فصل: بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل في أبواب الرياء بعضها أشد من بعض:

واعلم أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات. أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل.
الدرجة الثانية: أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى.
الدرجة الثالثة: أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح، ولا يسلم من الإثم.
الرابعة: أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.

.بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل:

اعلم أن الرياء جلي وخفي.
فالجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه. وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح. وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد.
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها. ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون. وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه: وإن اشترى شيئًا أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد: ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه: ائتني بطعام، فأتاه ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا: هذا، كيف أنت؟ قال: كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال: الحمد لله الذي صرفه عني وهو لي لائم. ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي، يجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم‏.
وشوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر ومفسداً للعمل، بل فيه تفصيل‏.
فإن قيل‏:‏ فما ترى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم‏؟‏
فالجواب‏:‏ أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم‏.‏
فالمحمود‏:‏ أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله تعالى أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيسر بحسن صنع الله ونظره له ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة، وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح عليه في الدنيا، أنه كذلك يفعل به في الآخرة، فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث‏.‏
فأما إن كان فرحه باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم، حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم‏.‏
فإن قيل‏:‏ فما وجه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال‏:‏ ‏«له أجران ‏:‏ أجر السر، وأجر العلانية»‏‏.‏
فالجواب ‏:‏ أن هذا الحديث ضعيف، وقد رواه الترمذي، وفسره بعض أهل العلم بأن معناه‏:‏ أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير، لقوله عليه السلام ‏:‏ ‏«أنتم شهداء الله في الأرض» ‏وقد روى في أفراد مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال ‏:‏ قيل ‏:‏ يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه‏؟‏ فقال‏:‏ «تلك عاجل بشرى المؤمن» ‏فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرموه عليه، فهذا رياء‏.‏

.فصل في بيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط:

إذا ورد على العبد وراد الرياء، فلا يخلو‏:‏إما أن يكون ورد بعد فراغه من العبادة أو قبله، فان ورد عليه بعد الفراغ سرور بالظهور من غير إظهار منه، فهذا لا يحبط العمل، لأنه قد تم على نعت الإخلاص فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحديث به، فأما إن تحدث به بعد تمامه وأظهره، فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإن سلم من الرياء نقص أجره، فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة‏.‏
وأما إذا ورد الرياء قبل الفراغ من العبادة، كالصلاة التي عقدها على إخلاص فإن كان مجرد سرور، لم يؤثر في العمل، وإن كان رياء باعثاً على العمل، مثل أن يطيل الصلاة ليرى مكانه، فهذا يحبط الأجر‏، ‏وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم‏، ‏وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم‏.‏

.فصل في دواء الرياء وطريقة معالجة القلب فيه:

قد عرفت أن الرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى، وأنه من المهلكات، ومن هذا حاله، فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته‏.‏
وفي معالجته مقامان‏:‏
أحدهما‏:‏ في قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه‏.‏
والثاني‏:‏ في دفع ما يخطر منه في الحال‏، ‏المقام الأول‏:‏ اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فصل، رجع إلى ثلاثة أصول‏، ‏وهى حب لذة الحمد، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس‏، ‏ويشهد لذلك ما في ‏‏ الصحيحين‏ ‏ من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ فقال يا رسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله»‏ فمعنى قوله‏:‏ «يقاتل شجاعة‏» ‏ أي‏:‏ ليذكر ويحمد، ومعنى قوله ‏«‏يقاتل حمية‏» ‏ أي ‏:‏ يأنف أن يقهر أو يذم، ومعنى‏:‏ ‏«‏يقاتل رياء‏» ‏ أي‏:‏ ليرى مكانه، وهذه هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب‏، ‏وقد لا يشتهى الإنسان الحمد، ولكنه يحذر من الذم، كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفر لئلا يذم‏.‏ وقد يفتى الإنسان بغير علم حذراً من الذم فإن آدم عليه السلام عصى مشتهياً فغفر له، فإذا كانت معصية من كبر فاخش عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن وفي الصحيحين ‏:‏ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر ‏:‏ يا رسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي،
إلا أن أتعاهد ذلك منه ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏«لست ممن يصنعه خيلاء» واعلم أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته فيظهر على الجوارح وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعني يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً‏، ‏وبهذا ينفصل عن العجب، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب، حتى لو قد أن يخلق الإنسان وحده تصور أن يكون معجبا، ولا يتصور أن يكون متكبرا، إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوقه، فإن الإنسان متى رأى نفسه بعين الاستعظام، حقر من دونه وازدراه، وصفة هذا المتكبر، أن يكون إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استهجالاً واستحقاراً ‏!‏وآفة الكبر عظيمة، وفيه يهلك الخواص، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء ‏، ‏وكيف لا تعظم آفته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ‏«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» ‏وإنما صار حجابا دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين، لأن صاحبه لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، فلا يقدر على التواضع، ولا على ترك الحقد والحسد والغضب، ولا على كظم الغيظ وقبول النصح، ولا يسلم من الازدراء واغتيابهم، فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه‏.‏
ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له وقد تحصل المعرفة للمتكبر، ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق، كما قال تعالى‏:‏ {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً}‏ [النمل ‏:‏ 14)] ‏{فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا}‏ (المؤمنون ‏:‏ 47) {إن أنتم إلا بشر مثلنا}‏ ‏(‏ إبراهيم ‏:‏ 10 ‏)‏ وآيات كثيرة نحو هذا، وهكذا تكبر على الله وعلى رسوله ‏، ‏يعارضه بخطرات الرياء، فإذا خطر له معرفة الخلق بعبادته واطلاعهم عليها، دفع ذلك بأن يقول ‏:‏ مالك وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالك، فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى آفة الحمد، ذكرها آفات الرياء والتعرض للمقت، فيقابل تلك الرغبة بكراهة المقت، فإن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة، ومعرفة آفة الرياء تثير كراهة ‏.‏

.فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة اطلاع الناس على الذنب وذمهم له:

أما الأول، فاعلم أن في إسرار الأعمال فائدة لإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير ‏، ‏ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد ‏، ‏والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه، حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي، بل ينوي الاقتداء به، ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، فإن مثال الضعيف مثل الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة، فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم، وأقبل عليهم حتى تشبثوا به، فهلكوا وهلك معهم ‏، ‏فأما من قوي وتم إخلاصه، وصغر الناس في عينه، واستوى عنده مدحهم وذمهم، فلا بأس بالإظهار له، لأن الترغيب في الخير خير ‏، ‏وقد روي ذلك عن جماعة من السلف أنهم كانوا يظهرون شيئاً من أحوالهم الشريفة ليقتدي بهم، كما قال بعضهم لأهله حين احتضر ‏:‏ لا تبكوا علي، فإني ما لفظت بخطيئة منذ أسلمت ‏، ‏وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله لابنه ‏:‏ إياك أن تعصي الله تعالى في هذه الغرفة، فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة ‏ونحو ذلك كثير من كلامهم، والله أعلم ‏.‏
وأما الرخصة في كتمان الذنوب، فربما ظن ظان أن كتمان الخطايا رياء، وليس كذلك فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه معصية، كان له سترها، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها ‏، ‏وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏«من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله عز وجل»‏ ‏ فهذا وإن عصى بالذنب، لم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله عز وجل، وهذا ينشأ عن قوة الإيمان ‏، ‏وينبغي أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً، فهذا أثر الصدق فيه ‏، ‏ومن ذلك أن يكره ذم الناس له، من حيث إن ذلك يشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى، فإن الطبع يتأذى بالذم، وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره المدح إذا كان يشغله عن الله تعالى، ويستغرق قلبه، ويصرفه عن الذكر، فإن هذا أيضاً من قوة الإيمان ‏.‏

.فصل في ترك الطاعات خوفاً من الرياء:

فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء، فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين، فهذا ينبغي أن يترك، لأنه معصية لا طاعة فيه ‏، ‏وإن كان الباعث على ذلك الدين، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً، فلا ينبغي أن يترك العمل، لأن الباعث الدين ‏، ‏وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال ‏:‏ إنه مراءٍ، فلا ينبغي ذلك، لأنه من مكائد الشيطان قال إبراهيم النخعي ‏:‏ إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال ‏:‏ إنك مراءٍ، فزدها طولاً ‏، ‏وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفاً من الرياء، كما روي عن إبراهيم النخعي أن إنساناً دخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فأطبق المصحف وترك القراءة، وقال ‏:‏ لا يراني هذا أني أقرأ كل ساعة، فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا ‏!‏

.فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وما لا يصح:

قد يبيت الرجل مع المتهجدين، فيصلون أكثر الليل، وعادته قيام ساعة، فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط ‏، ‏فربما ظن ظان أن هذا رياء، وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفصيل، وهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى، ولكن تعوقه العوائق، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان غريب، اندفعت هذه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة العابدين ‏، ‏وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم، بخلاف غيره، ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول ‏:‏ إذا عملت غير عادتك كنت مرائياً فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر إلى قصده الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وقس على هذا ‏، ‏فهذه جملة آفات الرياء، فكن بحاثاً عنها، وتفقد نيتك، فإن الرياء أخفى من دبيب النمل ‏، ‏وينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع طاعته ‏، ‏وإنما يقنع بذلك من خاف الله ورجاه، ولا ينبغي أن يؤيس نفسه من الإخلاص بأن يقول ‏:‏ إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء، وأنا من المخلطين، فيترك المجاهدة في تحصيل الإخلاص، لأن المخلط إلى ذلك أحوج ‏، ‏قال إبراهيم بن أدهم ‏:‏ تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان ‏:‏ دخلت على صومعته فقلت له ‏:‏ منذ كم أنت في صومعتك هذه ‏؟‏ قال منذ سبعين سنة، قلت ‏:‏ ما طعامك ‏؟‏ قال ‏:‏ كل ليلة حمصة، قلت ‏:‏ فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة‏؟‏ قال ‏:‏ ترى ‏‏ الدير الذي بحذائك ‏؟‏ قلت ‏:‏ نعم، قال ‏:‏ إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظموني بذلك، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرتها عز تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة، فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال ‏:‏ أزيدك ‏؟‏ قلت ‏:‏ نعم، قال ‏:‏ أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين حمصة، ثم قال لي ‏:‏ ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير، اجتمعت النصارى فقالوا ‏:‏ يا حنيفي، ما الذي أدلى إليك الشيخ ‏؟‏ قلت ‏:‏ شيئاً من قوته ‏.‏ قالوا ‏:‏ وما تصنع به ‏؟‏ نحن أحق به، ساوم به، قلت ‏:‏ عشرون ديناراً، فأعطوني عشرين ديناراً، فرجعت إلى الراهب، فقال ‏:‏ أخطأت، لو ساومتهم عشرين ألفاً لأعطوك، هذا عز من لا يعبده، فانظر كيف يكون عز من يعبده، يا حنيفي أقبل على عبادة ربك ‏، ‏فقد بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً إلى الخلوة، فهذه آفة عظيمة، وعلامة سلامته منها أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة، ويكون عمله عمل من ليس على الأرض غيره، فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله، والله تعالى أعلم.

.كتاب ذم الكبر والعجب:

وهما فصلان‏:‏

.الفصل الأول في الكبر‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏146‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين} [‏النحل‏:‏23‏]‏‏.‏
وفي الحديث الصحيح من أفراد مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏» ‏‏.‏ وفي ‏‏الصحيحين‏ ‏ عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏«‏قالت النار‏:‏ أوثرت بالمتكبرين‏» ‏‏، ‏وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏«يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يطؤهم الناس لهوانهم على الله عز وجل‏» ‏‏، ‏وقال سفيان بن عيينة رحمة الله ‏:‏ من كانت معصيته في شهوة، فارج له التوبة، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيا فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر، فاحش عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن‏.‏ وفي ‏‏الصحيحين‏ ‏ ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏«من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏لست ممن يصنعه خيلاء‏».
‏واعلم أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته، فيظهر على الجوارح، وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعنى يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً‏، ‏وبهذا ينفصل عن العجب، فان العجب لا يستدعى غير المعجب، حتى لو قدر أن يخلق الإنسان وحده تصور أن يكون معجباً، ولا يتصور أن يكون متكبراً، إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوقه، فإن الإنسان متى رأى نفسه بعين الاستعظام، حقر من دونه وازدراه، وصفة هذا المتكبر، أن ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً واستحقاراً‏.
‏وآفة الكبر عظيمة، وفيه يهلك الخواص، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء‏، ‏وكيف لا تعظم آفته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏، ‏وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين، لأن صاحبه لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، فلا يقدر على التواضع، ولا على ترك الحقد والحسد والغضب، ولا على كظم الغيظ وقبول النصح، ولا يسلم من الازدراء بالناس واغتيابهم‏.‏ فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه‏، ‏ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له‏، ‏وقد تحصل المعرفة للمتكبر، ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ ‏[‏المؤمنون ‏:‏47‏]‏ ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏إبراهيم ‏:‏10‏]‏ وآيات كثيرة نحو هذا، وهذا تكبر على الله وعلى رسوله‏، ‏وقد تقدم أن التكبر على العباد هو احتقارهم واستعظام نفسه عليهم، وذلك أيضاً يدعو إلى التكبر على أمر الله تعالى، كما حمل إبليس كبره على آدم عليه السلام أن امتنع من امتثال أمر ربه في السجود‏، ‏وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبر فقال‏:‏ ‏«الكبر‏:‏ بطر الحق وغمط الناس‏» ‏‏.‏ ومعنى «غمط الناس‏» ‏ الازدراء بهم، واستحقارهم‏.‏ ويروى‏:‏ «غمص الناس» بمعنى غمط الناس‏.‏

.فصل ‏[‏في تقسيم آفات الكبر‏]‏

واعلم أن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاثة درجات‏:‏
الأولى‏:‏ أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلا أنه قد قطع أغصانها‏.‏
الثانية ‏:‏ أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، والإنكار على من يقصر في حقه، فترى العالم يصعر ‏ خده للناس، كأنه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه كأنه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، حين قال ‏:‏‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏215‏]‏
الدرجة الثالثة‏:‏ أن يظهر الكبر بلسانه، كالدعاوى والمفاخر، وتزكية النفس، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التكبر بالنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا‏، ‏قال ابن عباس‏:‏ يقول الرجل للرجل‏:‏ أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات ‏:‏ 13‏]‏‏.
‏وكذلك التكبر بالمال، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكبر بالمال أكثر ما يجرى بين الملوك والتجار ونحوهم‏، ‏والتكبر بالجمال أكثر ما يجرى بين النساء، ويدعوهن إلى التنقص والغيبة وذكر العيوب‏، ‏وأما التكبر بالأتباع والأنصار، فيجرى بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود، وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين‏.‏ وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً، فإن لم يكن في نفسه كمالاً، أمكن أن يتكبر به، حتى إن الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمرة والفجور، لظنه أن ذلك كمال‏، ‏واعلم أن التكبر يظهر في شمائل الإنسان، كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعاً ومتكئاً، وفي أقواله، حتى في صوته ونغمته، وصيغة إيراده الكلام، ويظهر ذلك أيضاً في مشيه وتبختره، وقيامه وقعوده وحركاته وسكناته وسائر تقلباته‏.‏
ومن خصائل المتكبر، أن يحب قيام الناس له‏.‏
والقيام على ضربين‏:‏قيام على رأسه وهو قاعد، فهذا منهي عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار»‏‏.‏ وهذه عادة الأعاجم والمتكبرين‏.‏
الثاني‏:‏ قيام عند مجيء الإنسان، فقد كان السلف لا يكادون يفعلون ذلك‏.‏
قال أنس ‏:‏ لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك‏، ‏وقد قال العلماء‏:‏ يستحب القيام للوالدين والإمام العادل، وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعل في حقه، لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته، والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقداً‏، ‏واستحباب هذا في حق القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك، ويرى أنه ليس بأهل لذلك‏، ‏ومن خصال المتكبر ‏:‏ أن لا يمشى إلا ومعه أحد يمشى خلفه‏، ‏ومنها أن لا يزور أحداً تكبراً على الناس‏، ‏ومنها أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه أو مشيه معه‏، ‏وقد روى أنس رضي الله عنه قال ‏:‏ كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتنطلق به في حاجتها‏، ‏وقال ابن وهب ‏:‏ جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد، وإن فخذي لتمس فخذه فنحيت نفسي عنه، فأخذ ثيابي فجرني إليه وقال‏:‏ لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف منكم رجلا شراً منى‏؟‏‍‍‍‍‍?ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته، وهذا بخلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏.‏
ومنها أن لا يحمل متاعه من سوقه إلى بيته، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وحمله‏.‏ وكان أبو بكر رضي الله عنه يحمل الثياب إلي السوق يتجر فيها‏.‏ واشترى عمر رضي الله عنه لحماً فعلقه بيده وحمله إلى بيته ‏.‏ واشترى على رضي الله عنه تمراً فحمله في ملحفة، فقال له قائل‏:‏ أحمل عنك‏؟‏ قال‏:‏ لا، أبو العيال أحق أن يحمل‏.‏
وأقبل أبو هريرة رضي الله عنه يوماً من السوق وقد حمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة مروان، فقال لرجل‏:‏ أوسع الطريق للأمير‏.‏
ومن أراد إن ينفى الكبر، ويستعمل التواضع، فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سبقت الإشارة إليها في كتاب ‏‏آداب المعيشة‏‏.‏