فصل: كتاب الأطعمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار، كفرًا معلومًا بالإضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وقال آخر‏:‏ إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه / وزاد في دنياه لم يدخل في ضمن هذا الحديث‏.‏

قال له ناقل الحديث‏:‏ أنا لو فعلت كل ما لا يليق، وقلت لا إله إلا الله‏:‏ دخلت الجنة ولم أدخل النار‏؟‏

فأجاب ـ رحمه الله ‏:‏الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين؛ فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثيرون، بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون، ولكن لا يتقبل منهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏142‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53، 54‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏12‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان‏)‏ ولمسلم‏:‏ ‏(‏وإن / صلى وصام وزعم أنه مسلم‏)‏ ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏)‏‏.‏

ولكن إن قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصًا صادقًا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار، إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من دخلها من فساق أهل القبلة من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم، وغير هؤلاء - فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏(‏منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا، أخرجوا بعد ذلك كالحمم، فيلقون في نهر يقال له الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم‏:‏ هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار‏)‏‏.‏ وتفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل حبس خصمًا له عليه دين بحكم الشرع، فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته، فتخاصما بسبب ذلك، فشهد الشافع على الرجل؛ لأنه صدر منه كلام يقتضى الكفر، وخاف الرجل غائلة ذلك فأحضر إلى حاكم شافعي، وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه، وسأل حكم الشرع في ذلك‏.‏ فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف، فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فاعترف بأن ذلك صدر منه جاهلاً بما يترتب عليه، ثم أسلم، ونطق بالشهادتين، وتاب واستغفر الله تعالى ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه، فأجابه إلى سؤاله، وحكم بإسلامه، وحقن دمه، وبقاء ماله عليه، وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه، وقضى بموجب ذلك كله‏.‏ ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفي‏:‏ فهل الحكم المذكور صحيح في جميع ما حكم له به، أم لا‏؟‏ وهل يفتقر حكم الشافعي إلى حضور خصم من جهة بيت المال، أم لا‏؟‏ وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه، أم لا‏؟‏ وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم/ والتنفيذ المذكورين أن يحكم في ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا‏؟‏ وهل يثاب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، نعم الحكم المذكور صحيح، وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال في مال مثل هذا حق باتفاق المسلمين، ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال؛ فإن ذلك لا يتوقف على الحكم؛ إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم، ولا كلام لولي بيت المال في مال من أسلم بعد ردته، بل مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ـ أيضًا ـ في المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فأنكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، فكيف إذا لم يشهد عليه عدل‏؟‏ فإنه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى إقراره باتفاق المسلمين‏.‏

ولا يحتاج عصمة دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد إخراجه إلى ذلك، فقد يكون فيه إلزام له بالكذب على نفسه أنه كفر؛ ولهذا لا يجوز أن يبني على مثل هذا الإقرار حكم الإقرار الصحيح؛ فإنه قد علم أنه لقن الإقرار، وأنه مكره عليه في المعنى؛ فإنه إنما فعله /خوف القتل، ولو قدر أن كفر المرتد كفر سب فليس في الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد إسلامه؛ إنما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدًا عندهم على المشهور‏.‏ ومن قال يقتل لزندقته، فإن مذهبه أنه لا يؤخذ بمثل هذا الإقرار‏.‏

وأيضًا، فمال الزنديق عند أكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فإن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم، كعبد الله بن أبي وأمثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم، ولم يتوارث أحد من الصحابة غير الميراث منافق ‏.‏ والمنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق‏.‏

وأيضًا، فحكم الحاكم إذا نفذ في دمه الذي قد يكون فيه نزاع نفذ في ماله بطريق الأولى؛ إذا ليس في الأمة من يقول‏:‏ يؤخذ ماله ولا يباح دمه، فلو قيل بهذا كان خلاف الإجماع، فإذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولي الأمر فماله أولى‏.‏

وقد تبين أن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لم يثبت عليه ما يبيح دمه، لا ببينة، ولا بإقرار متعين،/ ولكن بإقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر‏.‏

الثاني‏:‏ الحكم بعصمة دمه وماله واجب في مذهب الشافعي والجمهور وإن لم يقر، بل هو واجب بالإجماع مع عدم البينة والإقرار‏.‏

الثالث‏:‏ أن الحكم صحيح بلا ريب‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له‏.‏

الخامس‏:‏ أنه ليس في الحكام من يحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الإسلام ولو كان الكفر سبا، فكيف إذا لم يثبت عليه‏؟‏‏!‏ أم كيف إذا حكم بعصمة ماله‏؟‏‏!‏ بل مذهب مالك وأحمد الذي يستند إليها في مثل هذه من أبعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال؛ لأن مثل هذا الإقرار عندهم إقرار تلجئة لا يلتفت إليه، ولما عرف من مذهبهما في الساب، والله أعلم‏.‏

/ كتاب الأطعمة

 سئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ عن أكل لحوم الخيل‏:‏ هل هي حلال‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هي حلال عند جمهور العلماء ـ كالشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، وعامة فقهاء الحديث ـ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم عام خيبر لحوم الحمر، وأباح لحوم الخيل، وقد ثبت‏:‏ أنهم نحروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكل لحمه‏.‏

 وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن بغل تولد من حمار وحش وفرس‏:‏ هل يؤكل، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا تولد البغل بين فرس وحمار وحش، أو بين أتان وحصان جاز أكله وهكذا كل متولد بين أصلين مباحين، وإنما حرم ما تولد من بين حلال وحرام كالبغل الذي أحد أبويه حمار أهلي، وكالسِّمْع المتولد بين الضبع والذئب، والأسبار المتولد من بين الذئب والضبعان، والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن نعجة ولدت خروفًا، نصفه كلب ونصفه خروف، وهو نصفين بالطول‏:‏ هل يحل أكله؛ أو تحل ناحية الخروف‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لا يؤكل من ذلك شيء، فإنه متولد من حلال وحرام، وإن كان مميزًا؛ لأن الأكل لا يكون إلا بعد التذكية، ولا يصح تذكية مثل هذا لأجل الاختلاط، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن عنز لرجل ولدت عناقًا وماتت العنزة، فأرضعت امرأته العناق، فهل يجوز أكل لحمها، أو شرب لبنها، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، نعم يجوز له ذلك‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله‏:‏ هل يجوز شرب الإقسما‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا كانت من زبيب فقط فإنه يباح شربه ثلاثة أيام إذا لم يشتد باتفاق العلماء، أما إن كان من خليطين يفسد أحدهما الآخر مثل الزبيب والبسر، أو بقى أكثر من الثلاث، فهذا فيه نزاع‏.‏ وإن وضع فيه ما يحمضه كالخل ونحوه وماء الليمون كما يوضع في الفقاع المشذب فهذا يجوز شربه مطلقًا، فإن حموضته تمنعه أن يشتد، فكل هذه الأشربة إذا حمضت ولم تصر مسكرة، يجوز شربها‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل نزل عند قوم ولم يكن معه ما يأكل هو ولا دابته، وامتنع القوم أن يبيعوه وأن يضيفوه، فحصل له ضرر ولدابته‏:‏ فهل له أن يأخذ منهم ما يكفيه بغير اختيارهم‏؟‏

/فأجاب‏:‏

إذا اضطر هو ودابته وعندهم مال يطعمونه ولم يطعموه فله أن يأخذ كفايته بغير اختيارهم، ويعطيهم ثمن المثل، وإن كان في سفر وجب عليهم أن يضيفوه إن كانوا قادرين على ضيافته؛ فإن لم يضيفوه أخذ ضيافته بغير اختيارهم ولا شيء عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حق الضيف واجب على كل مسلم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أيما رجل نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم بمثل قراه من زرعهم ومالهم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة‏)‏، والله أعلم‏.‏

 باب الذكاة

/ سئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقًا، ولا يدري ما حالهم‏:‏ هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أم بعد ذلك‏؟‏ بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس، وهم أهل ذمة يؤدون الجزية، ولا يعرف من هم، ولا من آباؤهم، فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين، أم لهم الأكل من ذبائحهم، كسائر بلاد المسلمين‏؟‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان، ولا يحرم ذبحهم للمسلمين، ومن أنكر ذلك فهو جاهل، مخطئ، مخالف لإجماع المسلمين؛ فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين، ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى /محض التقليد‏:‏ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء‏.‏ كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدًا، مخالف لما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان‏؟‏‏!‏ وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن قولين‏:‏

إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقًا، كما يقول ذلك من يقول من الرافضة‏.‏ وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم، وأكل ذبائحهم‏.‏ وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا، ولا من أقوال أتباعهم‏.‏ وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم فإن الله ـ تعالى ـ قال في كتابه‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏5‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذه الآية معارضة بقوله‏:‏‏{‏ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏221‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏

قيل‏:‏ الجواب من ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب، إنما يدخلون في الشرك المقيد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏، فجعل المشركين قسمـًا غير أهل الكتاب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏، فجعلهم قسمًا غيرهم‏.‏

فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏ فوصفهم بأنهم مشركون‏.‏

وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، ولكنهم بدلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانًا، فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا، لا باعتبار أصل الدين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ هو تعريف الكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين، وأولئك كن مشركات، لا كتابيات من آل مكة، ونحوها‏.‏

/الوجه الثاني‏:‏ إذا قدر أن لفظ المشركات والكوافر يعم الكتابيات، فآية المائدة خاصة ـ وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء، كما في الحديث‏:‏ ‏(‏المائدة من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها‏)‏ ـ والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين، لكن الجمهور يقولون‏:‏ إنه مفسر له‏.‏ فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام‏.‏ وطائفة يقولون‏:‏ إن ذلك نسخ بعد أن شرع‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ إذا فرضنا النصين خاصين، فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم، والآخر أحلهما، فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء، فتكون ناسخة للنص المتقدم‏.‏ ولا يقال إن هذا نسخ للحكم مرتين؛ لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك، بل كان لعدم التحريم، بمنزلة شرب الخمر، وأكل الخنزير، ونحو ذلك‏.‏ والتحريم المبتدأ لا يكون نسخًا لاستصحاب حكم الفعل؛ ولهذا لم يكن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ناسخًا لما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ من أن الله ـ عز وجل ـ لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة؛ فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية، ولم يثبت تحليل / ما سوى ذلك؛ بل كان ما سوى ذلك عفوًا لا تحليل فيه ولا تحريم، كفعل الصبي والمجنون‏.‏ وكما في الحديث المعروف‏:‏ ‏(‏الحلال ما حلله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏)‏ وهذا محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفًا عليه أو مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم، وسورة المائدة مدنية بالإجماع، وسورة الأنعام مكية بالإجماع، فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ ‏}‏ إلى آخرها فثبت نكاح الكتابيات، وقبل ذلك كان إما عفوًا على الصحيح، وإما محرمًا ثم نسخ‏.‏ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع، والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم، فإذا ثبت حل أحدهما ثبت حل الآخر، وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلاً‏.‏ ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك‏.‏

/فإن قيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، محمول على الفواكه والحبوب، قيل‏:‏ هذا خطأ؛ لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذه مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس، فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة‏.‏

الثاني‏:‏أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعامًا بفعلهم،وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحمًا بذكاتهم‏.‏فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعامًا بفعل آدمي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قرن حل الطعام بحل النساء، وأباح طعامنا لهم كما أباح طعامهم لنا، ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين فكذلك حكم الطعام والفاكهة، والحب لا يختص بأهل الكتاب‏.‏

الرابع‏:‏ أن لفظ الطعام عام‏.‏ وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة، فيجب إقرار اللفظ على عمومه، لا سيما وقد قرن به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا، فكذلك يحل لنا أن نأكل جميع أنواع طعامهم‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت في الصحاح، بل بالنقل المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية، فأكل منها لقمة، ثم / قال‏:‏ ‏(‏إن هذه تخبرني أن فيها سما‏)‏ ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة‏.‏ وثبت في الصحيح‏:‏ أنهم لما غزوا خيبر أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم، قال‏:‏ قلت‏:‏ لا أطعم اليوم من هذا أحدًا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ولم ينكر عليه، وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة‏.‏

وأيضًا، فإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة‏.‏ رواه الإمام أحمد‏.‏ و‏[‏الإهالة‏]‏ من الودك الذي يكون من الذبيحة من السمن ونحوه الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة، ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل‏.‏

وأيضًا، فقد استفاض أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس‏.‏ ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين‏:‏ لأن الجبن يحتاج إلى الأنفحة‏.‏ وفي أنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء‏.‏ فأبوحنيفة يقول بطهارتها، ومالك والشافعي يقولان بنجاستها، وعن أحمد روايتان‏.‏

/ فصـل

المأخذ الثاني‏:‏ الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل، وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة‏.‏ وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب‏؟‏ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل‏؟‏ على قولين للعلماء‏:‏

فالقول الأول‏:‏ هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحًا‏.‏

الثاني‏:‏ قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏

وأصل هذا القول أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب، فقال على‏:‏ لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم؛ فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب / الخمر، وروى عنه أنه قال‏:‏ نغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان؛ فإنه شرط عليهم أن وغير ذلك من الشروط‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بل تباح؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم، ولا يعرف ذلك إلا عن على وحده، وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب‏.‏

فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس، وهو قول الجمهور، كأبي حنيفة ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وصححها طائفة من أصحابه، بل هي آخر قوليه، بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول‏.‏ وقال أبو بكر الأثرم‏:‏ ما علمت أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كرهه إلا عليًا، وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه، وقال إبراهيم بن الحارث‏:‏ كان آخر قول أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسًا‏.‏

ومن العلماء من رجح قول على، وهو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏ وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب،وهم الذين تنازع فيهم الصحابة‏.‏ فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل‏:‏ تنوخ، وبهراء / وغيرهما من اليهود، فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعًا، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة، ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب‏.‏ والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك، وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف‏.‏

ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد قالوا‏:‏ من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيًا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه‏.‏ وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيًا؛ وأما الأم فله فيها قولان‏.‏ فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وحكى ذلك عـن مالك‏.‏ وغالب ظنى أن هـذا غلط على مالك؛ فـإني لم أجده في كتب أصحابه، وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب، وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب، وهو الرواية التي اختارها هؤلاء ، فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب، أو قيل إن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين، فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب، بل لو كان الأبوان جميعًا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب، كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم‏.‏

/ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطئ خطأ لا ريب فيه؛ لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة؛ ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل، ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصرانى العرب مطلقًا ومن كان أحد أبويه غير كتابي، كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد، وهذا تناقض‏.‏ والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير، وهو آخر كتبه، فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان، كالروم وقبائل مـن العـرب،وهم تنـوخ، وبهراء، ومـن بني تغلب هـل تجـوز مناكحتهم، وأكـل ذبائحهم‏؟‏ وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب، وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم، واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم، سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها، وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل، ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته‏.‏ وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركًا فهو أولى بذلك، هذا هو المنصوص عن أحمد فإنه قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية‏.‏ قال أصحابه‏:‏ وإذ أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما‏.‏

/وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع على وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد‏.‏

ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا فى مأخذ على، فظن بعضهم أن عليًا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم؛ لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلو في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل، وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل، وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطاً، وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطاً‏.‏ وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل على لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته، بل أخذوا منه حل المحرمات فقط؛ ولهذا قال‏:‏ إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر، وهذا المأخذ من قول على هو المنصوص عن أحمد وغيره، وهو الصواب‏.‏

وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف‏.‏ والقول بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أراد ذلك قول ضعيف، بل الصواب المقطوع به أن كون / الرجل كتابيًا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك‏.‏ وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف ، وهذا القول هو الثابت عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعًا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم ، واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل، كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب، فإنه تؤكل ذبيحته، وتنكح نساؤه‏.‏ وهذا يبين خطأ من يناقض منهم‏.‏ وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية، سواء دخل في زماننا هذا أو قبله‏.‏ وأصحاب القول الآخر يقولون‏:‏ متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية؛ كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي‏.‏ والصواب قول الجمهور، والدليل عليه وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، كما قال ابن عباس‏:‏ إن المرأة كانت مقلاتا ـ والمقلات التي لا يعيش لها ولد، كثيرة القلت، والقلت‏:‏ الموت والهلاك، كما يقال‏:‏ امرأة مذكار ومئناث إذا كانت كثيرة الولادة /للذكور والإناث، والسما الكثيرة الموت‏.‏ قال ابن عباس ـ فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديًا، لكون اليهودية كانوا أهل علم وكتاب، والعرب كانوا أهل شرك وأوثان، فلما بعث الله محمدًا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا، فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏ فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا‏.‏ ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم فى اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح ـ صلوات الله عليه ـ وهذا بعد النسخ والتبديل، ومع هذا نهى الله ـ عز وجل ـ عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية، وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل، فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر‏.‏ ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه، وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين؛ فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون، فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عرباً ودخلوا في دين اليهود، ومع هذا فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم في أكل طعامهم، وحل نسائهم، وإقرارهم بالذمة، بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى ـ عليه السلام ـ ومن دخل قبل ذلك، ولا بين المشكوك في نسبه، بل حكم / في الجميع حكمًا واحدًا عامًا، فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة، وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم، وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم، تفريق ليس له أصل في سنة رسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه‏.‏ وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن‏:‏ ‏(‏إنك تأتى قومًا أهل كتاب‏)‏، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريًا ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده‏.‏ وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب

كثيرون أقرهم بالجزية، وكذلك سائر اليهود والنصارى من العرب لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية، وأباحوا ذبائحهم، ونساءهم‏.‏ وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف‏.‏ ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة، وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن كون الرجل مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا ونحو ذلك من أسماء الدين، هو حكم يتعلق بنفسه،لاعتقاده وإرادته وقوله وعمله،لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك،لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه؛لكونه لا يستقل بنفسه،فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرًا بنفسه باتفاق المسلمين،فلو كان أبواه / يهودًا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين،ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرًا باتفاق المسلمين؛ فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدًا لأجل آبائه‏.‏وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك‏.‏وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب، فمن كان بنفسه مشركًا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين،ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين،فكذلك إذا كان يهوديًا أو نصرانيًا وآباؤه مشركين، فحكمه حكم اليهود والنصارى‏.‏ أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون أبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين، فهذا خلاف الأصول‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن يقـال‏:‏ قولــه تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏ وقولــه‏:‏ ‏{‏وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ وأمثال ذلك، إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم‏.‏ والمراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى، ليس المراد به من كان متمسكًا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارًا، ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن‏:‏ ‏(‏يا أهل الكتاب‏)‏، فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن‏.‏ وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند / أهل الكتاب، فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار، والله تعالى مع ذلك شرع إقرارهم بالجزية، وأحل طعامهم ونساءهم‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن يقال‏:‏ هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين، وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب، بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم، فمن كان أبوه مسلمًا وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد؛ ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام‏:‏ هل تقبل توبته‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏

وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل، ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفًا لهم؛ فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين؛ فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله ورسله فليس مسلمًا في أي زمان كان‏.‏

/وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين، وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام، وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى؛ ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب؛ لأنه ـ تعالى ـ أنعم على أجدادهم نعمًا عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته، وكذبوا رسله وبدلوا كتابه، وغيروا دينه، فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوء الكفار عند الله وهو أشد غضبًا عليهم من غيرهم؛ لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء، فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على إخوانهم الكفار، مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار، وإما أغلظ منه؛ إذ لا يمكن أحدًا أن يقول‏:‏ إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود‏.‏

/الوجه السادس‏:‏ أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية، الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل؛فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏13‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏ لا فضل لعربي على عجمي،ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى‏.‏ الناس من آدم وآدم مـن تراب‏)‏؛ ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدًا بنسبه، ولا يذم أحدًا بنسبه، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن‏:‏ الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم‏)‏ فجعل الفخر بالأحساب من أمور الجاهلية، فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف، فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين‏؟‏ وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأحد الفريقين على الآخرين في الدين لأجل النسب علم أنه لا فضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلاً فيه بعد النسخ والتبديل‏.‏ وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين‏.‏

/والشريعة إنما علقت بالنسب أحكامًا مثل كون الخلافة من قريش، وكون ذوي القربي لهم الخمس، وتحريم الصدقة على آل محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك؛ لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم‏:‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا‏)‏، والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت‏.‏ فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية؛ ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره؛ ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضعفين من العذاب، كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب‏.‏

فذوو الأنساب الفاضلة إذا أساؤوا كانت إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم، وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم، فكفر من كفر من بني إسرائيل ـ إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم ـ أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء إن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخر، بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين، أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر؛ لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه‏.‏

/الوجه السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم، لا يميزون بين طائفة وطائفة، ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب، وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة؛ لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم، ولم يلحق بهم سائر العرب، وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم‏.‏

الوجه الثامن‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا القول مستلزم ألا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب؛ لأنا لا نعرف نسب كثير منهم، ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودًا أو نصارى قبل النسخ والتبديل، ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فإذا كان هذا القول مستلزمًا رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، علم أنه باطل‏.‏

الوجه التاسع‏:‏ أن يقال‏:‏ ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين‏.‏ وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل ، وأنه مقتضى الدليل‏.‏ فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فهذا خلاف إجماع المسلمين‏.‏

/فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية‏.‏ وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله، وفي شحم الثَّرْب والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من مسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدًا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت‏.‏

ولا يجوز لأحد أن يرجح قولاً على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا قائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدًا لزم حكم التقليد، فلم يرجح، ولم يزيف، ولم يصوب، ولم يخطئ‏:‏ ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه، فقبل ما تبين أنه حق، ورد ما تبين أنه باطل، ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان‏.‏

وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم، فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين، لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون، والله ـ تعالى ـ يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه، وبالله التوفيق، والله أعلم‏.‏