فصل: غزوة قرقرة الكدر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.غزوة بني قينقاع مع اليهود:

وهم أول يهود نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فخرج إليهم في منتصف شوال سنة اثنتين، فتحصنوا، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وكان هؤلاء اليهود خلفاء الخزرج، فأعرض النبي عنه، فأعاد السؤال، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أحسن. فقال: «ويحك أرسلني» فقال لا والله حتى تحسن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون جميع أموالهم.

.غزوة السويق:

ثم كانت غزوة السويق وكان من أمرها، أن أبا سفيان حلف أن لا يمس الطيب والنساء حتى يغزو محمد صلى الله عليه وسلم، بسبب قتلى بدر، فخرج في مائتي راكب، وبعث قدامه رجال إلى المدينة، فوصلوا إلى العريض وقتلوا رجالاً من الأنصار، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ركب في طلبه، وهرب أبو سفيان وأصحابه، وجعلوا يلقونْ جرب سويق تخفيفاٌ، فسميت لذلك غزوة السويق.

.غزوة قرقرة الكدر:

وقيل كانت سنة ثلاث، وقرقرة الكدر، ماء مما يلي جادة العراق إلى مكة، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بهذا المرضع جمعاً من سليم وغطفان، فخرج لقتالهم، فلم يجد أحداً، فاستاق ما وجد من النعم، ثم قدم المدينة. وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين، مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه. وفي هذه السنة تزوج علي بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كانت الوقعة بذي قار بين بكر بن وائل وبين جيش كسرى برويز، وعليه الهامرز، واقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت الفرس ومن كان معهم من العرب، وقتل الهامرز. وفيها هلك أمية بن أبي الصلت، واسم أبي الصلت عبد الله ابن ربيعة، وكان أميةْ المذكور من رؤساء الكفار، وكان قد قرأ في الكتب واطلع على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكفر به حسداً، وكان يرتجي أن يكون هو المبعوث، وكان أمية قد سافر إلى الشام، وعاد إلى الحجاز عقب وقعة بدر، ولما مر بالقليب قيل له أن فيه قتلى بدر، ومنهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا خال أمية المذكور، فجدع أذني ناقته ووقف على القليب وقال قصيدة طويلة منها:
ألا بكيتَ على الكرا ** م بني الكرام أولى الممادح

كبكا الحمام على فرو ** ع الأيك في الغصن الجوانح

يبكين حزني مستكي ** نات يرحن مع الروايح

أمثالهن الباكيا ** تُ المعولات من النوايح

ماذا ببدرٍ والعتن ** قل من مرازبة حجاجح

شمطٌ وشبانٌ بها ** ليل مغاوير وحاوح

إن قد تغير بطن مكة ** فهي موحشة الأباطح

ثم دخلت سنة ثلاث:
وفيها في رمضان ولد الحسن بن علي. وفيها قتل كعب بن الأشرف اليهودي قتله محمد بن مسلمة الأنصاري.

.غزوة أحد:

وكان من حديثها أنه اجتمعت قريش في ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجته هند بنت عتبة: وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة ومعهن الدفوف يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين. وساروا من مكة حتى نزلوا ذا الحليفة، مقابل المدينة وكان وصولهم يوم الأربعاء لأربع ليال مضين من شوال، سنة ثلاث، وكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام في المدينة، وقتالهم بها، وكذلك رأي عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق، وكان رأي باقي الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة، إلى أن صار بين المدينة وأحد، فانخزل عنه عبد الله بن أبي بن أبي سلول في ثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا هاهنا، ورجع بمن تبعه من أهل النفاق، ونزل رسول الله كلَ الشعب من أحد، وجعل ظهره إلى أُحد، ثم كانت الوقعة يوم السبت، لسبع مضين من شوال، وعدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة فيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وكان على ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بني عبد الدار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة، وهم خمسون رجلاً، وراءه، ولما التقى الناس، وعنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في النسوة اللاتي معها، وضربن بالدفوف خلف الرجال، وهند تقول:
وبها بني عبد الدار

وبها حماة الأدبار

ضرباً بكل بتار

وقاتل حمزة عم النبي عليه السلام قتالاً شديداً يومئذ، فقتل أرطأة حامل لواء المشركين، ومر به سباع بن عبد العزى، وكانت أمه ختانة بمكة، فقال له حمزة هلم يا ابن مقطعة البظور، وضربه، فكأنما أخطأ رأسه، فبينما هو مشتغل بسباع، إذ ضربه وحشي عبد جبير بن مطعم، وكان وحشي حبشياً بحربة، فقتل حمزة، وقتل ابن قمية الليثي مصعب بن عمير حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: إني قتلت محمداً، ولما قتل مصعب بن عمير، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم، الراية لعلي بن أبي طالب.
الكرة على المسلمين:
وانهزمت المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمداً قتل، وانكشفت المسلمون، وأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء على المسلمين، وكانت عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلاً، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلاً، ووصل العدو إلى رسول الله عليه السلام، وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وجعل الدم يسيل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم، فنزل في ذلك قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128] ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيته الواحدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين، ومص سنان أبو سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وازدرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مس دمي دمه لم تصبه النار». وروى أن طلحة أصابته يومئذ ضربة فشلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدعن الآذان والأنوف، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تسغها، وضرب أبو سفيان زوجها، بزج الرمح شدق حمزة، وصعد الجبل وصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لواحد قل: «هو بيننا وبينكم». ثم سار المشركون إلى مكة، ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين منهم». ثم قال: «جاءني جبرائيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله» ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فيصلي عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة، وهذا دليل لأبي حنيفة، فإنه يرى الصلاة على الشهيد خلافاً للشافعي رحمهما الله تعالى، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا».
ثم دخلت سنة أربع:
فيها في صفر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يفقه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة نفر، وهم: ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وقدم عليهم مرثد بن أبي مرثد.
فلما وصلوا إلى الرجيع، وهو ماء لهذيل، على أربعة عشر ميلاً من عسفان، غدروا بهم، فقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم زيد بن الدثنة، وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إلى مكة، وانفلت عبد الله بن طارق في الطريق، فقاتل إلى أن قتلوه بالحجارة، ووصلوا بزيد بن الدثنة، وخبيب إلى مكة، وباعوهما من قريش فقتلوهما صبراً.
وفي صفر سنة أربع أيضاً قدم أبو برا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو بعثت من أصحابك رجالاً إلى أهل نجد يدعونهم، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخاف على أصحابي» فقال أبو برا: أنا لهم جار. فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، المنذر بن عمر الأنصاري في أربعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم عامر بن فهير مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فمضوا ونزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة، وبعثوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل الذي أحضر الكتاب، وجمع الجموع وقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقاتلوا وقُتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنه بقي فيه رمق وتوارى بين القتلى، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، فرأيا الطيور تحوم حول العسكر فقصدا العسكر، فوجدا القوم مقتولين، فقاتل الأنصاري وقتل، وأما عمرو بن أمية فأخذا أسيراً، وأعتقه عامر ابن الطفيل لكونه من مضر، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالخبر فشق عليه.

.غزوة بني النضير من اليهود:

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وحاصرهم، في ربيع الأول سنة أربع. ونزل تحريم الخمر، وهو محاصر لهم، فلما مضى ست ليال محاصراً لهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير، مظهرين بذلك تجلداً، وكانت أموالهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقسمها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين دون الأنصار، إلا أنّ سهل بن حنيفة وأبا دجانة ذكراً فقراً، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً، ومضى إلى خيبر من بني النضير ناس، وإلى الشام ناس.

.غزوة ذات الرقاع:

ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً، فلقي جمعاً من غطفان في ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وكان ذلك في جمادى الأولى، سنة أربع، وفي هذه الغزوة قال رجل من غطفان لقومه: ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: إلى، وحضر إلى عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أريد أنظر إلى سيفك هذا، وكان محّلى بفضة، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فأخذه واستله، ثم جعل يهزه ويهم، ويكبته الله، ثم قال يا محمد: ما تخافني؟ فقال له: لا أخاف منك ثم رد سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكيف أيديهم عنكم} [المائدة: 11].

.غزوة بدر الثانية:

وفي شعبان سنة أربع، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعاد أبي سفيان، وأتى بدراً وأقام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة، ثم رجع من أثناء الطريق إلى مكة، فلما لم يأت انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما.

.غزوة الخندق:

ثم دخلت سنة خمس:
غزوة الخندق: وكانت في شوال من هذه السنة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحزب قبائل العرب، فأمر بحفر الخندق حول المدينة، قيل: إنه كان بإشارة سلمان الفارسي، وهو أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عدة معجزات.
منها: ما رواه جابر قال: اشتدت عليهم كدية أي صخرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بماء وتفل فيه ونضحه عليها، فانهالت تحت المساحي، ومنها أن ابنة بشير بن سعد الأنصاري، وهي أخت النعمان بن بشير، بعثتها أمها بقليل تمر غذاء أبيها بشير، وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاها وقال: «هاتي ما معك يا بنية» قالت: فصببت ذلك التمر في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما امتلأتا، ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بثوب، وبدد ذلك التمر عليه، ثم قال لإنسان: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إلى الغداء، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
ومنها ما رواه جابر قال: كانت عندي شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتي أن تخبز قرص شعير، وأن تشوي تلك الشاة لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكنا نعمل في الخندق نهاراً، وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق، قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شيئاً من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إلى منزلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس، أن انصرفوا مع رسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر، قال جابر: فقلت إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وكان قصده أن يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وقدّمنا له ذلك، فبرك وسمى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما صدر عنها قوم جاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وروى سلمان الفارسي قال: كنت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ علي الموضع الذي كنت أعمل فيه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المكان، أخذ المعول وضرب ضربة، فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت بأبي أنت وأمي، ما هذا الذي يلمع تحت المعول، فقال: «أرأيت ذلك يا سلمان؟» فقلت: نعم. فقال: «أما الأولى، فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية: فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة: فإن الله فتح علي بها المشرق»، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة، في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسد، قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم عند ذلك الخطب واشتد البلاء، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل، ثم خرج عمرو بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب يريد المبارزة، فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له عمرو: يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه فعقره، وأقبل إلى علي وتجاولا وعلا عليهما الغبرة، وسمع المسلمون التكبير، فعلموا أن علياً قتله، وانكشفت الغبرة وعلي على صدر عمرو يذبحه، ثم إن الله تعالى أهب ريح الصبا، كما قال الله عزّ وجل: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] وكان ذلك في أيام شاتية. فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ورمى الله الاختلاف بينهم، فرحلت قريش مع أبي سفيان، وسمعت غطفان ما فعلت قريش فرحلوا راجعين إلى بلادهم.