فصل: خلافة أبي العباس السفاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان:

وهو حادي عشر خلفاء بني أمية، لما مات هشام، نفذت الكتب إلى الوليد، وكان الوليد مقيماً في البريّة بالأزرق خوفاً من هشام، وكان الوليد وأصحابه في ذلك الموضع في أسوأ حال، ولما اشتد به الضيق، أتاه الفرج بموت هشام، وكانت البيعة للوليد يوم الأربعاء، لثلاث خلون من ربيع الآخر، من هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، وعكف الوليد على شرب الخمر، وسماع الغناء ومعاشرة النساء، وزاد الناس في أعطيتهم عشرات، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة أخرى، ولم يقل في شيء سُئله لا.
انتهى اَلنقل من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، وابتدأت من هنا من تاريخ ابن الأثير الكامل، وفي هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، توفي القاسم بن أبي برة، وهو من المشهورين بالقراءة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة، فيها سلم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، خالد بن عبد الله القسري. إلى يوسف بن عمر، عامله على العراق، فعذبه وقتله.
قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
في هذه السنة، قتل الوليد، قتله يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الذي يقال له يزيد الناقص، وكان مقتله في جمادى الآخرة، سنه ست وعشرين ومائة، بسبب كثرة مجونه ولهوه وشربه الخمر، ومنادمة الفساق، فثقل ذلك على الرعية والجند، وأذى بني عميه هشام والوليد، فرمره بالكفر، وغشيان أمهات أولاد أبيه، ودعا يزيد إلى نفسه، واجتمعت عليه اليمانية، ونهاه أخوه العباس بن الوليد بن عبد الملك عن ذلك، وتهدده، فأخفى يزيد الأمر عن أخيه، وكان يزيد مقيماً بالبادية، لوخم دمشق، فلما، اجتمع له أمره، قصد دمشق متخفياً في سبعة نفر، وكان بينه وبينها مسيرة أربعة أيام، ونزل بجيرود على مرحلة من دمشق، ثم دخل دمشق ليلاً، وقد بايع له أكثر أهلها، وكان عامل الوليد على دمشق، عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وجاء الوباء بدمشق فخرج منها، ونزل قرية قطنا، وظهر يزيد في دمشق، واجتمعت عليه الجند وغيرهم، وأرسل إلى قطنا مائتي فارس، فأخذوا عبد الملك المذكور، عامل الوليد على دمشق بالأمان، ثم جهز يزيد جيشاً إلى الوليد بن زيد بن عبد الملك، ومقدمهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ولما ظهر يزيد بن الوليد بدمشق، سار بعض موالي الوليد إليه، وأعلمه، وهو بالأغذف من عمان، فسار الوليد حتى أتى البحرة، إلى قصر النعمان بن بشير، ونازله عبد العزيز، وجرى بينه وبين الوليد قتال كثير، وقصد العباس بن الوليد بن عبد الملك، أخوه يزيد المذكور، اللحوق بالوليد ونصرته على أخيه، فأرسل عبد العزيز، منصور بن جمهور، إلى العباس، فأخذه قهراً، وأتى به إلى عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك، فبايع، ونصب عبد العزيز راية وقال: هذه راية العباس، قد بايع لأمير المؤمنين يزيد، فتفرق الناس عن الوليد، فركب الوليد بمن بقي معه، وقاتل قتالاً شديداً، ثم انهزم عنه أصحابه، فدخل القصر وأغلقه، وحاصروه ودخلوا إليه وقتلوه، واحتزوا رأسه، وسيروه إلى يزيد بن الوليد، فسجد يزيد شكراً لله، ووضع الرأس على رمح، وطيف به في دمشق، وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، فكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وقيل غير ذلك، وكان الوليد من فتيان بني أمية وظرفائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء.

.خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك:

وهو ثاني عشر خلفائهم، استقر يزيد الناقص في الخلافة، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، وسمي يزيد الناقص، لأنه نقص الناس العشرات التي زادها الوليد، وقررهم على ما كانوا عليه أيام هشام، ولما قتل الوليد وتولى يزيد الخلافة خالفه أهل حمص، وهجموا دار أخيه العباس بحمص، ونهبوا ما بها، وسلبوا حرمه، وأجمعوا على المسير إلى دمشق لحرب يزيد، فأرسل إليهم يزيد عسكراً، والتقوا قرب ثنية العقاب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أهل حمص، واستولى عليها يزيد، وأخذ البيعة عليهم.
ثم اجتمع أهل فلسطين، فوثبوا على عامل يزيد، فأخرجوه من فلسطين، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فجعلوه عليهم، ودعا الناس إلى قتال يزيد الناقص، فأجابوه إلى ذلك، وبلغ يزيد ذلك، فأرسل إليهم جيشاً مع سليمان بن هشام ابن عبد الملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عن صاحبهم، فلما قرب منهم الجيش تفرقوا، وقدم جيش سليمان في أثر يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فنهبوه، وسار سليمان بن هشام بن عبد الملك حتى نزل طبرية، وأخذ البيعة بها ليزيد الناقص، ثم سار حتى نزل الرملة، وأخذ البيعة على أهلها أيضاً للمذكور.
ثم أن يزيداً عزل يوسف بن عمر عن العراق، واستعمل عليه منصور بن جمهور، وضم إليه مع العراق خراسان، فامتنع نصر بن سيار في خراسان، ولم يجب إلى ذلك، ثم عزل يزيد بن الوليد، منصور بن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز.
وفي هذه السنة أعني سنة ست وعشرين ومائة، أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد.
وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك:
وفي هذه السنة، توفي يزيد الناقص المذكور، لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت خلافته خمسة أشهر واثني عشر يوماً، وكان موته بدمشق، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، وقيل ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك.
وكان أسمر طويلاً، صغير الرأس جميلاً.

.خلافة إبراهيم بن الوليد:

ولما مات يزيد بن الوليد، قام بالأمر بعده إبراهيم أخوه وهو ثالث عشر خلفائهم، غير أنه لم يتم له الأمر، وكان يسلم عليه بالخلافة تارة، وتارة بالإمارة، فمكث أربعة أشهر وقيل سبعين يوماً.
وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
وفيها توفي أبو جمرة صاحب ابن عباس، جمرة بالجيم والراء المهملة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة، فيها سار مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، أمير ديار الجزيرة، إلى الشام لخلع إبراهيم بن الوليد، ولما وصل إلى قنسرين، اتفق معه أهلها، وساروا معه، ولما وصل مروان إلى حمص، بايعه أهلها، وصاروا معه أيضاً، ولما قرب مروان من دمشق، بعث إبراهيم إلى قتاله الجنود، مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكانت عدتهم مائة وعشرين ألفاً، وعدة عسكر مروان بن محمد ثمانين ألفاً، فاقتتلوا من ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم، وانهزم عسكر إبراهيم، ووقع القتل فيهم والأسر، وهرب سليمان فيمن هرب إلى دمشق، واجتمعوا مع إبراهيم، وقتلوا ابني الوليد بن يزيد وكانا في السجن، ثم هرب إبراهيم واختفى، ونهب سليمان بن هشام بيت المال، وقسمه في أصحابه، وخرج من دمشق.

.خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم:

وهو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم، وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، بويع لمروان المذكور في دمشق بالخلافة، ولما استقر له الآمر، رجع إلى منزله بحران، وأرسل إبراهيم المخلوع بن الوليد، وسليمان بن هشام، فطلبا من مروان الأمان، فأمنهما، فقدما عليه ومع سليمان أخوته وأهل بيته فبايعوا مروان بن محمد.
وفي هذه السنة، عصي أهل حمص على مروان، فسار مروان من حران إلى حمص، وقد سد أهلها أبوابها، فأحدق بالمدينة، ثم فتحوا له الأبواب وأظهروا طاعته، ثم وقع بينهم قتال، فقتل من أهل حمص مقتلة، وهدم بعض سورها، وصلب جماعة من أهلها.
ولما فتح حمص جاءه الخبر بخلاف أهل الغوطة، وأنهم ولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وأنهم قد حصروا دمشق، فأرسل مروان عشرة آلاف فارس، مع أبي الورد بن الكوثر، وعمرو بن الصباح، وساروا من حمص، ولما وصلوا إلى قرب دمشق، حملوا على أهل الغوطة، وخرج من بالبلد عليهم أيضاً، فانهزم أهل الغوطة، ونهبهم العسكر وأحرقوا المزة وقرى غيرها.
ثم عقيب ذلك خالفت أهل فلسطين، ومقدمهم ثابت بن نعيم، فكتب مروان إلى أبي الورد يأمره بالسير إليه، فسار إليه وهزمه على طبرية، ثم اقتتلوا على فلسطين، فانهزم ثابت بن نعيم، وتفرق أصحابه، وأسر ثلاثة من أولاده، فبعث بهم أبو الورد إلى مروان، وأعلمه بالنصر.
ثم سار مروان بن محمد إلى قرقيسيا، فخلعه سليمان بن هشام بن عبد الملك، واجتمع إليه من أهل الشام سبعون ألفاً، وعسكر بقنسرين، وسار إليه مروان من قرقيسيا، والتقوا بأرض قنسرين، وجرى بينهم قتال شديد، ثم انهزم سليمان بن هشام وعسكره، واتبعهم خيل مروان يقتلون ويأسرون، فكانت القتلى من عسكر سليمان تزيد على ثلاثين ألفاً، ثم إن سليمان وصل إلى حمص، واجتمع إليه أهلها وبقية المنهزمين، فسار إليهم مروان وهزمهم ثانية، وهرب سليمان إلى تدمر، وعصى أهل حمص، فحاصرهم مروان مدة طويلة، ثم طلبوا الأمان، وسلموا إلى مروان من كان عليهم من الولاة، من جهة سليمان، فأجابهم إلى ذلك ومنهم.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، مات محمد بن واسع الأزدي الزاهد.
وفيها مات عبد الله بن إسحاق. مولى الحضرمي من خلفاء عبد شمس، وكنيته أبو بحر، وكان إماماً في النحو واللغة، وكان يعيب الفرزدق في شعره، وينسبه إلى اللحن، فهجاه الفرزدق بقوله:
ولو كان عبد الله مولى هجوته ** ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال له عبد الله: وقد لحنت أيضاً في قولك مولى مواليا، يل ينبغي أن تقول مولى موالي.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة، فيها أرسل مروان بن محمد، يزيد بن هبيرة إلى العراق، لقتال من به من الخوارج، وكان بخراسان نصر بن سيار، والفتنة بها قائمة، بسبب دعاة بني العباس.
وفيها مات عاصم بن أبي النجود، صاحب القراة، والنجود الحمارة الوحشية.

.ظهور دعوة بني العباس:

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة، فيها ظهرت دعوة بني العباس بخراسان، وكان يختلف أبو مسلم الخراساني من خراسان، إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يُسمى إبراهيم الإمام، ومنه إلى خراسان، ليستلم منه إبراهيم الأحوال، فلما كانت هذه السنة، استدعى إبراهيم أبا مسلم من خراسان، فسار إليه، ثم أرسل إليه إبراهيم أن ابعث إلي بما معك من المال مع قحطبة، وارجع إلى أمرك من حيث وافاك كتابي، ووافاه الكتاب بقومس، فامتثل أبو مسلم ذلك، وأرسل ما معه إلى إبراهيم مع قحطبة، ورجع أبو مسلم إلى خراسان، فلما وصل إلى مرو أظهر الدعوة لبني العباس، فأجابه الناس، وأرسل إلى بلاد خراسان بإظهار ذلك، وذلك بعد أن كان قد سعى في ذلك سراً مدة طويلة، ووافقه الناس في الباطن، وأظهروا ذلك في هذه السنة، وجرى بين أبي مسلم، وبين نصر بن سيار، أمير خراسان من جهة بني أمية، مكاتبات ومراسلات يطول شرحها، ثم جرى بينهما قتال، فقتل أبو مسلم بعض عمال نصر بن سيار، على بعض بلاد خراسان، واستولى على ما بأيديهم، وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة، وكان قهرماناً لإدريس معقل العجلي، ثم صار إلى أن ولاه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الأمر في استدعاء الناس في الباطن، ثم مات محمد، فولاه ابنه إبراهيم الإمام بن محمد ذلك، ثم الأئمة من ولد محمد، ولما قوى أبو مسلم على نصر بن سيار، ورأى نصر أن أمر أبي مسلم كلما جاء في قوة، كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بالحال، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكتب أبيات شعر وهي:
أرى تحتَ الرماد وميضَ نارٍ ** وأوشك أن تكون لها ضرامُ

فإن لم يُطفها عقلاءُ قوم ** يكون وقودها جثث وهامُ

فقلت من التعجب ليتَ شعري ** أأيقاظ أمية أم نيامُ

وكان مقام إبراهيم الإمام وأهله بالشراة، من الشام، بقرية يقال لها الحميمة، والحميمة، بضم الحاء المهملة، وميم مفتوحة، وياء مثناهْ من تحتها ساكنة، ثم ميم وهاء، هي عن الشوبك أقل من مسيرة يوم، بينها وبين الشوبك وادي موسى، وهي من الشوبك قبلة بغرب، وتلك البقعة التي هي من الشوبك، إلى جهة الغرب، والقبلة، يقال لها الشراة.
ولما بلغ مروان الحال، أرسل إلى عامله بالبلقاء، أن يسير إليه إبراهيم بن محمد المذكور، فشدّه وثاقاً، وبعث به إليه، فأخذه مروان وحبسه في حران، حتى مات إبراهيم في حبسه، وكان مولده في سنة اثنتين وثمانين.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة، في هذه السنة، دخل أبو مسلم مدينة مرو ونزل في قصر الإمارة، في ربيع الآخر، وهرب نصر بن سيار من مرو، ثم وصل قحطبة من عند الإمام إبراهيم بن محمد إلى أبي مسلم، ومعه لواء كان قد عقده له إبراهيم، فجعل أبو مسلم قحطبة في مقدمته، وجعل إليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بذلك.
وفيها أعني سنة ثلاثين ومائة، وقيل سنة ست وثلاثين، توفي ربيعة الرأي ابن فروج، فقيه أهل المدينة، أدرك جماعة من الصحابة، وعنه أخذ العلم الإمام مالك.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة، فيها مات نصر بن سبار بساوة، قرب الري، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، وفيها، أيضاً توفي أبو حذيفة، واصل بن عطاء الغزال المعتزلي، وكان مولده سنة ثمانين للهجرة، وكان يشتغل على الحسن البصري، ثم اعتزل عنه، وخالف في قوله في أصحاب الكبائر من المسلمين، أنهم ليسوا مؤمنين ولا كافرين، بل لهم منزلة بين المنزلتين، فسمي وأصحابه معتزلة، وكان واصل المذكور، يلثغ بالراء، ويتجنب اللفظ بالراء في كلامه، حتى ذكر ذلك في الأشعار فمنه في المديح:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما ** تجنب ابن عطاء لثغة الراء

ولم يكن واصل بن عطاء غزّالا، وإنما كان يلازم الغّزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيحمل صدقته لهن.
وفيها أعني سنة إحدى وثلاثين ومائة، توفي بالبصرة مالك بن دينار، من موالي بني أسامة بن ثور القرشي، العالم الناسك الزاهد المشهور، وما أحسن ما وري باسم مالك المذكور، واسم أبيه دينار، بعض الشعراء، في ملك اقتتل مع أعدائه، وانتصر عليهم، وأسر الرجال وفرق الأموال فقال:
أعتقت من أموالهم ما استعبدوا ** وملكتُ رقهم وهم أحرارُ

حتى غدا من كان منهم مالكا ** متمنياً لو أنه دينار

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في هذه السنة، سار قحطبة في جيش كثيف من خراسان، طالباً يزيد بن هبيرة أمير العراق، من جهة مروان، آخر خلفاء بني أمية، وسار حتى قطع الفرات، والتقيا، فانهزم ابن هبيرة، وعدم قحطبة، فقيل غرق، وقيل وجد مقتولاً، وقام بالأمر بعده ابنه الحسن بن قحطبة.

.ذكر خلفاء بني العباس وما جرى في زمنهم من أحداث:

.خلافة أبي العباس السفاح:

وفي هذه السنة بويع أبو العباس السفاح، واسمه عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بالخلافة، في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر بالكوفة، بعد مسيره من الحميمة، وكان سبب مسيره من الحميمة، وكان مقامه بها، أن إبراهيم الإمام لما أمسكه مروان، نعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى أهل الكوفة، مع أخيه أبي العباس السفاح، وبالسمع له والطاعة، وأوصى إبراهيم الإمام بالخلافة إلى أخيه السفاح، وسار أبو العباس السفاح بأهل بيته، منهم أخوه أبو جعفر المنصور، وغيره، إلى الكوفة، فقدم إليها في صفر، واستخفى إلى شهر ربيع الأول، فظهر وسلم عليه الناس بالخلافة، وعزره في أخيه إبراهيم الإمام، ودخل دار الإمارة بالكوفة، صبيحة يوم الجمعة، ثاني عشر ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ثم خرج إلى المسجد، فخطب وصلى بالناس، ثم صعد إلى المنبر ثانياً، وصعد عمه داود بن علي، فقام دونه، وخطبا الناس، وحضاهم على الطاعة ثم نزل السفاح وعمه داود بن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور في المسجد، يأخذ له البيعة على الناس، ثم خرج السفاح فعسكر بحمام أعين واستخلف على الكوفة وأرضها، عمه داود بن علي، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله ابن بسام.
ثم بعث السفاح عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إلى شهرزور، وأهلها مذعنون بالطاعة لبني العباس، وبها من جهة بني العباس أبو عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي.
وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط.
وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس، إلى حميد بن قحطبة، أخي الحسن بن قحطبة بالمدائن، وأقام السفاح في العسكر أشهراً، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية، وهي هاشمية الكوفة، بقصر الإمارة.
هزيمة مروان بالزاب وأخباره إلى أن قتل:
كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، آخر خلفاء بني أمية، وكان يقال له مروان الجعدي، وحمار الجزيرة أيضاً، بحران، فسار منها طالباً أبا عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي، المستولي على شهرزور من جهة بني العباس، فلما وصل مروان إلى الزاب، نزل به وحفر عليه خندقاً، وكان في مائة ألف وعشرين ألفاً، وسار أبو عون من شهرزور إلى الزاب، بما عنده من الجموع، وأردفه السفاح بعساكر في دفوع، مع عدة مقدمين، منهم سلمة بن محمد ابن عبد الله الطائي، وعم السفاح عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، كما ذكرناه، ولما قدم عبد الله بن علي على أبي عون، تحول أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه.
ثم إن مروان عقد جسراً على الزاب، وعبر إلى جهة عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فسار عبد الله بن علي إلى مروان، وقد جعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد بن معاوية، وكان عسكر عبد الله عشرين ألفاً، وقيل أقل من ذلك، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، وداخل عسكر مروان الفشل، وصار لا يريد أمراً إلا وكان فيه الخلل، حتى تمت الهزيمة على عسكر مروان، فانهزموا وغرق من أصحاب مروان عدة كثيرة، وكان ممن غرق، إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان المخلوع، وهو يومئذ مع مروان الحمار، وكتب عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح، وحوى من عسكر مروان سلاحاً كثيراً.
وكانت هزيمة مروان بالزاب، يوم السبت، لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما انهزم مروان من الزاب، أتى الموصل، فسبّه أهلها وقالوا: يا جعدي، الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا، فسار عنها حتى أتى حران، وأقام بها نيفاً وعشرين يوماً، حتى دنا منه عسكر السفاح، فحمل مروان أهله وخيله، ومضى منهزماً إلى حمص، وقدم عبد الله بن علي حران، ثم سار مروان من حمص وأتى دمشق، ثم سار عن دمشق إلى فلسطين، وكان السفاح قد كتب إلى عمه عبد الله بن علي باتباع مروان، فسار عبد الله في أثره إلى أن وصل إلى دمشق، فحاصرها ودخلها عنوة، يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان، سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ولما فتح عبد الله بن علي دمشق، أقام بها خمسة عشرة يوماً، ثم سار من دمشق حتى أتى فلسطين، فورد عليه كتاب السفاح يأمره أن يرسل أخاه، صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في طلب مروان، فسار صالح في ذي القعدة من هذه السنة، حتى نزل نيل مصر، ومروان منهزم قدامه، حتى أدركه في كنيسة في بوصير من أعمال مصر، وانهزم أصحاب مروان، وطعن إنسان مروان برمح فقتله، وسبق إليه رجل من أهل الكوفة، كان يبيع الرمان، فاحتز رأسه، وكان قتله لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما أحضر رأسه قدام صالح بن علي بن عبد الله ابن العباس، أمر أن ينفض، فانقطع لسانه، فأخذته هرة، وأرسله صالح إلى السفاح وقال:
قد فتحَ اللهُ مصراً عنوةً لكُمُ ** وأهلك الفاجرَ الجعديَ إذ ظلما

وذاك مقوله هر يجرره ** وكان ربُكَ من ذي الكفر منتقما

ثم رجع صالح المذكور إلى الشام، وخلف أبا عون بمصر، ولما وصل الرأس إلى السفاح وهو بالكوفة، سجد شكراً لله تعالى، ولما قتل مروان، هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة، فقاتلتهم الحبشة، فقتل عبيد الله، ونجا عبد الله في عدّة ممن معه، وبقي إلى خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي، ولما قتل مروان حُملت نساؤه وبناته إلى بين يدي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فأمر بحملهن إلى حران، فلما دخلنها ورأين منازل مروان، رفعن أصواتهن بالبكاء، وكان عمر مروان لما قتل، اثنتين وستين سنة، وكانت مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر ونصفاً، وكان يكنى أبا عبد الملك وكانت أمه أم ولد كردية، وكان يلقب بالحمار، وبالجعدي، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه، في القول بخلق القرآن، والقدر، وكان مروان بن محمد، الحكمٍ المذكور، أبيض أشهل، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة، وكان شجاعاً، حازماً، إلا أن مدته انقضت، فلم ينفعه حزمه وهو آخر الخلفاء من بني أمية.
من قتل من بني أمية:
كان سليمان بن هشام بن عبد الملك، قد أمنه السفاح وأكرمه، فدخل سديف على السفاح وأنشده:
لا يغرنك ما ترى من رجال ** إنّ تحت الضلوع داء دويا

فضع السيفَ وارفع السوطَ حتّى ** لا ترىَ فوق ظهرها أمويا

فأمر السفاح بقتل سليمان، فقتل، وكان قد اجتمع عند عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، عدة من بني أمية، نحو تسعين رجلاً، فلما اجتمعوا عند حضور الطعام، دخل شبل بن عبد الله، مولى بني هاشم، على عبد الله بن علي عم السفاح المذكور وأنشده:
أصبحَ الملك ثابتُ الأساس ** بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم فشفوها ** بعد ميل من الزمان وياس

لا تقيلن عبد شمس عثاراً ** واقطعن كل رقلة وغرَاس

ذلها أظهر التودد منها ** وبها منكم كحد المواسي

ولقد ساءني وساء سوائي ** قربهم من نمارق وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها الل ** ه بدار الهوان والإتعاس

واذكروا مصرع الحسين وزيد ** وشهيد بجانبَ المهراس

والقتل الذي بحران أضحى ** ثاوياً بين غربة وتتاس

فأمر عبد الله بهم، فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جميعاً، وأمر عبد الله بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، ونبش قبر يزيد ابنه، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، ونبش قبر هشام بن عبد الملك، فوجد صحيحاً، فأمر بصلبه فصلب ثم أحرقه بالنار، وذراه، وتتبع يقتل بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فلم يفلت منهم غير رضيع، أو من هرب إلى الأندلس، وكذلك قَتَل سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة، جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، ولما رأى من بقي من بني أمية ذلك، تشتتوا واختفوا في البلاد.
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة، خلع أبو الورد بن الكوثر، وكان من أصحاب مروان بن محمد، طاعة بني العباس، بعد أن كان قد دخل في طاعتهم، فسار عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس، إلى أبي الورد، وهو بقنسرين، في جمع عظيم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وكثر القتل في الفريقين، ثم انهزمت أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد حتى قتل.
ولما فرغ عبد الله بن علي من أمر أبي الورد، من أهل قنسرين، وجدد البيعة معهم، ثم رجع إلى دمشق، وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً، ونهبوا أهل عبد الله بن علي، فلما دنا عبد الله من دمشق، هربوا، ثم أمنهم.
وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الموصل، وكان أهلها قد أخرجوا الوالي الذي بها، فسار يحيى إلى الموصل، ولما استقر بها، قتل من أهلها نحو أحد عشر ألف رجل، ثم أمر بقتل نسائهم وصبيانهم، وكان مع يحيى قائد معه أربعة آلاف زنجي، فاستوقفت امرأة من الموصل يحيى، وقالت: مأنف للعربيات أن ينكحن الزنوج، فعمل كلامها فيه، وجمع الزنوج فقتلهم، عن آخرهم.
وفي هذه السنة أرسل السفاح أخاه أبا جعفر المنصور، والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمنية، وولى عمه داود المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الكوفة وسوادها، وكان على الشام عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وعلى مصر أبو عون بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة:
فيها استولى ملك الروم، وكان اسمه قسطنطين على ملطية، وقاليقلا، وفيها ولى السفاح عمه سليمان بن علي ابن عبد الله بن عباس، البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان، واستعمل عمه إسماعيل ابن علي بن عبد الله بن عباس على الأهواز.
وفيها مات عم السفاح داود بن علي بالمدينة، وولى السفاح مكانه زياد بن عبد الله الحارثي.
وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، لكثرة قتله فيهم، وولى عليها عمه إسماعيل بن علي.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة:
فيها تحول السفاح من الحيرة، وكان مقامه بها، إلى الأنبار، في ذي الحجة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة:
فيها توفي يحيى أخو السفاح بفارس، وكان قد ولاه إياها السفاح بعد عزله عن الموصل.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة:
فيها استأذن أبو مسلم السفاح في القدوم عليه، وفي الحج، فأذن له فحج أبو مسلم، وحج أبو جعفر المنصور أيضاً، وكان أبو جعفر هو أمير الموسم.
موت السفاح في هذه السنة مات السفاح بالأنبار، في ذي الحجة بالجدري، وعمره ثلاث وثلاثون سنة فمدة خلافته، من لدن قتل مروان، أربع سنين، وكان قد بويع له بالخلافة قبل قتل مروان بثمانية أشهر، وكان السفاح طويلا أقنى الأنف، أبيض، حسن الوجه واللحيه، وصلى عليه عمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفنه بالزنبار العتيقة.