فصل: ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة وقتل البطريق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة وقتل البطريق:

قال الراوي: ولما أصبح المسلمون صلوا صلاة الصبح تبادروا إلى خيولهم فركبوها فلم يجدوا لاعداء الله خبرا ولا أثرا وتيقنوا أنهم انهزموا ومضوا إلى مدينتهم فسارت المسلمون إلى أن قربوا من البهنسا فلاحت لهم المضارب والخيام والسرادقات والاعلام.
قال الراوي: حدثنا قيس بن منهال عن عامر بن هلال عن ابن زيد الخيل قال لما أشرفنا على مدينة البهنسا ورأينا تلك المضارب قال عياض رضي الله عنه اللهم اخذلهم وانصرنا عليهم اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا واخزهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وأمن المسلمون على دعائه قال فلما أقبلنا على مدينة البهنسا كبرنا وهللنا فخرجوا إلى ظاهر الخيام وبأيديهم السيوف والدرق والقسى والنبال وراينا خلقا كثيرة على الابراج وأراد جماعة من العرب الحملة عليهم فمنعهم الأمير وبقية الأمراء من ذلك وقالوا: لا حملة إلا بعد انذار ثم إنهم لم يأتوا الينا ولا ناوشونا بقتال واستقلونا في أعينهم.
قال الواقدي: ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الاصفر قريبا من البياض الذي على المغارة نحو المدينة هذا ما جرى لهؤلاء وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل ومسلمة بن هاشم ومالك الاشتر وذو الكلاع الحميري فإنهم ساروا حتى نزلوا قريبا من القوم وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم فقال مالك الاشتر يا قوم أن أعداء الله خرجوا للقائكم فاشغلوهم بالقتال وارسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله فعندها خرج المرزبان ومعه ثلثمائة فارس حتى وصلوا إلى الجسر والحجارة تتساقط عليهم من أعلى السور حتى ملكوا الجسر وجعلوا في أماكن المخاضات حراسا بسيوف محدودة واقتتل المسلمون وأعداء الله قتالا شديدا وثبتوا في القتال سبعة أيام وكلما أتوا إلى مكان المخاضة وجدوه مربوطا بالرجال وصار كل ليلة تهرب منهم جماعة من الروم ويهيمون على وجوههم يريدون الصعيد فتلقاهم رافع ابن عميرة الطائي ومعه سرية من أصحاب قيس بن الحرث عند البلد المعروف بادقار وكانوا حوالي البحر اليوسفي يشنون الغارات على تلك السواحل فبينما هم كذلك يسيرون إذ سمعوا دوي حوافر الخيل فظنوا أنهم مسلمون فكلموهم فلم يرد عليهم أحد فلحقوهم وحملوا عليهم وكانوا ستمائة فارس ففروا من بين أيديهم فقتلوا منهم نحو مائتين وهرب الباقون وقتل من المسلمين ثلاثة وهرب الروم نحو المخاضة فغرق منهم مائة وأسروا منهم مائتين وهرب الباقون وسألوهم عن سبب خروجهم فأخبروهم أنهم يرودون فعند ذلك أوثقوهم كتافا وأتوا بهم مكتفين مع نفر من المسلمين إلى أن أوصلوهم إلى عياض بن غانم الاشعري فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير واقبلوا نحوهم ففرحوا بالاسارى ثم عرضوهم على الأمراء المتقدم ذكرهم فعرضوا عليهم الإسلام فأبوا فضربت أعناقهم والروم ينظرون إلى ذلك ثم زحفت عليهم الصلبان واقتتلوا قتالا شديدا وحمي الحرب وكثر الطعن والضرب من ارتفاع الشمس إلى وقت العصر وفشا القتل في الروم فلما رأوا ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وصعدوا على القلعة وغلقوا الأبواب وأستعدوا للحصار ونصبوا آلات القتال.
قال هذا ما جاء لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم نزلوا في سفح الجبل والوادي في المكان المتسع من الجهة البحرية والجهة الغربية فلما جاء الليل أوقدوا نيرانهم واجتمعت كل قبيلة ببني عمها يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان وما فيهم إلا من هو راكع أو ساجد أو داع لله عز وجل لعله أن ينصرهم على عدوهم وباتت الروم اللئام يشربون الخمر داخل المدينة وخارجها وقد أعلنوا بكلمة كفرهم حتى ضجت منهم أرض البهنسا واستغاثت إلى الله عز وجل فناداها بلسان القدرة اسكتي يا بهنسا فوعزتي وجلالي لاهلكنهم ولاسكننك قوما يوحدوني من خيار خلقي ولاجعلن تلك البيع مساجد للصلاة والجمع فلما سمعت الأرض الخطاب من قبل رب الارباب مالت فرحا واهتزت طربا وبقيت منتظرة وعد ربها بزوال كربها فلما يكن إلا قليل حتى أزال الله عنها أهل الكفر والطغيان وعبدة الصلبان وأسكنها خير أمة أخيار من المهاجرين والانصار من أصحاب محمد المختار يصلون بها آناء الليل وأطراف النهار وجعلت البرية مدافن للسادات الشهداء الاطهار وصار عليها بعد الظلام أنوار وصارت زيارتها تحط الخطايا والاوزار.
قال الواقدي: ولما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وجلسوا ينتظرون ما يكون من أمر الروم وإذا بقس قد أقبل راكبا بغلة وعليه مدرعة من شعر وقلنسوة وزنار فسار حتى وصل قريبا من العسكر ثم تكلم بلسان عربي وقال: يا مسلمين أريد أمير العرب.
قال الراوي: حدثنا قيس بن شماس عن كعب بن همام عن شداد بن أوس وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن جلوس نتحدث مع الأمير عياض بن غانم إذ أقبل عبد الله بن عاصم وأخبر عن ذلك القس قال فأذن له الأمير عياض بالدخول فدخل القس فوجد الأمير عياضا جالسا في خيمته على فراش من أدم وحشوه من ليف وفرش المشركين التي اكتسبوها مطوية على جانب وحوله السادات والأمراء رضي الله عنه كلهم جلوس حوله وهو كأنه أحدهم وسيوفهم على أفخاذهم وعليهم هيبة ووقار فلما دخل القس اندهش وحار وأخذه الانبهار ثم التفت يمينا وشمالا وقال: يا قوم أيكم الأمير حتى أكلمه فإنكم كلكم أراكم سادات وأمراء وعليكم هيبة ووقار فأشاروا إلى الأمير عياض فالتفت إليه وقال: يا فتى أنت أمير قومك قال كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله عز وجل فقال له القس: أن الملك البطليوس قد أرسلني اليكم يريد ذا الرأي والخبرة ليسأله عن أمركم فلعل أن يكون ذلك سبب حقن الدماء بينكم وبينه قال فعندها التفت الأمير عياض إلى أصحابه وقال: ما تقولون فيما أتاكم به هذا القس ومن ينطلق إليه ويخاطبه ويعود الينا قال فوثب المغيرة بن شعبة وقال أنا أمضي إليه وأريد معي عشرة رجال من الأمراء ذوي المروءة والباس فقال له الأمير: اختر من شئت وفقك الله وسددك وردك الينا سالما غانما أنت ومن معك قال فالتفت وراءه وقال: أين سعيد بن عبد القادر اين أبو أيوب الانصاري أين خالد بن زيد الانصاري أين زيد اين ثابت الانصاري أين مسعود البدري أين جرير بن مطعم أين أبو يزيد العقيلي أين معاوية بن العكم الثقفي أين عمار بن حصين أين زيد بن أرقم فأجابوه بالتلبية فقال لهم: خذوا أهبتكم وانطلقوا معي على بركة الله وعونه قال فتبادر هؤلاء الأمراء السادات إلى خيامهم ولبس كل واحد درعه وتنكبوا بحجفهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم.
قال الواقدي: ثم أن المغيرة رضي الله عنه دخل إلى خيمته ولبس درعه وشد وسطه بمنطقته وهي من الادم وفيها خنجران واحد عن اليمين وواحد عن الشمال وتقلد بسيف من جوهر واعتقل برمح أسمر وركب جواده الادهم وأخذ كل واحد منهم عبده راكبا على بغلة وودعهم فالتفت الأمير عياض وقال للمغيرة اعرف يا أبا شعبة ما تكلم به هذا الملعون فما عرفتك إلا مفلح الحجة فادعه إلى الإسلام وما فرض عليه من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وما أبيح من الحلال وما حرم من الحرام فإن أبى فالجزية في كل عام فإن أبي فالقتال بحد الحسام ونرجو النصر من الملك الديان بجاه محمد خير الانام قال فقال المغيرة أرجو من الله الملك الوهاب المعونة في رد الجواب وسارت الأمراء والقس أمامهم راكب على بغلة وعبيدهم خلفهم على بغالهم وكل عبد عليه لامة حربه وساروا وهم معلنون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير قال زياد بن ثابت ولما فارق القوم الأمير عياضا نظرت إليه وعيناه تذرفان بالدموع حتى بلت دموعه لحيته وهو يقرأ القرآن فقلت أنا أيها الأمير ما هذا البكاء فقال لي: يا ابن ثابت هؤلاء والله أنصار الدين فإن أصيب رجل منهم فما يكون عذري عند الله عز وجل قال: وسار المغيرة وأصحابه حتى أشرفوا على عسكر العدو وإذا هو ملء الأرض وهو نازل حول مدينة البهنسا فصاح المغيرة ومن معه يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم كذلك إذ أقبل إليهم بطريق ومعه رجل من العرب المتنصرة راكب إلى جانبه ومعهما نحو مائة ألف فارس وساروا بين أيديهم حتى وصلوا إلى قريب سرادق الملك ولاح البطليوس وهو جالس على السرير فعند ذلك خرج لهم الحجاب والنواب وأرباب الدولة والصولة وقالوا: قد وصلتم وبلغتم إلى سرادق الملك فانزلوا عن خيولكم وانزعوا سيوفكم فقال المغيرة أما خيولنا فننزل عنها وأما سيوفنا فلا ننزعها فإنها عزنا وما كنا بالذي ينزع عزه الذي يعتز به دهره قال فاخبر الحجاب الملك بذلك فقال دعوهم يدخلون بسيوفهم فنادتهم الحجاب ادخلوا.
قال الواقدي: فعندها ترجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيولهم وأمسكوها لعبيدهم وأقبلوا يتبخترون في مشيهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الكفار وهم لا يهابونهم إلى أن وصلوا إلى سرير الملك فدخلوا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفرش والديباج والملك جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم قال المغيرة لا ينبغي السجود إلا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض قال فسكتوا قال فأمر الملك بكراسي من ذهب وفضة فنصبت لهم فلم يجلسوا عليها وكانوا من حين دخلوا أمروا بعض عبيدهم أن يطووا البسط من تحت أرجلهم إلى أن وصلوا إلى فرش الديباج فشالوها على جنب فقالت لهم البطارقة قد أسأتم الادب معنا إذ لم تسجدوا للملك ولم تمشوا على فرشنا فقال المغيرة أن الادب مع الله تعالى أفضل من الادب معكم والأرض أطهر من فرشكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
قال الواقدي: لم يكن بين البطليوس والصحابة ترجمان لانه كان أعرف أهل زمانه بلسان العربية فعند ذلك أمرهم بالجلوس فقال المغيرة اما أن تنزل عن سريرك وتكون معنا على الأرض أو تأذن لنا بالجلوس معك على السرير لأن الله تعالى شرفنا بالإسلام قال فأشار لهم بالجلوس معه على السرير بعد أن أزالوا تلك الفرش وجلس المغيرة إلى جانبه فالتفت البطليوس لعنه الله إليهم وقال لهم: أيكم المتكلم عن أصحابه فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنهم والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة و قال له: ما اسمك فقال عبد الله المغيرة فقال: يا مغيرة إني اكره أن أبدأك بالكلام فقال المغيرة تكلم بما شئت فإن عندي لكل كلام جوابا.
ثم أن البطليوس أفصح في كلامه وقال الحمد لله الذي جعل سيدنا المسيح أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك ونحن خير سادة فقطع عليه المغيرة فقالت الحجاب والنواب لقد أسأت الادب مع الملك يا أخا العرب فابي المغيرة أن يسكت وقال الحمدلله الذي هدانا للإسلام وخصنا من بين الامم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الانبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كاحدنا لو زعم أنه ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلا علينا إلا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه ونعبد الله وجه لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبا تبلغ مثل الجبال فتاب قبلت توبته وإن مات مسلما فله الجنة قال فتغير لون البطليس ثم سكت قليلا وقال الحمد الله الذي ابتلانا بأحسن البلاء وأغنانا من الفقر ونصرنا على الامم الماضية ولقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الامم أضعف حالا منكم لانكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وافسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما طيبا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلىء والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا فإن فعلتم فتحنا خزائن الاموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولأميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد أن نستوثق منكم بالإيمان إنكم لا تعودون إلى الاغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة: قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا ثم قال الحمد لله الواحد القهار الفرد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3, 4] فقال له البطليوس: نعم ما قلت يا بدوي فقال المغيرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى فقال له البطليوس: لعنه الله لا أدرى أن محمدا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة وقال: يا عربي ما أفضل الساعات فقال ساعة لا يعصي الله فيها قال صدقت يا أخا العرب لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال: نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغني عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون الينا عن قريب.
فقال البطليوس ما كنا نظن ذلك منكم وإنما بلغنا عنكم إنكم جماعة جهال لا عقول لكم فقال المغيرة كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا فقال البطليوس لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي فقال المغيرة يسرني ذلك إذا فعلت ما أقول لك قال: ما هو قال تشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله قال البطليوس لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الامر بيني وبينكم قال المغيرة رضي الله عنه الامر إلى الله وأما قولك لنا انا أهل فقر وبؤس وضر فقد كنا كذلك وكنا أهل جاهلية لا يملك أحدنا غير فرسه وقوسه وابله وكنا لا نعظم إلا الاشهر الحرم حتى بعث الله الينا نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم نعرف اصله ونسبه صادقا أمينا نقيا اماما رسولا أظهر الإسلام وكسر الاصنام وختم به النبيين وعرفنا عبادة رب العالمين فنحن نعبد الله ولا نعبد غيره ولا نتخذ من دونه وليا ولا نصيرا ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا أن نجاهد من كفر بالله واتخذ مع الله شريكا جل ربنا وعلا وهو واحد لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان من اخواننا وله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الإسلام فالجزية يؤديها عن يد وهو صاغر فمن أداها حقن الله دمه وماله ومن أبى الإسلام والجزية فالسيف حكم بيننا وبينه والله خير الحاكمين وهي على كل محتلم في العام دينار وليس على من يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته فقال البطليوس لقد فهمت قولك عن الإسلام فما قولك عن الجزية عن يد وهو صاغر فإني لا أدري ما الصغار عندكم فقال المغيرة رضي الله عنه وأنت قائم والسيف على رأسك فلما سمع البطريق كلام المغيرة غضب غضبا شديدا ووثب قائما ووثب المغيرة من موضعه وانتضى سيفه من غمده وكذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال الراوي: حدثنا مسلم بن عبد الحميد عن طارق بن هلال عن عبد الله بن رافع قال كنا مع المغيرة وجذبنا السيوف ووثبنا على القوم وأخذتنا غيرة الإسلام وما في أعيننا من جيوش البطليوس شيء وعلمنا أن المحشر من ذلك الموضع فلما رأى البطليوس منا ذلك وتبين له الموت من شفار سيوفنا نادى مهلا يا مغيرة لا تعجل فنهلك وأنا أعلم إنك رسول والرسول لا يقتل وإنما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وأنظر ما عندكم والآن لا نؤاخذكم فاغمدوا سيوفكم قال فأغمدنا سيوفنا وتقدم المغيرة حتى صار في مكان البطليوس وزحزحه إلى آخر السرير وكان المغيرة رجلا جسيما فاتكأ عليه حتى كاد أن يخلع فخذه من موضعه قال ثم التفت إلى المغيرة وقال: ما قولكم في المسيح بن مريم قال المغيرة عبد الله ورسوله قال فمن أي شيء خلق قال خلقه الله من تراب ثم قال له: كن فكان ودل على ذلك القرآن العظيم قال عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قال فما الدليل على أن الله واحد فقال المغيرة: القرآن العظيم قوله تعالى على لسان نبيه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 1, 4] فقال له البطليوس: ما رأيت مثل حذقك وجوابك يا أعور.
وكان المغيرة رضي الله عنه أصيب في احدى عينيه يوم اليرموك فقال له المغيرة: أن ذلك لا يعيبني ولقد أصيبت عيني في الجهاد في سبيل الله من كلب مثلك وأخذت بثأري من الذي فعل بي ذلك فقتلته وقتلت جملة منهم والثواب من الله عز وجل أعظم من ذلك فقال البطليوس ما أحذق جوابك فهل في قومك مثلك قال قد قلت لك فينا أهل العلم والرأي ومن لا أساوي في علمهم شيئا وأنا رجل بدوي فلو رأيت علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختار مقاتل الكفار ومبيد الفجار والليث الكرار والبطل المغوار قال أهو معكم في هذا الجيش فقد سمعت بشجاعته وبراعته وأريد أن أنظر إليه.
فقال له المغيرة: قاتلك الله أن الامام عليا كرم الله وجهه أعظم قدرا من أن يسير إلى مثلك قال فهل أحد غيره قال: نعم مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو خليفتنا وعثمان بن عفان وعبد الرحمن وسعيد وسعد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأمراء متفرقين في الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر كل أمير يقوم بألف مثلك في الشجاعة والبراعة وغير ذلك وأما سيف الله الأمير خالد بن الوليد أمير هذا الجيش ومعه عصابة من الأمراء فكأنك به وقد أقبل علينا برجال سادات شداد وأمراء أمجاد فقال له عند ذلك: إني أريد أن أصلح الامر بيني وبينكم وأريد قبل الحرب أن انظر إلى جماعة ممن ذكرت.
قال الراوي: وكان عدو الله أراد أن يغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم المغيرة منه ذلك فقال غداة غد آتيك منهم برجال تنظر إليهم قال ففرح عدو الله وأضمر المكر لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الله كيده في نحره.
قال الراوي: ثم وثب المغيرة وأصحابه وخرجوا من عند البطليوس وما صدقوا بالنجاة وركبوا خيولهم وأمر البطليوس حجابه ونوابه أن يسيروا معهم إلى قريب من عسكرهم قال: ووصل المغيرة وأصحابه إلى الأمير عياض بن غانم الاشعري وحدثه بما جرى له مع البطليوس فقال عياض وحق صاحب الروضة والمنبر ما ترككم إلا خوفا من سيوفكم وهذا رجل حكيم إلا أن الشيطان قد غلب على عقله.
قال الراوي: ولم يناموا تلك الليلة إلا وقد أخذوا أهبتهم للحرب واستعدوا فلما أصبح الصباح أذن المؤذنون في عسكر المسلمين فأسبغوا الوضوء وصلوا الصبح ثم ركبوا خيولهم وقد علموا أن العدو مصبحهم وقد عبوا صفوفهم وكانت الجواسيس من العرب يدخلون في عسكرهم وينقلون الاخبار ووصلت جواسيس عياض بن غانم إليه وأعلموه بذلك وإن الروم متأهبون للقتال فرتب جيشه ميمنة وميسرة فجعل في الميمنة الفضل بن العباس وجعل في الميسرة أبا ايوب الانصاري وجعل في القلب القعقاع بن عمرو التميمي.
قال: حدثنا قيس بن عبد الله قال: حدثنا مالك بن رفاعة عن سعيد بن عمرو الغنوي قال حضر أرض البهنسا عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سبعون بدريا والأمراء وأصحاب الرايات نحو ألف وأربعمائة ودفن بأرض البهنسا من الصحابة والسادات نحو خمسة آلاف وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى.
قال الراوي: وكان على الرجالة معاذ بن جبل وعلى الساقة والنسوان والصبيان سعد بن عبد القادر والضحاك بن قيس قال: وصار الأمير عياض يتخلل الصفوف ويقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف يا أهل الإسلام اعلموا أن الصبر مقرون بالفرج وإن الله مع الصابرين والصابرون هم الغالبون وإن الفشل سبب من أسباب الخذلان فمن صبر على حد السيف فإذا قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه والله يحب الصابرين وصار يقول ذلك لاصحاب الرايات قال: وما فرغ الأمير عياض من تعبية الصفوف إلا وعساكر البطليوس والروم قد أقبلت ومعهم النصارى والفلاحون والعرب المتنصرة وأمامهم صليب من الذهب الأحمر زنته خمسة أرطال وفي أربعة جوانبه أربع جواهر كالكواكب.
قال: حدثني سنان بن الحرث الهمداني عن شداد بن أوس وكان ممن حضر الفتوح إلى آخرها قال: وأقبلت الصلبان وأنا أعدها صليبا بعد صليب حتى عددت ثمانين صليبا تحت كل صليب ألف ومعهم القسوس والرهبان وهم يتلون الانجيل وأكثر أعداء الله في عسكرهم من الرايات والاعلام فبينما الناس كذلك إذ اقبل بطريق وعليه درع مذهب ولامة حرب وهو يرطن بلغته وطلب البراز فبرز إليه القعقاع وتعاركا وتجاولا ثم طعنه القعقاع في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فخرج علج آخر وقد غضب لقتل صاحبه وكان من أصحاب الجلوس على السرير مع الملك وطلب البراز فبرز إليه رجل من الأزد فمنعه الأمير عياض من ذلك وقال اذهب فلست كفؤا له قال فبرز إليه المسيب بن نجيبة الفزاري وضربه فتلقاها العلج بحجفته فطار السيف من يده وضرب العلج المسيب فضيعها ونظر أن أحدا يناوله سيفا فلم يجد فأراد الرجوع وإذا بالقعقاع بن عمرو أقبل وبيده سيف فناوله إياه فكر راجعا وضرب البطريق على عاتقه الايمن فأطلع السنان من عاتقه الايسر فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأت الروم ذلك حملوا على المسلمين حملة واحدة واشتد القتال وعظم النزال وعدو الله البطليوس راكب على جواد أهداه له صاحب صقلية والبربر يساوي خمسمائة دينار وكان أيام الحصار يصعد به ويرمح على أسوار المدينة وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى في موضعه وعلى بدنه درع مذهب وفي وسطه منطقة من الجوهر وعلى رأسه تاج تلمع جواهره كالكواكب والصلبان والاعلام مشتبكة على رأسه وقد حمل كردوس من الروم على ميمنة المسلمين فصبروا لهم صبر الكرام ثم حمل كردوس آخر فلله در الفضل بن العباس وأخيه عبيد الله وأولاد عقيل وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وتقدم الفضل إلى حامل الصليب وطعنه في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره وسقط الصليب منكسا إلى الأرض فنظر إليه البطليوس فايقن بالهلاك وهم أن يأخذه فلم يجد لذلك من سبيل قال فأحاط به المسلمون وصار الفضل وسادات بني هاشم يذبون ويرجعون الروم عن الصليب ولما رأى الفضل ازدحام النصارى والروم حمل عليهم حملة منكرة وأسعفه بنو عمه بالحملة والأمراء فقهروا الروم وقتلوا منهم جماعة وازدحم المسلمون على الصليب يريدون أخذه فقال لهم الفضل: أنه لي دونكم ثم عطف عليه ومال في ركابه وأخذ الصليب وكر راجعا إلى المسلمين وسلمه لعبد الله يسلمه لعبده مقبل وكان راكبا مع المسلمين فأخذه ومضى إلى خيمته قال: وحمل الفضل بن العباس ثانيا وحملت الأمراء واشتد القتال وعظم النزال وسالت الدماء وكثر العرق وازورت الحدق قال: ولما رأى عدوالله البطليوس ذلك حمل على المسلمين ومعه طائفة من البطارقة نحو خمسة آلاف وكانوا على جناح الميسرة فقتلوا من المسلمين جماعة وجرحوا جماعة وصبروا لهم صبر الكرام.
هذا والفضل رضي الله عنه تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وحمل الأمراء جميعهم فلله در القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري والبراء بن عازب ومعاذ بن جبل وزيد الخيل لقد قاتلوا قتالا شديدا حتى بقي الدم على دروعهم كقطع أكباد الابل وتوسط المسلمون كتيبة منهم فبرز بطريق عظيم الخلقة كأنه برج فحمل عليه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يضربه وسطا عليه وإذا بضربة أتته من خلفه فأردته عن جواده وسقط الرمح مشتبك في أضلاعه وخشخش الرمح في عظم ظهره ثم جذب الرمح وهو ملقى على الأرض ونزل جماعة وأخذوا سلبه قال فتأملنا من ضرب البطريق فإذا هو زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه قال فلما رأى الروم ذلك حملوا حملة منكرة وقامت الحرب على ساق واحدة وضربت الاعناق وشخصت الاحداق وتضاربوا بالصفاح وتطاعنوا بالرماح واشتد الكفاح ورطنت الروم بلغتهم ولم يزالوا في قتال ونزال حتى غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من قتل من المسلمين نحو مائتين وخمسين ختم الله لهم بالشهادة ونالوا درجة السعادة وبات الفريقان يتحارسون والمسلمون يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان قال: وإن المسلمين أوقدوا النيران وأتوا إلى مكان المعركة وميزوا القتلى فلما رأى الأمراء ما حل بهم وبأولادهم بكوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الراوي: وقتل من المشركين نحو ألفين وخمسمائة وقتل من خيارهم وعظمائهم نحو عشرين من أرباب الدولة وحاشية الملك أصحاب السرير فلما رأى البطليوس ذلك صعب عليه وكبر لديه وجلس في سرادقه وحوله أكابر دولته من حجابه ونوابه وقدم له الطعام والشراب فامتنع عن ذلك ثم التفت إلى حجابه وبطارقته ووبخهم توبيخا عظيما وقال مثلكم لا يصلح لخدمة الملوك فما هذا الخوف والفشل الذي دخل في قلوبكم وتريدون أن تصيروا معرة عند الملوك بفعالكم هذه فقالوا: أيها الملك أن هذا اليوم ما أخذنا فيه أهبتنا وما كنا نظن أن العرب فيهم هذه الشجاعة فقال: وما عندكم من الرأي أترضون بالعار والذل ولا سيما وقد أخذ الصليب من أيديكم وخذلتموه فقالوا: أيها الملك سوف ترى منا ما يسرك في غد نكمن لهم كمينا ونخرج لهم ونقاتلهم ويخرج عليهم الكمين ونأمر جماعة يسلسلون أنفسهم وهم الرماة كعادة الروم أن يفعلوا ونقاتلهم ولا نمكنهم من مدينتنا ولو قتلنا عن آخرنا فاستوثق الملك منهم بقولهم ثم كتب كتابا وارسله تحت الليل إلى بطريقي طنجة وقلعة الابراج يسألهم النجدة وكانوا بطارقة شدادا كل بطريق تحت يده عشرة آلاف بطريق من حملة السلاح فلما ورد عليهم الكتاب جهزوا النجدة والاهبة وسيأتي كر ذلك أن شاء الله تعالى.
قال الراوي: وأصبح المسلمون فصلوا صلاة الصبح وتبادروا إلى خيولهم فركبوها ثم صفو صفوفهم ورتبوا مواقفهم كما ذكرنا أولا وصار الأمير عياض يحرض الناس وقد جعل في مكانه المغيرة بن شعبة وعطفوا على أصحاب الرايات وقال لهم: أطلقوا الاعنة وقوموا الاسنة وإذا لقيتم العدو فاحملوا حملة واحدة ولا تخافوا ولا ترهبوا وركب الأمراء كاليوم الاول ولم يركبوا حتى دفنوا شهداءهم في ثيابهم ودمائهم قال فما شعرنا إلا والروم قد أقبلوا علينا ورطنوا بلغتهم علينا وابتدر منهم خمسة آلاف فنزلوا عن خيولهم وأرسلوها مع غلمانهم وحفروا لهم حفائر إلى أوساطهم ووضعوا غرائر النشاب أي الصناديق بين أيديهم وأقسموا بالمسيح لا يزولون ولو قتلوا عن آخرهم وكانوا ثلاثة صفوف.
قال الراوي: حدثنا سنان بن أبي عبيدة عن زياد عن الحرث عن عبد يغوث وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن نتأهب للحرب وللحملة إذا بالروم قد حملوا علينا حملة واحدة وحملت ميمنتنا واختلط القلب بالقلب ورمت المسلسلة بنشابها فكان يخرج منهم عشرة آلاف سهم كأنها تخرج من كبد قوس واحدة كالجراد المنتشر أو السيل المنحدر فجرحت رجالا وقتلت أبطالا وولت خيل العرب نافرة وصبرت جماعة من الأمراء وحمل الفضل بن العباس وأخوه وسادات بني هاشم وكذلك زياد بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري وجميع الأمراء واقتتل الفريقان قتالا شديدا وفشا القتل في المسلمين وثبت القوم لقتال العرب وعدو الله البطليوس تارة يكر في الميمنة وتارة يكون في الميسرة وتارة في القلب وحوله كتائب المشركين.
قال الراوي: فصبرنا صبر الكرام ووطنا أنفسنا على الموت والأمراء يحرضون على القتال وقد قتل من الفريقين طائفة إلا أن القتل لم يبن في المشركين لكثرتهم ولم نظن أن القوم لهم كمين إذ خرج للقوم كمين من خلفنا والمسلسلة من بين أيدينا وأحاطوا بنا وصرنا بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الاسود وقتل جماعة من السادة والأمراء وأخلاط الناس فلله در سادات بني هاشم وأبان بن عثمان بن عفان فلقد قاتل أصحاب الرايات براياتها وقاتل عدو الله في القلب وأنكى في المسلمين وقتل رجالا وجندل أبطالا وكلما طلبه فارس من المسلمين لم يجده إلا وهو قد صار في وسط الروم قال فعندها تقدم القعقاع والمسيب بن نجيبة الفزاري وقالا قربوا الجمال في وجوه القوم يا وجوه العرب فاستاقوا الابل وجعلوها بين أيديهم تلقى النشاب وحملوا على المسلسلة وداسوهم بالابل وسنابك الخيل وأقبلت الرجال والرماة يقتلونهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة هذا والروم على حالهم فلما رأى عدو الله ما حل بقومه من فعل المسلمين بهم ازدادوا طغيانا ولم يزالوا كذلك حتى غابت الشمس ثم أنزل الله نصره على المسلمين فتظاهروا عليهم وتقدم جعفر بن عقيل إلى كتيبة من الروم وغاص في أوساطهم وطعن البطريق المقدم عليهم فقتله فتكاثرت الروم عليه فقتلوه وكذلك فعل أخوه علي فقتل منهم جماعة فقتلوه وكذلك زيد بن زياد فقتل منهم جماعة فقتلوه وعظم النزال واشتد القتال وألجئوهم إلى ورائهم فلما رأت الأمراء والسادات وبنو هاشم ما حل بهم تواثبوا كالاسود الضارية وحملوا على الروم وألجئوهم إلى الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا عند باب الجبل والباب البحري.
قال الراوي: وكانت ليلة لم تر الصحابة مثلها وقتل الصحابة رضي الله عنهم ألوفا وقتل منهم جماعة بظاهر البلد نحو خمسمائة وأزيد تظاهر المسلمون بعد ذلك عليهم وألجئوهم إلى السور واقتتلوا قتالا شديدا وعظم البلاء وعدو الله يحمي أصحابه وهم في أشد القتال وكان شعار المسلمين تلك الليلة ينادون يا محمد يا محمد يا نصر الله أنزل وقتل جماعة من المسلمين عند الأبواب وعظم النزال وكان يسمع ضرب السيوف على الدرق كالرعد وبريق السيوف كالبرق ولمعان الاسنة كالكواكب وأحدقت المسلمون بالروم وعدو الله يحمي قومه تارة يكون عند باب قندوس وتارة يكون عند باب توما في جماعة من قومه حتى دخل الروم جميعهم ولم يبق إلا من انقطع من قومه أو كبابه جواده ولم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فعلوا على الاسوار وضربوا بالنواقيس والبوقات والقرون وغلقوا الأبواب ورموا الاقفال فلما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وأتوا إلى موضع المعركة وتفقدوا من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وعشرون رجلا من باب توما إلى باب قندوس ختم الله لهم بالشهادة.
قال الراوي: ولما رأى المسلمون ذلك بكوا بكاء شديدا وأعظم الناس حزنا الأمير عياض لأجل من قتل تحت رايته وكان أكثر الشهداء الاعيان من قريش وبني هاشم وبني المطلب وبني نوفل وبني عبد شمس فلما رأى مسلم بن عقيل أخوته وما حل بهم ورأى الفضل بن العباس وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم ما حل ببني عمهم نزلوا عن خيولهم وعانقوا شهداءهم واسترجعوا في مصابهم فعند ذلك أنشد همام بن جرير يقول:
يا عين ابكي لا تملي البكى ** سحى دموعا مثل سكب الغمام

وابكي على السادات من هاشم ** وعصبة المختار خير الأنام

نوحي على الليث ابن عم النبي ** هو جعفر المشكور ليث همام

وابكي على الشهداء لا تغفلي ** ما لاح برق أو تغنى حمام

فلا لقي البطليوس خيرا ولا ** أجناده أهل الصليب اللئام

لنأخذن الثار يا قومنا ** بطعن خطى وحد الحسام

قال: ووارى المسلمون شهداءهم ثم أن الأمير عياضا فرق الأمراء على الأبواب فنزل السادات من بني هاشم وغيرهم مثل زياد بن أبي سفيان والوليد وأخيه محمد وأسامة بن زيد وأبي أيوب الانصاري وفضالة بن عبيد وأوس بن حذيفة وعمرو بن حصين ورافع بن خديج وأبي دجانة وجابر ابن عبد الله وبقية الأمراء قال: ونزل القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وأمثالهم من الأمراء بألفي فارس على باب الجبل والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة والمهلب الطائي ونظراؤهم من الأمراء بألفي فارس عند باب توما قال: وعبى القوم آلات الحصار ورتبوها على الاسوار وأقاموا مدة شهر لا يقاتل بعضهم بعضا بل كل يوم يركب البطليوس لعنه الله جواده المتقدم ذكره ويلبس لامة حربه ويطلع بالجواد على اعلى السور وحوله المشاة من خلفه وقدامه وبأيديهم السيوف المحددة والدرق والدبابيس والاطيار المذهبة والقسى والنشاب وكان عرض السور يمشي عليه خيالان متكاتفان باللبس الكامل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد فإنه أرسل عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر إلى الفيوم وجرى بينهم وقعات وحروب اختصرنا ذكرها خوف الاطالة فإن المقصود الذي عليه مدار هذا الكتاب هو فتح البهنسا وما وقع فيها والله أعلم ثم إنهم ساروا حتى اتصلوا إلى مدينة الفيوم وحاصروها اياما قلائل ثم فتحوها وفتحوا الفيوم في أقل من شهر وأخذوا الاموال والغنائم ورجعوا إلى خالد رضي الله عنه وكان مقيما بالنورية كما ذكرنا.
قال هذا ما جرى لهم وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي وذو الكلاع الحميري ومالك الاشتر النخعي فإنهم لما ضربوا رقاب القوم كما ذكرنا حاصروا القلعة نحو عشرين يوما واقتتلوا قتالا شديدا.
قال: حدثنا قيس بن مالك عن منصرو بن رافع عن أبي المنهال وكان من أصحاب مالك الاشتر قال بينما نحن نحاصر القلعة وقد تظاهروا علينا إذ نحن بغبرة وقت الفجر وكانت ليلة مقمرة فلاحت لنا خيل وقعقعة لجم فتبادرنا إلى خيولنا فركبناها واتضح النهار وبان وإذا عشرون صليبا تحت كل صليب ألف فارس وكان السبب في ذلك بطريق طحا ذات الاعمدة وبطريق قلعة ذات الابراج وما حولهم لما بلغهم كتاب البطليوس تجهزوا بأنفسهم وجمعوا ما حولهم من الروم والنصارى وخرجوا أول الليل خوفا من العرب فما أصبحوا إلا على القلعة والنيل كان في أول زيادته والمسلمون قد أخذوا المعابر والقناطر التي على البحر اليوسفي فقطعوها وساروا حتى نزلوا على القلعة وكان بلغهم حصارها فلم تشعر المسلمون إلا وقد أقبلوا وهجموا عليهم وأتوا إلى نحو باب المدينة الشرقي فوجدوا الأمير زيادا وأصحابه هناك قال مالك الاشتر يا وجوه العرب اجعلوا البحر خلف ظهوركم وقاتلوا أعداءكم واستعينوا بخالقكم هذا والروم صاحوا وطمطموا بلغتهم ورطنوا من أعلى السور وكذلك أهل القلعة دقوا الطبول وضربوا بالنواقيس فلم يزالوا على المسلمين متقابلين وجاءت كتيبة من الروم إلى جانب البحر كما ذكرنا نحو ثلاثة آلاف وكان الأمير زياد رضي الله عنه في نحو مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا عليهم وصبروا لهم صبر الكرام وقتل الأمير زياد رحمه الله تعالى وقتل معه جماعة من المسلمين ختم الله لهم بالشهادة وركب بقية المسلمين وقاتلوا قتالا شديدا وصبروا لهم صبر الكرام.
قال الواقدي: فسمع المسلمون وهم حول المدينة فأتوا إلى الجانب الشرقي فوجدوا السيوف مجذوبة والرايات مرفوعة وقد قتل جماعة من المسلمين على شاطىء البحر نحو أربعين رجلا فصاحت ما فعلوا بنا فعندها هجم القعقاع بفرسه البحر وقال بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنك تعلم اننا أفضل من بني اسرائيل عندك وقد فرقت لهم البحر فسار ولم تبتل قوائم فرسه وانحدر إلى جانب القلعة وكانت بقرب البحر فاقتحم البحر خلفه نحو من ألفي فارس إلى أن طلعوا إلى البر الشرقي واقتتلوا قتالا شديدا قال فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن ألف فارس يقدمهم رفاعة بن زهير المحاربي وهم من أصحاب قيس بن الحرث وكانوا في بلد تسمى بردوها وكانوا صالحوا أهلها فجاءهم رجل من المعاهدين وأخبرهم بمسير أهل طحا ذات الاعمدة وصاحب قلعة الابراج لقتال المسلمين وعلموا أن البحر حاجز بينهم وبين أصحابهم فأتوا إلى الأمير قيس بن الحرث واستأذنوه حتى وصلوا وهم في القتال كما ذكرنا فلما رأوا القوم كبروا فأجابوهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم حملوا عليهم وقاتلوهم قتالا شديدا وكان الفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان ومسلم بن عقيل في جملة من عبر إلى البر الشرقي فعندها وثب القعقاع بن عمرو التميمي على بطريق القلعة فقتله وكذلك الفضل بن العباس وثب على بطريق طحنا ذات الاعمدة فقتله وزياد بن أبي سفيان على بطريق عظيم فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وهرب منهم جماعة فألجئوهم إلى البحر فغرق منهم جماعة وأسر منهم نحو من ثلاثة آلاف وأتوا بهم إلى نحو السور قريبا منه وضربوا أعناقهم والبطليوس ينظر إليهم هو وأصحابه ودفن الأمير زياد إلى جانب البحر تحت جدران القلعة ورجعت المسلمون ونصبوا الجسر بالاخشاب والاحجار تتساقط عليهم وهم لا يفكرون حتى عبروا إلى الجانب الغربي بأجمعهم واشتد الحصار وأقام المسلمون محاصرين مدينة البهنسا تسعة أشهر.
قال الواقدي: وإن المدينة كان لها باب سري تحت الأرض من تحت باب الجبل من عند تل هناك يظن من رآه أنه مغارة أو حفر في الجبل وكان يخرج منه عيونه ومن يأتيه بالطعام وغيره سرا تحت ظلام الليل إلى ذلك المكان ويخرج الرجل وفرسه على يده إلى ظاهر السرب فلاجل هذا لا يعجزهم الحصار وكان إذا احتاج إلى أمر مهم يخرج من يثق به من ذلك المكان ويوقد الشمع والفوانيس ليلا ويخرج من يختار من ذلك الباب وكان الملوك القدماء ما وضعوا ذلك الباب إلا لأجل الحصار وكانت عيونه تخرج وتأتيه بالاخبار وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الفيوم صارت الميرة والعلوفة والارز والعسل وغير ذلك تأتي للصحابة من الفيوم ومن الوجه البحري تأتي إليهم الميرة قال فأرسل الأمير عياض رضي الله عنه الأمير مياس ابن حام وأرسل معه مائتين من المسلمين ومعهم جمال وبغال يأتونهم بما ذكرنا وكان خالد قد أرسل يعلمهم بذلك وأنهم يرسلون إلى الفيوم ويأخذون ما يحتاجون إليه قال: وسار مياس حتى وصل الفيوم وكان عليهم متكلما من قبل خالد الأمير عجرفة قال: وسار مياس ومن معه حتى قدموا الفيوم وأوسقوا الجمال والبغال وأرادوا الرجوع إلى أرض البهنسا حتى وصلوا إلى دير هناك في الجبل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما عيون البطليوس فأخبروه بذلك فاستدعى ببطريق من أصحاب السرير اسمه ميخائيل بن بطرس وكان معروفا بالشدة والبراعة وأمره أن يأخذ معه ألفا من الروم وينطلقوا إلى طريق الفيوم ويكمنوا لهم في الدير ثم يخرجوا عليهم فخرجوا من باب السرب واحدا بعد واحد في ظلام الليل وساروا حتى وصلوا إلى دير وكمنوا هناك حتى رأوا المسلمين فخرجوا عليهم فالتقى الجمعان واصطدم الفريقان وقاتلت المسلمون قتالا شديدا.
قال الراوي: حدثنا ابو محمد البدوي حدثنا أبو العلاء المحاربي قال شداد بن أوس وكان في خيل مياس لما التقى الجمعان وأحاطت بنا أعداء الله وظننا أن المحشر من ذلك المكان ووطنا أنفسنا على الموت وقاتل الأمير مياس بعد أن سلم الراية لولده منيع فقاتل حتى قتل ثم قاتل من بعده مازن حتى قتل ولم تكن غير ساعة حتى قتل من المسلمين نحو مائة فارس وأسروا الباقين قال: وكان في القوم عبد الله بن أنيس الجهني رضي الله عنه أحد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك خرج كالريح الهبوب وقام يجري وكان قد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمرو بن أمية الضمري بالقوة والبركة في المشي وكانا لا تدركهما الخيل العتاق ولا النجب السوابق فسار حتى أشرف على العسكر وصاح النفير النفير أركبوا يا مسلمون قال فتواثبت الفرسان إليه وسألوه فقص عليهم القصة فتواثب المسلمون إلى خيولهم فركبوها وكل يقول أنا أمضي فعندها استدعى الأمير عياض بعبد الله بن جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب وضم إليه ألف فارس من الصحابة رضي الله عنهم من أهل الشدة وساروا أول الليل ومعهم رجل من المعاهدين يدلهم إلى أن قربوا من قرية هناك بسفح الجبل فكمنوا هناك إلى أن جن الليل إذ سمعوا حوافر الخيل فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها وإذا بالروم أقبلوا عليهم والاسارى معهم موثوقون بالحبال على ظهور خيولهم وكانت ليلة مقمرة فصاحت المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحمل القوم واقتتلوا قتالا شديدا فعندها صاح عبد الله بن جعفر رضي الله عنه يا قوم أيعجز أحدكم عن خصمه قال فتواثب الأمراء والسادات رضي الله عنهم يقتلون ويأسرون وبادر عبد الله بن جعفر إلى مقدم الجيش لعنة الله وكان عليه درع مصفح فطعنه في صدره طعنة قرشية هاشمية فأطلع السنان يلمع من ظهره وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك انهزموا وتبعهم المسلمون يقتلون وياسرون وينهبون فما أصبح الصباح حتى قتل منهم نحو خمسمائة وأسروا الباقين وخلصوا المسلمين من الاسر وغنموا سلاح الروم وأموالهم وخيولهم وترك عبد الله بن جعفر الاسارى وخمسمائة من المسلمين عند القرية وأمرهم أن لا يبرحوا حتى يأتيهم وأمر عليهم عبد الله بن معقل وساروا حتى أتوا إلى محل المعركة ووجدوا القتلى وعندهم نصارى من المعاهدين يبكون وحلفوا لهم أن لا علم لهم بذلك فنزلوا عن خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وواروا شهدائهم وكر عبد الله راجعا إلى أصحابه وحملوا رؤوس القتلى ورأس عدو الله ميخائيل أمامهم وجنبوا خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وساقوا الاسارى حتى وصلوا إلى العسكر بالميرة والعلوفة ومعهم من العسل والسليط.
قال: وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأجابتهم المسلمون إلى مثل ذلك وانقلب العسكر والروم على الاسوار ينظرون ما الخبر فرأوا تلك الرؤوس على رؤوس عدو الله ميخائيل أمامهم فصعب عليهم وكبر لديهم ولطموا على وجوههم وذهبوا إلى البطليوس وأعلموه بذلك فصعب عليه واستدعى بجواده فركبه وصعد على السور حتى أشرف على المسلمين فلما رأى ذلك عظم عليه وقال: ما هؤلاء انس وإنما هم جن فلما رأى المسلمون البطليوس أتوا إلى الأمير فاعلموه بذلك فركب الأمراء معه حتى أتى إلى تل هناك عال مقابل باب قندوس واستدعى بالاسارى وعرض عليهم الإسلام فأبوا فضربوا رقابهم والروم ينظرون إلى ذلك فغضب عند ذلك البطليوس غضبا شديدا وحمل هما عظيما.
قال الراوي: ثم أن عدو الله استشار أصحابه فيما يفعل وإنه يريد الخروج بنفسه والكبسة عليهم قال فنهض إليه بطريق اسمه كراكر وكان فارسا شديدا وقال أنا أيها الملك أكفيك هذا المهم وأكبس عليهم لعلي أن أنال منهم مكالا وأريد معي جماعة شدادا فقال الملك خذ من شئت فانتدب معه عشرة بطارقة تحت يد كل بطريق ألف وجاءوا إلى كنيستهم وفتحوا الانجيل في وجوههم وساروا إلى أن وصلوا إلى الأبواب والبطليوس يحرضهم ويوصيهم بالهجمة عليهم ما داموا على غفلة ثم أمر الحراس بفتح الباب لهم وهو باب قندوس وكانوا ألف فارس بوابين على الباب وكان للباب ثلاثة أبراج بين كل برجين باب وشراريف وخرجوا وهم مستعدون لذلك والمسلمون على غفلة مما دبر القوم لا يدرون ما يرادبهم وكان على حرس المسلمين تلك الليلة من جهة باب قندوس زائد بن ثابت وعبيد الله بن عباس وعبد الله بن معقل والبر اء بن عازب ومالك الاشتر وذو الكلاع الحميري.
قال الراوي: حدثنا عوف بن سعد عن سعيد بن طارق الثقفي عن أبي يزيد عن مالك الاشتر قال بينما نحن نسهر تلك الليلة والمسلمون قد هجموا في مراقدهم من شدة البرد وكثرة السهر ووضعوا أسحلتهم ومنهم من له ورد يقرؤه ومنهم من يصلي إذ راينا فتح الباب وخرجوا كالسلاهب وبأيديهم الفوانيس ومشاعل النار وحملوا على الجيش فتبادرنا إليهم وصحنا النفير دهينا يا مسلمون ثوروا فقد غدركم القوم فلما سمع المسلمون الصياح تبادروا وثاروا من مضاجعهم كالاسود الضارية هذا يأخذ سيفه وهذا يأخذ رمحه وهذا عاري الجسد لم يمهل حتى يلبس ثيابه وهذا يشد وسطه بمئزره وهذا عليه قميص واحد وثاروا في صدور الرجال هذا وعدو الله قد عطف على جماعة من المسلمين قبل أن ينتهوا ووضع السيف في عراضهم فما أفاق بعض القوم إلا والسيف قد اطاح رأس هذا وقطع زند هذا وطعن نحر هذا وهكذا وكثر الصياح وعظم البلاء وكثر القتال وعدو الله كراكر عليه ديباجة حمراء مقصبة بالذهب تلمع من فوق الدروع وعلى رأسه بيضة عليها جوهرة تضيء كالكواكب وهو يهدر كالجمل الهائج وهو يرطن بلغته وخلفه جماعة والذين على الاسوار يصيحون ويزعقون بشعارهم ويضربون بقرونهم وبوقاتهم وطبولهم وأوقدوا مشاعلهم من أعلى السور حتى بقي مثل النهار هذا وقد ثارت الأمراء أصحاب النجدة وذوو المروءات واعتقلوا بسيوفهم وركبوا خيولهم فمنهم من ركب جواده عريانا ومنهم من ركب بسرج بعير لجام ومنهم من أسرع ماشيا فلله در الفضل بن العباس وابن عمه الفضل أبن أبي لهب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان والقعقاع بن عمرو والمسيب بن نجيبة الفزاري والمغيرة ومسلم وأبي ذر الغفاري وأبي دجانة وأبي أمامة وغفار بن عقبة وأبي زير العقيلي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وطعن جماعة من المسلمين وجرح جماعة من المسلمين.
وأما الذين هاجموهم في أول الوقعة فقتل منهم جماعة نحو المائتين وثمانين رجلا واقتتل الناس قتالا شديدا وأقبل الفضل بن العباس إلى البطريق كراكر لعنة الله وضربة بالسيف على عاتقه الايمن فأطلع السنان يلمع من عاتقه الايسر فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وأتبعه بالجملة ابن عمه عبد الله ابن حجفر فقتل بطريقا آخر ولم تكن إلا ساعة وقد جاءتهم بقية الأمراء من على أبوابهم وتركوا مكانهم من يثقون به وساروا إلى أن وصلوا إليهم وحملوا عليهم حملة منكرة وقتلوا منهم مقتلة عظيمة نحو من ثلاثة آلاف من الروم والنصارى فلما رأى الروم ذلك فروا نحو الباب وتبعهم المسلمون إلى الباب فخرج كردوس عظيم الروم وحموا المنهزمين وأسر المسلمون من الروم نحو ألف ومائتين وخمسين واتوا إلى مكان المعركة يتفقدون من قتل منهم فإذا هم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالشهادة فلما رأى المسلمون ذلك شق عليهم وكبر لديهم وأسرعوا تحت الليل وجمعوا الشهداء ودفنوهم في ثيابهم ودمائهم في مكان يعرف بالبطحى عند مجرى الحصى ومنقع السيل فدفنوهم هناك كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة وكل خمسة في قبر وقدموا أهل السابقة وأصحاب القرآن وكان يعرف ذلك المكان بقبور الشهداء الاخيار والدعاء هناك مستجاب مجرب مرارا وتحط هناك الاوزار لمن يكثر من الدعاء والتطوع والاستغفار.
قال الواقدي: ما حدثت في هذا الكتاب إلا على قاعدة الصدق وأذكر ما وقع من الامور وحدث عن أصحاب التواريخ وثقات المحدثين من أصحاب السير ومن سماع كلامه كالدر فهذا كالعقد النفيس في السلوك والتأسيس لا يليق سماعه إلا لذوي البصائر والعلماء والملوك فإنه نزهة الناظر ويشرح الخاطر لم يجمع أحد مثله من أهل السير لما فيه من الامثال والعجائب والاخبار الصحيحة المنقولة عن ثقات المحدثين يتلذذ بذلك المستمعون ولنرجع إلى سياق الحديث.
قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن عبد الواحد القاري عن أبي سراقة بن نوفل الخزرجي عن أبي لبابة بن المنذر وكان من أصحاب الرايات قال: ولما وارينا الشهداء ورجعنا إلى خيامنا وعدو الله البطليوس قد أغلق الباب وألقى الاقفال وعلوا على الاسوار قال: ولما رجع المنهزمون إلى البطليوس صعب عليه وكبر لديه وأظلمت الدنيا في وجهه وحمل هما عظيما على من قتل من بطارقته وجماعته ونوى المكايد والمصائب للمسلمين.
قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجتمعوا عند الأمير وتذاكروا ما حصل للمسلمين من البطليوس لعنه الله واتفق رأيهم أن يرسلوا إلى الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ويسألوه أن يسير إليهم بنفسه وبمن معه وكتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عياض بن غانم إلى الأمير خالد بن الوليد اعلم أيها الأمير أننا فتحنا الشام والعراق واليمن والحجاز ولم نجد في الترك والروم والفرس والديلم ألعن من هذا الملعون بطريق البهنسا البطليوس ولا أكثر منه خداعا ولا مكرا ولا حيلة وإنها مدينة آهلة بالخيل حصينة بالرجال وقد خدعونا مرارا وقد قتلوا منا رجالا فأنجدنا بنفسك وبمن معك من المسلمين والسلام ورحمة الله وبركاته عليكم وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن المنذر فأخذه وأتى به إلى الأمير خالد فوجده نازلا على النورية فسلم عليه ودفع له الكتاب فلما قراه وفهم ما فيه استرجع وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم التفت إلى عبد الله وقال قل للأمير عياض أن الأمير خالدا قادم عليك برجال وأي رجال والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين من المهاجرين والانصار فرجع عبد الله ثاني يوم إلى البهنسا ورد الكتاب إلى الأمير عياض بن غانم.
قال ثم استدعى الأمير خالد بأبي عبد الله الزبير وضم إليه ثلثمائة فارس وأمرهم بالمسير إلى أرض البهنسا وقال لهم: إذا وصلتم إلى أرض البهنسا فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فسار الزبير رضي الله عنه فلما بعدوا دعا بالمقداد ابن الاسود وضرار ابن الازور ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا على أثرهما وقال لهما لا تزالا حتى يدخل الزبير وابنه ثم بعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر رضي الله عنه وضم إليهما مائتي فارس وأمرهما بالمسير على أثر المقداد ثم استدعى بسعيد بن زياد بن عمر بن نوفل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقبة بن عامر الفهري ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا وبات الأمير خالد تلك الليلة ولما أصبح صلى وسار معه بقية الأمراء من المهاجرين والانصار الاخيار رضي الله عنهم.
قال الراوي: وسار الزبير رضي الله عنه بمن معه حتى أشرف على البهنسا فكبر وكبر معه المسلمون وأنشد يقول:
أتيناكم على خيل عتاق ** شبيه الريح يوم الاستباق

عليها كل صنديد همام ** شديد البأس يوم الحرب راقي

نذل حماتكم بالسمر لما ** نجول بها مع البيض الرقاق

ونقتل كل ملعون وباغ ** على الإسلام من أهل النفاق

ونحن حماة الدين الله حقا ** نقر بأن رب العرش باقي

وإن محمدا خير البرايا ** رسول الله للعلياء راقي

قال: وأشرفت الروم على أبواب المدينة ينظرون إليهم فما لبثوا غير قليل حتى أشرف عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو رضي الله عنه وكبر وكبرت المسلمون قال ثم أنشد يقول:
أنا الفارس المشهور للحرب في الوغى ** أذل بسيفي كل باغ ومعتدي

وأحمل في الابطال حملة من له ** إلى الغاية القصوى أعاظم مقصدى

أنا ابن أبي بكر الذي شاع ذكره ** خليفة خير المرسلين محمد

فياويل من عالى حسامي رأسه ** ويا ويل من عاجلته بمهند

قال الراوي: ثم أشرف من بعده عبد الله بن عمر وكبر وكبرت المسلمون لتكبيره ثم أنشد يقول:
أتينا على خيل عتاق وضمر ** بكل يمان ذي حداد وأسمر

بكف شجاع باع الله نفسه ** يرى الموت في الهيجاء أفخر مفخر

نذلكم بالسيف في الحرب والقنا ** ونقتل منكم كل باغ ومفترى

قال الراوي: ولم يزل كل أمير ينزل بجماعته حتى تكاملوا وتأخر الأمير خالد وبقية الأمراء الذي معه ولما بات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحوا قال ضرار بن الازور والأمراء للأمير غانم أظنكم أنتم المحاصرون وأعداؤكم في أكل وشرب فما هذا القعود ثم رجعوا للأبواب وضرار ينشد ويقول:
سأضرب في العلوج بكل عضب ** شديد الباس ذي حد صقيل

وأضرم في علو الباب نارا ** وأرمي القوم بالخطب الجليل

وأترك دارهم منهم خرابا ** ولم أمهل بذي شبح كفيل

فويل ثم ويل ثم ويل ** لهم مني بمشتد العويل

سأقتل كل باغ كان منهم ** بحد السيف والباع الطويل

قال: ولم يزل يترنم بهذه الابيات وتراموا بالسهام والمقاليع واقتتلوا قتالا شديدا فاشتدت حمية عتيد الروم وجمع الملعون البطارقة من ذوي الشدة والبأس وكان هو فارسا شديدا وبطلا كما ذكرنا وفتح باب الجبل وخرج منه كأنه شعلة نار على جرائد الخيل والرماة بين يديه يرمون بالنشاب والمجانيق من أعلى الابراج واقتتلوا قتالا شديدا وجرح من المسلمين جماعة وكانت مقتلة عظيمة وبقية الأمراء لا يعلمون وأنكى من المسلمين جماعة قال فعندها ضجت الأمراء أصحاب الرايات وأقبل علج عظيم من البطارقة وطلب البراز فبرز إليه المغيرة بن شعبة فحمل عليه البطريق واقتتلا قتالا شديدا فضربه المغيرة بالسيف فطاح من يده وبادر عدو الله إلى المغيرة ليضربه وإذا بفارس قد أقبل بيده سيف مجذوب فلوح به إلى المغيرة وإذا هو عبد الرحمن ابن أبي بكر فأخذه المغيرة وضرب به البطريق فحاد عنها وقرب من المغيرة وتجاذبا وكلما أراد المغيرة أن يسطو على العلج يمانع عن نفسه ونظر ضرار بن الازور إلى ذلك فترجل عن جواده وسعى بين الصفوف حتى قرب من البطريق وضربه في حزامه فقطعه فسقط عدو الله وهو جاذب المغيرة إلى الأرض فعندها تكاثرت الروم على ضرار والمغيرة فأرادوا قتلهما وإذ بثلاثة فوارس قد أقبلوا واخترقوا الصفوف أحدهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والثاني عبد الله ابن عمر بن الخطاب والثالث المقداد ابن الاسود الكندي رضي الله عنهم فأزالوهم عن مراكزهم وقتلوا ثلاثة من الروم وفرقوا الكتائب عنهم وضرب ضرار البطريق فقتله قال: ومال عبد الرحمن ابن أبي بكر وركب ضرار جوادا من خيل المقتولين وأخذوا الاسلاب هذا وعدو الله البطليوس لعنة الله تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وطلب البراز.
فبرز إليه المقداد بن الاسود الكندي رضي الله عنه وتعاركا وتجاولا وتطاعنا قال المقداد ابن الاسود قاتلت ملوكا وفتحت قلاعا ولاقيت حروبا في الجاهلية والإسلام فلم أر أخدع من البطليوس ولا أشد بأسا ولا أصعب مراسا منه فتقاتلا حتى كل الجوادان والتفت الي وقال: ما أجرأ فرسك كيف تقاتل عليك وهو بثلاث أرجل قال المقداد فمن شفقتي على جوادي طأطأت رأسي لانظر إلى قوائمه فضربني بالسيف ضربة قوية فقطعت الخودة والرفادة وأثرت قليلا في رأسي فظن الملعون أن خصمه قد قتل فلوى عنان فرسه فاستيقظ المقداد وتبعه فساق جواده المتقدم ذكره وأحاط به أصحابه.
قال فبينما الناس في أشد القتال إذ أقبل الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه الأمراء المتقدم ذكرهم وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وفي أوائل القوم خالد وهو ينشد ويقول:
رعى الله صبا للقا جاء يسرع ** وصبا على الفرسان بالرمح يقرع

ومن باع لله المهيمن نفسه ** وكان إلى الهيجا بالأمر أطوع

فويلك يا بطليوس من سيف خالد ** إذا اشتدت الهيجاء والحرب يرفع

فلا رحم الرحمن بطليوس كافرا ** ويلعنه كل الملائك أجمع

فإن قدر المولى سأخرب داره ** وأتركها من بعده وهي بلقع

بحد يماني إذا ما جذبته ** تذل له كل العداة وتخضع

قال الراوي: ثم أن خالدا رضي الله عنه حمل بمن معه واقتتلوا قتالا شديدا وقاتل البطليوس لعنة الله قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل ابطالا فعندها حملت الأمراء وأصحاب الرايت وذو المروءات واقتتلوا بين الجبل والباب قريب التل الأحمر قتالا شديدا وعطف خالد على البطليوس وصال عليه وكلما مر إلى الميسرة يراوغه إلى الميمنة ومن الميمنة إلى الميسرة فعندها عطف خالد عليه وحازه بين الصفوف وحمل عليه فعندها فر إلى القلب وأحاط به أصحابه وقومه ووضعت الأمراء السيوف فيهم وتبعه الأمير خالد وساق جواده إلى الباب واقتحمه وتبعه قومه وانهموا إلى الباب ودخلوه وتبعهم المسلمون واقتتلوا عند الباب وقتل من الروم نحو أربعة آلاف ودخلوا الباب وأغلقوه وأوثقوه بالاقفال وعلوا على الأسوار وأسر المسلمون نحو ألف وخمسمائة فعرضوهم على الأمير خالد وكان فيهم من كبار البطارقة فعرض عليهم الإسلام فامتنعوا فأمر بضرب رقابهم وافتقد المسلمون أصحابهم فإذا قد قتل منهم مائتان وثمانون رجلا ختم الله لهم بالشهادة.
قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله البطليوس فإنه حمل هما وحصل له مالا ينبغي شرحه وأمر بجمع البطارقة فلما اجتمعوا شكا لهم أمر العرب وما لقوا من الحرب وقال فما الرأي عندكم فقالوا: كلنا بين يديك فإذا أمرتنا بالقتال قاتلنا على سور بلدنا قال سأدبر لكم أمرا وهو تدبير من خاض الحروب وعرفها ثم أمر باجتماع الناس خاصتهم وعامتهم فاجتمعوا إليه إلا من بقي على الأبواب خوفا من المسلمين فلما تكاملوا واجتمعوا قال أني عزمت أن أهجم على القوم في هذه الليلة وأكبسهم في أماكنهم والليل مدلهم وأنتم أعرف بمسالك البلد من غيركم فلا يبقى منكم أحد ويتأهب ويخرج معي من بابه ونكبس القوم وأخرج أنا بنفسي ومن معي من باب توما وأرجو وصولي إلى مسرتي والا أموت بحسرتي وأبيدهم أولا بأول لعلي أن أصل إلى أميرهم فآخذه أسيرا وأبلغ مقصدي قالوا: حبا وكرامة ثم بعث فرقة إلى باب الجبل وفرقة إلى باب قندوس وفرقة إلى الباب الشرقي وانتدب معه سادات قومه ومن عرف بالشجاعة وأخذهم معه ثم أقبل على القوم قبل انصرافهم وقال سآمر صاحب الناقوس أن يخفق لكم الناقوس خفقة عند خروجي من الباب فتخرجون جميعا فامتثلوا ما أمرهم به وقاموا ينتظرون الاشارة واما صاحب الناقوس فاحتمله وصعد به على السور أي البرج وفعل ما أمره به البطليوس فخرج القوم كالسلاهب وخرج البطليوس في عشرين ألف فارس من الشجعان وهو يوصيهم وقال أسرعوا في مشيكم فإذا وصلتم إلى القوم فاحملوا عليهم ومكنوا السيوف والخناجر من رقابهم ومن صاح الامان فلا تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب الذي أخذ منا فليأخذه ومن أتى به أكرمته.
ثم أمر صاحب الناقوس أن يضربه فضربه ضربة سمعها أهل الأبواب ففتح البوابون وتبادروا للخروج وخرج اللعين وسمع المسلمون الصوت فبادروا من أماكنهم مسرعين يخفر بعضهم بعضا وهم على يقظة وتبادروا كالاسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها فلم تصل القوم إليهم إلا وهم على حذر إلا أنهم غير مرتبين فتجاول القوم في ظلام الليل وسمع الأمير خالد ذلك منهم فصاح واغوثاه وامحمداه وإسلاماه كيد قومي ورب الكعبة اللهم انظر إليهم بعينك التي لا تنام وانصرهم على عدوهم ولا تسلمهم إلى شر خلقك ثم سار خالد وهو مكشوف الرأس بلا خوذة وألهته الزعقة عن لبس السلاح وسار إلى قومه وهو ينشد ويقول:
فاض دمعي واعتراني حزني ** ضاق صدري وبراني شجني

رب سلم من نزول المحن ** وانصر الإسلام ياذا المنن

بالنبي الهاشمي العدني ** أحمد المختار طه المداني

قال الراوي: ثم وصل إلى باب توما ومعه خمسمائة من السادات وأصحاب النجدة مثل الفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب والمقداد بن الاسود وزيد بن ثابت وعبد الله بن زيد ومسلم بن عقيل وأبي ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وبحر بن مسلم وعقبة بن نافع والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري رضي الله عنهم وعلت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد رطنوا بلغتهم وتصارخوا عندما استيقظ المسلمون وحمل خالد على القوم ونادى يا مسلمون أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد أنا خالد بن الوليد ثم حمل في وسط الروم بمن معه فقتل رجالا وجندل أبطالا وهو مع ذلك مشتغل القلب بالأمير عياض وبقية الأمراء الذين على الأبواب وهو يسمع صراخهم وزعقاتهم.
قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن عون قال: حدثنا جابر بن سنان عن عقبة بن عامر قال كان الروم والنصارى من أعلى السور يرمون بالحجارة والسهام ولقيت المسلمون من عدو الله البطليوس أمرا عظيما لم يروا قبله مثله وكان أول من وصل إليهم البطليوس لعنه الله فصبرت له المسلمون صبر الكرام وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقال أروني الذي أخذ صليبي بالامس فلما سمع الفضل بن العباس صوته قصد جهته وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه البطليوس عطفة الاسد على فريسته وقال إياك طلبت ثم انفرد له وصادمه فلم تر الناس في طول الايام ضربا كضربهما في تلك الليلة ورأى الفضل منه شيئا لم يره في طول عمره ولم يزالا كذلك إلى أن مضى من الليل شطرة وكل قرم مع قرمه ولم يزالا في كر وفر وضرب ورد لم ير أحد مثله وصبر له الفضل صبر الكرام ولاح له من عدو الله ضربة فتلقاها في حجفته قانقطع سيف الفضل وطمع فيه عدو الله وظن أنه يأخذه أسيرا وإذا بفارسين قد أقبلا ومن ورائهما كتيبة من الفرسان قد هجموا على الروم وإذا بخولة بنت الازور أخت ضرار قد حملت على فارسين من الروم فجندلتهما وهي تجندل في الابطال وفرسانهم فلحقها فارسان أحدهما عبد الرحمن بن أبي بكر والثاني عبد الله بن جعفر وتبعهما ثلاثة وهم أبان بن عثمان بن عفان فخلصوا خولة بعد أن أحاطت الروم بها وعطفوا على عدو الله البطليوس فكر راجعا في كردوس من الروم حتى دخل مدينة البهنسا وقاتلت الروم من أعلى الاسوار قتالا شديدا وكان خالد رضي الله عنه تارة يكر عند باب الجبل وتارة عند باب توما وتارة عند باب قندوس.
وكان عياض بن غانم الاشعري عند باب الجبل في ذلك الوقت فلبس سلاحه ودنا من القوم بمن معه من الأمراء مثل المقداد وضرار بن الازور وشرحبيل ومسلم وعقيل وزياد وعبد الله بن العباس وعمرو بن أبي ذئب وعبد الرحمن ابن أبي هريرة والمسيب ولاحرث بن مسلم وزيد بن الحرث وابي ذر الغفاري ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه فعطفوا نحو الباب وكبروا وكبر القوم من ورائهم فخرج إليهم بطريق عظيم ومعه عشرة آلاف فارس وكان اسم البطريق يوحنا فاقتتلوا قتالا شديدا فتكاثر الروم على عبد الله بن عبادة بن الصامت فقاتل قتالا شديدا ورمى بحجر من أعلى الباب فقتله وقتل من الأمراء وفرسان المسلمين عند الباب زهاء من مائتين وقتل من الروم نحو ألف وحمل عياض والأمراء والتقى القوم فصارت الاحجار والسهام تتساقط عليهم وهم لا يولون عنهم فلما ألجئوهم إلى الباب واختلطوا بهم خشيت الروم أن يصيبوا أصحابهم بسهامهم وحجارتهم فأمسكوا أيديهم وقتل من الروم مقتلة عظيمة وأما خالد فقالتل قتالا شديدا ما رؤي مثله فبينما الناس كذلك إذ أقبل ضرار بن الازور وهو ملطخ بالدماء وهو جامد عليه كأكباد الابل فقال له خالد: ما وراءك من الاخبار يا ضرار فقال أخبرك يا أبا سليمان أني قتلت في ليلتي هذه مائة وستين رجلا وقتل قومي ما لا يعد وقد كفيتكم من خرج من باب الجبل.
قال الراوي: وكانت ليلة لم ير الناس مثلها وهجم الأمير عياض هو وأصحابه على من بداخل الباب واقتتلوا قتالا شديدا ووصلوا إلى ساباط الباب وكان له باب آخر فأغلق من دونهم على كردوس من الروم فقتلوا هناك وتسلق المسلمون على البرج وقتلوا من فيه وكانوا خمسمائة وقتل في تلك الليلة هناك نحو الف وأما باب قندوس فكان عليه الزبير بن العوام وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص والفضل بن أبي لهب والمغيرة وجماعة من الأمراء فتواثبوا إلى الباب واقتتلوا قتالا شديدا وقتل من المسلمين نحو مائة وعشرين رجلا غير الاعيان وأما باب توما فكان عليه خالد وخرج منه البطليوس فاقتتل الفريقان وقتل من المسلمين جماعة نحو مائتين وثمانين رجلا في المكان المعروف بالمراغة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار وهذا كان أول فتح.
قال الواقدي: حدثنا سنان بن مفرج العجلاني عن أبي محمد الشاكري عن زيد بن رافع عن أبي امامة قال: وأقام خالد بعد الوقعة على البهنسا أربعة أشهر لا يقاتلهم ولا يناوشهم فطال عليهم المكث وضجروا فأتوا إلى خالد وشاوروه في القتال فأذن لهم وكان جملة من قتل في وقعة الأبواب نحو ستمائة فارس ختم الله لهم بالشهادة.
قال الراوي: فلما استأذنت الصحابة خالدا في القتال لم يقدر أن يمنعهم ولما أصبحوا اقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع مثله فاشتد الحصار فقال أهل البهنسا وقالوا للبطليوس: ما بقي لنا صبر على القتال والحصار فقال لهم: أصبروا واثبتوا لعلي أن أكيد العرب بمكيدة ولما اشتد الحصار عليهم أتوا إلى بطريق يسمى توما صاحب الباب وأتاه السوقة والنصارى والعوام وقالوا له: لقد ضاق علينا الحصار فنجعل لك مالا وافتح لنا الباب حتى نأخذ لنا أمانا من العرب فأجابهم إلى ذلك فصبرهم إلى جانب من الليل وفتح لهم الباب فمضى نحو مائتين من تجار البلد وخرجوا من باب السر وأتوا إلى خالد وصالحوه على أن يفتحوا لهم الباب وجعلوا للمسلمين جعلا معلوما واتفقوا على ذلك وكتبوا أسماءهم ورجعوا هذا ما جرى لهؤلاء وكان الكلب ابن عم توما حاضرا واسمه أرمياء فمضى إلى البطليوس وأعلمه بذلك فعندها أرسل البطليوس بطريقا يقال له حرفائيل ومعه ألف بطريق: وقال اكمنوا واتوني بالخبر على جليته فمضوا وتفرقوا وهم مشاة قريبا من باب توما وإذا بهم قد أقبلوا فلما رأوهم عرفوهم وفتحوا لهم الباب فدخلوا فعندها تواثبوا عليهم وأمسكوهم وسحبوهم إلى البطليوس لعنه الله فلما رآهم وبخهم توبيخا عظيما وقال ائتوني بالسياط ونصب أخذودا من حديد ثم ضربهم ضربا شديدا وأتى بالنار وأحرق جميع أموالهم وأمر باحضار البطريق فأحضر بين يديه فأخذه ومضى إلى القصر هو وجميع أعوانه واستدعى بالخشب وصلبهم على أعلى السور وأقاموا هناك يوما وليلة ثم أمر بضرب رقابهم وطرح رؤوسهم للمسلمين قال الأمير عياض للأمير خالد هؤلاء أهل ذمتنا وقد قتلهم البطليوس لعنه الله.
قال الراوي: وأما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قلق على المسلمين قلقا شديدا فأرسل كتابا إلى عمرو بن العاص يقول فيه ما سبب انقطاع كتبك عني وأنا في قلق على المسلمين وعلى خالد ومن معه واعلم إنك لا ترسل لي إلا بالفتح والغنائم وإن احتاج خالد إلى نجدة فأرسل إلى أبي عبيدة فقد كاتبته بأن يرسل له جنودا من الشام والسلام فلما وصل الكتاب إلى عمرو أرسله إلى خالد فقال خالد: لا نطلب النجدة والمعونة إلا من الله تعالى ثم أن خالدا عظم عليه الأمر واشتد الحصار وكان كل يوم يرجع إلى المدينة ويقاتل قتالا شديدا وفقد من المسلمين جماعة كثيرة قتلوا بالحجارة والنشاب وهجم عدو الله على المسلمين وكادهم مرارا وقال خالد للأمير عياض وللمسلمين: لا شك أن لاصحابنا عيونا وجواسيس ثم أن خالدا ركب ومعه الفضل بن العباس والمقداد وزياد بن أبي سفيان وعياض وطافوا حول العسكر وإذا برجل من العرب المتنصرة جالس على قطيفة خارج العسكر فأنكر أمره خالد و قال له: من أي العرب أنت فسكت فقالب له الأمير عياض انطق بالحق من لك من الاهل ههنا فسكت فقال له: خذ الماء وتوضأ فلم يحسن ذلك فقال له: صل فلم يحسن ذلك فضربوه فأقر بأنهم خرجوا ثلثمائة من باب السر وردوا وبقي هو فضرب عنقة وانقطعت الجواسيس فكانوا يقاتلون قتالا شديدا وكان لخالد عبد في خيمته اسمه فلاح يصنع له كل يوم قرصين من شعير واحد له وواحد للعبد فقعد خالد ثلاثة أيام يأتي السفرة فلا يجد فيها شيئا ولم يكلم العبد وكان عنده بعض تمر يتقوت به حتى فرغ فعندها قال خالد للعبد: يا ولدي قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الانبياء: من الآية8] ولك ثلاثة أيام لم تصنع فيها قرص شعير.
قال: يا سيدي ما قطعت عنك ذلك ولكن أصنع لك كل يوم وأعلقه في طبق الخيمة فلم أجده قال خالد: أن لهذا شأنا عظيما ثم قال للعبد قف خلف الخيمة وأخف نفسك وانظر من يفعل هذا فلما كان الغد ركب خالد للقتال وصنع العبد القرصين وأكل قرصا ووضع قرص سيده فكان معتادا أن يشيله له فجاء كلب أسود عظيم من جهة البلد ودخل الخيمة وأخذ القرص في فمه ومضى فتبعه العبد حتى أتى إلى سرب يخرج منه الماء يجري من البحر تحت الأرض إلى تحت سور المدينة من جهة القبلة ويدخل المدينة ويظهر من الجهة البحرية من خارج البلد فلما رآه العبد رجع وأعلم الأمير خالدا فمضى معه ورأى ذلك ففرح بذلك فرحا شديدا ثم أتى إلى الأمراء واعلمهم بذلك وقال: وقال لهم: أريد منكم مائة رجل قد باعوا أنفسهم لله عز وجل فيمضون معي وجماعة شداد يكونون مقابل الباب فإذا فتحنا الأبواب دخلوا الينا فانتدب منهم مائة رجل من خيار القوم منهم عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومسلم بن عقيل وزياد بن أبي سفيان وأخوه هبار والمسيب بن نجيبة وأخوه والمقداد ابن الاسود ورافع وأبو رزين العقيلي ومثل هؤلاء السادات وقد اقتصرنا في أسمائهم خوف الاطالة ورتب خالد رضي الله عنه عبد الله بن جعفر والزبير بن العوام وابنه عبد الله والفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وضرار بن الازور ومثل هؤلاء مقابل الباب وصبروا إلى غروب الشمس وأتوا إلى ذلك السرب ودخلوا إليه في الماء كل واحد بسراويله وسيفه وكان أولهم الأمير خالد وكل من دخل يدع سيفه وحجفته مع صاحبه حتى يدخل ويأخذهما حتى دخل ثمانون رجلا ورجع عشرون لم يسعهم السرب وضاق عليهم فولوا وهم متأسفون لما فاتهم من الشهادة والفتح وتواثبت الأمراء المذكورون وأخفوا نفوسهم تحت الجدار إلى جزء من الليل فتبادورا إلى الباب فوجدوه موثقا من داخله فعالجوا الاقفال والروم سكارى ففتحوا الباب وذبحوا كل من وجدوه في دهليز الباب وكانوا ستين رجلا ثم علوا على السور وجماعة منهم أخذوا المفاتيح ففتحوا الباب وثاروا على الروم فقتلوا جماعة منهم في أعلى البرج وقتلوا بطريق البرج وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون بمثل ذلك ودخلوا من الباب إلى سوق المدينة وتبادرت جماعة إلى القصر فلما أحس عدو الله بذلك وإن المسلمين ملكوا عليه الأبواب وضع منديلا في عنقه وخرج وهو يقول الامان الامان وفعل جماعة كذلك فأبى خالد ووضع السيف فيهم وقاده أسيرا و قال له: يا عدو الله لا أمان لك عندي إلا أن تسلم وقبض على جماعة من بطارقته ووضع السيف فيهم وقتل من الروم نحو ثلاثة آلاف وقتل من المسلمين في تلك الليلة في وسط البلد مائة وأربعة وثمانون رجلا قريبا من سوق المدينة وعند الأبواب وعند القصر وجاء عياض ومعه جماعة من الأمراء فشكا إليهم أهل البلد وقالوا: الامان فرق لهم الأمير عياض وصار عدو الله يتملق بين أيديهم فغلبوا على رأي خالد حتى صالحهم على ألف مثقال من الذهب الابريز وألف ألف أوقية من الفضة البيضاء وعشرة آلاف وسق من البر والشعير والجزية من العام القابل وخالد لا يطمئن قلبه إلى شيء من ذلك وغلب الأمراء على رأيه وجاءوه وقالوا له: لقد أضر بنا المقام بهذا البلد فما نراك إلا أشفق منا علينا ونرى من الرأي أن ترسل إلى عمرو وتعلمه بذلك وهذا الكلب وجماعته موثقون إلى أن يجيء الجواب فعندها كتب خالد كتابا إلى عمرو يخبره بذلك.
فلما بلغه ذلك رد لهم الجواب أنهم يستوثقون منه بالإيمان ويأخذون منه ما صالحهم عليه ويتركونه ومن صاح الغوث الغوث فاتركوه والا نفر منكم أهل الصعيد ففعل خالد وقلبه نافر وأطلقه بعد ما استوثق منهم بالإيمان في كتبهم المذكورة وأطلقوه وشرط عليهم أن لا ينزل عندهم أحد إلا من يقبض المال فخرجوا إلى ظاهر المدينة وبقي عنده فضالة بن زيد السلمي وعون بن ساعدة الكندي ومقوم بن سعيد الجهني ومائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الميرة والعلوفة وصار كل يوم يركب ويتودد إلى الأمراء ووهب وأعطى ولم يترك أميرا إلا خادعه حتى طابت نفوسهم عليه إلا خالدا والفضل بن العباس والمقداد وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والزبير بن العوام فإنهم لم تطب نفوسهم إليه وأقاموا شهرين على ذلك وأرسل جميع الغلال إلى خزينته في هذا الزمن وخزن ما يحتاج إليه واستدعى بكبار قومه ومن يثق به واتفق رايهم على قتل المسلمين والغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبروا إلى أن مضى جزء من الليل وهجم على المسلمين على حين غفلة في ألف بطريق وأوثقهم كتافا وجعل في أفواههم الاكر وفتح الأبواب وأدخلهم المدينة وهجم على المسلمين ووضع السيف فيهم وهم رقود فما انتبهوا إلا والسيف يقطع في نحورهم وكانت وقعة عظيمة وثار خالد بمن معه وكان الزبير راقدا فسمع الصياح فقال دهينا ورب الكعبة ثم ركب وركبت معه زوجته وقاتلت النساء قتالا شديدا وعدو الله تارة يكر ميمنة وتارة يكر ميسرة والسيف يعمل والرجال تقتل وكانت ليلة شديدة وصار خالد يقول يا قوم أما قلت لكم فما سمعتم لخالد والتجأ زياد بن أبي سفيان وأخوه هبار وميسرة ابن مسروق وفضالة بن عبد شمس وعقيب بن يعقوب وعبادة بن تميم وجندبة الكلبي إلى تل هناك وأحاط بهم طائفة من الروم من كل مكان فقاتلوا قتالا شديدا وانحدر زياد رضي الله عنه من التل وتبعه أصحابه فأحدقت بهم الروم وداروا بهم دوران السور بالمعصم وقتلوا زيادا وجميع من ذكرنا من الأمراء وقاتلت نسيبة الانصارية أم أبان وأسماء ابنة أبي بكر ونعمانة ابنة المنذر ونظائرهن في تلك الليلة قتالا شديدا وقتل جماعة من المسلمين وأتى خالد وحمل عليهم وجعل يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة قال: وأطبق عليهم هو وجميع الأمراء فهزموهم إلى الأبواب وقد قتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب عدو الله وتحصن هو وقومه وغلقوا الأبواب ولما أصبح أمر بالحصار وأمر باحضار المأسورين وصعد بهم إلى أعلى البرج وضرب رقابهم فشق ذلك على المسلمين وصعب عليهم ما فعل عدو الله بأصحابهم وأتى خالد رضي الله عنه ومعه بقية الأمراء إلى مكان المعركة فوجدوا الشهداء مطروحين ووجدوا زيادا رضي الله عنه وفيه عشرون طعنة بالرمح وأربعون ضربة بالسيف والى جانبه أخوه هبار وفي رأسه عشرون ضربة بالسيف وواحدة في فخذه قطعته فبكى خالد عليهم بكاء شديدا وبكى عليهم سائر الأمراء وابطال المسلمين ونعاهم الأمير خالد بهذه الابيات وهي له خصوصا:
هوام دموعي كالسحائب تهمع ** وقلبي من فقد الاحبة يفزع

وأظلمت الدنيا على نور عبرتي ** وكاد فؤادي بالجوى يتقطع

لفقد زياد أحرق ألبين مهجتي ** وغاب صوابي وهو في الأرض يصرع

لقد كان في بحر المعامع صائلا ** يزلزل أركان العدا ويضعضع

وقد كان مقدام الفوارس كلها ** بكل مكان للاعادي مقمع

لحى الله يوما فيه حانت وفاته ** وأجفانه مع أسهم الدمع تدمع

أيا سيدا من آل هاشم لم يزل ** له رتبة بالمجد والجود ترفع

يعز علينا أن نراك معفرا ** ورأسك من فوق الجنادل تسفع

بجانبك الهبار أضحى مهبرا ** طريحا على رأس الثرى وهو مطبع

إلا لعن الرحمن بطلوس قومه ** وألعنه مع كل قوم تجمع

لقد غدر السادات من آل هاشم ** نجوما وأقمارا على الناس تطلع

قال الراوي: ثم بكى المسلمون بكاء شديدا على من قتل منهم من الأمراء والابطال وجموعهم وصلوا عليهم ووروهم في حفرهم إلى جانب التل فإذا هم ثمانون أميرا وثلثمائة وسبعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة.
قال الراوي: وأقام المسلمون ثلاث سنين إلا أنهم يشنون الغارات على السواد والسواحل ومضى القعقاع بن عمرو وهاشم وابو أيوب وعقبة بن نافع الفهري بألفي فارس وأغاروا على حد برقة ثم عادوا وهذا أحد الآراء في فتح المغرب قال رضي الله عنه ولما طال الحصار والمكث على أهل البهنسا اجتمعت المسلمون عند خالد واستشاروه فيما يفعلونه وماذا يكون من الرأي فوثب عبد الرازق الانصاري وعبد الله بن مازن الداري وكعب بن نائل السلمي وأبو مسعود البدري وأبو سعيد البياضي وقالوا: يا قوم قد وهبنا أنفسنا لله عز وجل ولعل أن يكون للإسلام فرج فاصنعوا منجنيقا واملئوا غرائر قطنا وقالوا: يأخذ كل واحد منا سيفه وحجفته ويدخل في غرارة قطن فإذا كان الليل ونامت الحراس فألقونا على أعلى السور واحدا بعد واحد والمعونة من الله في فتح الباب كما فتحتم قصر الشمع بمصر ودير النحاس وكما فعلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاستصوبوا رأيهم فلما أصبحوا قطعوا الاخشاب وصنعوا منجنيقا وصنعوا له حبالا وأحضروا غرائر وملئوها قطنا والرجال داخلها وصبروا إلى الليل ودخل هؤلاء السادات رضي الله عنه بعد أن ضربوا بالمنجنيق حجرا بعد حجر فسقط على أعلى السور والبرج فشرعوا في رميهم منهم أبو مسعود البدري وعبد الرزاق إلى أن رموهم جميعهم وصاروا فوق أعلى السور ورتب خالد أصحابه على الأبواب وأما عبد الرزاق وأصحابه فلما صاروا بأعلى الجدار نزلوا إلى البرج فإذا هو مغلق والحراس نيام فنزلوا إلى الدهليز بين البابين فوجدوهما مغلقين موثقين فذبحوا البوابين عن آخرهم ووجدوا المفاتيح تحت رأس كبيرهم في جانب سريره فأخذوها وفتحوا الأبواب وإذا بالباب الثاني الذي ينتهي إلى القصر مسدود بالحجارة فاحتالوا على قلع حجر بعد حجر فقلعوها ورموا الاحجار وفتحوا الأبواب وكل ذلك في أقل من ساعة بمعونة الله عز وجل وصعدوا إلى البرج فعالجوه وفتحوه وقتلوا جماعة واستيقظ جماعة وثاروا عليهم وخافوا على الباب أن يؤخذ منهم وإن يحال بينهم وبينه وهو باب السور الذي بظاهر المدينة ففتحوه صاحت الروم واستيقظ البطليوس وركب جواده وكان على حذر وركب المسلمون ودخلوا الباب وخرجت البطارقة والبطليوس من قصره وزحفت الروم إلى الباب وكان أول من قتل في ذلك اليوم عبد الرزاق وعنان بن مازن وكعب بن نائل السلمي بداخل الباب.
قال: حدثنا قيس بن مازن الحميري عن عبادة بن سالم السكاكي عن أبي مسعود البدري وكان أول من فتح الباب قال ليس هو على هذه الصفة وأخبرنا سالم بن حامد عن أبي عبد الله عن أبي محمد الانصاري عن عبد الله البدري قال كان أبو محمد الحسني يقرأ هذه الفتوح بالجامع الغزي العمري على الشيخ أبي عبد الله حتى بلغ إلى هنا وذكر الفتوح وفتح الباب وإن الرجال وضعت في الغرائر قال: يا بني ليس الأمر كذلك فقد روى عن أبي مسعود وهو الصحيح عن فتح الباب قال أنهم قطعوا أخشابا ونصبوا سلما للتسلق عاليا علوا جدار المدينة وصبروا إلى الليل وأسندوه إلى الجدار وتسلق منهم أربعون رجلا ومنهم لسبعة المذكورون وفتحوا الباب كما ذكرنا واستيقظ الروم وخرجوا إليهم بعد فتح الباب فكان السابق إليهم عبد الرزاق رضي الله عنه فقتلوه وقتلوا معه من ذكرنا أولا وتسابق المسلمون إلى الباب فكان أول من دخل ضرار بن الازور وهو يزعق ويقول هذه الابيات:
الجن تفزع يوم الحرب من فزعي ** إذا أتيت إلى الهيجا بلاجزع

يا ويل من صنع الارصاد يخدعنا ** ونحن جرثومة الامكار والخدع

لأرضين الهي في جهادهم ** وقتل أبطالهم بالسيف والدرع

ياويل كلب العدا البطلوس أن وقعت ** عيني عليه لارديه إلى النزع

عيب علي إذا ما ألتقيه هنا ** وأفلق الرأس منه غير مرتدع

ثم دخل من بعده خالد وهو يقول:
اليوم يوم الوفا والطعن بالأسل ** والضرب بالقضب في الهامات والقلل

يا ويل بطلوس كلب البهنساء إذا ** لاقيته بطليق الحد معتدل

أن لم أذقه بكاسات المنون هنا ** فلا سلمت ولا بلغت من أملي

قال ثم دخل من بعده ذو الكلاع الحميري وهو يقول:
أني لمن حمير العالين في النسب ** أهل الثنا والوفا والجود والحسب

أسد غضافرة سود جحاجحة ** نرى الكماة غدافي الحرب بالقضب

الحرب عادتنا والطعن همتنا ** وذو الكلاع أنا عال على الرتب

تبت يد الروم ما يدرون أن لنا ** صوارما تترك الاعضاء كالقصب

قام ثم دخل من بعده الزبير بن العوام وهو يقول:
أيا بطليوس يا كلبا لعينا ** ويا نسل الطغاة الارذلينا

أتتك حماة دين الله حقا ** وأولاد الجياد الخيرينا

خيار الناس نسل بني نزار ** كراما في الاعادي قاطعينا

إذا أحتبك العجاج بهم تراهم ** بحولك كالسباع الضاربينا

ولا منهم جبان قط يهزم ** ولا نذل فتلقاء حزينا

ولا منهم جبان قط يهزم ** ولا نذل فتلقاء حزينا

وليس ترى سوى مقدام قوم ** أثار الحرب صنديدا أمينا

قال ثم دخل من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو يقول:
أتينا البهنساء بكل قرم ** شديد العزم في يوم النزال

وجيش فاق في الآفاق طرا ** على الاعداء بالسمر العوالي

قال ثم دخل من بعده عبد الله بن جعفر وهو يقول:
اليوم طاب الطعن في اللئام ** والضرب في الاعناق بالحسام

وأنصر الإسلام باهتمام ** ولم أزل عن سادتي أحامي

أنا الشجاع الفارس الهمام ** ومردى الاعداء في الحمام

قال ثم دخل بعده الفضل بن العباس وهو يقول:
ألا إننا السادات من آل هاشم ** ليوثا ذوي بطش شديد العزائم

لنا تشهد الابطال في كل معرك ** وتذكر عنا أهل كل المواسم

إذا اشتدت الاهوال واستبق القنا ** رأيت لنا في ذاك فعل الضراغم

قال ثم دخل من بعده الفضل بن أبي لهب وهو يقول:
لنحوك يا بطلوس عزمي قد طلب ** بحد حسام كالشهاب إذا انتدب

يطير شرار النار من لمعانه ** بكف شجاع الخيل أبن أبي لهب

فويلك يا ملعون منه إذا سطا ** بصارمه يوم العجاج وإن وثب

قال ثم دخل من بعده عياض بن غانم الاشعري وهو يقول:
لا أنثني يوم الهيج عن العدا ** بمهندي الصمصام إلا إذ قطع

فالويل للبطلوس من سطواتنا ** لأفرقن بحد سيفي ما جمع

قال ثم دخل من بعده المقداد ابن الاسود وهو يقول:
أنا الكندي كالليث الشجاع ** واني في العدا قد طال باعي

وتشهد لي الرجال بكل حرب ** وللهيجاء منقاد الطباع

فواثارات عبد الله إني ** عليه ذاهل حيران ناعي

قال ثم دخل من بعده أبان بن عثمان وهو يقول:
نحن الليوث ذوو المعروف والكرم ** وفي المعامع يوم الحرب والهمم

مجندلون العدا في كل معترك ** وقاهرون لهم كل مصطدم

لا يعجبنك يا بطلوس جيشك في ** هذا المقام فمعنا الكل كالرخم

قال ثم دخل من بعده مسلم بن عقيل وهو يقول:
ضناني الحرب والسهر الطويل ** وأقلقني التسهد والعويل

فواثارات جعفر مع علي ** وما أبدى جوابك يا عقيل

سأقتل بالمهند كل كلب ** عسى في الحرب أن يشفي الغليل

قال ثم دخل من بعده شرحبيل بن حسنة ثم القعقاع بن عمرو التميمي ثم مالك الاشتر ثم عبادة بن الصامت ثم أبو ذر الغفاري ثم أبو هريرة الدوسي ثم ابنه عبد الرحمن ثم معاذ بن جبل ثم شداد سن أوس ثم قيس بن هبيرة ثم أبو أبو دجانة الانصاري ثم جابر بن عبد الله ثم البراء بن عازب ثم النعمان بن بشير ثم سعيد بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله عنهم قال ثم الانصار يتلو بعضهم بعضا بهمم وعزائم قال ثم خرجت الروم وقاتلت قتالا شديدا وتواثبت جماعة من الأمراء مثل الزبير بن العوام وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى باب البحر واقتتلوا قتالا شديدا وتقدم عبد الرحمن والزبير إلى الباب والروم على أعلى السور ونزل عن جواده وصلى ركعتين والحجارة تتساقط عليه وهو لا ينزعج لذلك وتقدم هو والفضل وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى الباب وجعلا السلاسل من فوق وصعدوا إلى أعلى البرج وهدموا الشرافات ووضعوا السيف في الحراس وفتحوا الباب ووثب شرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو ذر الغفاري وأبو أيوب الانصاري إلى باب قندوس ووثب المسيب بن نجيبة الفزاري والقعقاع بن عمرو والأمير عياض بن غانم الاشعري إلى باب الجبل وفتحوا الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا وقاتلت الروم قتال الموت إلى أن طلعت الشمس وارتفعت وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل أبطالا واقتتلوا في الازقة والشوارع وبين الأبواب وتقدم خالد وهو يصيح واثارات سليمان وطعنه طعنة صادقة في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون وقتل من الروم نحو ثلاثين ألفا بوسط البلد وأسر منهم عشرون ألفا وأنشد خالد يقول:
وبالنهنسا الغرا أبيدت جيوشنا ** ثلاث سنين بابها ليس يفتح

ثماني الاف عداد جيوشنا ** وكل همام عن ثمانين يرجح

فما فتحت إلا وقد صار جيشنا ** ثلاثة آلاف عداد تسحسح

ولم أر في أرض الصليب كمثلها ** ولا جيشها لما على السور يسرح

ولا مر لي يوم كمثل حروبها ** لأن بها البطلوس ليث مبجح

وكان له جيش وعدة جيشه ** ثمانون ألفا بالحديد توشحوا

وكنا غلبناهم ثمانين مرة ** يخادعنا البطليوس عنهم فنصفح

ثلاث مرار نحن نفتح بابها ** وترتد للكفر الذميم وتجنح

وقد لعب الهندي يوم فتوحها ** وكلت أيادينا وفي الروم نذبح

ثلاثون ألفا قد محتها سيوفنا ** وأكبادنا من حرها النار تقدح

إلى أن ملأنا البر والبحر منهم ** وقد شبعت أسد الفلا وترنحوا

وولت ثلاثون الالوف شواردا ** وعشرون ألفا منهم قد تجرحوا

فمنهم قضى نحبا ومنهم بها طغى ** ومنهم أناس في المقابر روحوا

وبطلوسهم ذاك النهار قتلته ** وقد كان مقدام الجيوش مرجح

فبادرته في الحال حتى تركته ** صريعا عليه الغانيات تنوح

وعاجلته في الرأس مني بضربة ** فأضحى بها شطرين ملقى ومطرح

وعاد بسيف ابن الوليد مجندلا ** تمر به كل الحوادث تفلح

ولما فني بطلوسهم صار جمعهم ** كما شبه أغنام وغاب المسرح

وقد كان في بحر الهياج مغلغلا ** تولى سرايا قومنا منه مرح

فلله ما أعداه قد كان فارسا ** يفوق على جيش عظيم ويرجح

وقد فرحت أكبادنا وترنمت ** لعمرك والاكباد بالنصر تفرح

أقمنا بأرض البهنسا بعد فتحها ** ثلاثين يوما للمساجد نصلح

وصرت إلى أرض الصعيد معاجلا ** بألفين من خيل الصحابة ترمح

من البهنسا لاسوان جمعا فتحتها ** بعشر شهور بعدها ليس تلمح

وعندي الثلاثون الذي شاع ذكرها ** وكل فتى يا صاح بالالف يرجح

ورحنا فتحنا الهند والسند كله ** وأسيافنا في الغمد لله تسبح

وفي كل أرض عسكر قد تركته ** يقيمون دين الحق والحق يوضح

وهذا كلام ابن الوليد الذي جرى ** فكن سامعا معنى الذي لك أشرح

فما مثله في معمع الحرب سيد ** ولا مثله في جوهر النظم أفصح

ومن بعدذا صلوا على أشرف الورى ** نبي له كل البرية تجنح

عليك سلام الله ما لاح بارق ** وما غرد القمري إذ الصبح يطفح

وأصحابه والآل والعترة التي ** أقاموا لدين الله والشرك زحزحوا

قال الراوي: وصار المسلمون يصعدون إلى البيت ويأخذون الرجال من بين حريمهم من الروم ويقتلونهم حتى كلت سواعدهم من الذبح وجرى الدم في الازقة وصارت القتلى في الشوارع والاسواق مطروحين وخرجت إليهم النصارى والقبط وهم يبكون ويقولون نحن أهل ذمتكم ونحن عوام وتجار وسوقة وكلنا مغلوبون على أمرنا وقتل خيارنا باسيافكم وبقية الأمراء ويقولون هؤلاء قد صاروا رعيتنا وليس لهم بطش فتركوهم وقالوا: بشرط أن تدلونا على من أخفى نفسه في المغاير والمخابي ومن فر من الباب الشرقي وغرق في الماء فدلوهم على الجميع ولم يزالوا يقتلون ذلك اليوم كله وفي اليوم الثاني استدعوا بنجارين يعملون عربات لحمل القتلى من المسلمين وأخذوا دواب أهل السواد من البقر تسحب العربات والفلاحون عملوا عليها وصاروا يضعون كل ثمانية وستة وعشرة في حفيرة ويردون عليم الرمل حتى صاروا تلالا وشهروا قبورهم ووضعوهم بدروعهم وثيابهم ودمائهم رضي الله عنهم وأخذوا ألواح رخام وكتبوا عليها أسماءهم وأنزلوها في مدافن قبورهم ورجعوا إلى قتلى أهل البلد فواراهم أهلهم في قبورهم وكان جملة من قتل من المسلمين في ذلك اليوم نحو أربعمائة وأزيد الاعيان منهم صاغر بن فرقد وعبد الله بن سعيد وعبد الله بن حرملة وعبد الله بن النعمان وعبد الرزاق الانصاري وعبد الرحيم اللخمي وأبو حذيفة اليماني وأبو سلمة الثقفي وأبو زياد اليربوعي وأبو سليمان الداراني وابن أبي دجانة الانصاري وأبو العلاء الحضرمي وأبو كلثوم الخزاعي وأبو مسعود الثقفي وهاشم بن نوفل القرشي وعمارة بن عبد الدار الزهري ومالك بن الحرث وأبو سراقة الجهني والبقية من أخلاط الناس وقتل عند سوق التمارين نحو عشرين ودفنوا هناك وعند سوق الصابون جماعة كثيرة وقريبا من العطارين في جانب القبور نحو أربعين وقريبا من البحر اليوسفي جماعة عند السور رضي الله عنهم.
قال الراوي: ولما وارى المسلمون شهداءهم صعدوا إلى قصر البطليوس والى قصور البطارقة ودورهم ومقاصيرهم فوجدوا فيها من آلية الذهب والفضة ما لا يوصف ومن المتاع والحلى والحلل واللآلىء والنمارق والجواهر والبسط والوسائد والمساند واقتتلت الروم على بغلة محملة عند باب السر فغلبهم المسلمون عليها وأخذوها فإذا عليها صندوقان فيهما أحجار معادن فاشترى رجل من المسلمين من بيت المال حجرا بستة آلاف دينار فباعه على غشوميته بمائة ألف دينار وأخذوا بساط البطليوس وكان مثل بساط كسرى سداه حرير وذهب مرصع بالمعادن فأرسلوه مع الخمس إلى المدينة فجعل لعلي بن أبي طالب فيما حصل له من البساط عشرون ألف دينار وغنمت المسلمون غنائم كثيرة من أواني الذهب والفضة وغير ذلك.
قال الراوي: حدثنا عون بن عبيدة عن عبد الحميد بن أبي أمية قال هدم المسلمون القصر والكنيسة وتلك الدور وفتحوا خزائن البطليوس واستخرجوا جميع ما فيها من الذهب والفضة وغير ذلك ولم يتركوا فيها شيئا أبدا وقسم خالد الغنيمة على المسلمين فكان للفارس عشرة آلاف مثقال من الذهب وألف أوقية من فضة ومن الثياب والملبوس وغير ذلك ما لا يوصف ولما دخلوا الكنيسة ورأوا تصاويرها وقناديلها الذهب والفضة والستور الحرير المنقوشة والاعمدة وغير ذلك تعجبوا وقرأ خالد: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] الآية وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فصاح المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقرأ عياض الاشعري: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] إلى قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] وأخربوا تلك البيعة وجعلوا بجانبها مسجدا على أعمدة من الرخام مسقوف عليها بتلك الاخشاب وهو الجامع الاول قبل بناء حسن بن صالح هذا الجامع الان وبقية الاخشاب والحجارة جعلوا منها مساجد وربطا.
قال الواقدي: حدثنا عبد الحميد عن قيس بن مهران عن أبي جعدة قال بمدينة البهنسا أربعون رباطا ومن المساجد ما لا يعد وأخربت الصحابة تلك المعالم وبنوا دورا لأنفسهم واختطوا بها أماكن وشوارع وأقام خالد ومن معه بمدينة البهنسا يصلحون المساجد والربط ويخرجون المعالم شهرا كاملا ثم أخرج الخمس وأرسله لعمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وهو نازل بمصر على قدر سهامهم و قال له: أرسل الخمس مع أبي نعيم الانصاري والفضل بن فضالة وأبي دجانة إلى عمر بن الخطاب وهو بالمدينة فلما ورد الكتاب على عمرو بن العاص فرح بذلك فرحا شديدا ثم كتب عمرو لعمر كتابا مع أبي نعيم صحبة كتاب خالد وسير معه ثلاثين صحابيا حتى دخل المدينة ودخل على عمر بن الخطاب فوجد عنده جماعة وقد أخرج لهم قصعا ومناسف من ثريد فلما رآنا عانقنا وتهلل وجهه فرحا وجلسنا كلنا نأكل وهو قائم على رؤوسنا متكى على عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من الاكل ناولته الكتابين فقرأهما وفرح فرحا شديدا ونادى في الناس الصلاة جامعة فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتابين واستدعى بالصحابة وقسم عليهم الغنيمة ولم يترك لاهله درهما ولا دينارا ولا ثوبا رضي الله عنه وأخذني ومضى إلى بيته بيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأدخلني إليه فإذا فيه فراش من أدم حشوه ليف ووسائد من صوف وقطيفة واحدة فجلست فقال لأم كلثوم: هل عندك شيء من التمر قالت لا إلا اللبن الحامض قال ذلك لي وإن عندنا ضيفا فحضرت بعكة من سمن وقليل من عسل وفطير مع جارية فأكلت قليلا من المذكور وأخرجت الباقي لاصحابي وشرعت أحدثه عن البطليوس وهو تارة يبكي وتارة يضحك من فعله ويبكي على من قتل من المسلمين والأمراء وخرجنا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وجاءت الناس يهرعون ويسألون عن أهإليهم منا فأخبرنا عمر مات ومن قتل فضج الناس وأهل المدينة بالبكاء وعلت الاصوات على من قتل وجاء الناس لعلي ولعقيل ولبني هاشم يعزونهم فيمن قتل وأقمنا بالمدينة سبعة أيام ورجعنا إلى مصر بكتاب عمر إلى خالد فأمره بالمسير إلى الصعيد.
قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه بعد شهر ترك أناسا من الصحابة بأرض البهنسا من جميع القبائل وخرج بألفي فارس إلى أرض الصعيد وكانت القبائل من بني هاشم وبني المطلب وبني مخزوم وبني زهرة وبني نزار وبني جهينة وبني مزينة وبني غفار والاوس والخزرج ومذحج وفهر وطي وخزاعة وكان الأمير عليهم مسلم بن عقيل وأحاطوا بالمساكن وجعلوا بالمدينة أسواقا وشوارع وسكن أكثر الصحابة في جانب البحر اليوسفي وخلوا من الآخر إلى الجانب الغربي شارعا واحدا لأجل أن تسبح دوابهم في البحر وأقام مسلم بن عقيل واليا عليها إلى خلافة عثمان أبن عفان رضي الله عنه فتولى محمد بن جعفر بن أبي طالب بعده ومضى مسلم وترك أولاده واخوته بها ولم يزل في المدينة حتى قتل في خلافة الحسن في الكوفة رضي الله عنه وأقام محمد بن جعفر إلى خلافة علي رضي الله عنه وتولى عليها بعده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه إلى خلافة معاوية وكان عبد العزيز بن مروان الأموي واليا وتولى بعده طاهر بن عبد الله وكانت قريش والاشراف بالجهة الغربية ويقال لها حارة الاشراف وكان لكل قبيلة حارة.
قال أبو المنهال لما فتحت مدينة البهنسا كانت آهلة بالجند فاجتمعت السوقة والمتسببون من أهل البلد وكانوا أربعين ألفا.
قال الواقدي: حدثنا حامد بن المزيد عن أبي صالح عن ابن نوفل المرادي قال كان بمدينة البهنسا أربعمائة يقال حين فتحها يبيعون البقل وغيره وكانت مدينة عظيمة فلما وقع بين بني أمية وبني هاشم ماوقع أخرجوا منها جماعة واختل أكثرها قال: وتسلسل إليها جماعة من العربان حتى جاء الحسن واخوته في خلافة بني العباس فعمر جامعا وأكثر من الزوايا والربط وأقام بها حتى مات.
قال: ورجعنا إلى سياق الحديث وخرج خالد بمن معه إلى الصعيد ولم يزل يفتح مدينة بعد مدينة إلى آخر الصعيد إلى عدن وسواكن وليس مقصدنا في هذا الكتاب إلا فتوح البهنسا خاصة التي عليها مدار فضائل السادة الشهداء لأن بتربتها خمسة آلاف صحابي وحضر فتح البهنسا نحو سبعين بدريا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زيارتها تعظم الاجور وقد زارها جماعة من العراق مثل بشر الحافي وسرى السقطي ومالك بن دينار وسحنون وزارها من أقصى المغرب أبو مدين وسعيب وأبو الحجاج وأبو عبد الله وزارها الفضيل بن عياض وروى أن اقليم البهنسا أكثر بركة من جميع الأرض كلها وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس بعد مكة والمدينة والأرض المقدسة والطور أرض مباركة إلا أرض مصر والبركة هي في الجانب الغربي.
قال: ولعلها البهنسا وكان علي بن الحسن يقول انه ليس بأرض مصر بالوجه القبلي أرض مباركة ولا أكثر بركة من أرض البهنسا وكان أبو علي النوري إذا أتى أرض البهنسا وأتى الجبانة ينزع ثيابه ويتمرغ في الرمل ويقول يا لك من بقعة طالما ثار غبارك في سبيل الله وكان أبو علي الدقاق إذا مر بجبانة البهنسا يقول يا لك من بقعة ضمت أعضاء رجال وأي رجال طالما عرقت وجوههم في سبيل الله وقتلوا في سبيل الله ومرضاته وقيل للحسن بن صالح لم اخترت هذه البلدة على غيرها قال كيف لا آوي إلى بلد أوى اليها روح الله وكلمته وينزل على جبانتها كل يوم ألف رحمة ولما ولى عبد الله ابن طاهر مصر تجهز وأتى إلى البهنسا فلما قرب من الجبانة ترجل عن جواده وترجل من معه وكان الوالي عليها عبد الله بن الحسين الجعفري فخرج ماشيا وسلم عليه ولما وصل إلى الجبانة قال السلام عليكم يا أحياء الدارين وخير الفريقين ثم التفت إلى أصحابه وقال أن هذه الجبانة ينزل عليها كل يوم مائة رحمة وإنها تزف بأهلها إلى الجنة ومن زارها تتساقط عنه ذنوبه كما يتساقط الورق من على الشجر في يوم ريح عاصف فكان عبد الله بعد ذلك كل يوم يخرج حافيا فيزورها حتى مات ودفن رحمه الله.
قال الراوي: حدثني رجل من أرض البهنسا من أهل الخير والصلاح يسمى عبد الرحمن بن ظهير قال كان لي جار مسرف على نفسه ومات ودفن قريبا من الشهداء الذين بالجانب الغربي فبينما أنا نائم تلك الليلة فرأيته وإذا عليه ثياب من السندس الاخضر وعليه تاج من الجوهر وهو في قبة من نور وحوله جماعة لم أر أحسن منهم وجها ولا ثوبا متقلدين بسيوف وهو بينهم فسلمت عليهم وقلت له يا هذا لقد سرني ما رأيت من حالك فقال: يا هذا لقد نزلت بجوار قوم يحمون النزيل في الدنيا من العار وكيف لا يحمونه في الآخرة من النار وقد استوهبوني من العزيز الغفار غافر الذنوب والاوزار وأسكنني جنات تجري من تحتها الانهار قال ذو النون المصري رضي الله عنه كنت في كل سنة آتى إلى البهنسا وازور الجبانة لما رأيت في ذلك من الأجر والثواب فحصل لي في سنة من السنين عأرض منعني من زيارتها فبينما أنا نائم ليلة من الليالي إذ رأيت رجالا لم أر أحسن منهم وجوها ولا أنقى ثيابا على خيول شهب وبأيديهم رايات خضر ووجوههم تتلألأ أنوارا فسملوا علي وقالوا: قد أوحشتنا يا ذا النون في هذه السنة وإن لم تزرنا زرناك فقلت لهم من أنتم فقالوا: نحن الشهداء الاخيار أصحاب محمد المختار بالبهنسا كنا بأرض الروم لنصرة المسلمين على أعداء الله الكافرين فمررنا بك لنسلم عليك وننظر ما سبب انقطاعك عنا قال في أي أرض أنتم قالوا: نحن سكان جبانة البهنسا ولك علينا حقوق الزيارة لانك من أهل الاشارة فقال لهم: يا سادتي إني لا أعود وحبل الوصال بيننا ممدود وما كنت أعلم أنكم تعلمون من زار وما كنت أظن في نفسي انني بهذا المقدار قالوا: يا ذا النون أما تعلم أن الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وبهذا نطق الكتبا المكنون ثم تركوني ومضوا فاستيقظت وفي قلبي لهيب النار فطوبى لمن زار هؤلاء السادات الأخيار.
قال المؤلف ولقد وضعت في هذا الكتاب كل نادرة عجيبة وحكاية غريبة وهو كتاب كامل المعاني والبيان عظيم القدر والشان لا يفهمه إلا ذوو البصائر والالباب ولا يعقله إلا أهل الخطاب ولا يقرؤه إلا أهل الذوق والمعرفة فهو كالزهر في الرياض لمن اقتطفه نفع به مالكه وكاتبه وقارئه ومستمعه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.