فصل: الوجه الأول‏:‏ الأمر بغضِّ البصر وحفظ الفرج من الرجال والنساء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: حراسة الفضيلة **


 الدليل الرابع‏:‏ في آيتي سورة النور

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدن زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30ـ31‏]‏ ‏.‏

تعددت الدلالة في هاتين الآيتين الكريمتين على فرض الحجاب وتغطية الوجه من وجوه أربعة مترابطة، هي‏:‏

 الوجه الأول‏:‏ الأمر بغضِّ البصر وحفظ الفرج من الرجال والنساء

على حدٍّ سواء في الآية الأولى وصدر الآية الثانية، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنى، وأن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأبعد عن الوقوع في هذه الفاحشة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية، ومن أعظمها غض البصر، وغض البصر لا يتم إلاّ بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يرتاب عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه، والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا جاء الأمر بالحجاب صريحًا في الوجه بعده‏.‏

 الوجه الثاني‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏

أي‏:‏ لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب عن عمد وقصد، إلا ما ظهر منها اضطرارًا لا اختيارًا، ما لا يمكن إخفاؤه كظاهر الجلباب ـ العباءة، ويقال‏:‏ الملاءة ـ الذي تلبسه المرأة فوق القميص والخمار، وهي ما لا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، فإن ذلك معفوٌّ عن ‏.‏

وتأمل سِرًا من أسرار التنزيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ كيف أسند الفعل إلى النساء في عدم إبداء الزينة متعديًا وهو فعل مضارع‏:‏ ‏{‏يُبدين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31]‏‏.‏ ومعلوم أن النهي إذا وقع بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، وهذا دليل صريح على وجوب الحجاب لجميع البدن وما عليه من زينة مكتسبة، وستر الوجه والكفين من باب أولى ‏.‏

وفي الاستثناء ‏{‏إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31]‏‏.‏ لم يسند الفعل إلى النساء، إذ لم يجئ متعديًا، بل جاء لازمًا، ومقتضى هذا‏:‏ أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقًا، غير مخيرة في إبداء شيء منها، وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء منها إلا ما ظهر اضطرارًا بدون قصد، فلا إثم عليها، مثل‏:‏ انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح، أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار، فيكون معنى هذا الاستثناء‏:‏ رفع الحرج، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏ ‏.‏

 الوجه الثالث‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏

‏:‏ لما أوجب الله على نساء المؤمنين الحجاب للبدن والزينة في الموضعين السابقين، وأن لا تتعمد المرأة إبداء شيء من زينتها، وأن ما يظهر منها من غير قصد معفو عنه، ذكر سبحانه لكمال الاستتار، مبينًا أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، وبما أن القميص يكون مشقوق الجيب عادة بحيث يبدو شيء من العنق والنحر والصدر، بيَّن سبحانه وجوب ستره وتغطيته، وكيفية ضرب المرأة للحجاب على ما لا يستره القميص، فقال عز شأنه ‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، والضرب‏:‏ إيقاع شيء على شيء، ومنه‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ أي‏:‏ التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ضُربت عليه ‏.‏

والـخُمر‏:‏ جمع خِمار، مأخوذ من الخمر، وهو‏:‏ الستر والتغطية، ومنه قيل للخمر خمرًا؛ لأنها تستر العقل وتغطيه، قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في ‏[‏فتح الباري‏:‏ 8/489‏]‏ ‏:‏ ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها ‏.‏ انتهى ‏.‏

ويقال‏:‏ اختمرت المرأة وتخمَّرت، إذا احتجبت وغطَّت وجهها ‏.‏

والجيوب مفردها‏:‏ جيب، وهو شق في طول القميص ‏.‏

فيكون معنى‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاء محكمًا على المواضع المكشوفة، وهي‏:‏ الرأس، والوجه، والعنق، والنحر، والصدر‏.‏ وذلك بِلَفِّ الخمار الذي تضعه المرأة على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهذا هو التقنع، وهذا خلافًا لما كان عليه أهل الجاهلية من سدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما هو قدامها، فأمرن بالاستتار‏.‏

ويدل لهذا التفسير المتسق مع ما قبله، الملاقي للسان العرب كما ترى، أن هذا هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عن الجميع، فعملن به، وعليها ترجم البخاري في صحيحه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ باب‏:‏ وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏)‏‏)‏ ، وساق بسنده حديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله ‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ شققن مروطهن فاختمرن بها‏.‏

قال ابن حجر في ‏[‏الفتح‏:‏ 8/489‏]‏ في شرح هذا الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏ قوله‏:‏ فاختمرن‏:‏ أي غطين وجوههن - وذكر صفته كما تقدم - ‏)‏‏)‏ انتهى ‏.‏

ومَن نازع فقال بكشف الوجه؛ لأن الله لم يصرح بذكره هنا، فإنا نقول له‏:‏ إن الله سبحانه لم يذكر هنا‏:‏ الرأس، والعنق، والنحر، والصدر، والعضدين، والذراعين، والكفين، فهل يجوز الكشف عن هذه المواضع‏؟‏ فإن قال‏:‏ لا، قلنا‏:‏ والوجه كذلك لا يجوز كشفه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، وكيف تأمر الشريعة بستر الرأس والعنق والنحر والصدر والذراعين والقدمين، ولا تأمر بستر الوجه وتغطيته، وهو أشد فتنة وأكثر تأثيرًا على الناظر والمنظور إليه‏؟‏

وأيضًا ما جوابكم عن فهم نساء الصحابة رضي الله عن الجميع في مبادرتهن إلى ستر وجوههن حين نزلت هذه الآية ‏؟‏

 الوجه الرابع‏:‏ ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن لـيُعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏

لما أمر الله سبحانه بإخفاء الزينة، وذكر جل وعلا كيفية الاختمار، وضربه على الوجه والصدر ونحوهما، نهى سبحانه لكمال الاستتار، ودفع دواعي الافتتان، نساء المؤمنين إذا مشين عن الضرب بالأرجل، حتى لا يُصوَّت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بذلك، فيكون سببًا للفتنة، وهذا من عمل الشيطان‏.‏

 وفي هذا الوجه ثلاث دلالات

 الأولى‏:‏ يحرم على نساء المؤمنين ضرب أرجلهن ليعلم ما عليهن من زينة

 الثانية‏:‏ يجب على نساء المؤمنين ستر أرجلهن

وما عليهن من الزينة، فلا يجوز لهن كشفها‏.‏

 الثالثة‏:‏ حرَّم الله على نساء المؤمنين كل ما يدعو إلى الفتنة

وإنه من باب الأولى والأقوى يحرم سفور المرأة وكشفها عن وجهها أمام الأجانب عنها من الرجال؛ لأن كشفه أشد داعية لإثارة الفتنة وتحريكها، فهو أحق بالستر والتغطية وعدم إبدائه أمام الأجانب، ولا يستريب في هذا عاقل ‏.‏

فانظر كيف انتظمت هذه الآية حجب النساء عن الرجال الأجانب من أعلى الرأس إلى القدمين، وإعمال سد الذرائع الموصلة إلى تعمد كشف شيء من بدنها أو زينتها خشية الافتتان بها، فسبحان من شرع فأحكم ‏.‏