فصل: قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.غزو الحبشة الكعبة:

ثم إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمى القليس لم ير مثلها وكتب إلى النجاشي بذلك وإلى قيصر في الصناع والرخام والفيسفساء وقال لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب وتحدث العرب بذلك فغضب رجل من السادة أحد بني فقيم ثم أحد بني مالك وخرج حتى أتى القليس فقعد فيها ولحق بأرضه وبلغ أبرهة وقيل له الرجل من البيت الذي يحج إليه العرب فحلف ليسيرن إليه يهدمه ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل فلقيه ذو نفر الحميري وقاتله فهزمه وأسره واستبقاه دليلا في أرض العرب قال ابن إسحق: ولما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال دليلا فأنزله المغمس بين الطائف ومكة فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير:
إذا مات الفرذدق فارجموه ** كما ترمون قبر أبي رغال

ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة فانتهوا إلى مكة واستاقوا أموال أهلها وفيها مائتا بعير لعبد المطلب وهو يومئذ سيد قريش فهموا بقتاله ثم عملوا أن لا طاقة لهم به فاقصروا وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة يعلمهم بمقصده من هدم البيت ويؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك وأخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة فقال له: والله ما نريد حربه وهذا بيت الله فإن يمنعه فهو بيته وإن يخلي عنه فما لنا نحن من دافع ثم انطلق به إلى أبرهة ومر بذي نفر وهو أسير فبعث معه إلى سائس الفيل وكان صديقا لذي نفر فاستأذن له على أبرهة فلما رآه جله ونزل عن سريره فجلس معه على بساطه وسأله عبد المطلب في الإبل فقال له أبرهة هلا سألت في البيت الذي هو دينك ودين آبائك وتركت البعير فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه فرد عليه إبله قاله الطبري: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيد كنانة وخويلد بن واثلة سيد هذيل وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ويرجع عن هدم البيت فأبى عليهم فانصرفوا وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرز فيها ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه وعبد المطلب ينشد ويقول:
لا هم إن العبد ** يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم أبدا محالك

وانصر علي آل الصليب ** وعابديه اليوم آلك

في أبيات معروفة.
ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر ترميم بالحجارة فلا تصيب أحدا منهم إلا هلك مكانه وأصلبه في موضع الحجر من جسده كالجدري والحصبة فهلك وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك وسقطت أعضاؤه عضوا عضوا وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا وأقدم فيل آخر فحصب وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم وألقاهم في البحر ورجع أبرهة إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فانصدع صدره عن قلبه ومات.
ولما هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم واستخدموا أبناءهم ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق وساءت سيرته وكثر عسف الحبشة باليمن فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى وقدم اليمن بعساكر الفرس وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة أولهم أرباط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق بن أبرهة.

.قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن:

ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من الأذواء بقية ذلك السلف وعقب أولئك الملوك وديال الدولة المفوض للخمود وقد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة بعد أن ولدت منه ابنه معد يكرب كما مر ونسبه فيما قال الكلبي سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور هكذا نسبه ابن الكلبي ومالك بن زيد هو أبو الأذواء فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه أمر الحبشة وطلب أن يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم فلم يسعفه عن الحبشة وقال الحبشة على دين النصارى فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب فشكى إليه واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة وأن يكون ملك اليمن له فقال: بعدت أرضك عن أرضنا أو هي قليلة الخير إنما هي شاء وبعير ولا حاجة لنا بذلك ثم كساه وأجازه فنثر دنانير الإجازة ونهبها الناس يوهم الغنى عنها بما في أرضه فأنكر عليه كسرى ذلك فقال: جبال أرضي ذهب وفضة وإنما جئت لتمنعني من الظلم فرغب كسرى في ذلك وأمهله للنظر في أمره وشاور أهل دولته فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الذي أردت بهم وإن ملكوا كان ملكا إزددته إلى ملكك وأحصوا ثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم نسبا وكان وهزر الديلمي.
وعند المسعودي وهشام بن محمد والسهيلي أن كسرى وعده بالنصر ولم ينصره وشغل بحرب الروم وهلك سيف بن ذي يزن عنده وكبر ابنه ابن ريحانة وهو معد يكرب وعرفته أمه بأبيه فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الذي وعدته فوهبه الدنانير ونثرها إلى آخر القصة.
وقيل إن الذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيسبن عبيد بن سيف بن ذي يزن قالوا ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة وقال ابن حزم كان وهزر من عقب جاماس عم أنو شروان فأمره على أصحابه وركبوا البحر ثمان سفائن فغرقت منها سفينتان وخلصت ست إلى ساحل عدن فلما نزلوا بأرض اليمن قال وهزر لسيف: ما عندك؟ قال: ماشئت من قوس عربي ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت قال أنصفت وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه وسار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن فتواقفوا للحرب وأمر وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه وأوباش اليمن فتوافقوا للحرب وأمر وهزر ابنه أنه يناوشهم القتال فقتلوه وأحفظه ذلك وقال: أروني ملكهم فأروه إياه على الفيل عليه تاجر وبين عينيه ياقوتة حمراء ثم نزل عن الفيل إلى الفرس ثم إلى البغلة فقال وهزر ركب بنت الحمار ذل وذل ملكه ثم رماه بسهم فصك الياقوتة بن عينيه وتغلغل في دماغه وتنكس عن دابته وداروا به فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه وأقبل وهزر إلى صنعاء ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة فهدم الباب ودخل ناصبا رايته فملك اليمن ونفى عنها الحبشة وكتب بذلك إلى كسرى وبعث إليه بالأموال فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن على فريضة يؤديها كل عام ففعل وانصرف وهزر إلى كسرى.
وملك سيف اليمن وكان أبوه من ملوكها وخلف وهزر نائبا على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه وجعله لنظر ابن ذي يزن بصنعاء وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان يقال إنه الضحاك بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب وروحانيتها خرب في خلافة عثمان قاله المسعودي.
وقال السهيلي: كانت صنعاء تسمى أوال وصنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ ولما استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت العرب عليه يهنوه بالملك ولما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوهم وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسمعيل وأهل بيتهم المنصوب لحجهم فوفدوا في عشرة من رؤوسائهم فيهم عبد المطلب فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من نبيهم وسأله عن بنيه حتى ذكر له شان النبي صلى الله عليه وسلم وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب فأوصاه به وحضه على الإبلاغ في القيام عليه والتحفظ به من اليهود وغيره وأسر إليه البشرى بنبوته وظهور قريش قومهم على جميع العرب وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتاه في الهمة وعلو نظرها في كرامة الوفد وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد الحال في الأول ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش مليء من العنبر وأضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب.
قال ابن إسحق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة وجعل يقتل ويبقر بطون النساء حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب وعظم خوفهم منه فخرج يوما وهم يسعون بين يديه فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس رموه بالحراب فقتلوه ووثب رجل منهم على الملك وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة واستحلم الحبشة وبلغ ذلك كسرى فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس وأمره بقتل كل أسود أو متنسب إلى أسود ولو جعدا قططا ففعل وقتل الحبشة حيث كانوا وكتب بذلك إلى كسرى فأمره على اليمن فكان يجبيه له حتى هلك واستضافت حشابة ملك الحميريين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى الفرس وورثوا ملك العرب وسلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم ويجوسونهم بالغزو خلال ديارهم ولم يبق للعرب في الملك رسم ولا طلل إلا أقيالا من حمير وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو لا تعرف لهم طاعة ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية فارس وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم.
وقال الطبري: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من قواده ركب إليها البحر في جند كثيف فقتل ملكها واستولى عليها وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال والطيوب فتمر على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين فكتب إلى عامله بالانتقام منهم فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم وكان في جوار رجل من أشراف العرب من قيس فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة بسبب ذلك وشهدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل.
قال الطبري: ولما هلك وهزار أمر كسرى من بعده على اليمن ابنه المزربان ثم هلك فأمر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان ثم سخط عليه وحمل إليه مقيدا ثم أجاره ابن كسرى وخلى سبيله فعزله كسرى وولى باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن كما نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن.
هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن ومن ملك بعدهم من الفرس وكان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا في مدة ثلاثة آلاف ومائتي سنة إلا عشرا وقيل أقل من ذلك فكانوا ينزلون مدينة ظفار قال السهيلي زمار وظفار اسمان لمدينة واحدة يقال بناها مالك بن أبرهة وهو الأملوك ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار وكان على بابها مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود:
يوم شيدت ظفار فقيل لمن ** أنت فقالت لخير الأخيار

ثم سيلت من بعد ذلك قالت ** إن ملكي أحابش الأشرار

ثم سيلت من بعد ذلك قالت ** إن ملكي لفارس الأحرار

ثم سيلت من بعد ذلك قالت ** إن ملكي لقريش النجار

ثم سيلت من بعد ذلك قالت ** إن ملكي لخير سنجار

وقليلا ما يلبث القوم فيها ** غير تشييدها لحامي البوار

من أسود يلقيهم البحر فيها ** تشعل النار في أعالي الجدار

ولم تزل مدينة ظفار هذه منزلا للملوك وكذلك في الإسلام صدر الدولتين وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم بما كانت منازل العرب العاربة ودارا لملوك العظماء من التبابعة والأقيال والعباهلة ولم انقضى الكلام في أخبار حمير وملوكهم باليمن من العرب استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليفة ونميز حال هذا الجيل العربي من جميع جهاته والأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب وهم النبط والسريانيون أهل بابل ثم الجرامقة أهل الموصل ثم القبط ثم بنو إسرائيل والفرس ويونان والروم الآن بما كان لهم من الملك والدولة وبعض أخبارهم على اختصار والله ولي العون والتوفيق لا رب غيره ولا مأمول إلا خيره.