ابن مازه بقوله‏:‏ لكنّ هذا الفرق كان من قبل، أما في زماننا فإنّه لا فرق بين القيّم والوصيّ‏.‏

ب - الوكالة‏:‏

3 - الوكالة‏:‏ إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرّف مملوك قابل للنّيابة ليفعله في حال حياته، فهي تشبه القوامة من حيث إنّ كلّاً منهما فيه تفويض للغير في القيام ببعض الأمور نيابةً عمن فوضه إلا أنّ القوامة تختلف عن الوكالة في أنّ التفويض في القوامة يكون من قبل القاضي غالباً، أما الوكالة فلا يشترط أن يكون التفويض فيها من قبل القاضي‏.‏

ج - الولاية‏:‏

4 - الولاية في اللّغة‏:‏ المحبة والنّصرة‏.‏

وفي الاصطلاح تنفيذ القول على الغير، ومنه ولاية الوصيّ وقيّم الوقف وولاية وجوب أداء صدقة الفطر‏.‏

والولاية أعمّ من القوامة‏.‏

أحكام القوامة

للقوامة أحكام منها‏:‏

القوامة على المحجور عليهم

5 - تثبت القوامة على الصغير، والمجنون، والمعتوه، والسفيه، وذي الغفلة‏.‏

واختلف الفقهاء فيمن له الولاية على أموالهم، وقدم كلّ منهم من رآه أشفق على المحجور عليه وأحرص على مصلحته‏.‏

والتفصيل في ‏(‏ولاية، ووصيّ، وقيّم ف / 4، وإيصاء ف / 9، 11‏)‏‏.‏

نصب القيّم على مال المفقود

6 - إذا غاب الرجل فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحيّ هو أم ميّت نصب القاضي من يحفظ ماله، ويقوم عليه ويستوفي حقه ‏;‏ لأنّ القاضي نصّب ناظراً لكلّ عاجز عن النظر لنفسه، والمفقود عاجز عنه، فصار كالصبيّ والمجنون، وفي نصب ما ذكر نظر له فيفعل‏.‏ وللتفصيل ‏(‏ر‏:‏ مفقود‏)‏‏.‏

القوامة على الوقف

7 - يرى الفقهاء أنّ حق تولية أمر الوقف في الأصل للواقف فإن شرطها لنفسه أو لغيره اتّبع شرطه‏.‏

وأما إذا لم يشترط الواقف الولاية لأحد أو شرطها فمات المشروط له فاختلف الفقهاء في ذلك‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

قوامة الزوج على زوجته

8 - الزوج قيّم على زوجته، والمقصود أنّ الزوج أمين عليها يتولى أمرها ويصلحها في حالها، ويقوم عليها آمراً ناهياً كما يقوم الوالي على رعيته‏.‏

قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء‏}‏، أي الرجل قيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها مؤدّبها إذا اعوجت‏.‏

وقال الجصاص في تفسيره للآية‏:‏ قيامهم عليهنّ بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله الرجل على المرأة في العقل والرأي، وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها، فدلت الآية على معان‏:‏

أحدها‏:‏ تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة، وأنّه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها، وهذا يدلّ على أنّ له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج، وأنّ عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصيةً، ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ‏}‏‏.‏ وقال الزمخشريّ في تعليقه على الآية‏:‏ وفيه دليل على أنّ الولاية تستحقّ بالفضل لا بالتغلّب والاستطالة والقهر‏.‏

أسباب القوامة

9 - ذكر العلماء أنّ القوامة جعلت على المرأة للرجل لثلاثة أسباب‏:‏

الأول‏:‏ كمال العقل والتمييز، قال القرطبيّ‏:‏ إنّ الرّجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير فجعل لهم حقّ القيام عليهنّ لذلك‏.‏

الثاني‏:‏ كمال الدّين‏.‏

الثالث‏:‏ بذل المال من الصداق والنفقة، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى‏:‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ‏}‏ أي من المهور والنّفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنّ في كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها، فناسب أن يكون قيّماً عليها‏.‏

‏(‏ر‏:‏ زوج ف / 2 - 11 وزوجة ف / 14 - 16‏)‏‏.‏

مقتضى قوامة الرجل على المرأة

10 - مقتضى قوامة الرجل على المرأة أنّ على الرجل أن يبذل المهر والنفقة ويحسن العشرة ويحجب زوجته ويأمرها بطاعة الله وينهي إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام، وعليها الحفظ لماله والإحسان إلى أهله والالتزام لأمره وقبول قوله في الطاعات‏.‏

قَوَد

انظر‏:‏ قصاص‏.‏

قَوْل

التعريف

1 - القول في اللّغة هو‏:‏ الكلام، أو كلّ لفظ نطق به اللّسان تامّاً أو ناقصاً‏.‏

ويستعمل القول مجازاً للدلالة على الحال مثل‏:‏ وقالت له العينان‏:‏ سمعاً وطاعةً‏.‏

والقول هو القيل والمقالة والمذهب‏.‏

وجمع القول‏:‏ أقوال وأقاويل‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى‏.‏

اللّغويّ الحكم التكليفيّ

2 - أجمعت الأمة على أنّ القول منوط بقائله إذا كان مكلفاً، إن خيراً وإن شرّاً، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏، وأنّ قول الكفر من مكلف غير مكره كفر وقال الفقهاء‏:‏ إنّ القول قد يكون واجباً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون حراماً كشهادة الزّور والغيبة ونحوهما، وقد يكون مندوباً كالإكثار من الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد يكون مكروهاً كالبسملة على المكروه، وقد يكون مباحاً في غير ما سبق‏.‏

العقود منوطة بالقول غالباً

3 - لما كانت الأقوال تعريفاً ودلالةً على ما في نفوس الناس جعل الشارع للعقود والمعاملات صيغاً لا تتمّ إلا بالقول بها ‏;‏ لأنّ هذه العقود لا تصحّ إلا بالرّضا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏، ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما البيع عن تراض»، والرّضا أمر خفيّ لا يطلع عليه، فنيط الحكم بسبب ظاهر وهو القول - وهو الإيجاب والقبول -‏.‏

قبول القول في الدعوى

4 - اتفق الفقهاء على أنّ قول المدعي في الدعوى يقبل بالبينة، وعلى أنّ قول المنكر يقبل باليمين لحديث‏:‏ «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏دعوى ف / 12‏)‏‏.‏

وقال السّيوطيّ‏:‏ يقبل القول بلا يمين في فروع‏:‏

منها‏:‏ من عليه الزكاة وادعى مسقطاً لها كأن يقول مثلاً‏:‏ إنّ هذا النّتاج بعد الحول أو من غير النّصاب ‏;‏ لأنّ الأصل براءته‏.‏

ومنها‏:‏ من اكترى من يحجّ عن أبيه مثلاً، فقال الأجير‏:‏ حججت فيقبل قوله ولا يمين عليه ولا بينة ‏;‏ لأنّ تصحيح ذلك بالبينة لا يمكن، وكذا لو قال للأجير‏:‏ قد جامعت في إحرامك فأفسدته، وأنكر الأجير قبل قول الأجير، وكذا لو ادعى أنّه جاوز الميقات بغير إحرام أو قتل صيداً في إحرامه ونحو ذلك قبل قول الأجير ‏;‏ لأنّه أمين في كلّ ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ الأب أو الجدّ إذا طلب الإعفاف وادعى الحاجة إلى النّكاح قبل قوله بلا يمين إذ لا يليق بمنصبه تحليفه في مثل ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ المطلقة ثلاثاً إذا نكحت زوجاً آخر وادعت أنّه أصابها، فيقبل قولها في حلّها للزوج الأول‏.‏

ومنها‏:‏ العنّين إذا ادعى الوطء قبل قوله لدفع الفسخ‏.‏

ومنها‏:‏ المتزوّجة بشرط البكارة إذا ادعت زوال البكارة بوطئه قبل قولها لعدم الفسخ، ويقبل قول الزوج لعدم تمام المهر‏.‏

ومنها‏:‏ الوكيل إذا ادعى قبض الثمن من المشتري وتسليمه إلى البائع يقبل قوله حتى لا يلزمه الغرم‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ المودع أمين والقول قوله فيما يدعيه من تلف الوديعة بغير خلاف، قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المودع إذا أحرز الوديعة ثم ذكر أنّها ضاعت أنّ القول قوله‏.‏

وتفاصيل هذه المواضيع في مصطلحاتها‏.‏

قَوْل الصحابيّ

التعريف

1 - القول في اللّغة‏:‏ كلّ لفظ نطق به اللّسان، تامّاً كان أو ناقصاً‏.‏

ويطلق على الآراء والاعتقادات، يقال‏:‏ هذا قول فلان في المسألة أي رأيه فيها، وسبب تسمية الآراء أقوالاً‏:‏ أنّ الآراء تخفى فلا تعرف إلا بالقول أو ما يقوم مقامه من شاهد الحال، فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سمّيت قولاً‏.‏

والقول اصطلاحاً لا يخرج عن معناه اللّغويّ‏.‏

والصحابيّ في اللّغة مشتقّ من الصّحبة وهي الرّؤية والمجالسة والمعاشرة‏.‏

والصحابيّ اصطلاحاً‏:‏ من لقي النّبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام‏.‏ ويؤخذ مما سبق أنّ قول الصحابيّ‏:‏ هو ما نقل عمن صحب النّبي صلى الله عليه وسلم من قول لم يرفعه إليه ولم يكن له حكم الرفع‏.‏

الأحكام المتعلّقة بقول الصحابيّ

2 - لا خلاف بين الأصوليّين في أنّ قول الصحابيّ في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابيّ آخر، مجتهداً كان أو إماماً، أو حاكماً أو مفتياً، وإنّما الخلاف المشهور في حجّيته على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين، وفيه أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنّه ليس بحجة مطلقاً كغيره من المجتهدين، وهو قول الشافعيّ في الجديد، وإليه ذهب جمهور الأصوليّين من الشافعية ويومئ إليه أحمد، واختاره أبو الخطاب من أصحابه، وقال عبد الوهاب من المالكية‏:‏ إنّه الصحيح الذي يقتضيه مذهب مالك ‏;‏ لأنّه نص على وجوب الاجتهاد واتّباع ما يؤدّيه إليه صحيح النظر، فقال‏:‏ ليس في اختلاف الصحابة سعة، إنّما هو‏:‏ خطأ أو صواب‏.‏

الثاني‏:‏ أنّه حجة شرعية مقدمة على القياس وإليه ذهب أكثر الحنفية، ونقل عن مالك وهو القول القديم للشافعيّ، وقال أبو سعيد البردعيّ‏:‏ تقليد الصحابيّ واجب، يترك به القياس، وأدركنا مشايخنا عليه، وقال محمد بن الحسن‏:‏ ليس عن أصحابنا المتقدّمين مذهب ثابت، والمرويّ عن أبي حنيفة‏:‏ إذا اجتمعت الصحابة سلمنا لهم، وإذا جاء التابعون زاحمناهم ‏;‏ لأنّه كان منهم - فلا يثبت لهم بدون إجماع‏.‏

الثالث‏:‏ أنّه حجة إذا انضم إليه القياس، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابيّ، وهو ظاهر قول الشافعيّ الجديد، ونص على ذلك في الرّسالة‏.‏ وقال‏:‏ وأقوال أصحاب النبيّ عليه السلام إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السّنّة أو الإجماع، أو كان أصح في القياس‏.‏

وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له موافقةً ولا خلافاً صرت إلى اتّباع قول واحدهم‏.‏ إذا لم أجد كتاباً، ولا سنّةً ولا إجماعاً ولا شيئاً يحكم بحكمه أو وجد معه قياس‏.‏ الرابع‏:‏ أنّه حجة إذا خالف القياس ‏;‏ لأنّه لا محمل لمخالفته إلا بالتوقيف، فيعلم أنّه ما قاله إلا توقيفاً، وقال ابن برهان في الوجيز‏:‏ وهذا هو الحقّ المبين، قال‏:‏ ومسائل أبي حنيفة والشافعيّ تدلّ عليه‏.‏

والتفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

قُوَّة

التعريف

1 - القوة في اللّغة‏:‏ الطاقة الواحدة من طاقات الحبل، أو الوَتَر أو الخَصْلة الواحدة منه، ففي الحديث‏:‏ «ليُنْقَضَنَّ الإسلام عروةً عروةً كما ينقض الحبل قوّةً قوّةً»، ثم اشتهر فيما يقابل الضعف، يقال‏:‏ قوي الرجل والضعيف يقوى قوةً، والقوى جمع قوة، مثل غرفة وغرف، ويكون ذلك في الجسم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى‏}‏، كما يكون في الأمور النفسية المعنوية‏:‏ كالعقل ونحوه، ومنه قوله تعالى لنبيّه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي خذ الألواح بقوة في دينك وحجتك، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ‏}‏ أي بجدّ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستطاعة‏:‏

2 - قال الجوهريّ‏:‏ الاستطاعة‏:‏ الطاقة، وقال ابن برّيّ‏:‏ هو كما ذكر، بَيْدَ أنّ الاستطاعة للإنسان خاصةً، والإطاقة عامة، يقال‏:‏ جمل مطيق لحِمله، ولا يقال‏:‏ جمل مستطيع‏.‏

والصّلة بين القوة وبين الاستطاعة أنّها أخصّ من القوة‏.‏

ب - القدرة‏:‏

3 - القدرة لغةً‏:‏ القوة على الشيء والتمكّن منه، وهي عبارة عن أدنى قوة يتمكن بها المأمور من أداء ما لزمه بدنِيّاً كان أم ماليّاً‏.‏

والصّلة بين القوة والقدرة أنّها درجة من درجات القوة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالقوة

فضل القوة

4 - القوة من الخصال الفطرية يودعها الله من يشاء من عباده ويفاضل فيها بين الناس كما يفاضل بينهم في الرّزق وغيره من عطائه، وهي نعمة عظيمة وفضل كبير من الله لمن عرف قدرها وأحسن استعمالها شكراً لله عليها لأنّها الأداة اللازمة لجلب الخير للأمة ودفع الشرّ عنها، وإزالة المنكر، والأمر بالمعروف، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يكون قويّاً في نفسه ولجماعة المسلمين أن يكونوا أقوياء كذلك‏.‏

جاء في الأثر الصحيح‏:‏ «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير»‏.‏

الأخذ بأسباب القوة

5 - الأخذ بأسباب القوة فريضة على المسلمين على اختلاف صنوفها وألوانها، وأسبابها، مادّيةً كانت أو معنويةً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ‏}‏ والخطاب لكافة المسلمين ‏;‏ لأنّ المأمور به وظيفة كافتهم، وتشمل كل ما يطيقونه مما يفيد في الحرب من الوسائل مادّيّاً كان كالسّلاح والإنفاق وتدريب المجاهدين في فنون الحرب، وإتقان استعمال أنواع السّلاح المختلفة، لقوله‏:‏ ‏{‏مَّا اسْتَطَعْتُم‏}‏ أو معنويّاً، كالتصافي، واتّفاق الكلمة والثّقة بالله وعدم خوض الحرب بغير إذن الإمام، والاختيار لإمارة الجيش من كان ثقةً في دينه، والتوصية بتقوى الله، وأخذ البيعة عليهم بالثبات على الجهاد وعدم الفرار، وغير ذلك مما يؤدّي إلى القوة البدنية والمعنوية‏.‏

فأخذ أسباب القوة بقسميها فرض على المسلمين، بالأمر القرآنيّ‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ‏}‏ وقد ثبت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مارسوا كل عمل مشروع متاح لهم في بيئتهم يدلّ على علوّ الهمة وكمال الرّجولة، ويؤدّي إلى قوة الجسم ودفع الكسل والميل إلى الدعة‏.‏

والتفصيل‏:‏ في مصطلح ‏(‏عدة ف / 2 - 3‏)‏‏.‏

اشتراط القوة فيمن يتقلد إمارةً أو يوكل إليه أمر قاصر ونحوه

6 - يشترط فيمن يُقَلد إمارةً أو يوكل إليه أمور القصر، كالأيتام، والمجانين وأموال الوقف‏:‏ القدرة على القيام بها، ولا يجوز تقليد من لا يقوى على النّهوض بها، كما لا يجوز لمن لا يعلم في نفسه القدرة على القيام بها قبولها، فعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال‏:‏ «قلت يا رسول الله ألا تستعملني‏؟‏ قال‏:‏ فضرب بيده على منكبي، ثم قال‏:‏ يا أبا ذرّ‏:‏ إنّك ضعيف، وإنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة‏:‏ خزي وندامة، إلا من أخذها بحقّها، وأدى الذي عليه فيها»‏.‏

قَيْء

التعريف

1 - القيء لغةً‏:‏ مصدر قاء، يقال قاء الرجل ما أكله قيئاً من باب باع، ثم أطلق المصدر على الطعام المقذوف، واستقاء استقاءةً، وتقيأ‏:‏ تكلف القيء، ويتعدى بالتضعيف فيقال‏:‏ قيّأه غيره‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

القلس‏:‏

2 - القلَس لغةً‏:‏ القذف وبابه ضرب، وقال الخليل‏:‏ القلس‏:‏ ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والصّلة بينهما‏:‏ أنّ القلس دون القيء‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالقيء

للقيء أحكام منها‏:‏

طهارة القيء ونجاسته

3 - اختلفت الآراء في طهارة القيء ونجاسته‏.‏

فيقول الحنفية والشافعية والحنابلة بنجاسته ولكلّ منهم تفصيله، وبذلك يقول المالكية في المتغيّر عن حال الطعام ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة‏.‏

قال الحنفية‏:‏ إنّ نجاسته مغلظة ‏;‏ لأنّ كل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة ولا خلاف عندهم في ذلك، واستدلّوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يا عمار إنّما يغسل الثوب من خمس‏:‏ من الغائط، والبول، والقيء، والدم، والمنيّ»، وهذا إذا كان ملء الفم، أما ما دونه فطاهر على ما هو المختار من قول أبي يوسف، وفي فتاوى نجم الدّين النّسفيّ‏:‏ صبيّ ارتضع ثم قاء فأصاب ثياب الأمّ‏:‏ إن كان ملء الفم فنجس، فإذا زاد على قدر الدّرهم منع الصلاة في هذا الثوب، وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ أنّه لا يمنع ما لم يفحش ‏;‏ لأنّه لم يتغير من كلّ وجه وهو الصحيح‏.‏

والثدي إذا قاء عليه الولد، ثم رضعه حتى زال أثر القيء، طهر حتى لو صلت صحت صلاتها‏.‏

وعند الشافعية‏:‏ أنّه نجس، وإن لم يتغير حيث وصل إلى المعدة، ولو ماءً وعاد حالاً بلا تغيّر ‏;‏ لأنّ شأن المعدة الإحالة، فهو طعام استحال في الجوف إلى النّتن والفساد، فكان نجساً كالغائط، واستدلّوا لذلك بالحديث السابق، وقالوا‏:‏ إنّه لو ابتلي شخص بالقيء عفي عنه في الثوب والبدن وإن كثر كدم البراغيث‏.‏

والمراد بالابتلاء بذلك‏:‏ أن يكثر وجوده بحيث يقلّ خلوّه منه، واستثنوا من القيء عسل النّحل فقالوا‏:‏ إنّه طاهر لا نجس معفوّ عنه‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ أنّه نجس ‏;‏ لأنّه طعام استحال في الجوف إلى الفساد أشبه الغائط‏.‏

واختلفت الرّواية عندهم في العفو عن يسير القيء فروي عن أحمد أنّه قال‏:‏ هو عندي بمنزلة الدم، وذلك لأنّه خارج من الإنسان نجس من غير السبيل فأشبه الدم، وعنه أنّه لا يعفى عن يسير شيء من ذلك ‏;‏ لأنّ الأصل أن لا يعفى عن شيء من النّجاسة خولف في الدم وما تولد منه فيبقى فيما عداه على الأصل‏.‏

وعند المالكية‏:‏ أنّ النّجس من القيء هو المتغيّر عن حال الطعام ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة، ويجب غسله عن الثوب والجسد والمكان، فإن كان تغيّره بصفراء أو بلغم ولم يتغير عن حالة الطعام فطاهر‏.‏

فإذا تغير بحموضة أو نحوها فهو نجس وإن لم يشابه أحد أوصاف العذرة كما هو ظاهر المدونة واختاره سند والباجيّ وابن بشير وابن شاس وابن الحاجب خلافاً للتّونسيّ وابن رشد وعياض حيث قالوا‏:‏ لا ينجس القيء إلا إذا شابه أحد أوصاف العذرة‏.‏

أثر القيء في الوضوء

4 - اختلف الفقهاء في نقض الوضوء بالقيء‏:‏

فذهب المالكية والشافعية إلى أنّه لا ينقضه‏.‏

وعند الحنفية أنّ القيء ينقض الوضوء متى كان ملء الفم، سواء كان قيء طعام أو ماء وإن لم يتغير‏.‏

وحدّ ملئه‏:‏ أن لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلّف ‏"‏ أي مشقة ‏"‏ على الأصحّ من التفاسير فيه، وقيل حدّ ملئه‏:‏ أن يمنع الكلام، وذلك لتنجّسه بما في قعر المعدة وهو مذهب العشرة المبشرين بالجنّة ‏;‏ ولأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم «قاء فتوضأ» ‏;‏ ولأنّ خروج النّجاسة مؤثّر في زوال الطهارة‏.‏

فإذا لم يملأ الفم لا ينقض الوضوء ‏;‏ لأنّه من أعلى المعدة، وكذا لا ينقضه قيء بلغم ولو كان كثيراً لعدم تخلّل النّجاسة فيه وهو طاهر‏.‏

وإن قاء قليلاً قليلاً متفرّقاً ولو جمع تقديراً كان ملء الفم، فأبو يوسف اعتبر اتّحاد المجلس‏;‏ لأنّه جامع للمتفرّقات، ومحمد اعتبر اتّحاد السبب وهو الغثيان ‏;‏ لأنّه دليل على اتّحاده، وهو الأصحّ، وعلى هذا ينقض القيء المتفرّق الوضوء إن كان قدر ملء الفم‏.‏

وعند زفر ينقض قليله كثيره وهما في ذلك سواء ‏;‏ لأنّه لما كان الخارج من غير السبيلين حدثاً بما دل عليه من الدليل وجب أن يستوي فيه القليل والكثير كالخارج من السبيلين، ولقوله‏:‏ «القلس حدث»‏.‏

ولو قاء دماً وهو علق يعتبر فيه ملء الفم ‏;‏ لأنّه سوداء محترقة، وإن كان مائعاً فكذلك عند محمد اعتباراً بسائر أنواعه، وعندهما‏:‏ إن سال بقوة نفسه ينقض الوضوء وإن كان قليلاً ‏;‏ لأنّ المعدة ليست بمحلّ الدم، فيكون من قرحة في الجوف‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ أنّه ينقض الوضوء إن فحش في نفس كلّ أحد بحسبه ‏;‏ لأنّ اعتبار حال الإنسان بما يستفحشه غيره حرج فيكون منفيّاً لما رواه معدان بن طلحة عن أبي الدرداء رضي الله عنه «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال‏:‏ صدق أنا صببت له وضوءه»، ولا ينقض اليسير لقول ابن عباس في الدم‏:‏ إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة‏.‏

وتفصيله في مصطلح ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

أثر القيء في الصلاة

5 - الطهارة في الصلاة شرط من شروط صحتها وما يبطل الطهارة يبطل الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقبل صلاة بغير طهور» فتفسد الصلاة إن فقدت شرطاً من شروط صحتها كالطهارة‏.‏

فعند الحنفية‏:‏ أنّ من سبقه الحدث في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم»، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه وليقدّم من لم يسبق له شيء»، فإن كان منفرداً إن شاء عاد إلى مكانه وإن شاء أتمها في منزله، والمقتدي والإمام يعودان إلا أن يكون الإمام الجديد قد أتم الصلاة فيتخيران، والاستئناف أفضل لخروجه عن الخلاف، ولئلا يفصل بين أفعال الصلاة بأفعال ليست منها، وقيل‏:‏ إن كان إماماً أو مقتدياً فالبناء أولى إحرازاً لفضيلة الجماعة، وإن كان إماماً استخلف لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيّما إمام سبقه الحدث في الصلاة فلينصرف ولينظر رجلاً لم يسبق بشيء فليقدّمه ليصلّي بالناس»، وإنّما يجوز البناء إذا فعل ما لا بد منه كالمشي والاغتراف حتى لو استقى أو غرز دلوه أو وصل إلى نهر فجاوزه إلى غيره فسدت صلاته، وإن سبقه الحدث بعد التشهّد توضأ وسلم ‏;‏ لأنّه لم يبق عليه سوى السلام، وإن تعمد الحدث تمت صلاته ‏;‏ لأنّه لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة، وقد تعذر البناء لمكان التعمّد وإذا لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة تمت صلاته‏.‏

وعند المالكية‏:‏ أنّ من ذرعه قيء طاهر يسير لم يزدرد منه شيئاً لم تبطل صلاته، فإن كان نجساً أو كثيراً أو ازدرد شيئاً منه عمداً بطلت صلاته، وإن ازدرد شيئاً منه نسياناً لم تبطل ويسجد للنّسيان بعد السلام، وإن غلبه ففيه قولان، والقلس كالقيء‏.‏

وذهب الشافعية‏:‏ إلى أنّ من سبقه الحدث ففيه قولان‏:‏ في الجديد تبطل صلاته ‏;‏ لأنّه حدث يبطل الطهارة فأبطل الصلاة كحدث العمد، وقال في القديم‏:‏ لا تبطل صلاته بل ينصرف ويتوضأ ويبني على صلاته، لما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن صلاته وهو في ذلك لا يتكلم» ‏;‏ ولأنّه حدث حصل بغير اختياره فأشبه سلس البول، قال في المجموع‏:‏ لو رعف المصلّي أو قاء أو غلبته نجاسة أخرى جاز له على القديم أن يخرج ويغسل نجاسته ويبني على صلاته بالشّروط السابقة في الحدث نص عليه‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إن كان القيء فاحشاً بطلت صلاته وعليه الإعادة، واختلف الرّواية عند أحمد في يسيره، فروي أنّه قال‏:‏ هو عندي بمنزلة الدم وذلك ‏;‏ لأنّه خارج من الإنسان نجس من غير السبيل فأشبه الدم، وعنه أنّه لا يعفى عن يسير شيء من ذلك ‏;‏ لأنّ الأصل أن لا يعفى عن شيء من النّجاسة‏.‏

أثر القيء في الصوم

6 - اتفق الفقهاء على أنّ الصائم إذا ذرعه القيء ‏"‏ أي غلبه ‏"‏ فلا يبطل صومه لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض»‏.‏ ولو عاد القيء بنفسه بغير صنع الصائم فعند المالكية والشافعية وأبي يوسف من الحنفية يفسد صومه، وعند الحنابلة ومحمد من الحنفية لا يفسد صومه لعدم وجود الصّنع منه‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏صوم / 80 - 81‏)‏‏.‏

قِياس

التعريف

1 - القياس في اللّغة‏:‏ تقدير شيء على مثال شيء، وتسويته به، لذلك سمّي المكيال‏:‏ مقياساً، يقال‏:‏ فلان لا يقاس على فلان‏:‏ لا يساويه‏.‏

أما في الاصطلاح فقد اختلف علماء الأصول فيه، حتى قال إمام الحرمين‏:‏ يتعذر الحدّ الحقيقيّ في القياس ‏;‏ لاشتماله على حقائق مختلفة، كالحكم، والعلة، والفرع والجامع‏.‏ وعرّفه المحقّقون بأنّه‏:‏ مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم، وقيل‏:‏ حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع حكم أو صفة أو نفيهما‏.‏

أركان القياس

2 - لا تتمّ ماهية القياس، إلا بوجود أركانه‏:‏

وهي أربعة‏:‏

أ - الأصل‏:‏ وهو محلّ الحكم المشبه به‏.‏

ب - والفرع‏:‏ وهو المشبه‏.‏

ج - والحكم‏:‏ وهو ما ثبت بالشرع في الأصل كتحريم الخمر‏.‏

د - والعلة‏:‏ وهو الوصف الجامع بين الأصل والفرع‏.‏

أما شروط كلّ ركن من هذه الأركان، وآراء العلماء فيرجع في ذلك إلى الملحق الأصوليّ‏.‏ الأحكام المتعلّقة بالقياس‏:‏

حجّية القياس‏:‏

3 - لا خلاف بين العلماء في أنّ القياس حجة في الأمور الدّنيوية كالأغذية، والأدوية‏.‏

أما القياس الشرعيّ إذا عدم النص والإجماع فقد ذهب جمهور أئمة الصحابة، والتابعين، وجمهور الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ القياس الشرعي أصل من أصول التشريع، يستدلّ به على الأحكام التي لم يرد بها السمع، ونقل عن أحمد‏:‏ لا يستغني أحد عن القياس‏.‏

ما يجري فيه القياس

4 - اختلف العلماء في جريان القياس في بعض الأمور، كالأسباب والكفارات والمقدرات التي لا نص فيها ولا إجماع وغير ذلك‏.‏

فذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الشافعية، وكثير من علماء الأصول، إلى أنّه لا يجري القياس في الأسباب‏.‏

وذهب أكثر الشافعية، إلى أنّه يجري فيها‏.‏

ومعنى القياس في الأسباب أن يجعل الشارع وصفًا سبباً لحكم، فيقاس عليه وصف آخر، فيحكم بكونه سبباً‏.‏

كما اختلفوا في جريانه في الحدود والكفارات، والمقدرات التي لا نص ولا إجماع فيها، فمنعه الحنفية وجوزه غيرهم‏.‏

والتفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

قيافَة

التعريف

1 - القيافة مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه، يقال‏:‏ فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافةً‏.‏ وفي لسان العرب أنّ القائف هو‏:‏ الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للقيافة ومشتقاتها عن المعنى اللّغويّ المتعلّق بتتبّع الأثر ومعرفة الشبه‏.‏

ففي التعريفات للجرجانيّ وفي دستور العلماء أنّ القائف هو الذي يعرف النّسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود، ويعرّفه ابن رشد وابن حجر والصنعانيّ بما لا يبعد عن ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العِيافَة‏:‏

2 - تأتي هذه المادة في اللّغة ويراد بها الكراهة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الضبّ المشويّ الذي لم يأكله‏:‏ «لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»‏.‏

كما يراد بها التردّد على الشيء والقرب منه والحوم عليه، فعافت الطير أي‏:‏ تحوم على الماء، وعافت على الجيف أي‏:‏ تطير حولها تريد الوقوع عليها‏.‏

وتطلق على زجر الطّيور والسوانح، والاعتبار بأسمائها ومساقطها وممرّها وأصواتها‏.‏ قال الأزهريّ‏:‏ العيافة زجر الطير، وهو أن يرى طائراً أو غراباً فيتطير وإن لم ير شيئاً، فقال بالحدس كان عيافةً أيضاً وهذا هو الذي شهر به بنو لهب وبنو أسد‏.‏

وكان العائف هو الكاهن الذي يعمد إلى التضليل، ويدعي الاتّصال بعالم الغيب، وهناك شواهد عديدة على ارتباط العيافة بالكهانة، وهي بهذا تختلف عن القيافة التي لا تعلّق لها بالكهانة، وتقوم على النظر المنطقيّ التجريبيّ حسبما يتضح من شروط العمل بها‏.‏

ب - الفراسة‏:‏

3 - الفراسة‏:‏ اسم فعله تفرس كتوسم وزناً ومعنىً، أما الفراسة بفتح الفاء فمصدر الفعل فَرُس يفرس، ومعناها‏:‏ العلم بركوب الخيل وركضها من الفروسية، والفارس‏:‏ الحاذق بما يمارس من الأشياء كلّها، وبها سمّي الرجل فارساً‏.‏

وتطلق الفراسة في الاصطلاح على معنيين‏:‏

أولهما‏:‏ نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، ويستفاد إطلاق الفراسة على هذا النوع من العلامات عند ابن العربيّ من تفسيره للتوسّم بأنّه العلامة التي يستدلّ بها على مطلوب غيرها، وهي الفراسة‏.‏‏.‏‏.‏ وذلك استدلال بالعلامة، ومن العلامات ما يبدو لكلّ أحد بأول نظر، ومنها ما هو خفيّ لا يبدو لكلّ أحد، ولا يدرك ببادئ النظر‏.‏

والثاني‏:‏ ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظنّ والحدس، ولا يُكتسب هذا النوع من الفراسة، وإنّما يكون طبقاً لما ذكره القرطبيّ بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر‏.‏‏.‏‏.‏ وتفريغ القلب من حشو الدّنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدّنيا‏.‏

وتتميز القيافة عن الفراسة من جهة أنّ القائف يقوم بجمع الأدلة ويكشف عنها، مع النظر فيها والموازنة بينها بنوع خبرة لا تتاح إلا بالتعلّم والتمرّس ومداومة النظر والدّراسة، أما التفرّس فيختصّ بإعمال الذكاء الشخصيّ والقدرة الذّهنية الخاصة لوزن الأدلة المتعارضة وتقديرها‏.‏

ويلحق جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة الفراسة بالإلهام والكرامة، ولا يجوز للقاضي الحكم بالفراسة عندهم لهذا‏.‏

ج - القرينة‏:‏

4 - القرينة في اللّغة‏:‏ مأخوذة من المقارنة، وهي المصاحبة، يقال‏:‏ فلان قرين لفلان أي مصاحب له‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ العلامة الدالة على شيء مطلوب‏.‏

والصّلة بين القيافة وبين القرينة أنّ القيافة نوع من القرائن‏.‏

نوعا القيافة

5 - يقسم صاحب كشف الظّنون القيافة إلى قسمين‏:‏

أولهما‏:‏ قيافة الأثر الذي يطلق عليه العيافة كذلك، ويعرف هذا النوع بأنّه‏:‏ علم باحث عن تتبّع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في الطّرق القابلة للأثر‏.‏

أما النوع الثاني فهو قيافة البشر الذي يعرّفه بأنّه‏:‏ علم باحث عن كيفية الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتّحاد في النّسب والولادة وسائر أحوالهما‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالقيافة

أ - إثبات النّسب بالقيافة‏:‏

6 - اختلف الفقهاء في إثبات النّسب بالقيافة إلى رأيين‏:‏

فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى إثبات النّسب بالقيافة، وأجازوا الاعتماد عليها في إثباته عند التنازع وعدم الدليل الأقوى منها، أو عند تعارض الأدلة الأقوى منها‏.‏

واستدلّوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال‏:‏ ألم تري أنّ مُجزَّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال‏:‏ إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض»، وفي سنن أبي داود «أنّهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة ‏;‏ لأنّه ‏"‏ كان أسود شديد السواد مثل القار، وكان زيد أبيض مثل القطن»‏.‏

والحجة فيه‏:‏ أنّ سروره صلى الله عليه وسلم بقول القائف إقرار منه صلى الله عليه وسلم بجواز العمل به في إثبات النّسب‏.‏

كما استدلّوا بما روت عائشة رضي الله عنها «أنّ أم سُليم الأنصارية رضي الله عنها، وهي أمّ أنس بن مالك رضي الله عنه قالت‏:‏ يا رسول الله إنّ الله لا يستحيي من الحقّ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم إذا رأت الماء فقالت أمّ سلمة‏:‏ وتحتلم المرأة‏؟‏ فقال‏:‏ تربت يداك، فبم يشبهها ولدها»‏.‏ والاستدلال به‏:‏ أنّ إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك يستلزم أنّه ‏"‏ أي الشبه ‏"‏ مناط شرعيّ، وإلا لما كان للإخبار فائدة يعتدّ بها‏.‏

ومما استدلّوا به أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط - أي‏:‏ يلحق - أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام في حضور الصحابة دون إنكار منهم، وكان يدعو القافة ويعمل بقولهم، فدل هذا على جواز العمل به‏.‏

وكذلك فإنّ أصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النّسب، والشارع متشوّف إلى اتّصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب من شهادة المرأة الواحدة على الولادة والدعوى المجردة مع الإمكان وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافياً في ثبوته‏.‏

7 - وذهب الشافعية والحنابلة وهو رواية ابن وهب عن مالك إلى أنّ القيافة يثبت بها نسب الولد من الزوجة أو الأمة‏.‏

والمشهور من مذهب مالك فيما نقله ابن رشد والقرافيّ والمواق أنّ القافة إنّما يقضى بها في ملك اليمين فقط لا في النّكاح، يقول القرافيّ‏:‏ وإنّما يجيزه مالك في ولد الأمة يطؤها رجلان في طهر واحد، وتأتي بولد يشبه أن يكون منهما، والمشهور عدم قبوله في ولد الزوجة‏.‏

كما ذهب الحنابلة إلى أنّه إذا وطئ رجلان امرأةً وطئاً يثبت به النّسب، كالموطوءة بشبهة أو في زواج فاسد وكالأمة المشتركة، فإنّها إن أتت بولد واحتمل أن يكون من أحدهما، كما لو تزوج معتدةً وأتت بالولد بعد ستة أشهر من الزواج وقبل انتهاء أقصى مدة الحمل، كان القائف هو الذي يلحقه بأيّ من الرجلين‏.‏

كما ذهب المالكية إلى أنّه إذا تنازع شخصان أو أكثر بنوة أحد، ولم يترجح قول أيّ منهما ببينة، فلو ادعيا جميعاً صبيّاً واحداً‏.‏‏.‏‏.‏ يقول كلّ واحد منهما هذا ابني‏.‏‏.‏‏.‏ الواجب في هذا عندي على أصولهم أن تدعى له القافة أيضاً، ومن جنسه ما أورده المواق عن أشهب فيمن نزل على رجل له أمّ ولد حامل، فولدت هي وولدت امرأة الضيف في ليلة صبيين فلم تعرف كلّ واحدة منهما ولدها، دعي لهما القافة، وكذا لو وضع وليدها في مكان فاختلط بغيره، إلا إذا كانت متعدّيةً في تركها له، كأن قصدت نبذه والخلاص منه، فلا يثبت نسبه منها عند بعض المالكية ولا يدعى لها القافة‏.‏

ويتصور الحكم بالقافة في اللقيط إذا تنازع بنوته رجلان أو أكثر‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنّه لا يثبت النّسب بقول القافة، لا لأنّ القيافة كالكهانة في الذمّ والحرمة، أو أنّ الشبه لا يثبت بها، وإنّما ‏;‏ لأنّ الشرع حصر دليل النّسب في الفراش، وغاية القيافة إثبات المخلوقية من الماء لا إثبات الفراش، فلا تكون حجةً لإثبات النّسب‏.‏ ويستدلّون على مذهبهم بأنّ الله عز وجل شرع حكم اللّعان بين الزوجين عند نفي النّسب، ولم يأمر بالرّجوع إلى قول القائف، فلو كان قوله حجةً لأمر بالمصير إليه عند الاشتباه‏.‏ ولأنّ مجرد الشبه غير معتبر، فقد يشبه الولد أباه الأدنى، وقد يشبه الأب الأعلى الذي باعتباره يصير منسوباً إلى الأجانب في الحال، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين «أتاه رجل فقال‏:‏ إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لك من إبل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ما ألوانها‏؟‏ قال‏:‏ حمر، قال‏:‏ فهل فيها من أورق قال‏:‏ نعم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأنّى هو‏؟‏ فقال‏:‏ لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له»، فبين صلى الله عليه وسلم أنّه لا عبرة للشبه، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الولد للفراش وللعاهر الحجر»‏.‏ أي الولد لصاحب الفراش‏.‏‏.‏‏.‏ والمراد من الفراش هو المرأة‏.‏ وفي التفسير في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ أنّها نساء أهل الجنّة‏.‏

ودلالة الحديث من وجوه ثلاثة‏:‏

أحدها‏:‏ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أخرج الكلام مخرج القسمة، فجعل الولد لصاحب الفراش والحجر للزاني، فاقتضى ألا يكون الولد لمن لا فراش له، كما لا يكون الحجر لمن لا زنا منه، إذ القسمة تنفي الشركة‏.‏

والثاني‏:‏ أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الولد لصاحب الفراش، ونفاه عن الزاني بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وللعاهر الحجر» ‏;‏ لأنّ مثل هذا الكلام يستعمل في النّفي‏.‏

والثالث‏:‏ أنّه جعل كل جنس الولد لصاحب الفراش، فلو ثبت نسب ولد لمن ليس بصاحب الفراش لم يكن كلّ جنس الولد لصاحب الفراش، وهذا خلاف النص، فعلى هذا إذا زنى رجل بامرأة فادعاه الزاني لم يثبت نسبه منه لانعدام الفراش، وأما المرأة فيثبت نسبه منها‏;‏ لأنّ الحكم في جانبها يتبع الولادة‏.‏

ومفاد هذا كلّه أنّ النّسب يثبت للرجل عند الحنفية بثبوت سببه وهو النّكاح أو ملك اليمين، ولا يرجع عمل القائف إلى شيء من ذلك، وإنّما يرجع إلى معرفة التخلّق من الماء وهو لا يثبت به النّسب، حتى لو تيقنّا من هذا التخلّق ولا فراش، فإنّ النّسب لا يثبت‏.‏

شروط القائف

8 - يشترط في القائف ما يلي‏:‏

أ - الخبرة والتجربة‏:‏ ذهب الشافعية إلى أنّه لا يوثق بقول القائف إلا بتجربته في معرفة النّسب عمليّاً، وذلك بأن يعرض عليه ولد في نسوة ليس فيهنّ أمّه ثلاث مرات، ثم في نسوة فيهنّ أمّه، فإن أصاب في المرات جميعاً اعتمد قوله‏.‏‏.‏‏.‏ والأب مع الرّجال كذلك على الأصحّ، فيعرض عليه الولد في رجال كذلك‏.‏

وإذا حصلت التجربة وتولدت الثّقة بخبرته فلا حاجة لتكرار هذا الاختبار عند كلّ إلحاق‏.‏

ونص الحنابلة بأنّه يترك الصبيّ مع عشرة من الرّجال غير من يدعيه ويرى إياهم، فإن ألحقه بواحد منهم سقط قوله لأنّا تبينا خطأه، وإن لم يلحقه بواحد منهم أريناه إياه مع عشرين فيهم مدعيه، فإن ألحقه به لحق، ولو اعتبر بأن يرى صبيّاً معروف النّسب مع قوم فيهم أبوه أو أخوه، فإذا ألحقه بقريبه علمت إصابته، وإن ألحقه بغيره سقط قوله جاز وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته، وإن لم يجرب في الحال بعد أن يكون مشهوراً بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كثيرة جاز‏.‏

ب - العدالة‏:‏ اختلفت الرّوايات عن مالك في اشتراط عدالة القائف للعمل بقوله، فرواية ابن حبيب عن مالك أنّه يشترط العدالة في ‏"‏ القائف ‏"‏ الواحد، وروى ابن وهب عن مالك الاجتزاء بقول واحد كما تقدم عن ابن القاسم ولم يشترط العدالة‏.‏

أما الشافعية والحنابلة فيشترطون العدالة للعمل بقول القائف ‏;‏ لأنّه حكم فتشترط فيه‏.‏

ج - التعدّد‏:‏ الأصحّ عند الجمهور أنّه لا يشترط التعدّد لإثبات النّسب بقول القائف، ويكتفى بقول قائف واحد كالقاضي والمخبر، لكن وجد في هذه المذاهب رأي آخر يقضي باشتراط التعدّد، جاء في ‏"‏ التبصرة ‏"‏ حكاية الخلاف عن مالك في الاجتزاء بقائف واحد كالأخبار، وهو قول ابن القاسم أو لا بد من قائفين، وهي رواية عن أشهب عن مالك، وقاله ابن دينار، ورواه ابن نافع عن مالك، ووجهه أنّه كالشهادة، قال بعض الشّيوخ والقياس على أصولهم أن يحكم بقول القائف الواحد، وظاهر كلام أحمد كما جاء في المغني أنّه لا يقبل إلا قول اثنين‏.‏‏.‏‏.‏ فأشبه الشهادة‏.‏‏.‏‏.‏ وقال القاضي‏:‏ يقبل قول الواحد ‏;‏ لأنّه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد، وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين، والراجح في المذهب الاكتفاء بقول قائف واحد في إلحاق النّسب، وهو كحاكم، فيكفي مجرد خبره ‏;‏ لأنّه ينفذ ما يقوله بخلاف الشاهد، وهو الراجح عند الشافعية كذلك‏.‏ ومبنى الخلاف في اشتراط التعدّد أو عدم اشتراطه هو التردّد في اعتبار قول القائف من باب الشهادة أو الرّواية، وقد رجح القرافيّ إلحاق قول القائف بالشهادة للقضاء به في حقّ المعين واحتمال وقوع العداوة أو التّهمة لذلك، ولا يقدح انتصابه لهذا العمل على العموم فإنّ هذا مما يشترك فيه مع الشاهد، أما السّيوطيّ فيرجّح إلحاق قول القائف بالرّواية، يقول‏:‏ والأصحّ الاكتفاء بالواحد تغليبًا لشبه الرّواية ‏;‏ لأنّه منتصب انتصاباً عامّاً لإلحاق النّسب‏.‏

د - الإسلام‏:‏ نص على اشتراطه الشافعية والحنابلة، وهو الراجح في المذهب المالكيّ، وقد سبقت الإشارة إلى الرّواية الأخرى في هذا المذهب، وهي القاضية بعدم اشتراط العدالة، ولا يسلّم بعض فقهاء الحنابلة بوجوب اشتراط هذا الشرط للعمل بقول القائف في مذهبهم‏.‏

هـ - الذّكورة والحرّية‏:‏ الأصحّ في المذهب الشافعيّ اشتراط هذين الشرطين، وهو الراجح أيضاً عند الحنابلة، والمرجوح في المذهبين عدم اشتراط هذين الشرطين‏.‏

و - البصر والسمع، وانتفاء مظنّة التّهمة، بحيث لا يكون عدوّاً لمن ينفي نسبه، ولا أصلاً أو فرعاً لمن يثبت نسبه، نص على اشتراط ذلك الشافعية‏.‏

ويتخرج اعتبار هذه الشّروط كذلك عند من ألحقوا القائف بالشاهد أو القاضي أو المفتي فيشترط في القائف ما يشترط فيهم‏.‏

شروط القيافة

9 - يشترط في القيافة لإلحاق النّسب بها ما يلي‏:‏

أ - عدم قيام مانع شرعيّ من الإلحاق بالشبه، فلو نفى نسب ولده من زوجته، فإنّه يلاعنها ولا يلتفت إلى إثبات الشبه بقول القافة ‏;‏ لأنّ الله عز وجل شرع إجراء اللّعان بين الزوجين عند نفي النّسب، وإلغاء الشبه باللّعان من باب تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما‏.‏ ولا يعتبر الشبه كذلك إذا تعارض مع الفراش، يدلّ عليه ويوضّحه قضية سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد‏:‏ أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنّه ابنه، وقال عبد بن زمعة‏:‏ أخي ابن أمة أبي، ولد على فراش أبي، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهاً بيّناً بعتبة، فقال‏:‏ الولد للفراش‏.‏‏.‏‏.‏ واحتجبي عنه يا سودة» فقد ألغى النبيّ صلى الله عليه وسلم الشبه وألحق النّسب بزمعة صاحب الفراش‏.‏

ب - وقوع التنازع في الولد نفياً أو إثباتاً وعدم وجود دليل يقطع هذا التنازع، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان، وكما إذا وطئ رجلان امرأةً بشبهة وأمكن أن يكون الولد من أحدهما، وكلّ منهما ينفيه عن نفسه، فإنّ الترجيح يكون بقول القافة‏.‏ أما إذا ادعاه واحد فإنّه يكون له، ولا يقوم التنازع حقيقةً فيما بينهما إذا تعين الولد لأحدهما، فلو ادعى اللقيط رجلان، وقال أحدهما‏:‏ هو ابني، وقال الآخر‏:‏ بنتي، فإن كان اللقيط ابناً فهو لمدعيه، وإن كانت بنتاً فهي لمدعيها ‏;‏ لأنّ كل واحد منهما لا يستحقّ غير ما ادعاه‏.‏

ج - إمضاء القاضي قول القائف عند التنازع فيما نص عليه الشافعية، فلا يلزم قوله على هذا إلا بإمضاء القاضي له، جاء في حاشية الجمل‏:‏ ولا يصحّ إلحاق القائف حتى يأمر القاضي، وإذا ألحقه اشترط تنفيذ القاضي إن لم يكن قد حكم بأنّه قائف، ورأى الزركشيّ أنّ القائف إن ألحقه بأحدهما فإن رضيا بذلك بعد الإلحاق ثبت نسبه، وإلا فإن كان القاضي استخلفه وجعله حاكماً بينهما جاز، ونفذ حكمه بما رآه، وإلا فلا يثبت النّسب بقوله وإلحاقه حتى يحكم الحاكم‏.‏

د - حياة من يراد إثبات نسبه بالقيافة، وهو شرط عند المالكية، جاء في مواهب الجليل‏:‏ أنّها إن وضعته تماماً ميّتاً لا قافة في الأموات، ونقل الصقلّيّ عن سحنون‏:‏ إن مات بعد وضعه حيّاً دعي له القافة، قال الحطاب‏:‏ ويحتمل ردّهما إلى وفاق ‏;‏ لأنّ السماع ‏(‏أي لابن القاسم‏)‏ فيمن ولد ميّتاً، وقول سحنون فيما ولد حيّاً‏.‏

ولم يشترط الشافعية حياة المقوف، فإذا كان ميّتاً جاز إثبات نسبه بالقافة ما لم يتغير أو يدفن‏.‏

هـ - حياة من يلحق به النّسب‏:‏ اشترط كثير من المالكية حياة الملحق به، فعن سحنون وعبد الملك أنّه لا تلحق القافة الولد إلا بأب حيّ، فإن مات فلا قول للقافة في ذلك من جهة قرابته إذ لا تعتمد على شبه غير الأب، ويجوز عند كثير من المالكية عرض الأب على القافة إن مات ولم يدفن، جاء في التبصرة‏:‏ ولا تعتمد القافة إلا على أب موجود بالحياة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ أو مات ولم يدفن، قيل‏:‏ ويعتمد على العصبة‏.‏

ولا يشترط هذا الشرط فقهاء الشافعية والحنابلة‏.‏

اختلاف القافة

10 - إذا اختلفت أقوال القافة جمع بينها إن أمكن ذلك، كما لو ألحق أحد القائفين نسب اللقيط برجل، وألحقه الآخر بامرأة فإنّه ينسب إليهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما وترجح أحدهما، فإنّ الراجح هو الذي يؤخذ به‏.‏

وتفريعاً عليه فإنّه يؤخذ بقول قائفين اثنين خالفهما قائف ثالث، كبيطارين خالفهما بيطار في عيب وكطبيبين خالفهما طبيب في عيب، قاله في المنتخب، ويثبت النّسب، وذلك ‏;‏ لأنّهما شاهدان فقولهما مقدم على قول شاهد واحد، لكن لا يترجح قول ثلاثة قافة على قول قائفين بزيادة العدد فيما نص عليه ابن قدامة‏.‏

أما إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح، كأن يلحق القائف المقوف بأحد المتنازعين، ويلحقه الآخر بغيره، ففيه خلاف الفقهاء‏:‏

ذهب المالكية والشافعية إلى أنّه لا يلحق الولد إلا برجل واحد، ويؤخر الولد إذ قضى القافة باشتراك رجلين أو أكثر فيه إلى حين بلوغه، فيخير في الالتحاق بمن يشاء منهم، بناء على ما ينعقد من ميل فطريّ بين الولد وأصله قد يعينه على التعرّف عليه، جاء في بداية المجتهد‏:‏ الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبيّ حتى يبلغ، ويقال له‏:‏ وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعيّ‏.‏

وفي مغني المحتاج‏:‏ لو عدم القائف بدون مسافة القصر، أو أشكل عليه الحال بأن تحير، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، وقف الأمر حتى يبلغ عاقلاً ويختار الانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، ويحبس ليختار إن امتنع من الانتساب، إلا إن لم يجد ميلاً إلى أحدهما فيوقف الأمر‏.‏

ولا يقبل رجوع قائف إلا قبل الحكم بقوله، ثم لا يقبل قوله في حقّه لسقوط الثّقة بقوله ومعرفته، وكذا لا يصدق لغير الآخر إلا بعد مضيّ إمكان تعلّمه مع امتحان له بذلك‏.‏

ولو استلحق مجهولاً نسبه وله زوجة فأنكرته زوجته لحقه عملاً بإقراره دونها، لجواز كونه من وطء شبهة أو زوجة أخرى، وإن ادعته، والحالة هذه، امرأة أخرى وأنكره زوجها، وأقام زوج المنكرة بينتين تعارضتا فيسقطان، ويعرض على القائف، فإن ألحقه بها لحقها، وكذا زوجها على المذهب المنصوص كما قاله الإسنويّ خلافاً لما جرى عليه ابن المقري، أو بالرجل لحقه وزوجته، فإن لم يقم واحد منهما بينةً، فالأصحّ كما قال الإسنويّ أنّه ليس ولداً لواحدة منهما‏.‏

ولا يسقط حكم قائف بقول قائف آخر، ولو ألحقه قائف بالأشباه الظاهرة، وآخر بالأشباه الخفية كالخلق وتشاكل الأعضاء، فالثاني أولى من الأول ‏;‏ لأنّ فيها زيادة حذق وبصيرة، ولو ألحق القائف التوأمين باثنين، بأن ألحق أحدهما بأحدهما، والآخر بالآخر بطل قوله حتى يمتحن ويغلب على الظنّ صدقه فيعمل بقوله، كما لو ألحق الواحد باثنين، ويبطل أيضاً قول قائفين اختلفا في الإلحاق حتى يمتحنا ويغلب على الظنّ صدقهما‏.‏

ويلغو انتساب بالغ أو توأمين إلى اثنين، فإن رجع، أحد التوأمين إلى الآخر قبل، ويؤمر البالغ بالانتساب إلى أحدهما، ومتى أمكن كونه منهما عرض على القائف وإن أنكره الآخر أو أنكراه ‏;‏ لأنّ للولد حقّاً في النّسب فلا يثبت بالإنكار من غيره وينفقان عليه إلى أن يعرض على القائف أو ينتسب، ويرجع بالنفقة من لم يلحقه الولد على من لحقه إن أنفق بإذن الحاكم ولم يدع الولد، ويقبلان له الوصية التي أوصي له بها في مدة التوقّف ‏;‏ لأنّ أحدهما أبوه، ونفقة الحامل على المطلّق فيعطيها لها ويرجع بها على الآخر إن ألحق الولد بالآخر، فإن مات الولد قبل العرض على القائف عرض عليه ميّتاً، لا إن تغير أو دفن، وإن مات مدعيه عرض على القائف مع أبيه أو أخيه ونحوه من سائر العصبة‏.‏

ورجح الحنابلة إطلاق العمل بقول القافة، فإن ألحقوه بواحد من المتنازعين لحق به، وإن ألحقوه باثنين لحق بهما، وإن ألحقوه بأكثر من اثنين التحق بهم وإن كثروا ‏;‏ لأنّ المعنى الذي لأجله ألحق بالاثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه، ودليل الحنابلة على مذهبهم ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجلين ادعيا ولداً كلاهما يزعم أنّه ابنه، فدعا عمر لهما بالقافة فنظروا وقالوا نراه يشبههما فألحقه عمر رضي الله عنه بهما وجعله يرثهما ويرثانه‏.‏

وإن ادعت امرأتان نسب ولد، ولم يمكن ترجيح قول إحداهما ببينة، ففيه الاختلاف السابق‏.‏

الإثبات بقيافة الأثر في المعاملات

11 - ذكر ابن تيمية جواز اعتماد القاضي على القيافة في المعاملات والأموال، يقول‏:‏ ويتوجه أن يحكم بالقيافة في الأموال كلّها، كما حكمنا بذلك في الجذع المقلوع إذا كان له موضع في الدار، وكما حكمنا في الاشتراك في اليد الحسّية بما يظهر من اليد العرفية، فأعطينا كل واحد من الزوجين ما يناسبه في العادة، وكلّ واحد من الصانعين ما يناسبه، وكما حكمنا بالوصف في اللّقطة إذا تداعاها اثنان، وهذا نوع قيافة أو شبيه به، وكذلك لو تنازعا غرأساً أو تمراً في أيديهما، فشهد أهل الخبرة أنّه من هذا البستان، ويرجع إلى أهل الخبرة حيث يستوي المتداعيان، كما رجع إلى أهل الخبرة بالنّسب، وكذلك لو تنازع اثنان لباسًا من لباس أحدهما دون الآخر، أو تنازعا دابةً تذهب من بعيد إلى إصطبل أحدهما دون الآخر، أو تنازعا زوج خفّ أو مصراع باب مع الآخر شكله، أو كان عليه علامة لأحدهما كالزّربول التي للجند، وسواء كان المدعى في أيديهما أو في يد ثالث‏.‏ وكذلك لو تداعيا بهيمةً أو فصيلاً فشهد القائف أنّ دابة هذا أنتجتها ينبغي أن يقضى بهذه الشهادة، وتقدم على اليد الحسّية، وقد «حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأثر في السيف في قضية ابني عفراء»‏.‏

فقد جاء في حديثهما «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم سألهما‏:‏ أيّكما قتله‏؟‏ قال كلّ واحد منهما‏:‏ أنا قتلته، فقال‏:‏ هل مسحتما سيفيكما‏؟‏ قالا‏:‏ لا، فنظر في السيفين فقال‏:‏ كلاكما قتله»‏.‏

الإثبات بقيافة الأثر في الجنايات

12 - يرجع إلى قائف الأثر للقبض على المتهمين وإحضارهم مجلس القاضي، كما حدث في قضية العرنيّين، فقد ورد «أنّ قوماً من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافةً فأتي بهم»‏.‏

ويرجع إليه كذلك في جمع الأدلة والكشف عن كيفية ارتكاب الجناية‏.‏

ويعدّ رأي القائف شهادةً تثبت بها الحقوق والدعاوى عند الفقهاء، مثاله فيما ذكره ابن تيمية‏:‏ أن يدعي شخص أنّه ذهب من ماله شيء، ويثبت ذلك، فيقتصّ القائف أثر الوطء من مكان إلى مكان آخر، فشهادة القائف أنّ المال دخل إلى هذا الموضع توجب أحد الأمرين‏:‏ إما الحكم به، وإما أن يكون الحكم به مع اليمين للمدعي، وهو الأقرب، فإنّ هذه الأمارات ترجّح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين، وقد حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأثر في السيف كما يذكر ابن فرحون في قصة عبد الله بن أنيس وأصحابه رضي الله عنهم «لما دخلوا الحصن على ابن أبي الحقيق ليقتلوه، وكان ذلك ليلاً، فوقعوا فيه بالسّيوف، ووضع عبد الله بن أنيس السيف في بطنه وتحامل عليه حتى نبع ظهره، فلما رجعوا وقد قتلوه نظر عليه الصلاة والسلام إلى سيوفهم فقال‏:‏ هذا قتله» لأنّه رأى على السيف أثر الطّعان‏.‏

وقد استند إياس بن معاوية إلى الأثر حين اختصم عنده رجلان في قطيفتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء، وأحدهما يدعي التي بيد الآخر، وأنّه ترك قطيفته ليغتسل، فأخذها الآخر وترك قطيفته هو في محلّها، ولم توجد بينة، فطلب إياس أن يؤتى بمشط، فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر، ومن رأس الآخر صوف أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصّوف الأحمر وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصّوف الأخضر‏.‏

وفي إحدى القضايا هرب القاتل واندس بين الناس فلم يعرف، فمر المعتضد على الناس يضع يده على قلب كلّ واحد منهم، واحداً بعد واحد فيجده ساكنًا، حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام، فإذا به يخفق خفقاً شديداً، فركضه برجله، واستقره فأقر فقتله‏.‏

ومع ذلك فإنّ الاستناد إلى الأثر ليس قرينةً قطعيةً على ارتكاب الجريمة، تشير إلى ذلك قضية القصاب الذي ذهب إلى خربة للتبوّل ومعه سكّينه، فإذا به أمام مقتول يتشحط في دمه، وما أفاق من ذهوله حتى وجد العسس يقبضون عليه، وقد عجز الرجل عن الدّفاع عن نفسه معتقداً أنّ الأدلة جميعها ضدّه، ولم ينقذه من العقوبة المحتومة - وهي القتل - إلا إقرار القاتل الحقيقيّ بالجريمة‏.‏

قِيَام

التعريف

1 - القيام لغةً‏:‏ من قام يقوم قوماً وقياماً‏:‏ انتصب، وهو نقيض الجلوس‏.‏

ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القعود‏:‏

2 - القعود في اللّغة‏:‏ الجلوس، أو هو من القيام، والجلوس من الضّجعة ومن السّجود‏.‏ ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والصّلة بين القيام والقعود التضادّ‏.‏

ب - الاضطجاع‏:‏

3 - الاضطجاع‏:‏ وضع الجنب بالأرض، والاضطجاع في السّجود‏:‏ أن يتضام ويلصق صدره بالأرض‏.‏

ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والصّلة بين القيام والاضطجاع التضادّ‏.‏

الحكم التكليفيّ

4 - يتردد حكم القيام في العبادات وغيرها بين أن يكون واجباً أو حراماً أو سنّةً أو مكروهاً أو مباحاً، بحسب نوع الفعل المرتبط به، والدليل الوارد فيه، وتفصيل ذلك فيما يلي‏:‏

القيام في الصلاة المفروضة

5 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام ركن في الصلاة المفروضة على القادر عليه، وكذا عند الحنفية في العبادة الواجبة، كنذر وسنّة صلاة الفجر في الأصحّ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ أي‏:‏ مطيعين، ومقتضى هذا الأمر الافتراض ‏;‏ لأنّه لم يفرض القيام خارج الصلاة، فوجب أن يراد به الافتراض الواقع في الصلاة‏.‏ إعمالاً للنص في حقيقته حيث أمكن‏.‏

وأكدت السّنّة فرضية القيام فيما رواه الجماعة إلا مسلماً، عن عمران بن حصين قال‏:‏

«كانت بي بواسير، فسألت النّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال‏:‏ صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»‏.‏

كيفية القيام

6 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام المطلوب شرعاً في الصلاة هو الانتصاب معتدلاً، ولا يضرّ الانحناء القليل الذي لا يجعله أقرب إلى أقلّ الرّكوع بحيث لو مد يديه لا ينال ركبتيه‏.‏

مقدار القيام

7 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّ القيام المفروض للقادر عليه يكون بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة فقط ‏;‏ لأنّ الفرض عندهم ذلك ‏;‏ ولأنّ من عجز عن القراءة وبدلها من الذّكر، وقف بقدرها، وأما السّورة بعدها فهي سنّة‏.‏

فإن أدرك المأموم الإمام في الرّكوع فقط، فالرّكن من القيام بقدر التحريمة ‏;‏ لأنّ المسبوق يدرك فرض القيام بذلك، وهذا رخصة في حقّ المسبوق خاصةً، لإدراك الركعة‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنّ فرض القيام وواجبه ومسنونه ومندوبه لقادر عليه وعلى السّجود يكون بقدر القراءة المطلوبة فيه، وهو بقدر آية فرض، وبقدر الفاتحة وسورة واجب، وبطوال المفصل وأوساطه وقصاره في محالّها المطلوبة مسنون، والزّيادة على ذلك في نحو تهجّد مندوب، فلو قدر المصلّي على القيام دون السّجود، ندب إيماؤه قاعداً، لقربه من السّجود، وجاز إيماؤه قائماً‏.‏

سقوط القيام

8 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام يسقط في الفرض والنافلة لعاجز عنه، لمرض أو غيره، لحديث عمران بن حصين المتقدّم‏:‏ «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»‏.‏

فإن قدر المريض على بعض القراءة ولو آيةً قائماً، لزمه بقدرها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صلاة المريض ف / 5، 6‏)‏‏.‏

ويسقط القيام أيضاً عند الحنفية والحنابلة عن العاري، فإنّه يصلّي قاعداً بالإيماء إذا لم يجد ساتراً يستر به عورته، خلافاً للمالكية والشافعية، فإنّه يصلّي عندهم قائماً وجوباً‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏عريان ف / 7‏)‏‏.‏

ويسقط القيام كذلك حالة شدة الخوف، فيصلّي قاعداً أو موميًا، ولا إعادة عليه اتّفاقاً‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صلاة الخوف ف / 9‏)‏‏.‏

الاستقلال في القيام

9 - ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية إلى اشتراط الاستقلال في القيام أثناء الصلاة للقادر عليه في الفرائض دون النّوافل، على تفصيل‏:‏

فذهب الحنفية، إلى أنّ من اتكأ على عصاه، أو على حائط ونحوه، بحيث يسقط لو زال لم تصح صلاته، فإن كان لعذر صحت، أما في التطوّع أو النافلة‏:‏ فلا يشترط الاستقلال بالقيام، سواء أكان لعذر أم لا، إلا أنّ صلاته تكره ‏;‏ لأنّه إساءة أدب، وثوابه ينقص إن كان لغير عذر‏.‏

والقيام فرض بقدر التحريمة والقراءة المفروضة كما تقدم في فرض، وملحق به كنذر وسنّة فجر في الأصحّ، لقادر عليه وعلى السّجود‏.‏

وذهب المالكية إلى إيجاب القيام مستقلّاً في الفرائض للإمام والمنفرد حال تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والهويّ للرّكوع، فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام والفاتحة في الفرض للقادر على القيام جالساً أو منحنياً، ولا قائماً مستنداً لعماد بحيث لو أزيل العماد لسقط، وأما حال قراءة السّورة فالقيام سنّة، فلو استند إلى شيء لو أزيل لسقط، فإن كان في غير قراءة السّورة، بطلت صلاته ‏;‏ لأنّه لم يأت بالفرض الرّكنيّ، وإن كان في حال قراءة السّورة لم تبطل، وكره استناده، ولو جلس في حال قراءة السّورة بطلت صلاته ‏;‏ لإخلاله بهيئة الصلاة، أما المأموم فلا يجب عليه القيام لقراءة الفاتحة، فلو استند حال قراءتها لعمود بحيث لو أزيل لسقط، صحت صلاته‏.‏

وأما الشافعية في الأصحّ فلم يشترطوا الاستقلال في القيام، فلو استند المصلّي إلى شيء بحيث لو رفع السّناد لسقط أجزأه مع الكراهة، لوجود اسم القيام، والثاني يشترط ولا تصحّ مع الاستناد في حال القدرة بحال، والوجه الثالث يجوز الاستناد إن كان بحيث لو رفع السّناد لم يسقط، وإلا فلا‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه لو استند استناداً قويّاً على شيء بلا عذر، بطلت صلاته، والقيام فرض بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة في الركعة الأولى، وفيما بعد الركعة الأولى بقدر قراءة الفاتحة فقط‏.‏

صلاة القاعد خلف القائم وبالعكس

10 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم، لما ثبت في السّنّة من وقائع، منها‏:‏ ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً، في ثوب، متوشّحاً به» ومنها ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً»‏.‏

وأما صلاة القائم خلف الجالس أو القاعد‏:‏ فهي جائزة عند الحنفية والشافعية ‏;‏ لأنّه صلى الله عليه وسلم «صلى آخر صلاته قاعداً والناس قيام، وأبو بكر يأتمّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر وهي صلاة الظّهر»‏.‏

وذهب المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، إلى عدم الجواز، مستدلّين بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَؤُمَّن أحد بعدي جالساً» ‏;‏ ولأنّ حال القائم أقوى من حال القاعد، ولا يجوز بناء القويّ على الضعيف، إلا أنّ الحنابلة استثنوا من عدم الجواز إمام الحيّ المرجو زوال علته، وهذا في غير النّفل، أما في النّفل فيجوز اتّفاقاً‏.‏

القيام في النّوافل

11 - اتفق الفقهاء على جواز التنفل قاعداً لعذر أو غير عذر، أما الاضطجاع فقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشافعية إلى أنّه لا يجوز للقادر على القيام أو الجلوس أن يصلّي النّفل مضطجعاً إلا لعذر، وذهب الشافعية إلى جواز التنفل مضطجعاً مع القدرة على القيام في الأصحّ، لحديث عمران بن الحصين أنّه سأل النّبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً قال‏:‏ «من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد»‏.‏

والأفضل أن يصلّي على شقّه الأيمن فإن اضطجع على الأيسر جاز ويلزمه أن يقعد للرّكوع والسّجود قيل‏:‏ يومئ بهما أيضاً‏.‏

الجمع بين القيام والجلوس في الركعة الواحدة في صلاة التطوّع

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ للمصلّي تطوّعاً القيام إذا ابتدأ الصلاة جالساً، لحديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أنّها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة الليل قاعداً قطّ حتى أسنّ، فكان يقرأ قاعداً حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آيةً، ثم ركع»‏.‏

ويجوز للمصلّي أيضاً أن يصلّي بعض الركعة قائماً ثم يجلس أو العكس‏.‏

وذهب أبو يوسف ومحمد إلى كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب الجلوس بعد أن نوى القيام‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صلاة التطوّع فقرة / 20‏)‏‏.‏

القيام في الصلاة في السفينة

13 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية وهو الأظهر في المذهب، إلى أنّه لا تصحّ الصلاة فرضاً في السفينة ونحوها كالمحفة والهودج والطائرة والسيارة قاعداً إلا لعذر‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لو صلى في الفلك قاعداً بلا عذر صح لغلبة العجز وأساء، أي يركع ويسجد لا مومئاً، قال ابن عابدين‏:‏ لغلبة العجز أي ‏;‏ لأنّ دوران الرأس فيها غالب والغالب كالمتحقّق فأقيم مقامه، ثم قال‏:‏ وأساء‏:‏ أشار إلى أنّ القيام أفضل ‏;‏ لأنّه أبعد عن شبهة الخلاف‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏سفينة ف / 3‏)‏‏.‏

القيام في الأذان والإقامة

14 - اتفق الفقهاء على أنّه يندب للمؤذّن والمقيم أن يؤذّن ويقيم قائماً، لحديث ابن عمر في حديث بدء الأذان «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا بلال، قم فناد بالصلاة» ‏;‏ ولأنّه أبلغ في الإعلام، وترك القيام مكروه‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏أذان ف 37/ ، وإقامة ف / 15‏)‏‏.‏

بقاء الداخل إلى المسجد قائماً أثناء الأذان

15 - إذا دخل المسلم المسجد، والمؤذّن يؤذّن، فهل يظلّ قائماً أو يجلس‏؟‏ للفقهاء اتّجاهان‏:‏

ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّه إذا دخل المصلّي المسجد، والمؤذّن قد شرع في الأذان، لم يأت بتحية ولا بغيرها، بل يجيب المؤذّن واقفاً، حتى يفرغ من أذانه، ليجمع بين أجر الإجابة والتحية‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنّه إذا دخل المصلّي المسجد، والمؤذّن يؤذّن أو يقيم قعد حتى يفرغ المؤذّن من أذانه، فيصلّي التحية بعدئذ، ليجمع بين أجر الإجابة وتحية المسجد‏.‏

وقت القيام للصلاة‏:‏

16 - ينبغي أن لا يقوم المصلّون للصلاة عند الإقامة حتى يقوم الإمام أو يقبل، أي عند الإمام، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت»‏.‏

وأما تعيين وقت قيام المصلّين إلى الصلاة، ففيه اختلاف بين المذاهب‏.‏

ذهب جمهور الحنفية ما عدا زفر إلى أنّ القيام للإمام والمؤتمّ حين قول المقيم‏:‏ حي على الفلاح، أي عند الحيعلة الثانية، وعند زفر عند قوله‏:‏ حي على الصلاة، أي عند الحيعلة الأولى ‏;‏ لأنّه أمر به فيجاب، هذا إذا كان الإمام حاضراً بقرب المحراب، فإن لم يكن حاضراً، يقوم كلّ صفّ حين ينتهي إليه الإمام على الأظهر، وإن دخل الإمام من قدام، قاموا حين يقع بصرهم عليه، وإن أقام الإمام بنفسه في مسجد، فلا يقف المؤتمّون حتى يتم إقامته‏.‏

وذهب المالكية إلى أنّه يجوز للمصلّي القيام حال الإقامة أو أولها أو بعدها، فلا يطلب له تعيين حال، بل بقدر الطاقة للناس، فمنهم الثقيل والخفيف، إذ ليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنّه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت»، وقال ابن رشد‏:‏ فإن صح هذا وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفوّ عنه، أعني أنّه ليس فيها شرع، وأنّه متى قام كلّ واحد، فحسن‏.‏ وذهب الشافعية إلى أنّه يستحبّ للمأموم والإمام أن لا يقوما حتى يفرغ المؤذّن من الإقامة، وقال الماورديّ‏:‏ ينبغي لمن كان شيخاً بطيء النّهضة أن يقوم عند قوله‏:‏ قد قامت الصلاة، ولسريع النّهضة أن يقوم بعد الفراغ، ليستووا قياماً في وقت واحد‏.‏

فإذا أقيمت الصلاة وليس الإمام مع القوم بل يخرج إليهم فإنّ المأمومين لا يقومون حتى يروا الإمام لما رواه أبو قتادة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت»‏.‏

ورأي الحنابلة‏:‏ أنّه يستحبّ أن يقوم المصلّي عند قول المؤذّن‏:‏ قد قامت الصلاة، لما روي عن أنس‏:‏ «أنّه كان يقوم إذا قال المؤذّن‏:‏ قد قامت الصلاة»‏.‏

القيام في خطبة الجمعة والعيدين ونحوهما

17 - اختلف الفقهاء في حكم قيام الخطيب في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء والكسوفين‏.‏

فذهب الحنفية والحنابلة وابن العربيّ من المالكية، إلى أنّ قيام الخطيب في الخطبة سنّة، لفعله صلى الله عليه وسلم ولم يجب ‏;‏ لأنّه ذِكْر ليس من شرطه استقبال القبلة، فلم يجب له القيام، كالأذان‏.‏

وذهب الشافعية وأكثر المالكية إلى أنّ قيام الخطيب حال الخطبة شرط، إن قدر، وذهب الدردير من المالكية إلى أنّ الأظهر أنّ القيام واجب غير شرط، فإن جلس أساء وصحت‏.‏ وزاد الشافعية أنّه إن عجز عن القيام خطب قاعداً ثم مضطجعاً كالصلاة، ويصحّ الاقتداء به، والأولى له أن يستنيب‏.‏

واستدلّوا للقيام في الخطبة بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم كما يفعلون اليوم»‏.‏

وفي الحديث دليل على أنّ القيام حال الخطبة مشروع، قال ابن المنذر، وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار‏.‏

القيام في حال تلاوة القرآن الكريم والذّكر

18 - تجوز تلاوة القرآن الكريم وترداد الأذكار من تهليل وتسبيح وتحميد وغيرها في أيّ حال، قياماً وقعوداً، وفي حالة الوقوف والمشي، قال الإمام النّوويّ رحمه الله‏:‏ ولو قرأ القرآن قائماً، أو راكباً، أو جالساً، أو مضطجعاً، أو في فراشه، أو على غير ذلك من الأحوال، جاز، وله أجر، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ‏}‏‏.‏

القيام للجنازة عند مرورها

19 - اختلف الفقهاء في حكم القيام للجنازة عند مرورها‏:‏

فقال المالكية والحنابلة‏:‏ يكره القيام للجنازة إذا مرّوا بها على جالس ‏;‏ لأنّه ليس عليه عمل السلف‏.‏

وعند الحنفية‏:‏ المختار أن لا يقوم لها، وقال القليوبيّ‏:‏ يندب القيام للجنازة على المعتمد، وأن يدعو لها ويثني عليها خيراً، إن كانت أهلاً له‏.‏

القيام عند الأكل والشّرب

20 - ذهب الحنفية إلى كراهة الأكل والشّرب قائماً تنزيهاً، واستثنوا الشّرب من زمزم والشّرب من ماء الوضوء بعده، حيث نفوا الكراهة عنهما‏.‏

وذهب المالكية إلى أنّه يباح الأكل والشّرب قائماً‏.‏

وذهب الشافعية إلى أنّ شرب الشخص قائماً بلا عذر خلاف الأولى‏.‏

وذهب الحنابلة إلى عدم كراهة الشّرب قائماً، أما الأكل قائماً فقد قال البهوتيّ‏:‏ وظاهر كلامهم لا يكره أكله قائماً، ويتوجه كشرب‏.‏

وفي رواية عندهم أنّه يكره الأكل والشّرب، قائماً‏.‏

وسبب الاختلاف أنّه وردت أحاديث متعارضة في الأكل والشّرب قائماً‏.‏

منها‏:‏ عن أنس‏:‏ «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم زجر وفي رواية‏:‏ نهى عن الشّرب قائماً»، قال قتادة‏:‏ فقلنا‏:‏ فالأكل، فقال‏:‏ ذاك شرّ وأخبث ‏"‏، ويدلّ هذا الحديث على منع الأكل والشّرب قائماً‏.‏

وهناك أحاديث أخرى تجيز الأكل والشّرب قائماً وقاعداً وماشياً‏.‏

منها‏:‏ ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «كنّا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام»‏.‏

ومنها‏:‏ ما رواه ابن عباس قال‏:‏ «شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم»‏.‏

القيام حال التبوّل

21 - يستحبّ باتّفاق الفقهاء أن يبول الإنسان قاعداً ‏;‏ لأنّه أستر وأبعد من مماسة البول ‏;‏ ولئلا يصيبه الرشاش، فيتنجس، ويكره البول قائماً عند جمهور الفقهاء إلا لعذر‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏قضاء الحاجة ف / 9‏)‏‏.‏

القيام للقادم والوالد والحاكم والعالم وأشراف القوم

22 - ورد النهي عن القيام للقادم إذا كان بقصد المباهاة والسّمعة والكبرياء، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سَرَّهُ أن يتمثل له الرّجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار»، وثبت جواز القيام للقادم إذا كان بقصد إكرام أهل الفضل، لحديث أبي سعيد الخدريّ‏:‏ «أنّ أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا من المسجد، قال للأنصار‏:‏ قوموا إلى سيّدكم أو خيركم‏.‏‏.‏»‏.‏

قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم معلّقاً على هذا الحديث‏:‏ فيه إكرام أهل الفضل، وتلقّيهم بالقيام لهم، إذا أقبلوا، واحتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي عياض‏:‏ وليس هذا من القيام المنهيّ عنه، وإنّما ذلك فيمن يقومون عليه، وهو جالس، ويمثلون قياماً طوال جلوسه، وأضاف النّوويّ‏:‏ قلت‏:‏ القيام للقادم من أهل الفضل مستحبّ، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح‏.‏

ويستحبّ القيام لأهل الفضل كالوالد والحاكم ‏;‏ لأنّ احترام هؤلاء مطلوب شرعاً وأدباً‏.‏

وقال الشيخ وجيه الدّين أبو المعالي في شرح الهداية‏:‏ وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنّة مستحبة‏.‏

ونقل ابن الحاجّ عن ابن رشد - في البيان والتحصيل - أنّ القيام يكون على أوجه‏:‏

الأول‏:‏ يكون القيام محظوراً، وهو أن يقوم إكباراً وتعظيماً لمن يحبّ أن يقام إليه تكبّراً وتجبراً‏.‏

الثاني‏:‏ يكون مكروهاً، وهو قيامه إكباراً وتعظيماً وإجلالاً لمن لا يحبّ أن يقام إليه، ولا يتكبر على القائمين إليه‏.‏

الثالث‏:‏ يكون جائزاً، وهو أن يقوم تجلةً وإكباراً لمن لا يريد ذلك، ولا يشبه حاله حال الجبابرة، ويؤمن أن تتغير نفس المقوم إليه‏.‏

الرابع‏:‏ يكون حسناً، وهو أن يقوم لمن أتى من سفر فرحاً بقدومه، أو للقادم عليه سروراً به لتهنئته بنعمة، أو يكون قادماً ليعزّيه بمصاب، وما أشبه ذلك‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ وقد قال العلماء‏:‏ يستحبّ القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشّعار بين الأفاضل‏.‏ فإذا تركه الإنسان في حقّ من يصلح أن يفعل في حقّه لم يأمن أن ينسبه إلى الإهانة والتقصير في حقّه، فيوجب ذلك حقداً، واستحباب هذا في حقّ القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك، ويرى أنّه ليس بأهل لذلك‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ ويسنّ القيام لنحو عالم ومصالح وصديق وشريف لا لأجل غنىً، وبحث بعضهم وجوب ذلك في هذه الأزمنة ‏;‏ لأنّ تركه صار قطيعةً‏.‏

وقد ورد «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها»‏.‏

وورد عن محمد بن هلال عن أبيه أنّه قال‏:‏ «إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له حتى يدخل بيته»‏.‏

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال‏:‏ «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكّئًا على عصاً، فقمنا له، فقال‏:‏ لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظّم بعضها بعضاً»‏.‏

وورد عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ لم يكن شخص أحب إليهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك‏.‏

القيام في العقوبات

إقامة الحدّ جلداً أو رجماً أثناء القيام أو القعود

23 - إذا كان الحدّ جلداً في الزّنا والقذف، فيقام الحدّ على الرجل قائماً، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له، سواء أثبت الزّنا ببينة أم بإقرار، وتضرب المرأة قاعدةً عند الجمهور ‏"‏ الحنفية والشافعية والحنابلة ‏"‏ ‏;‏ لأنّ ذلك أستر للمرأة، ولقول عليّ رضي الله عنه‏:‏ يضرب الرّجال في الحدود قياماً والنّساء قعوداً‏.‏

وذهب الإمام مالك إلى أنّ الرجل يضرب قاعداً، وكذا المرأة‏.‏

وأما إذا كان الحدّ رجماً، كما في رجم الزّناة المحصنين، فترجم المرأة بالاتّفاق قاعدةً‏.‏ ويخير الإمام عند الحنفية في الحفر لها‏:‏ إن شاء حفر لها، وإن شاء ترك الحفر، أما الحفر ‏;‏ فلأنّه أستر لها، وقد روي «أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى ثَنْدوتها» ‏"‏ أي ثديها ‏"‏، وأما ترك الحفر فلأنّ الحفر للستر، وهي مستورة بثيابها ‏;‏ لأنّها لا تجرد عند إقامة الحدّ‏.‏

وهذا قول بعض الحنابلة أيضاً بالحفر للمرأة إلى الصدر إن ثبت زناها بالبينة، أما إن ثبت زناها بالإقرار، فلم يحفر لها‏.‏

والأصحّ عند الشافعية استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة لئلا تنكشف، بخلاف ما إذا ثبت زناها بالإقرار، لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها‏.‏

وذهب المالكية على المشهور والحنابلة على الراجح إلى أنّه لا يحفر للمرأة ولا للرجل، لعدم ثبوته، قال ابن قدامة‏:‏ أكثر الأحاديث على ترك الحفر، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين‏.‏

وأما الرجل فيرجم عند الجمهور قائماً، وقال مالك‏:‏ يرجم قاعداً‏.‏

قِيام الليل

التعريف

1 - القيام في اللّغة‏:‏ نقيض الجلوس‏.‏

والليل في اللّغة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء هو‏:‏ قضاء الليل ولو ساعةً بالصلاة أو غيرها، ولا يشترط أن يكون مستغرقاً لأكثر الليل‏.‏

ويرى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّه يحصل بصلاة العشاء جماعةً والعزم على صلاة الصّبح جماعةً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلى العشاء في جماعة فكانما قام نصف الليل، ومن صلى الصّبح في جماعة فكانما صلى الليل كله»‏.‏

وجاء في مراقي الفلاح‏:‏ معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم الليل بطاعة، وقيل‏:‏ ساعةً منه، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التهجّد‏:‏

2 - التهجّد في اللّغة من الهجود، ويطلق على النّوم والسهر‏:‏ يقال‏:‏ هجد‏:‏ نام بالليل، فهو هاجد، والجمع هجود، وهجد‏:‏ صلى بالليل، ويقال تهجد‏:‏ إذا نام، وتهجد إذا صلى، فهو من الأضداد، ومنه قيل لصلاة الليل‏:‏ التهجّد‏.‏

قال الأزهريّ‏:‏ المعروف في كلام العرب‏:‏ أنّ الهاجد هو النائم، هجد، هجوداً إذا نام، وأما المتهجّد فهو القائم إلى الصلاة من النّوم، وكانه قيل له متهجّد لإلقائه الهجود عن نفسه‏.‏

وقد فسرت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، ومجاهد، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاشِئَةَ اللَّيْلِ‏}‏، بالقيام للصلاة من النّوم، فيكون موافقاً للتهجّد‏.‏

وأما في الاصطلاح‏:‏ فقد ذكر القاضي حسين من الشافعية‏:‏ أنّ التهجّد في الاصطلاح هو صلاة التطوّع في الليل بعد النّوم، ويؤيّده ما روي من حديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏ يحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلّي حتى يصبح أنّه قد تهجد، إنّما التهجّد‏:‏ المرء يصلّي الصلاة بعد رقدة ‏"‏، وقيل‏:‏ إنّه يطلق على صلاة الليل مطلقاً‏.‏

وتفصيله في مصطلح ‏(‏تهجّد ف / 4 - 6‏)‏‏.‏

والصّلة بين قيام الليل والتهجّد‏:‏ أنّ قيام الليل أعمّ من التهجّد‏.‏

الحكم التكليفيّ

3 - اتفق الفقهاء على مشروعية قيام الليل، وهو سنّة عند الحنفية والحنابلة، ومندوب عند المالكية، ومستحبّ عند الشافعية‏.‏

واختلفوا في فرضيته على النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏اختصاص ف / 4‏)‏‏.‏

كما صرحوا بأنّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، قال أحمد‏:‏ ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل، وقد صرحت الأحاديث بفضله والحثّ عليه، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليكم بقيام الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربّكم، ومكفرة للسيّئات، ومنهاة عن الإثم»‏.‏

الوقت الأفضل لقيام الليل

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ قيام الليل لا يكون إلا بعد صلاة العشاء، سواء سبقه نوم أو لم يسبقه، وأنّ كونه بعد النّوم أفضل‏.‏

واختلفوا بعد ذلك في أفضل الأوقات لقيام الليل على أقوال‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّ الأفضل مطلقاً السّدس الرابع والخامس من الليل، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحبّ الصّيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه ويصوم يوماً ويفطر يوماً»‏.‏

وأما لو أراد أن يجعل الليل نصفين‏:‏ أحدهما للنّوم، والآخر للقيام، فالنّصف الأخير أفضل، لقلة المعاصي فيه غالباً، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدّنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏»‏.‏ ولو أراد أن يجعله أثلاثاً، فيقوم ثلثه، وينام ثلثيه، فالثّلث الأوسط أفضل من طرفيه ‏;‏ لأنّ الغفلة فيه أتمّ، والعبادة فيه أثقل، والمصلّين فيه أقلّ، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر»‏.‏

ويرى المالكية أنّ الأفضل قيام ثلث الليل الآخر لمن تكون عادته الانتباه آخر الليل، أما من كان غالب حاله أن لا ينتبه آخره، فالأفضل أن يجعله أول الليل احتياطاً‏.‏

أما الليل كلّه، فقد صرح الشافعية والحنابلة بكراهة قيامه، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلةً إلى الصّبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان»‏.‏

ولما روي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم «قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏:‏ ألم أخبر أنّك تصوم النهار وتقوم الليل‏؟‏ فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله، فقال‏:‏ فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنّ لجسدك عليك حقّاً وإنّ لعينك عليك حقّاً وإن لزوجك عليك حقّاً ولزورك عليك حقّاً»‏.‏

واستثنوا ليالي مخصوصةً لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر»‏.‏

عدد ركعاته

5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحبّ افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين»‏.‏

واختلفوا بعد ذلك، فقال الحنفية‏:‏ منتهى ركعاته ثماني ركعات، وهو عند المالكية عشر ركعات، أو اثنتا عشرة ركعةً‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ لا حصر لعدد ركعاته لخبر‏:‏ «الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر»‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ اختلفت الرّوايات في عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً»، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً‏:‏ يصلّي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلّي ثلاثاً»، وفي لفظ قالت‏:‏ «كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وغيره بالليل ثلاث عشرة ركعةً، منها ركعتا الفجر»‏.‏

وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مصطلحي ‏(‏تهجّد ف / 6، وصلاة التراويح ف / 11‏)‏‏.‏

وهل يصلى أربعاً أربعاً، أو مثنى مثنى‏؟‏ ذهب مالك والشافعية وأبو يوسف ومحمد إلى أنّه يصلى مثنى مثنى، احتجاجاً بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «صلاة الليل مثنى، مثنى‏.‏‏.‏‏.‏» ‏;‏ ولأنّ عمل الأمة في التراويح مثنى مثنى، من لدن عمر رضي الله تعالى عنه إلى يومنا هذا، فدل أنّ ذلك أفضل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلى أربعاً أربعاً، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها السابق‏.‏

وقال الموصليّ‏:‏ صلاة الليل ركعتان بتسليمة، أو ستّ أو ثمان ‏;‏ لأنّ كل ذلك نقل في تهجّده صلى الله عليه وسلم وتكره الزّيادة على ذلك ‏;‏ لأنّه لم ينقل‏.‏

ترك قيام الليل لمعتاده‏:‏

6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يكره ترك تهجّد اعتاده بلا عذر، لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما‏:‏ «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل»، فينبغي للمكلف الأخذ من العمل بما يطيقه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً داوم عليها»‏.‏

وقالت‏:‏ «كان عمله ديمةً»، وقالت‏:‏ «كان إذا عمل عملاً أثبته»‏.‏

الاجتماع لقيام الليل

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز التطوّع جماعةً وفرادى ‏;‏ لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما‏.‏

والأفضل في غير التراويح المنزل، لحديث‏:‏ «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»‏.‏

وفي رواية‏:‏ «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة»‏.‏ ولكن إذا كان في بيته ما يشغل باله، ويقلّل خشوعه، فالأفضل أن يصلّيها في المسجد فرادى ‏;‏ لأنّ اعتبار الخشوع أرجح‏.‏

ونص الحنفية على كراهة الجماعة في التطوّع إذا كان على سبيل التداعي، بأن يقتدي أربعة بواحد‏.‏

وصرح المالكية بأنّه يكره الجمع في النافلة غير التراويح إن كثرت الجماعة، سواء كان المكان الذي أريد الجمع فيه مشتهراً كالمسجد، أو لا كالبيت، أو قلت الجماعة وكان المكان مشتهراً، وذلك لخوف الرّياء‏.‏

فإن قلت وكان المكان غير مشتهر فلا كراهة، إلا في الأوقات التي صرح العلماء ببدعة الجمع فيها، كليلة النّصف من شعبان، وأول جمعة من رجب، وليلة عاشوراء، فإنّه لا خلاف في الكراهة مطلقاً‏.‏

قيام ليلة الجمعة

8 - نصَّ الحنفية على ندب إحياء ليلة الجمعة‏.‏

وصرح الشافعية بأنّه يكره تخصيص ليلة الجمعة بقيام‏.‏ أي بصلاة، لحديث‏:‏ «لا تختصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي»‏.‏

أما تخصيص غيرها، سواء كان بالصلاة أو بغيرها، فلا يكره‏.‏

وكذلك لا يكره تخصيص ليلة الجمعة بغير الصلاة، كقراءة القرآن، أو الذّكر، أو الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيام ليلتي العيدين

9 - اتفق الفقهاء على أنّه يندب قيام ليلتي العيدين لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام ليلتي العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏إحياء الليل ف / 11‏)‏‏.‏

قيام ليالي رمضان

10 - لا خلاف بين الفقهاء في سنّية قيام ليالي رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»‏.‏

وقال الفقهاء‏:‏ إنّ التراويح هي قيام رمضان، ولذلك فالأفضل استيعاب أكثر الليل بها ‏;‏ لأنّها قيام الليل‏.‏

قيام ليلة النّصف من شعبان والاجتماع له

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب قيام ليلة النّصف من شعبان، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإنّ الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدّنيا، فيقول‏:‏ ألا من مستغفر لي فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا مبتلًى فأعافيه‏.‏‏.‏‏.‏ ألا كذا‏.‏‏.‏‏.‏ ألا كذا‏.‏‏.‏‏.‏ حتى يطلع الفجر»‏.‏

والتفصيل في ‏(‏إحياء الليل ف / 13‏)‏‏.‏

قيام ليالي العشر من ذي الحجة

12 - صرح الحنفية والحنابلة أنّه يستحبّ قيام الليالي العشر الأول من ذي الحجة، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من أيام أحبّ إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر»‏.‏

قيام أول ليلة من رجب

13 – يرى بعض الفقهاء أنّه يستحب قيام أول ليلة من رجب، لأنّها من الليالي الخمس التي لا يردّ فيها الدعاء، وهي‏:‏ ليلة الجمعة، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتا العيد‏.‏

ما يستحبّ في قيام الليل

يستحبّ في قيام الليل ما يلي‏:‏

أ - الافتتاح بركعتين خفيفتين‏:‏

14 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يستحبّ لقائم الليل أن يفتتح تهجّده بركعتين خفيفتين لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين»، وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

ب - ما يقوله القائم للتهجّد‏:‏

15 - اختلفت عبارات الفقهاء فيما يقوله قائم الليل إذا قام من الليل يتهجد، تبعاً لاختلاف الرّوايات عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال سليمان الجمل‏:‏ إنّه يستحبّ أن يمسح المستيقظ النّوم عن وجهه، وأن ينظر إلى السماء ولو أعمى وتحت سقف، وأن يقرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏

وعن عبادة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من تعارّ ‏"‏ استيقظ ‏"‏، من الليل فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال‏:‏ اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته»‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال‏:‏ اللهم لك الحمد، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، ولقاؤك حقّ، وقولك حقّ، والجنّة حقّ، والنار حقّ، والنّبيّون حقّ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حقّ، والساعة حقّ، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك» وزاد في رواية‏:‏ «ولا حول ولا قوة إلا بالله»‏.‏

ج - كيفية القراءة في قيام الليل‏:‏

16 - قال الحنفية والحنابلة‏:‏ إنّ قائم الليل مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، غير أنّ الحنفية قالوا‏:‏ إنّ الجهر أفضل ما لم يؤذ نائماً ونحوه، وقال الحنابلة‏:‏ إن كان الجهر أنشط له في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها، فالجهر أفضل، وإن كان قريباً منه من يتهجد، أو من يستضرّ برفع صوته، فالإسرار أولى، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء، قال عبد الله بن أبي قيس‏:‏ «سألت عائشة رضي الله تعالى عنها، كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ كلّ ذلك قد كان يفعل، ربما أسر بالقراءة، وربما جهر»، وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ «كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يرفع طوراً ويخفض طوراً»‏.‏

وصرح المالكية بأنّه يندب الجهر في صلاة الليل ما لم يشوّش على مصلّ آخر، وإلا حرم، والسّرّ فيها خلاف الأولى‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ يسنّ التوسّط بين الإسرار والجهر إن لم يشوّش على نائم أو مصلّ أو نحوهما‏.‏

د - إيقاظ من يرجى تهجّده‏:‏

17 - نصَّ الشافعية على أنّه يستحبّ لمن قام يتهجد أن يوقظ من يطمع في تهجّده إذا لم يخف ضرراً، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً، والذاكرات»‏.‏

هـ - إطالة القيام وتكثير الركعات‏:‏

18 - ذهب جمهور الحنفية، والمالكية في قول، والشافعية، وهو وجه عند الحنابلة، إلى أنّ طول القيام أفضل من كثرة العدد، فمن صلى أربعاً مثلاً وطول القيام أفضل ممن صلى ثمانياً ولم يطوّله، للمشقة الحاصلة بطول القيام، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفضل الصلاة طول القنوت» والقنوت‏:‏ القيام‏.‏

ولأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته التهجّد، وكان يطيله، وهو صلى الله عليه وسلم لا يداوم إلا على الأفضل‏.‏

وزاد الشافعية قولهم‏:‏ هذا إن صلى قائماً، فإن صلى قاعداً فالأقرب أنّ كثرة العدد أفضل، لتساويهما في القعود الذي لا مشقة فيه، حيث زادت كثرة العدد بالرّكوعات والسّجودات وغيرها‏.‏

وقال أبو يوسف من الحنفية‏:‏ إذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل، وأما إذا كان له ورد من القرآن يقرؤه، فكثرة السّجود أفضل‏.‏

وذهب المالكية في الأظهر، وهو وجه عند الحنابلة‏:‏ إلى أنّ الأفضل كثرة الرّكوع والسّجود، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليك بكثرة السّجود، فإنّك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحط عنك بها خطيئةً» ‏;‏ ولأنّ السّجود في نفسه أفضل وآكد، بدليل أنّه يجب في الفرض والنّفل، ولا يباح بحال إلا لله تعالى، بخلاف القيام، فإنّه يسقط في النّفل، ويباح في غير الصلاة للوالدين، والحاكم، وسيّد القوم والاستكثار مما هو آكد وأفضل أولى‏.‏

وللحنابلة وجه ثالث، وهو‏:‏ أنّهما سواء، لتعارض الأخبار في ذلك‏.‏

و - نية قيام الليل عند النّوم‏:‏

19 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يندب أن ينوي الشخص قيام الليل عند النّوم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربّه عز وجل»‏.‏

قَيْح

التعريف

1 - القيح في اللّغة‏:‏ المدة الخالصة التي لا يخالطها دم‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الصديد‏:‏

2 - الصديد هو ماء الجرح الرقيق المختلط بدم قبل أن تغلظ المدة، ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والعلاقة بينهما أنّ الصديد يكون في الجرح قبل القيح‏.‏

ب - الدم‏:‏

3 - الدم - بالتخفيف - هو ذلك السائل الأحمر الذي يجري في عروق الحيوانات وعليه تقوم الحياة‏.‏

ويستعمل الفقهاء الدم بهذا المعنى، وكذلك بمعنى القصاص والهدي‏.‏

والدم بالمعنى الأول أصل القيح‏.‏

الأحكام التي تتعلق بالقيح

حكم القيح من حيث النّجاسة والطهارة

4 - اتفق الفقهاء على أنّ القيح إذا خرج من بدن الإنسان فهو نجس ‏;‏ لأنّه من الخبائث، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏، والطّباع السليمة تستخبثه، والتحريم لا للاحترام دليل النّجاسة ‏;‏ لأنّ معنى النّجاسة موجود في القيح إذ النّجس اسم للمستقذر وهذا مما تستقذره الطّباع السليمة لاستحالته إلى خبث ونتن رائحة ‏;‏ ولأنّه متولّد من الدم والدم نجس‏.‏

انتقاض الوضوء بالقيح

5 - اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بالقيح، فقال المالكية والشافعية‏:‏ لا ينتقض الوضوء بخروج القيح من البدن ‏;‏ لأنّ النّجاسة التي تنقض الوضوء عندهم هي ما خرجت من السبيلين فقط، فلا ينتقض الوضوء بالنّجاسة الخارجة من غير السبيلين كالحجامة والقيح ‏;‏ لما روي‏:‏ «أنّ رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين في غزوة ذات الرّقاع فقام أحدهما يصلّي فرماه رجل من الكفار بسهم فنزعه وصلى ودمه يجري»‏.‏

وعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم به ولم ينكره‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنّ خروج القيح من البدن إلى موضع يلحقه حكم التطهير ينقض الوضوء، قال السرخسيّ‏:‏ لو تورم رأس الجرح فظهر به قيح ونحوه لا ينقض ما لم يتجاوز الورم ‏;‏ لأنّه لا يجب غسل موضع الورم فلم يتجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير ‏;‏ لأنّ الدم إذا لم يسل كان في محلّه ‏;‏ لأنّ البدن محلّ الدم والرّطوبات إلا أنّه كان مستتراً بالجلدة وانشقاقها يوجب زوال السّترة لا زوال الدم عن محلّه ولا حكم للنّجس ما دام في محلّه وكذا هاهنا، ألا ترى أنّه تجوز الصلاة مع ما في البطن من الأنجاس‏.‏

وقال زفر من الحنفية ينتقض الوضوء سواء سال القيح أو لم يسل ‏;‏ لأنّ ظهور النّجس اعتبر حدثاً في السبيلين سال عن رأس المخرج أو لم يسل كذا في غير السبيلين‏.‏

والمذهب عند الحنابلة انتقاض الوضوء بالقيح إلا أنّ الذي ينقض عندهم هو الكثير من ذلك دون اليسير، أما كون الكثير ينقض فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فاطمة بنت أبي حبيش‏:‏ «إنّما ذلك عرق، فتوضئي لكلّ صلاة» ‏;‏ ولأنّها نجاسة خارجة عن البدن أشبهت الخارج من السبيل، وأما كون اليسير من ذلك لا ينقض فلمفهوم قول ابن عباس رضي الله عنهما في الدم‏:‏ إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ إنّ الكثير هو ما فحش في نفس كلّ أحد بحسبه، لقول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏ الفاحش ما فحش في قلبك، وفي رواية أنّه ينقض قل أو كثر ‏"‏‏.‏

صلاة من كان في ثوبه أو بدنه قيح

6 - قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين إن أصاب بدن الإنسان أو ثوبه شيء من القيح فإنّه لا تجوز الصلاة إن كان كثيراً ‏;‏ لأنّ من شروط الصلاة طهارة الثوب والبدن والمكان، وأما إذا كان القيح يسيراً فإنّه في الجملة يعفى عن اليسير وتجوز الصلاة به ‏;‏ لأنّ الإنسان غالباً لا يسلم من مثل هذا ‏;‏ ولأنّه يشقّ التحرّز منه‏.‏

ثم اختلف الفقهاء في قدر اليسير المعفوّ عنه، انظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صديد ف / 17‏)‏‏.‏

قِيراط

انظر‏:‏ مقادير‏.‏