كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


قوله‏:‏ ‏(‏ومعهم العوذ المطافيل‏)‏ العوذ بضم المهملة وسكون الواو بعدها معجمة جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا منهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم، قال ابن فارس‏.‏

كل أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ والجمع عوذ كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلزم الشغل به‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها تعطف عليه بالشفقة والحنو، كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها‏.‏

ووقع عند ابن سعد ‏"‏ منهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهكتهم‏)‏ بفتح أوله وكسر الهاء، أي أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم وإما أضعفت أموالهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماددتهم‏)‏ أي جعلت بيني وبينهم مدة يترك الحرب بيننا وبينهم فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويخلوا بيني وبين الناس‏)‏ أي من كفار العرب وغيرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أظهر فإن شاءوا‏)‏ هو شرط بعد الشرط والتقدير فإن ظهر غيرهم علي كفاهم المئونة، وإن أظهر أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جمعوا، أي استراحوا، وهو بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة أي قووا‏.‏

ووقع في رواية ابن إسحاق ‏"‏ وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ‏"‏ وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك، على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعم الخصم، ولهذه النكتة حذف القسم الأول وهو التصريح بظهور غيره عليه، لكن وقع التصريح به في رواية ابن إسحاق ولفظه ‏"‏ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ‏"‏ ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري ‏"‏ فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون ‏"‏ فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تنفرد سالفتي‏)‏ السالفة بالمهملة وكسر اللام بعدها فاء صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ المراد الموت أي حتى أموت وأبقى منفردا في قبري‏.‏

ويحتمل أن يكون أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ لعله صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى، أي إن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه لو انفردت، فكيف لا أقاتل عن دينه مع وجود المسلمين وكثرتهم ونفاذ بصائرهم في نصر دين الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولينفذن‏)‏ بضم أوله وكسر الفاء أي ليمضين ‏(‏الله أمره‏)‏ في نصر دينه‏.‏

وحسن الإتيان بهذا الجزم - بعد ذلك التردد - للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض‏.‏

وفي هذا الفصل الندب إلى صلة الرحم، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصيحة للقرابة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال بديل سأبلغهم ما تقول‏)‏ أي فأذن له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سفهاؤهم‏)‏ سمي الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن أبي العاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحدثهم بما قال‏)‏ زاد ابن إسحاق في روايته ‏"‏ فقال لهم بديل‏:‏ إنكم تعجلون على محمد، إنه لم يأت لقتال، إنما جاء معتمرا‏.‏

فاتهموه - أي اتهموا بديلا، لأنهم كانوا يعرفون ميله إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا إن كان كما تقول فلا يدخلها علينا عنوة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقام عروة‏)‏ في رواية أبي الأسود عن عروة عند الحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ وذكر ذلك ابن إسحاق أيضا من وجه آخر ‏"‏ قالوا لما نزل صلى الله عليه وسلم بالحديبية أحب أن يبعث رجلا من أصحابه إلى قريش يعلمهم بأنه إنما قدم معتمرا، فدعا عمر فاعتذر بأنه لا عشيرة له بمكة، فدعا عثمان فأرسله بذلك‏.‏

وأمره أن يعلم من بمكة من المؤمنين بأن الفرج قريب، فأعلمهم عثمان بذلك، فحمله أبان بن سعيد بن العاص على فرسه - فذكر القصة - فقال المسلمون‏:‏ هنيئا لعثمان، خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن ظني به أن لا يطوف حتى نطوف معا‏.‏

فكان كذلك‏.‏

قال‏:‏ ثم جاء عروة بن مسعود ‏"‏ فذكر القصة‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق أن مجيء عروة كان قبل ذلك، وذكرها موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري، وكذا أبو الأسود عن عروة قبل قصة مجيء، سهيل بن عمرو، فالله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقام عروة بن مسعود‏)‏ أي ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد المثناة المكسورة بعدها موحدة الثقفي، ووقع في رواية ابن إسحاق عند أحمد عروة بن عمرو بن مسعود، والصواب الأول وهو الذي وقع في السيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألستم بالولد وألست بالوالد‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره بالعكس ‏"‏ ألستم بالوالد وألست بالولد ‏"‏ وهو الصواب وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما، وزاد ابن إسحاق عن الزهري أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد بقوله‏:‏ ‏"‏ ألستم بالوالد ‏"‏ أنكم حي قد ولدوني في الجملة لكون أمي منكم‏.‏

وجرى بعض الشراح على ما وقع في رواية أبي ذر فقال‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏"‏ ألستم بالولد ‏"‏ أي أنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد، قال‏:‏ ولعله كان يخاطب بذلك قوما هو أسن منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استنفرت أهل عكاظ‏)‏ بضم المهملة وتخفيف الكاف وآخره معجمة أي دعوتهم إلى نصركم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما بلحوا‏)‏ بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم مهملة مضمومة أي امتنعوا، والتبلح التمنع من الإجابة، وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه زاد ابن إسحاق ‏"‏ فقالوا صدقت، ما أنت عندنا بمتهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد عرض عليكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لكم‏"‏‏.‏

‏(‏خطة رشد‏)‏ بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة، والرشد بضم الراء وسكون المعجمة وبفتحهما، أي خصلة خير وصلاح وإنصاف، وبين ابن إسحاق في روايته أن سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ودعوني آته‏)‏ بالمد، وهو مجزوم على جواب الأمر وأصله أئته أي أجيء إليه ‏(‏قالوا ائته‏)‏ بألف وصل بعدها همزة ساكنة ثم مثناة مكسورة ثم هاء ساكنة ويجوز كسرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحوا من قوله لبديل‏)‏ زاد ابن إسحاق ‏"‏ وأخبره أنه لم يأت يريد حربا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال عروة عند ذلك‏)‏ أي عند قوله‏:‏ لأقاتلنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجتاح‏)‏ بجيم ثم مهملة أي أهلك أصله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله‏:‏ ‏"‏ وإن تكن الأخرى ‏"‏ تأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمعني وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإني والله لا أرى وجوها إلخ‏)‏ كالتعليل لهذا القدر المحذوف، والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غلب، لكن كل من الأمرين مستحسن شرعا كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشوابا‏)‏ بتقديم المعجمة على الواو كذا للأكثر وعليها اقتصر صاحب المشارق، ووقع لأبي ذر عن الكشميهني ‏"‏ أوشابا ‏"‏ بتقديم الواو، والأشواب الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خليقا‏)‏ بالخاء المعجمة والقاف أي حقيقا وزنا ومعنى، ويقال خليق للواحد والجمع ولذلك وقع صفة لأشواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويدعوك‏)‏ بفتح الدال أي يتركوك، في رواية أبي المليح عن الزهري عند من سميته ‏"‏ وكأني بهم لو قد لقيت قريشا قد أسلموك فتؤخذ أسيرا فأي شيء أشد عليك من هذا ‏"‏ وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار بخلاف من كان من قبيلة واحدة فإنهم يأنفون الفرار في العادة‏.‏

وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال له أبو بكر الصديق‏)‏ زاد ابن إسحاق ‏"‏ وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فقال‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏امصص ببظر اللات‏)‏ زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري ‏"‏ وهي - أي اللات - طاغيته التي يعبد ‏"‏ أي طاغية عروة‏.‏

وقوله امصص بألف وصل ومهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر، وحكى ابن التين عن رواية القابسي ضم الصاد الأولى وخطأها، والبظر بفتح الموحدة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سبب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ في قول أبي بكر تخسيس للعدو وتكذيبهم وتعريض بإلزامهم من قولهم إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بأنها لو كانت بنتا لكان لها ما يكون للإناث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنحن نفر‏)‏ استفهام إنكار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ذا‏؟‏ قالوا أبو بكر‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ فقال‏:‏ من هذا يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ هذا ابن أبي قحافة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما‏)‏ هو حرف استفتاح، وقوله‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده ‏"‏ يدل على أن القسم بذلك كان عادة للعرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لولا يد‏)‏ أي نعمة، وقوله‏:‏ ‏(‏لم أجزك بها‏)‏ أي لم أكافئك بها، زاد ابن إسحاق ‏"‏ ولكن هذه بها ‏"‏ أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها، وبين عبد العزيز الإمامي عن الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة أن عروة كان تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن‏.‏

وفي رواية الواقدي عشر قلائص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف‏)‏ فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف بقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكلما تكلم‏)‏ في رواية السرخسي والكشميهني ‏"‏ فكلما كلمه أخذ بلحيته ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمغيرة بن شعبة قائم‏)‏ في مغازي عروة بن الزبير رواية أبي الأسود عنه ‏"‏ أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلا لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بنعل السيف‏)‏ هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخر‏)‏ فعل أمر من التأخير، زاد ابن إسحاق في روايته ‏"‏ قبل أن لا تصل إليك ‏"‏ وزاد عروة بن الزبير ‏"‏ فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فيقول عروة‏:‏ ويحك ما أفظك وأغلظك ‏"‏ وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفا، والمغيرة يمنعه إحلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال المغيرة‏)‏ وفي رواية أبي الأسود عن عروة ‏"‏ فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب وقال‏:‏ ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك‏؟‏ والله لا أحسب فيكم الأم منه ولا أشر منزلة ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عروة‏:‏ من هذا يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ‏"‏ وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح، وأخرجه ابن حبان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي غدر‏)‏ بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألست أسعى في غدرتك‏)‏ أي ألست أسعى في دفع شر غدرتك‏؟‏ وفي مغازي عروة ‏"‏ والله ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ‏"‏ قال ابن هشام في السيرة‏:‏ أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا واصطلحوا‏.‏

وفي القصة طول‏.‏

وقد ساق ابن الكلبي والواقدي القصة، وحاصلها أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم ولحق بالمدينة فأسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما الإسلام فأقبل‏)‏ بلفظ المتكلم أي أقبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأما المال فلست منه في شيء‏)‏ أي لا أتعرض له لكونه أخذه غدرا‏.‏

ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم، ويستفاد من القصة أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم 0 يكن عليه ضمان، وهذا أحد الوجهين للشافعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل يرمق‏)‏ بضم الميم أي يلحظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدلك بها وجهه وجلده‏)‏ زاد ابن إسحاق ‏"‏ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخدوه ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وما يحدون ‏"‏ بضم أوله وكسر المهملة أي يديمون، وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال‏:‏ من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه‏؟‏ بل هم أشد اغتباطا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضا بمجرد الرحم، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووفدت على قيصر‏)‏ هو من الخاص بعد العام، وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان‏.‏

وفي مرسل علي بن زيد عند ابن أبي شيبة ‏"‏ فقال عروة‏:‏ أي قوم، إني قد رأيت الملوك، ما رأيت مثل محمد، وما هو بملك، ولكن رأيت الهدي معكوفا، وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، فانصرف هو ومن اتبعه إلى الطائف ‏"‏ وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته، وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل والتبرك بآثاره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال رجل من بني كنانة‏)‏ في رواية الإمامي ‏"‏ فقام الحليس ‏"‏ بمهملتين مصغر، وسمي ابن إسحاق والزبير بن بكار أباه علقمة، وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وكان من رءوس الأحابيش، وهم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، والقارة وهم بنو الهون بن خزيمة‏.‏

وفي رواية الزبير بن بكار ‏"‏ أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير، ويمنع ابن عبد المطلب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فابعثوها له‏)‏ أي أثيروها دفعة واحدة‏.‏

وزاد ابن إسحاق ‏"‏ فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لكن في مغازي عروة عن الحاكم ‏"‏ فصاح الحليس فقال‏:‏ هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عمارا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم بذلك ‏"‏ فيحتمل أن يكون خاطبه على بعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما أرى أن يصدوا عن البيت‏)‏ زاد ابن إسحاق ‏"‏ وغضب وقال‏:‏ يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له‏؟‏ فقالوا‏:‏ كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى ‏"‏ وفي هذه القصة جواز المخادعة في الحرب وإظهار إرادة الشيء والمقصود غيره، وفيه أن كثيرا من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وينكرون على من يصد عن ذلك تمسكا منهم ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقام رجل منهم يقال له مكرز‏)‏ بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي ابن حفص، زاد ابن إسحاق ‏"‏ ابن الأخيف ‏"‏ وهو بالمعجمة ثم تحتانية ثم الفاء، وهو من بني عامر بن لؤي‏.‏

ووقع بخط ابن عبدة النسابة بفتح الميم وبخط يوسف بن خليل الحافظ بضمها وكسر الراء، والأول المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو رجل فاجر‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ غادر ‏"‏ وهو أرجح، فإني مازلت متعجبا من وصفه بالفجور مع أنه لم يقع منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، بل فيها ما يشعر بخلاف ذلك كما سيأتي من كلامه في قصة أبي جندل، إلى أن رأيت في مغازي الواقدي في غزوة بدر أن عتبة بن ربيعة قال لقريش ‏"‏ كيف نخرج من مكة وبنو كنانة خلفنا لا نأمنهم على ذرارينا‏؟‏ قال‏:‏ وذلك أن حفص بن الأخيف يعني والد مكرز كان له ولد وضيء فقتله رجل من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بدم له كان في قريش، فتكلمت قريش في ذلك، ثم اصطلحوا‏.‏

فعدا مكرز بن حفص بعد ذلك على عامر بن يزيد سيد بني بكر غرة فقتله، فنفرت من ذلك كنانة، فجاءت وقعة بدر في أثناء ذلك‏.‏

وكان مكرز معروفا بالغدر ‏"‏ وذكر الواقدي أيضا أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلا فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس وانفلت منهم مكرز، فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ جاء سهيل بن عمرو‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا‏:‏ اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، قال‏:‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال معمر‏:‏ فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل إلخ‏)‏ هذا موصول إلى معمر بالإسناد المذكور أولا وهو مرسل، ولم أقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه، لكن له شاهد موصول عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏"‏ بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا قال‏:‏ قد سهل لكم من أمركم ‏"‏ وللطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال معمر قال الزهري‏)‏ هو موصول بالإسناد الأول إلى معمر، وهو بقية الحديث، وإنما اعترض حديث عكرمة في أثنائه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذا القدر الذي ذكره ابن إسحاق أنه مدة الصلح هو المعتمد، وبه جزم ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي نفسه‏.‏

ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين، وكذا وقع عند موسى بن عقبة، ويجمع بينهما بأن الذي قاله ابن إسحاق هي المدة التي وقع الصلح عليها، والذي ذكره ابن عائذ وغيره هي المدة التي انتهى أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش كما سيأتي بيانه في غزوة الفتح من المغازي‏.‏

وأما ما وقع في ‏"‏ كامل ابن عدي ‏"‏ و ‏"‏ مستدرك الحاكم ‏"‏ و ‏"‏ الأوسط للطبراني ‏"‏ من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح‏.‏

وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين‏:‏ فقيل لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث وهو قول الشافعي والجمهور‏.‏

وقيل تجوز الزيادة، وقيل لا تجاوز أربع سنين، وقيل ثلاثا، وقيل سنتين، والأول هو الراجح والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب‏)‏ هو علي بينه إسحاق بن راهويه في مسنده من هذا الوجه عن الزهري، وكذا مضى في الصلح من حديث البراء بن عازب، وكذلك أخرجه عمر بن شبة من حديث سلمة بن الأكوع فيما يتعلق بهذا الفصل من هذه القصة‏.‏

وسيأتي الكلام عليه مستوفى في المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

وأخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه ‏"‏ الكتاب عندنا، كاتبه محمد بن مسلمة ‏"‏ انتهى، ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح، ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو، ومن الأوهام ما ذكره عمر بن شبة بعد أن حكى أن اسم كاتب الكتاب بين المسلمين وقريش علي بن أبي طالب من طرق، ثم أخرج من طريق أخرى أن اسم الكاتب محمد بن مسلمة ثم قال‏:‏ ‏"‏ حدثنا ابن عائشة يزيد بن عبيد الله بن محمد التيمي قال‏:‏ كان اسم هشام بن عكرمة بغيضا، وهو الذي كتب الصحيفة فشلت يده، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم هشاما ‏"‏ قلت‏:‏ وهو غلط فاحش‏.‏

فإن الصحيفة التي كتبها هشام بن عكرمة هي التي اتفقت عليها قريش لما حصروا بني هاشم في الشعب وذلك بمكة قبل الهجرة، والقصة مشهورة في السيرة النبوية، فتوهم عمر من شبة أن المراد بالصحيفة هنا كتاب القصة التي وقعت بالحديبية، وليس كذلك بل بينهما نحو عشر سنين، وإنما كتبت ذلك هنا خشية أن يغتر بذلك من لا معرفة له فيعتقده اختلافا في اسم كاتب القصة بالحديبية وبالله التوفيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا ما قاضى‏)‏ بوزن فاعل من قضيت الشيء أي فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات والرد على من منعه معتلا بخشية أن يظن فيها أنها نافية، نبه عليه الخطابي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تتحدث العرب أنا أخدنا ضغطة‏)‏ بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ أنه دخل علينا عنوة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سهيل‏:‏ وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن يتبع محمدا لم يردوه عليه‏"‏، وهذه الرواية تعم الرجال والنساء، وكذا تقدم في أول الشروط من رواية عقيل عن الزهري بلفظ ‏"‏ ولا يأتيك منا أحد ‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك في كتاب النكاح، وهل دخلن في هذا الصلح ثم نسخ ذلك الحكم فيهن، أو لم يدخلن إلا بطريق العموم فخصصن‏؟‏ وزاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد ‏"‏ وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة ‏"‏ أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم‏.‏

وقال ابن إسحاق في حديثه ‏"‏ وأنه لا إسلال ولا إغلال ‏"‏ أي لا سرقة ولا خيانة، فالإسلال من السلة وهي السرقة، والإغلال الخيانة تقول أغل الرجل أي خان، أما في الغنيمة فيقال غل بغير ألف، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهرا، وقيل الإسلال من سل السيوف والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد‏.‏

قال ابن إسحاق في حديثه‏.‏

‏"‏ وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا‏:‏ نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا‏:‏ نحن في عقد قريش وعهدهم‏.‏

وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب‏:‏ السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره ‏"‏ وهذه القصة سيأتي مثلها في حديث البراء بن عازب في المغازي، قال ابن إسحاق في حديثه ‏"‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمر وإذ جاء أبو جندل بن سهيل ‏"‏ فذكر القصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال المسلمون سبحان الله، كيف يرد‏)‏ ‏؟‏ في رواية عقيل الماضية أول الشروط ‏"‏ وكان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه‏.‏

فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبي سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال في تلك المدة إلا رده ‏"‏ وقائل ذلك يشبه أن يكون هو عمر لما سيأتي، وسمي الواقدي ممن قال ذلك أيضا أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، وسيأتي في المغازي أن سهل بن حنيف كان ممن أنكر ذلك أيضا‏.‏

ولمسلم من حديث أنس بن مالك ‏"‏ أن قريشا صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله أنكتب هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا ‏"‏ وزاد أبو الأسود عن عروة هنا ‏"‏ ولابن عائذ من حديث ابن عباس نحوه‏"‏‏.‏

فلما لان بعضهم لبعض في الصلح على ذلك إذ رمى رجل من الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فتصايح الفريقان، وارتهن كل من الفريقين من عندهم، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين، وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا، وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله، فأرسلوا من كان مرتهنا ودعوا إلى الموادعة، وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏وهو الذي كف أيديهم عنكم‏)‏ الآية‏.‏

وسيأتي في غزوة الحديبية بيان من أخرج هذه القصة موصولة وكيفية البيعة عند الشجرة والاختلاف في عدد من بايع وفي سبب البيعة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل‏)‏ بالجيم والنون وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فتركه لما أسلم، وله أخ اسمه عبد الله أسلم أيضا قديما وحضر مع المشركين بدرا ففر منهم إلى المسلمين، ثم كان معهم بالحديبية‏.‏

ووهم من جعلهما واحدا‏.‏

وقد استشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام كما في حديث الباب‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل، وكان أبوه حبسه فأفلت ‏"‏ وفي رواية أبي الأسود عن عروة ‏"‏ وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرسف‏)‏ بفتح أوله وضم المهملة وبالفاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سهيل‏:‏ هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي‏)‏ زاد ابن إسحاق في روايته‏:‏ ‏(‏فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل فضرب وجهه وأخذ يلببه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنا لم نقض الكتاب‏)‏ أي لم نفرغ من كتابته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأجزه لي‏)‏ بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي أمض لي فعلي فيه فلا أرده إليك، أو أستثنيه من القضية‏.‏

ووقع في الجمع للحميدي ‏"‏ فأجره ‏"‏ بالراء ورجح ابن الجوزي الزاي، وفيه أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وسلم لسهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلطف معه بقوله‏:‏ ‏"‏ لم نقض الكتاب بعد ‏"‏ رجاء أن يجيبه لذلك ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال مكرز بل‏)‏ كذا للأكثر بلفظ الإضراب، وللكشميهني ‏"‏ بلى ‏"‏ ولم يذكر هنا ما أجاب به سهيل مكرزا في ذلك، قيل في الذي وقع من مكرز في هذه القصة إشكال، لأنه خلاف ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من الفجور، وكان من الظاهر أن يساعد سهيلا على أبي جندل فكيف وقع منه عكس ذلك‏؟‏ وأجيب بأن الفجور حقيقة، ولا يلزم أن لا يقع منه شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه، أو كان سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه رجل فاجر فأراد أن يظهر خلاف ذلك وهو من جملة فجوره‏.‏

وزعم بعض الشراح أن سهيلا لم يجب سؤاله لأن مكرزا لم يكن ممن جعل له أمر عقد الصلح بخلاف سهيل، وفيه نظر فإن الواقدي روى أن مكرزا كان ممن جاء في الصلح مع سهيل، وكان معهما حويطب بن عبد العزى، لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك، وأن مكرزا وحويطبا أخذا أبا جندل فأدخلاه فسطاطا وكفا أباه عنه‏.‏

وفي ‏"‏ مغازي ابن عائذ ‏"‏ نحو ذلك كله من رواية أبي الأسود عن عروة ولفظه ‏"‏ فقال مكرز بن حفص وكان ممن أقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح‏:‏ أنا له جار، وأخذ قيده فأدخله فسطاطا ‏"‏ وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأول، فإنه لم يجزه بأن يقره عند المسلمين بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه، فما خرج بذلك عن الفجور‏.‏

لكن يعكر عليه قوله في رواية الصحيح ‏"‏ فقال مكرز‏:‏ قد أجزناه لك ‏"‏ يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو جندل أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين‏؟‏ إلخ‏)‏ زاد ابن إسحاق ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا ‏"‏ وفي رواية أبي المليح ‏"‏ فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‏:‏ اصبر، فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، قال ويدني قائمة السيف منه، يقول عمر‏:‏ رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه، فضن الرجل - أي بخل - بأبيه ونفذت القضية ‏"‏ قال الخطابي‏:‏ تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين‏:‏ أحدهما أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر على إضمار الإيمان إن لم يمكنه التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجوده السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية‏.‏

والوجه الثاني أنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا، وأما ما يخافه عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين‏.‏

واختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وإن ناسخه حديث ‏"‏ أنا بريء من مسلم بين مشركين ‏"‏ وهو قول الحنفية‏.‏

وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان‏.‏

وقال بعض الشافعية‏:‏ ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عمر بن الخطاب‏:‏ فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا مما يقوي أن الذي حدث المسور ومروان بقصة الحديبية هو عمر، وكذا ما تقدم قريبا من قصة عمر مع أبي جندل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت‏:‏ ألست نبي الله حقا‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏)‏ زاد الواقدي من حديث أبي سعيد ‏"‏ قال عمر‏:‏ لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط ‏"‏ وفي حديث سهيل بن حنيف الآتي في الجزية وسورة الفتح ‏"‏ فقال عمر‏:‏ ألسنا على الحق وهم على الباطل‏؟‏ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار‏؟‏ فعلام نعطي الدنية - بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتانية - في ديننا، ونرجع ولم يحكم الله بيننا‏؟‏ فقال‏:‏ يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله‏.‏

فرجع متغيظا، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر‏"‏، وأخرجه البزار من حديث عمر نفسه مختصرا ولفظه ‏"‏ فقال عمر‏:‏ اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، وما ألوم عن الحق ‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ قال فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت، حتى قال لي‏:‏ يا عمر، تراني رضيت وتأبى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني رسول الله ولست أعصيه‏)‏ ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل من ذلك شيئا إلا بالوحي‏.‏