فصل: تفسير الآيات رقم (46- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

إن الإسلام كما أسلفنا لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية‏.‏ وهو لا يحارب الدوافع الفطرية‏.‏ ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة‏.‏‏.‏

والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة‏.‏ مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة‏.‏‏.‏

ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون‏.‏‏.‏ ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات‏.‏

ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء‏.‏ فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء‏.‏‏.‏ وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء‏.‏

فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون‏.‏ فإن لم تجدوا فيهآ أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم‏.‏ وإن قيل لكم‏:‏ ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم، والله بما تعملون عليم‏.‏ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم‏.‏ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جعل الله البيوت سكناً، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب‏!‏

والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم‏.‏ وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس‏.‏

ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان، يجعل أعينهم تقع على عورات؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات؛ وتهيِّئ الفرصة للغواية، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات‏.‏

ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً، فيدخل الزائر البيت‏.‏ ثم يقول‏:‏ لقد دخلت‏!‏ وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد‏.‏ وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل‏.‏ وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة، حين تقع العين على ما يثير‏.‏

من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي‏.‏ أدب الاستئذان على البيوت، والسلام على أهلها لإيناسهم، وإزالة الوحشة من نفوسهم، قبل الدخول‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏}‏‏.‏‏.‏

ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به، واستعداداً لاستقباله‏.‏ وهي لفتة دقيقة لطيفة، لرعاية أحوال النفوس، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار‏.‏

وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون‏.‏ فإن لم يكن أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان، لأنه لا دخول بغير إذن‏:‏

‏{‏فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم‏}‏‏.‏‏.‏

وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول؛ فإنما هو طلب للإذن‏.‏ فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك‏.‏ ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار‏:‏

‏{‏وإن قيل لكم‏:‏ ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم‏}‏‏.‏‏.‏

ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم‏.‏ فللناس أسرارهم وأعذارهم‏.‏ ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين‏.‏

‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو المطلع على خفايا القلوب؛ وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات‏.‏

فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان، دفعاً للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية‏:‏

‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏‏.‏‏.‏ فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم‏.‏ وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب، وامتثالها لذلك الأدب العالي، الذي يأخذها الله به في كتابه، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه‏.‏

إن القرآن منهاج حياة‏.‏ فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية، ويمنحها هذه العناية، لأنه يعالج الحياة كلياً وجزئياً، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج‏.‏ فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكناً‏.‏ ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة، والضيق بالمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات‏.‏‏.‏ وهي عورات كثيرة، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة‏.‏‏.‏ إنها ليست عورات البدن وحدها‏.‏ إنما تضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد‏.‏

وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء‏؟‏‏!‏‏.‏

وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات، يدبرها الشيطان، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية، والقلوب الناصحة، هنا أو هناك‏!‏

ولقد رعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات‏.‏ وبدأ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏

أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي بإسناده عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال‏:‏ زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال‏:‏ «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً‏.‏ قال قيس‏:‏ فقلت‏:‏ ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دعه يكثر علينا من السلام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليع وسلم-‏:‏ «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال‏:‏ يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فقال‏:‏ فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول‏:‏ «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة»‏.‏‏.‏ الخ الحديث‏.‏

وأخرج أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بشر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ وكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول‏:‏ «السلام عليكم‏.‏ السلام عليكم‏.‏» ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور‏.‏

وروى أبو داود كذلك بإسناده عن هذيل قال‏:‏ جاء رجل قال عثمان‏:‏ سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن‏.‏ فقام على الباب قال عثمان‏:‏ مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر»‏.‏

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاه ففقأت عينه ما كان عليك من جناح»‏.‏

وروى أبو داود بإسناده عن ربعي قال‏:‏ أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال‏:‏ أألج‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له‏:‏ قل‏:‏ السلام عليكم‏.‏ أأدخل‏؟‏» فسمعها الرجل فقال‏:‏ السلام عليكم‏.‏ أأدخل‏؟‏ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل‏.‏

وقال هشيم‏:‏ قال مغيرة‏:‏ قال مجاهد‏:‏ جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء؛ فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال‏:‏ السلام عليكم‏.‏ أأدخل‏؟‏ قالت‏:‏ ادخل بسلام‏.‏ فأعاد‏.‏ فأعادت‏.‏ وهو يراوح بين قدميه‏.‏ قال‏:‏ قولي‏:‏ ادخل‏.‏ قالت‏:‏ ادخل‏.‏ فدخل‏!‏

وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال‏:‏ قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال‏:‏ تحب أن تراها عريانة‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فاستأذن‏.‏ قال‏:‏ فراجعته أيضاً‏.‏ فقال‏:‏ أتحب أن تطيع الله‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فاستأذن‏.‏

وجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً‏.‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ليلا يتخونهم‏.‏

وفي حديث آخر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة نهاراً، فأناخ بظاهرها وقال‏:‏ «انتظروا حتى ندخل عشاء يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة»‏.‏

إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء، المشرق بنور الله‏.‏

ونحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق تبلدت وغلظت‏.‏ وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له‏.‏ وقد يكون في البيت هاتف «تليفون» يملك أن يستأذن عن طريقه، قبل أن يجيء، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان، وعلى غير موعد‏.‏ ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار‏!‏

ونحن اليوم مسلمون، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام‏.‏ فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً‏!‏ ونطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً‏!‏ دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك‏!‏

ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نحن عبيد لعرف خاطئ، ما أنزل الله به من سلطان‏!‏

ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدباً لنا في النفس، وتقليداً من تقاليدنا في السلوك‏.‏

فيعجبنا ما نراهم عليه أحياناً؛ ونتندر به أحياناً؛ ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل، فنفيء إليه مطمئنين‏.‏

وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر وإتقاء أسباب الفتنة العابرة يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها، بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة، وبدافع الحركة المعبرة، الداعية إلى الغواية‏:‏

‏{‏قل للمؤمنين‏:‏ يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم‏.‏ إن الله خبير بما يصنعون‏.‏ وقل للمؤمنات‏:‏ يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها؛ وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء‏.‏ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن‏.‏ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين‏.‏ فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي‏.‏ والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزنية المتبرجة، والجسم العاري‏.‏‏.‏ كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون‏!‏ وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة‏.‏ فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة‏!‏ وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب‏!‏‏!‏‏!‏

وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف‏.‏

ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة‏.‏‏.‏ شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين‏!‏ وبخاصة نظرية فرويد ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية الأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس‏.‏

نعم‏.‏ شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها‏.‏ إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع‏!‏ وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه‏.‏‏.‏ ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء‏!‏ وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة‏.‏ وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد‏.‏ مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود‏.‏

إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها‏.‏ فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود‏.‏ وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة‏.‏ فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة‏.‏ وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة‏!‏ والنظرة تثير‏.‏ والحركة تثير‏.‏ والضحكة تثير‏.‏ والدعابة تثير‏.‏ والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير‏.‏ والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية‏.‏‏.‏ وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام‏.‏ مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد‏!‏

وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين‏:‏

‏{‏قل للمؤمنين‏:‏ يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم‏.‏ ذلك أزكى لهم‏.‏ إن الله خبير بما يصنعون‏}‏‏.‏‏.‏

وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام‏.‏ كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية‏.‏ ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم‏!‏

وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر‏.‏ أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى‏.‏ ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة؛ بوصفهما سبباً ونتيجة؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع‏.‏ كلتاهما قريب من قريب‏.‏

‏{‏ذلك أزكى لهم‏}‏‏.‏‏.‏ فهو أطهر لمشاعرهم؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط‏.‏

وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها، وجوها الذي تتنفس فيه‏.‏

والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما يصنعون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وقل للمؤمنات‏:‏ يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال‏.‏ ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة‏!‏

‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏‏.‏‏.‏

والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها‏.‏ فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة‏.‏ والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال‏.‏

والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه‏.‏ ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع‏.‏

فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه‏.‏ لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر‏:‏ «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه»‏.‏

‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏‏.‏‏.‏

والجيب فتحة الصدر في الثوب‏.‏ والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر‏.‏ ليداري مفاتنهن، فلا يعرضها للعيون الجائعة؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها، ولكنها قد تترك كميناً في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة‏!‏

إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء‏!‏

والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي‏.‏ وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكأن في الطاعة، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال‏.‏ وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة‏!‏ تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء‏.‏ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها‏.‏ فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «يرحم الله نساء المهاجرات الأول‏.‏ لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ شققن مروطهن فاختمرن بها»‏.‏‏.‏ وعن صفية بنت شيبة قالت‏:‏ بينما نحن عند عائشة‏.‏ قالت‏:‏ فذكرن نساء قريش وفضلهن‏.‏

فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً‏.‏ وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل‏.‏ لما نزلت في سورة النور‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته‏.‏ فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه‏.‏ فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان «‏.‏

لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذب‏.‏‏.‏ وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال‏.‏ فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال‏.‏

وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات‏.‏ على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة‏!‏ فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان‏!‏

هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة‏.‏‏.‏ ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة‏.‏ فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم‏:‏

الآباء، والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات‏.‏‏.‏ كما يستثني النساء المؤمنات‏:‏ ‏{‏أو نسائهن‏}‏ فأما غير المسلمات فلا‏.‏ لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏» لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها «‏.‏ أما المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن امرأة مسلمة وزينتها‏.‏‏.‏ ويستثني كذلك ‏{‏ما ملكت أيمانهن‏}‏ قيل من الإناث فقط، وقيل‏:‏ ومن الذكور كذلك‏.‏ لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته‏.‏ والأول أولى، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان، مهما يكن له من وضع خاص؛ في فترة من الزمان‏.‏‏.‏ ويستثني ‏{‏التابعين غير أولي الإربة من الرجال‏}‏‏.‏‏.‏ وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون‏.‏ وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة‏.‏ لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء‏.‏‏.‏‏.‏ ويستثني ‏{‏الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏‏.‏‏.‏ وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس‏.‏ فإذا ميزوا، وثار فيهم هذا الشعور ولو كانوا دون البلوغ فهم غير داخلين في هذا الاستثناء‏.‏

وهؤلاء كلهم عدا الأزواج ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة‏.‏

لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء‏.‏ فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء‏.‏

ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهيج الشهوات الكامنة، وتوقظ المشاعر النائمة‏.‏ ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة‏:‏

‏{‏ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏‏.‏‏.‏

وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها‏.‏ فإن الخيال ليكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان‏.‏ وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها، أو حليها، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته‏.‏ كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها رداً‏.‏ والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله‏.‏ لأن منزله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق‏.‏ وهو اللطيف الخبير‏.‏

وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن‏:‏

‏{‏وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏

بذلك يثير الحساسية برقابة الله، وعطفه ورعايته، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله، وبتقواه‏.‏‏.‏

وإلى هنا كان علاج المسألة علاجاً نفسياً وقائياً‏.‏ ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة، لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية‏.‏‏.‏ هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج، والمعاونة عليه؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائياً‏:‏

‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم‏.‏ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏.‏ والله واسع عليم‏.‏ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله‏.‏ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم؛ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏.‏ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية‏.‏ وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة‏.‏ فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها‏.‏ والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس‏.‏ والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء‏.‏ فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامداً غير مضطر‏.‏

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال‏:‏

‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم‏.‏ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏‏.‏‏.‏

والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين‏.‏‏.‏ والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك‏:‏ ‏{‏والصالحين من عبادكم وإمائكم‏}‏‏.‏

وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا أمر للجماعة بتزويجهم‏.‏ والجمهور على أن الأمر هنا للندب‏.‏ ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا‏.‏ ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم‏.‏ ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة‏.‏ وهو واجب‏.‏ ووسيلة الواجب واجبة‏.‏

وينبغي أن نضع في حسابنا مع هذا أن الإسلام بوصفه نظاماً متكاملاً يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجاً أساسياً؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال‏.‏ ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات‏.‏‏.‏ فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله‏.‏ وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقاً على الدولة واجباً للأفراد‏.‏ أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام‏.‏

فإذا وجد في المجتمع الإسلامي بعد ذلك أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم‏.‏ وكذلك العبيد والإماء‏.‏ غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين‏.‏

ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقاً عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالاً ونساء فالرزق بيد الله‏.‏ وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف‏:‏ ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ثلاثة حق على الله عونهم‏:‏ المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»‏.‏

وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج‏:‏ ‏{‏وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏والله واسع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه‏.‏

وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزاً من ناحية المال‏.‏ والمال هو العقبة الكؤود غالباً في طريق الإحصان‏.‏

ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية‏.‏

وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين‏.‏ لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة‏.‏ حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته‏.‏ وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته‏:‏

‏{‏والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم‏.‏ إن علمتم فيهم خيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب‏.‏ ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية‏.‏ ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة‏:‏ ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏‏.‏ ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيراً‏.‏ والخير هو الإسلام أولاً‏.‏ ثم هو القدرة على الكسب‏.‏ فلا يتركه كَلاً على الناس بعد تحرره‏.‏ وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده‏.‏ والإسلام نظام تكافل‏.‏ وهو كذلك نظام واقع‏.‏ فليس المهم أن يقال‏:‏ إن الرقيق قد تحرر‏.‏ وليست العنوانات هي التي تهمه‏.‏ إنما تهمه الحقيقة الواقعة‏.‏ ولن يتحرر الرقيق حقاً إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى‏.‏

وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء‏.‏ وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص‏:‏

‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏.‏ إن أردن تحصناً‏.‏ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏.‏ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏‏.‏

فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث‏.‏ ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه‏.‏

قال السدي‏:‏ أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة‏.‏ وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له‏.‏ فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها‏.‏ فصاح عبد الله بن أبي‏:‏ من يعذرنا من محمد‏؟‏ يغلبنا على مملوكتنا‏!‏ فأنزل الله فيهم هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 45‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري‏.‏ ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور‏.‏ عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ‏.‏ وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول‏.‏ عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف‏.‏ وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات‏.‏ وعالجها بالوسائل الواقية‏:‏ بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة‏.‏ ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق‏.‏‏.‏ كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق‏.‏

وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ، ومن اضطراب في المقاييس، وقلق في النفوس‏.‏ فإذا نفس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئنة هادئه‏.‏ وإذا نفس عائشة رضي الله عنها قريرة راضية‏.‏ وإذا نفس أبي بكر رضي الله عنه سمحة صافية‏.‏ وإذا نفس صفوان بن المعطل رضي الله عنه قانعة بشهادة الله وتبرئته‏.‏ وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة‏.‏ وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه‏.‏ فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته‏.‏‏.‏

بهذا التعليم‏.‏‏.‏ وهذا التهذيب‏.‏ وهذا التوجيه‏.‏ عالج الكيان البشري، حتى أشرق بالنور؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء؛ واستشرف النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور‏:‏

‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏

وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء، فيغمر الكون كله، ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛ وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح‏.‏ ويسبح كل شيء في الفيض الغامر، ويتطهر كل شيء في بحر النور، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، ولقاء ومعرفة، وامتزاج وألفه، وفرح وحبور‏.‏ وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب‏.‏‏.‏

‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏‏.‏‏.‏

النور الذي منه قوامها ومنه نظامها‏.‏‏.‏ فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها‏.‏‏.‏ ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور‏!‏ ولا «مادة» لها إلا النور‏!‏ فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور‏!‏ فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون‏.‏

كان يدركها كلما شف ورف، وانطلق إلى آفاق النور‏.‏ ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف، نافض كفيه من الناس، عائذ بوجه ربه يقول‏:‏ «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة» وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج‏.‏ فلما سألته عائشة‏:‏ هل رأيت ربك‏؟‏ قال‏:‏ «نور‏.‏ أنى أراه»‏.‏

ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلاً على تلقي ذلك الفيض الغامر دائماً، ولا يستشرف طويلاً ذلك الأفق البعيد‏.‏ فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي، عاد يقارب مداه، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود، في مثل قريب محسوس‏:‏

‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏.‏ المصباح في زجاجة‏.‏ الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏.‏ نور على نور‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مثل يقرب للإدراك المحدود؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس، حين يقصر عن تملي الأصل‏.‏ وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير‏.‏

ومن عرض السماوات والأرض إلى المكشاة‏.‏ وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قوياً متألقاً‏:‏ ‏{‏كمشكاة فيها مصباح‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏‏.‏‏.‏ تقيه الريح، وتصفي نوره، فيتألق ويزداد‏.‏‏.‏ ‏{‏الزجاجة كأنها كوكب دري‏}‏‏.‏‏.‏ فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة‏.‏‏.‏ هنا يصل بين المثل والحقيقة‏.‏ بين النموذج والأصل‏.‏ حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير‏.‏‏.‏ وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج‏.‏ إلى المصباح‏:‏

‏{‏يوقد من شجرة مباركة زيتونة‏}‏ ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون‏.‏ ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل‏.‏ إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة‏.‏ ظلال الوادي المقدس في الطور، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب‏.‏ وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها‏:‏ ‏{‏وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين‏}‏ وهي شجرة معمرة، وكل ما فيها مما ينفع الناس‏.‏ زيتها وخشبها وورقها وثمرها‏.‏‏.‏ ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير‏.‏ فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة‏.‏ إنما هي مثل مجرد للتقريب‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏‏.‏‏.‏ وزيتها ليس زيتاً من هذا المشهود المحدود، إنما هو زيت آخر عجيب‏:‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏‏.‏

‏.‏ فهو من الشفافية بذاته، ومن الإشراق بذاته، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق؛ ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏نور على نور‏}‏‏.‏‏.‏ وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف‏!‏

إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض‏.‏ النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه‏.‏ إنما هي محاولة لوصل القلوب به، والتطلع إلى رؤياه‏:‏ ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏‏.‏‏.‏ ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه‏.‏ فهو شائع في السماوات والأرض، فائض في السماوات والأرض‏.‏ دائم في السماوات والأرض‏.‏ لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو‏.‏ فحيثما توجه إليه القلب رآه‏.‏ وحيثما تطلع إليه الحائر هداه‏.‏ وحيثما اتصل به وجد الله‏.‏

إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك، وهو العليم بطاقة البشر‏:‏

‏{‏ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك النور الطليق، الشائع في السماوات والأرض، الفائض في السماوات والأرض، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة‏:‏

‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة‏.‏ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار‏.‏ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه او المتقارب‏.‏ وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله‏.‏

تلك البيوت ‏{‏أذن الله أن ترفع‏}‏ وإذن الله هو أمر للنفاذ فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهرة رفيعة‏.‏ يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض‏.‏ وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء‏.‏ وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله‏:‏ ‏{‏ويذكر فيها اسمه‏}‏‏.‏ وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة، المسبحة الواجفة، المصلية الواهبة‏.‏ قلوب الرجال الذين ‏{‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏}‏‏.‏‏.‏ والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء‏.‏ ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العباد في الزكاة‏:‏ ‏{‏يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار‏}‏‏.‏‏.‏ تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب‏.‏ وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏.‏

وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله‏:‏

‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله‏}‏‏.‏‏.‏

ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله‏:‏ ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ من فضله الذي لا حدود له ولا قيود‏.‏

في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض، المتبلور في بيوت الله، المشرق في قلوب أهل الإيمان‏.‏‏.‏ يعرض السياق مجالاً آخر‏.‏ مجالاً مظلماً لا نور فيه‏.‏ مخيفاً لا أمن فيه‏.‏ ضائعاً لا خير فيه‏.‏ ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار‏:‏

‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه‏.‏ والله سريع الحساب‏.‏ أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب‏.‏ ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها‏.‏ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين، حافلين بالحركة والحياة‏.‏

في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعاً كاذباً، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلاً عما ينتظره هناك‏.‏‏.‏ وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة‏.‏‏.‏ فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك‏.‏‏.‏ يصل‏.‏ فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ ‏!‏ الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه‏.‏ وجده هنالك ينتظره‏!‏ ولو وجد في هذه المفاجأة خصماً له من بني البشر لروّعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد‏.‏ فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار‏؟‏

‏{‏فوفاه حسابه‏}‏‏.‏‏.‏ هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة، ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏‏.‏‏.‏ تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع‏!‏

وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب؛ ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي‏.‏ موج من فوقه موج‏.‏ من فوقه سحاب‏.‏ وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام‏!‏

إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون‏.‏ وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى‏.‏ ومخافة لا أمن فيها ولا قرار‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏‏.‏‏.‏ ونور الله هدى في القلب؛ وتفتح في البصيرة؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض‏.‏ فمن لم يتصل بهذا النور فهو ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه‏.‏ ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان‏.‏ إن هدى الله هو الهدى‏.‏ وإن نور الله هو النور‏.‏

ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح‏.‏ مشهد يتمثل فيه الوجود كله، بمن فيه وما فيه، شاخصاً يسبح لله، إنسه وجنه، أملاكه وأفلاكه، أحياؤه وجماده‏.‏

‏.‏ وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه‏:‏

‏{‏ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، والطير صافات‏.‏ كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإنسان ليس مفرداً في هذا الكون الفسيح؛ فإن من حوله، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال‏.‏‏.‏ إخوان له من خلق الله، لهم طبائع شتى، وصور شتى، وأشكال شتى‏.‏ ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده‏:‏ ‏{‏والله عليم بما يفعلون‏}‏‏.‏‏.‏

والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض، وهم يسبحون بحمده وتقواه؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه‏.‏ ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله‏:‏ ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏‏.‏‏.‏ والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه؛ وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة‏.‏

وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجهاً كله إلى خالقه، مسبحاً بحمده، قائماً بصلاته؛ وإنه لكذلك في فطرته، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه‏.‏ وإن الإنسان ليدرك حين يشف هذا المشهد ممثلاً في حسه كأنه يراه؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله‏.‏ وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه‏.‏‏.‏ كذلك كان محمد بن عبد الله صلاة الله وسلامه عليه إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه‏.‏ وكذلك كان داود عليه السلام يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير‏.‏

‏{‏ولله ملك السماوات والأرض، وإلى الله المصير‏}‏‏.‏‏.‏

فلا اتجاه إلا إليه، ولا ملجأ من دونه، ولا مفر من لقائه، ولا عاصم من عقابه، وإلى الله المصير‏.‏

ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين؛ وفيها متعة للنظر، وعبرة للقلب، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، وفي دلائل النور والهدى والإيمان‏:‏

‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحاباً، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً، فترى الودق يخرج من خلاله‏.‏ وينزل من السماء من جبال فيها من برد، فيصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع‏.‏ كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه، وبعثه إلى التأمل والعبرة، وتدبر ما وراءها من صنع الله‏.‏

إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان‏.‏

ثم تؤلف بنيه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض‏.‏ فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة‏.‏‏.‏ ومشهد السحب كالجبال لا يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقاً، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها‏.‏ وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس، إلا بعد ما ركبوا الطائرات‏.‏

وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء‏.‏‏.‏ وتكملة المشهد الضخم‏:‏ ‏{‏يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار‏}‏ ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريق التناسق في التصوير‏.‏

ثم مشهد كوني ثالث‏:‏ مشهد الليل والنهار‏:‏

‏{‏يقلب الله الليل والنهار‏.‏ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏‏.‏‏.‏

والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله‏.‏ والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير؛ ليواجه القلب هذا الكون دائماً بحس جديد، وانفعال جديد‏.‏ فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري، وهو يتأملها أول مرة‏.‏ وهي هي لم تتغير؛ ولم تفقد جمالها وروعتها‏.‏ إنما القلب البشري هو الذي صدئ وهمد، فلم يعد يخفق لها‏.‏ وكم ذا نفقد من حياتنا، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حِسَّنَا وهي جديدة‏.‏ أو وحِسُّنا هو الجديد‏!‏

والقرآن يجدد حِسَّنَا الخامد، ويوقظ حواسنا الملول‏.‏ ويلمس قلبنا البارد‏.‏ ويثير وجداننا الكليل؛ لنرتاد هذا الكون دائماً كما ارتدناه أول مرة‏.‏ نقف أمام كل ظاهرة نتأملها، ونسألها عما وراءها من سر دفين، ومن سحر مكنون‏.‏ ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا، ونتدبر حكمته في صنعته، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود‏.‏

إن الله سبحانه يريد أن يمن علينا، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره؛ فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة‏.‏ فنظل نجد الكون مرات لا تحصى‏.‏ وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد؛ ونستمتع به من جديد‏.‏

وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع‏.‏ وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته، مستمدة من النبع الذي يستمد منه، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه‏.‏ فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنساً وطمأنينة، وصلة ومعرفة، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب‏!‏

وإننا لنجد نور الله هناك‏.‏ فالله نور السماوات والأرض‏.‏‏.‏ نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير، والقلب المتفتح، والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 57‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور، في مشاهد الكون الكبير‏.‏‏.‏ يعود سياق السورة إلى موضوعها الأصيل‏.‏ موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة، لتتطهر قلوبها وتشرق، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض‏.‏

ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة‏.‏ وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم، وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض‏.‏

فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون‏.‏ فهم يظهرون الإسلام، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرضى بحكمه، والطمأنينة إليه‏.‏ ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم‏.‏ أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والأمن في المقام، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله‏.‏ وطاعتهم لله ورسوله‏.‏‏.‏ وذلك على الرغم من عداء الكافرين‏.‏ وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير‏.‏‏.‏

‏{‏لقد أنزلنا آيات مبينات‏.‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

فآيات الله مبينة كاشفة؛ تجلو نور الله، وتكشف عن ينابيع هداه‏.‏ وتحدد الخير والشر، والطيب والخبيث‏.‏ وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملاً دقيقاً لا لبس فيه ولا غموض؛ وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام‏.‏ فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة، لا يخشى منها صاحب حق على حقه؛ ولا يلتبس فيها حق بباطل، ولا حلال بحرام‏.‏

‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏ والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد‏.‏ غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقاً، من وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره، فاتصل به، وسار على الدرب، حتى يصل بمشيئة الله ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال‏.‏ حسب مشيئة الله في الهدى والضلال‏.‏

ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس‏.‏ فريق المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام‏:‏

‏{‏ويقولون‏:‏ آمنا بالله وبالرسول وأطعنا‏.‏ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك‏.‏ وما أولئك بالمؤمنين‏.‏ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏.‏ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏.‏ أفي قلوبهم مرض‏؟‏ أم ارتابوا‏؟‏ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله‏؟‏ بل أولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك‏.‏ والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية‏.‏ فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج؛ ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع‏.‏

ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية؛ وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون‏.‏ مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل‏.‏

وهؤلاء كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏آمنا بالله وبالرسول وأطعنا‏}‏‏.‏‏.‏ يقولونها بأفواههم، ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم‏.‏ فيتولون ناكصين يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان‏:‏ ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم‏.‏ والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها؛ ثم يدعها ويمضي، إنما هو تكيف في النفس، وانطباع في القلب، وعمل في الواقع، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير‏.‏‏.‏

ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها‏:‏

‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏.‏ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏}‏‏.‏‏.‏

فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف مع الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن‏.‏ وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل‏.‏ ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبون أن يجيئوا إليه‏.‏ فأما إذا كانوا أصحاب حق قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله، راضين خاضعين، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم، وفق شريعة الله، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق‏.‏

هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان‏.‏ المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام‏.‏ ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله، ولا أن يحكم فيهم قانونه، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله‏.‏ إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه‏!‏

إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق‏.‏ وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب‏.‏ وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله‏.‏ وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيِّئ الأدب معتم، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان‏.‏

ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم، وتتعجب من ريبتهم، وتستنكر تصرفهم الغريب‏:‏

‏{‏أفي قلوبهم مرض‏؟‏ أم ارتابوا‏؟‏ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والسؤال الأول للإثبات‏.‏ فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر‏.‏

وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة‏.‏ إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها، فلا تتذوق حقيقة الإيمان، ولا تسير على نهجه القويم‏.‏

والسؤال الثاني للتعجب‏.‏ فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان‏؟‏ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله‏؟‏ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل‏؟‏ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين‏!‏

والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب‏.‏ فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله‏؟‏ وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان‏.‏ فالله خالق الجميع ورب الجميع‏.‏ فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه‏؟‏

إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف‏.‏ لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً‏.‏ وكل خلقه أمامه سواء‏.‏ فلا يظلم أحداً منهم لمصلحة أحد‏.‏ وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف‏.‏ فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم‏.‏ أفراداً كانوا أم طبقة أم دولة‏.‏

وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه‏.‏ وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة، وحين تشرع دولة لدولة‏.‏ أو كتلة من الدول لكتلة‏.‏‏.‏ فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة‏.‏ إنما هي العدالة المطلقة، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله، ولا يحققها حكم غير حكمه‏.‏

من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر؛ ولا يحبون للحق أن يسود‏.‏ فهم لا يخشون في حكم الله حيفا، ولا يرتابون في عدالته أصلاً ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏‏.‏

فأما المؤمنون حقاً فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله‏.‏ ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ هو القول الذي يليق بالمؤمنين؛ وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور‏:‏

‏{‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏ وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏‏.‏

فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف‏.‏ السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى؛ النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء؛ ومن الإطمئان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم‏.‏ فالله الذي خلق أعلم بمن خلق‏.‏‏.‏

‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏‏.‏ المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بعلمه وعدله؛ فلا بد أن يكونوا خيراً ممن يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بشر مثلهم، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً‏.‏‏.‏ والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد، لا عوج فيه ولا التواء، مطمئنون إلى هذا المنهج، ماضون فيه لا يتخبطون، فلا تتوزع طاقاتهم، ولا يمزقهم الهوى كل ممزق، ولا تقودهم الشهوات والأهواء‏.‏

والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم‏.‏

‏{‏ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون‏}‏‏.‏‏.‏

وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام‏.‏ فالأن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه‏.‏ والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة؛ والتحرج من إتيان ما يكره توقيراً لذاته سبحانه، وإجلالاً له، وحياء منه، إلى جانب الخوف والخشية‏.‏

ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون، الناجون في دنياهم وأخراهم‏.‏ وعد الله ولن يخلف الله وعده‏.‏ وهم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم‏.‏ فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة‏.‏ وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون‏.‏

وأدب الطاعة لله ورسوله، مع خشية الله وتقواه، أدب رفيع، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته‏.‏ كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه‏.‏ فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله، ولا تستمد منها، هي ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن، ويستعلي عليها ضميره‏.‏ فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار‏.‏

وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان، وما هم بمؤمنين‏.‏ بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين‏:‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن‏.‏ قل‏:‏ لا تقسموا‏.‏ طاعة معروفة‏.‏ إن الله خبير بما تعملون‏.‏ قل‏:‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏.‏ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم‏.‏ وإن تطيعوه تهتدوا‏.‏ وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن‏.‏ والله يعلم إنهم لكاذبون‏.‏ فهو يرد عليهم متهكماً، ساخراً من أيمانهم‏:‏ ‏{‏قل‏:‏ لا تقسموا‏.‏ طاعة معروفة‏}‏‏.‏‏.‏ لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها، مفروغ منها، لا تحتاج إلى حلف أو توكيد‏!‏ كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به‏:‏ لا تحلف لي على صدقك‏.‏ فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل‏.‏

ويعقب على التهكم الساخر بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏‏.‏ فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد، وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون‏!‏

لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة‏.‏ الطاعة الحقيقية‏.‏ لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة‏!‏

‏{‏قل‏:‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏‏.‏

‏{‏فإن تولوا‏}‏ وتعرضوا، أو تنافقوا ولا تنفذوا ‏{‏فإنما عليه ما حمل‏}‏ من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏ وهو أن تطيعوا وتخلصوا‏.‏ وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏ إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح‏.‏ ‏{‏وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏ فليس مسؤولاً عن إيمانكم، وليس مقصراً إذا أنتم توليتم‏.‏ إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول‏.‏

وبعد استعراض أمر المنافقين، والانتهاء منه على هذا النحو‏.‏‏.‏ يدعهم السياق وشأنهم، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين، يبين جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير‏:‏

‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم؛ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم؛ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً‏.‏ يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏.‏ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك وعد الله للذين أمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض‏.‏ وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‏.‏ وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً‏.‏‏.‏ ذلك وعد الله‏.‏ ووعد الله حق‏.‏ ووعد الله واقع‏.‏ ولن يخلف الله وعده‏.‏‏.‏ فما حقيقة ذلك الإيمان‏؟‏ وما حقيقة هذا الاستخلاف‏؟‏

إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله‏.‏ فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله‏.‏

فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه‏.‏ وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً‏.‏‏.‏ يتوجه بهذا كله إلى الله‏.‏‏.‏ يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن‏:‏ ‏{‏يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏}‏ والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله‏.‏

ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض‏.‏‏.‏ أمانة الاستخلاف‏.‏‏.‏

فما حقيقة الاستخلاف في الأرض‏؟‏

إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم‏.‏‏.‏ إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله‏.‏

إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد‏.‏ وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر‏.‏ وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان‏!‏

وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏‏.‏ وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله‏.‏‏.‏ فاما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان‏.‏‏.‏ فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض‏.‏ إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله‏.‏

آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‏}‏‏.‏‏.‏ وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها‏.‏ فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض‏.‏ ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض‏.‏‏.‏ ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله‏.‏

‏{‏وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً‏}‏‏.‏‏.‏ ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبداً حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة‏.‏

قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله‏.‏ ثم إن رجلاً من الصحابة قال‏:‏ يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا‏؟‏ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة» وأَنزل الله هذه الآية، فأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 64‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

إن الإسلام منهاج حياة كامل؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكناتها‏.‏ ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة؛ وينسق بينها جميعاً، ويتجه بها إلى الله في النهاية‏.‏

وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق‏.‏ لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت‏.‏ وإلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود‏.‏ ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين‏.‏ إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين‏.‏ وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت؛ إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء؛ إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه‏.‏‏.‏‏.‏ فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها‏.‏ والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم، ثلاث مرات‏:‏ من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء‏.‏ ثلاث عورات لكم‏.‏ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن‏.‏ طوّافون عليكم بعضكم على بعض‏.‏ كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت‏.‏ وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت‏.‏

فالخدم من الرقيق، والأطفال المميزون لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان‏.‏ إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة، فهم يستأذنون فيها‏.‏ هذه الأوقات هي‏:‏ الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج‏.‏ ووقت الظهيرة عند القيلولة، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة‏.‏ وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل‏.‏‏.‏

وسماها ‏{‏عورات‏}‏ لانكشاف العورات فيها‏.‏ وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم‏.‏ وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة‏!‏ وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر‏.‏ بينما يقرر النفسيون اليوم بعد تقدم العلوم النفسية أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها‏.‏

والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، نظيفة التصورات‏.‏

ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات‏.‏ ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعاً للحرج‏.‏ فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة‏:‏

‏{‏طوافون عليكم بعضكم على بعض‏}‏‏.‏‏.‏ وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات، وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار‏.‏

فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ، فإنهم يدخلون في حكم الأجانب، الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت، حسب النص العام، الذي مضت به آية الاستئذان‏.‏

ويعقب على الآية بقوله‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر، وما يصلحها من الآداب؛ ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب‏.‏

ولقد سبق الأمر كذلك بإخفاء زينة النساء منعاً لإثارة الفتن والشهوات‏.‏ فعاد هنا يستثني من النساء القواعد اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال؛ وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات‏:‏

‏{‏والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً؛ ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن؛ والله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية، على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة‏.‏ وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة‏.‏ وسمي هذا استعفافاً‏.‏ أي طلباً للعفة وإيثاراً لها، لما بين التبرج والفتنة من صلة؛ وبين التحجب والعفة من صلة‏.‏‏.‏ وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس‏.‏

‏{‏والله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ يسمع ويعلم، ويطلع على ما يقوله اللسان، وما يوسوس في الجنان‏.‏ والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير‏.‏

ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء‏:‏

‏{‏ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج؛ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم، أو بيوت آبائكم، أو بيوت أمهاتكم، أو بيوت إخوانكم، أو بيوت أخواتكم، أو بيوت أعمامكم، أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم، أو بيوت خالاتكم؛ أو ما ملكتم مفاتحه، أو صديقكم‏.‏ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً‏.‏ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم، تحية من عند الله مباركة طيبة‏.‏ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

روي أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة دون استئذان ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم‏.‏‏.‏ الفقراء منهم‏.‏‏.‏ فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن‏.‏ ذلك حين نزلت‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ فقد كانت حساسيتهم مرهفة‏.‏ فكانوا يحذرون دائماً أن يقعوا فيما نهى الله عنه، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد‏.‏

فأنزل الله هذه الآية، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه‏.‏ وأن يصحب معه أَمثال هؤلاء المحاويج‏.‏ وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به‏.‏ إستناداً إلى القواعد العامة في أنه «لا ضرر ولا ضرار» وإلى أنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس»‏.‏

ولأن الآية آية تشريع، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي، والصياغة التي لا تدع مجالاً للشك والغموض‏.‏ كما نلمح فيها ترتيب القرابات‏.‏ فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم‏.‏ بل تقول الآية‏:‏ ‏{‏من بيوتكم‏}‏ فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج، فبيت الابن بيت لأبيه، وبيت الزوج بيت لزوجته، وتليها بيوت الآباء، فبيوت الأمهات‏.‏ فبيوت الإخوة، فبيوت الأخوات‏.‏ فبيوت الأعمام، فبيوت العمات، فبيوت الأخوال، فبيوت الخالات‏.‏‏.‏ ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأَكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه‏.‏‏.‏ ويلحق بها بيوت الأصدقاء‏.‏ ليلحق صلتهم بصلة القرابة‏.‏ عند عدم التأذي والضرر‏.‏ فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان‏.‏

فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً‏}‏ فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا ياكل طعاماً على انفراد، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام‏!‏ فرفع الله هذا الحرج المتكلف، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد، وأباح أن يأكلوا أفراداً أو جماعات‏.‏

فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة‏}‏‏.‏‏.‏ وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية‏.‏ فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه‏.‏ والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله‏.‏ تحمل ذلك الروح، وتفوح بذلك العطر‏.‏ وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها‏.‏‏.‏

وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة‏:‏

‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏‏.‏‏.‏ وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير‏.‏‏.‏

وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء، إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة‏.‏‏.‏ أسرة المسلمين‏.‏‏.‏ ورئيسها وقائدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول‏:‏

‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏.‏ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه؛ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله‏.‏ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله‏.‏

إن الله غفور رحيم‏.‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً‏.‏ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً‏.‏ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏.‏ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه؛ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا، والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق‏.‏ فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة‏.‏ فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذنه؛ وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير واحتساباً له‏.‏ فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏‏.‏

وأياً ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها‏.‏ هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها‏.‏ ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليداً متبعاً وقانوناً نافذاً‏.‏ وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها‏:‏

‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏‏.‏‏.‏ لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم، ولا يطيعون الله ورسوله‏.‏

‏{‏وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏‏.‏‏.‏ والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة‏.‏ فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم‏.‏ كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام‏.‏

وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان، ويلتزمون هذا الأدب، لا يستأذنون إلا وهم مضطرون؛ فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة‏.‏ ويستدعي تجمعها له‏.‏‏.‏ ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول صلى الله عليه وسلم رئيس الجماعة‏.‏ بعد أن يبيح له حرية الإذن‏:‏ ‏{‏فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم‏}‏‏.‏