فصل: وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل في تفاوت الناس في طول الأمل:

والناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتاً كثيراً، منهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم، ومنهم من لا ينقطع أمله بحال، ومنهم من هو قصير الأمل، فروى عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغت ثلاثين ومائه سنه، وما من شيء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملى فإنه كما هو.
وحكي في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبي محمد قالت: كان يقول لي- يعنى أبا محمد- إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أرى رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم.
وعن إبراهيم بن سبط قال: قال لي أبو زرعة: لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك: ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنه، فحدثتني نفسي أن أرجع إليه. وقيل لبعضهم: ألا تغسل قميصك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك.
وعن محمد بن أبي توبة قال: أقام معروف الصلاة ثم قال لي: تقدم، فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلى صلاة أخرى؟ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.
فهذه أحوال الزهاد في قصر الأمل، وكلما قصر الأمل، جاد العمل، لأنه يقدر أن يموت اليوم، فستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر الله تعالى على السلامة، وقدر أنه يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل.
وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ».
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
وقال عمر رضي الله عنه: التؤدة في كل شيء خير، إلا ما كان من أمر الآخر.
وكان الحسن يقول: عجباً لقوم أمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون.
قال سحيم مولى بني تميم: جلست إلى عبد الله بن عبد الله، فأوجز في صلاته، ثم أقبل على وقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر. فقلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت. وكان يصلى كل يوم ألف ركعة.
وكانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يمكن، فكان ابن عمر يقوم في الليل فيتوضأ ويصلى، ثم يغفي إغفاء الطير، ثم يقوم يصلى، يفعل ذلك مراراً. وكان عمير بن هانئ يسبح كل يوم مائه ألف تسبيحه، وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.

.فصل في ذكر شدة الموت وما يستحب من الأحوال عنده:

اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب، ولا هول سوى الموت، لكان جديراً أن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، وتطول فيه فكرته. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، فانتظر أن يدخل عليه جندي يضربه خمس ضربات، لكدرت عليه عيشه ولذته، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وهو غافل عن ذكر ذلك، وليس لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
اعلم أن الموت أشد من ضرب السيف، وإنما يصيح المضروب، ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته، فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه، لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه وعلى كل موضع منه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة. وتجذب الروح من جميع العروق، ويموت كل عضو من أعضائه تدريجاً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يقبل التوبة من العبد مالم يغرغر».
وقد روى أن الملكين الموكلين بالعبد يترائيان له عند الموت، فإن كان صالحاً أثنيا عليه، وقالا: جزاك الله خيراً، وإن كان صحبهما بشر، قالا: لا جزاك الله خيرا.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قالا: قد مات، أتأذن لنا أن تصعد إلى السماء؟ قال: فيقول الله تعالى: إن سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني، فيقولون: فتأذن لنا فنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: إن أرضى مملوءة من خلقي، يسبحوني، فيقولان: فأين تقيم؟ فيقول: قوما على قبر عبدي، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة».
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، وأما صاحب النار الذي ختم له بسوء فهو يبشر بها وهو في تلك الأهوال».
وقد كان كثير من السلف يخافون سوء الخاتمة، وقد ذكر ذلك في كتاب الخوف، وهو لائق بهذا المكان، نسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء، وأن يلطف بنا، وأن يختم لنا بخير إنه جواد كريم.
وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر، فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ينطق بالشهادة، والسكون من علامات اللطف، وهو أمارة على أنه قد رأى الخير، وقد روى أن روح المؤمن تخرج رشحاً.
ويستحب تلقينه: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله».
وينبغي للملقن أن يرفق به، ولا يلح عليه. وقد جاء في حديث آخر: «احضروا موتاكم، ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم العليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن». وذكر الحديث إلى آخره. وفي الحديث الصحيح: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».
وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: «كيف تجدك؟» قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال: «ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه من الذي يخاف».
والرجاء عند الموت أفضل، لأن الخوف سوط يساق به، وعند الموت يقف البصر، فينبغي أن يتلطف به، ولأن الشيطان يأتي حينئذ يسخط العبد على الله فيما يجرى عليه، ويخوفه فيما بين يديه، فحسن الظن أقوى سلاح يدفع به العدو.
وقال سليمان التيمي لابنه عند الموت: يا بني! حدثني بالرخص، لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به.
وينبغي لكل مريد أن تكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات، وجملة الصفات المنجيات، وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.
ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة، فإنه إن سلم منها سلم من غيرها، وهى: البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه.
ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضى بالقضاء والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب الله تعالى، والخشوع.
فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى كفى من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته، وترك الفكر فيها، وشكر الله تعالى على كفايته إياها. وليعلم أن ذلك لم يتم ألا بتوفيق الله تعالى وعونه، ثم يقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع. وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها، كالتوبة والندم مثلاً، خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر.
فأما أكثر الناس من المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة، والمراد، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من جوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، ومالم تطهر الجوارح من الآثام، لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتظهيره. وكل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من هذه الأمور، فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكيرهم فيها. مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر من إظهار نفسه بالعلم، وطلب الشهرة، وانتشار الصيت، إما بالتدريس، أو بالوعظ. ومن فعل ذلك، فقد تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون. وربما ينتهي العلم بأهل العلم إلى أن يتغايروا كما يتغاير النساء وكل ذلك من رسوخ الصفات المهلكات في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها، وهو مغرور فيها.
ومن أحس من نفسه هذه الصفات، فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى، فقد كان الصحابة يتدافعون الفتاوى، وكل منهم يود لو أن أخاه كفاه. وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس، فإنهم قد يقولون: هذا سبب لاندراس العلم، فليقل لهم: دين الإسلام مستغن عنى، ولو مت لم ينهدم الإسلام، وأنا غير مستغن عن إصلاح قلبى، فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه، نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأن يوفقنا لما يرضاه عنا.

.باب ذكر وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

اعلم أن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في كل أحواله، ومعلوم أنه ليس في المخلوقين أحد أحب إلى الله تعالى منه، ولم يؤخره الله تعالى حين انقضى أجله.
وقد لقي صلى الله عليه وآله وسلم من الموت شدة، فروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركوة أو علبة فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات». وفي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه! فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم». وروى ابن مسعود قال: اجتمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه وقال: «مرحباً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله، ورعاكم الله، جمعكم الله، نصركم الله، وفقكم الله، نفعكم الله، رفعكم الله، سلمكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم». قلنا: يا رسول الله: متى أجلك؟ قال: «قد دنا الأجل، والمنقلب إلي الله، والى سدرة المنتهى وجنة المأوى، والفردوس الأعلى». قلنا: يا رسول الله، ففيم نكفنك؟ قال: «في ثيابي هذه إن شئتم، أو يمنية، أو بياض» فقلنا: يا رسول الله! من يصلي عليك؟ وبكينا، فقال: «مهلاً، رحمكم الله، وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي وحبيبي جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت، ثم ملائكة كثيرة، ثم ادخلوا عليّ فوجاً فوجاً، فصلوا عليّ وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بتذكية، ولا برنة، ولا بصيحة، وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أصحابي، وعلى من تابعني على ديني إلى يوم القيامة، ألا واني أشهدكم أنى قد سلمت على كل من دخل في الإسلام» ولقد دخل عليه جبريل قبل موته بثلاثة أيام فقال: يا محمد؟ إن الله أرسلني إليك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال: «أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني مكروباً» ثم أتاه في اليوم الثاني، فأعاد الكلام، وأعاد عليه الجواب، ثم جاءه في اليوم الثالث وأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الجواب، فإذا ملك الموت يستأذن، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: «ائذن له»، فدخل، فوقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك: وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وتفعل يا ملك الموت؟» قال: كذلك أمرت أن أطيعك. فقال جبريل: يا أحمد! إن الله قد اشتاق إليك.
فقال: «فامض لما أمرت به يا ملك الموت»، فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطني في الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا. فت وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستنداً إلى صدر عائشة رضي الله عنها في كساء ملبد، وإزار غليظ، وقامت فاطمة رضي الله عنها تندب وتقول: يا أبتاه! أجاب ربا دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه! من ربه ما أدناه، فلما دفن قالت: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال أبو بكر رضي الله عنه:
لما رأيت نبينا متجندلا ** ضاقت على بعرضهن الدور

وارتعت روعه مستهام واله ** والعظم منى واهن مكسور

أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ** وبقيت منفرداً وأنت حسير

ياليتني من قبل مهلك صاحبي ** غيبت في جدث على صخور

.وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

روى أبو المليح أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر رضي الله عنه فقال: إني أوصيك بوصية، إن أنت قبلت عنى: إن لله عز وجل حقاً بالليل لا يقلبه بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقلت ذلك عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم في الدنيا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً.
ألم تر أن الله أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، ليكون العبد راغباً راهباً لا يلقى بيديه إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق. فإن أنت حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولست تعجزه.
وقيل: لما احتضر جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحديد} [ق: 19]. انظروا ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.

.وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

وعن ابن عمر قال: كان رأس عمر في حجري بعد ما طعن، وكان مرضه الذي ت وفي فيه، فقال: ضع خدي على الأرض، فقلت: وما عليك إن كان في حجري أم على الأرض؟ وظننت أن ذلك تبرم به، فلم أفعل، فقال: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربى.
وروى أنه لما طعن وحمل إلى بيته، وجاء الناس يثنون عليه، جاء رجل شباب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى من الله لك، صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وودت أن ذلك كان كفافاّ، لا لي ولا على، ثم قال: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: عمر يقرأ عليك السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن عند صاحبيه. فمضى وسلم واستأذن عليها، ثم دخل فوجدها قاعدة تبكى، فقالت: عمر يقرأ عليك السلام، ويستأذن أن يدفن عند صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما وراءك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شيء أحب إلى من ذلك، فإذا أنا مت فاحملوني، ثم سلم، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فان أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني، فردوني إلى مقابر المسلمين.
وفي أفراد مسلم من حديث المسور بن مخرمة، أن عمر قال: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه.
وفي خبر آخر: والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت، لافتديت به من هول المطلع.

.وفاة عثمان بن عفان رضي الله عنه:

عن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان رضي الله عنه، قالت: لما كان اليوم الذي قتل فيه عثمان، ظل في اليوم الذي قبله صائماً، فلما كان عند إفطاره، سألهم الماء العذاب فلم يعطوه، فنام ولم يفطر، فلما كان وقت السحر أتيت جارات لي على أجاجير متصلة، فسألتهم الماء العذب، فأعطوني كوزاً من ماء، فأتيته فحركته فاستيقظ، فقلت: هذا ماء عذب، فرفع رأسه فنظر إلى الفجر، فقال: إني قد أصبحت صائماً، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على من هذا السقف ومعه ماء عذب، فقال: «اشرب يا عثمان»! فشربت حتى رويت، ثم قال: «ازدد»، فشربت حتى نهلت، ثم قال: «إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا» قال: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وعن العلاء بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فتشوا خزانته، فوجدوا فيها صندوقاً مقفلا ففتحوه، فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان، بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا، وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله تعالى.

.وفاة على بن أبي طالب رضي الله عنه:

عن الشعبي، قال: لما ضرب على رضي الله عنه تلك الضربة، قال: ما فعل بضاربي؟ قالوا: أخذناه، قال: أطعموه من طعامي، واستقوه من شرابي، فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها، ثم أوصى الحسن أن يغسله وقال: لا تغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً»، امشوا في المشيتين لا تسرعوا بي، ولا تبطئوا، فإن كان خيراً عجلتموني إليه، وإن كان شراً ألقيتموني عن أكتافكم.
وروى أنه لما كانت الليلة التي أصيب فيها على رضي الله عنه أتاه ابن التياح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهو مضطجع متثاقل، فعاد الثانية وهو كذلك، ثم عاد الثالثة فقام يمشى وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت ** فإن الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت ** وإن حل بناديك

فلما بلغ الباب الصغير شد عليه عبد الرحمن بن ملجم فضربه.
ذكر كلمات نقلت عن جماعة عند موتهم من الصحابة وغيرهم وذكر زيارة القبور ونحو ذلك.
لما نزل الموت بالحسن بن على رضي الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرج فقال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها.
وقد ذكرنا ما تقدم من كلام الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم. وروى أن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قال: انظروا هل أصبحنا؟ فأتى فقيل: لم تصبح، حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: لقد أصبحنا، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، ثم قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأن اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وقال أبو مسلم: جئت أبا الدرداء وهو يجود بنفسه ويقول: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ثم قبض رحمه الله.
وبكى سليمان الفارسي عند موته، فقيل له، ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذه الأزواد. وقيل: إنا كان حوله إجانة وجفن ومطهرة.
وروى المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدرى أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشد يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ** جعلت الرجا مني بعفوك سلماً

تعاظمي ذنبي فلما قرنته ** بعفوك ربى كان عفوك أعظما

وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ** تجود وتعفو منة وتكرماً

وينبغي لكل مريد أن تكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات، وجملة الصفات المنجيات، وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.
ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة، فإنه إن سلم منها سلم من غيرها، وهى: البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه.
ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضى بالقضاء والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب الله تعالى، والخشوع.
فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى كفى من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته، وترك الفكر فيها، وشكر الله تعالى على كفايته إياها. وليعلم أن ذلك لم يتم ألا بتوفيق الله تعالى وعونه، ثم يقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع. وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها، كالتوبة والندم مثلاً، خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر.
فأما أكثر الناس من المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة، والمراد، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من جوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، ومالم تطهر الجوارح من الآثام، لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتظهيره. وكل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من هذه الأمور، فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكيرهم فيها. مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر من إظهار نفسه بالعلم، وطلب الشهرة، وانتشار الصيت، إما بالتدريس، أو بالوعظ. ومن فعل ذلك، فقد تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون. وربما ينتهي العلم بأهل العلم إلى أن يتغايروا كما يتغاير النساء وكل ذلك من رسوخ الصفات المهلكات في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها، وهو مغرور فيها.
ومن أحس من نفسه هذه الصفات، فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى، فقد كان الصحابة يتدافعون الفتاوى، وكل منهم يود لو أن أخاه كفاه. وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس، فإنهم قد يقولون: هذا سبب لاندراس العلم، فليقل لهم: دين الإسلام مستغن عنى، ولو مت لم ينهدم الإسلام، وأنا غير مستغن عن إصلاح قلبى، فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه، نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأن يوفقنا لما يرضاه عنا.
قيل: كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقعد إلى القبور، فقيل له ذلك، فقال أجلس إلى قوم يذكروني معادى،، وإن غبت لم يغتابوني.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل على فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوام مقيلاً في أبدانهم، ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله تعالى.
وتستحب زيارة القبور، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ومن زار قبراً فليستقبل وجه الميت، وليقرأ شيئاً من القرآن ويهديه له، ولتكن الزيارة يوم الجمعة».
وقد روى أنه لما مات عاصم الجحدري رآه رجل من أهله في المنام بعد موته بسنتين فقال له: ألست قد مت؟ قال: بلى. قال: وأين أنت: قال عاصم: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبي بكر بن عبد الله المزني نتلاقى أخباركم، قال: قلت له: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات ‍بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قلت: وكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لشرف يوم الجمعة وعظمه.
وحكي عثمان بن سواد الطفاوي وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها: راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء وقالت: يا ذخري ويا ذخيرتي ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد مماتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. قال: فماتت، فكنت آتيها كل جمعة وأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ليلة في منامي فقلت لها: يا أماه ‍‍‍? كيف أنت؟ قالت: يا بني ‍‍‍? إن الموت لكرب شديد، وأنا بحمد الله في برزخ محمود، يفترش فيه الريحان، ويتوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور. فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم، لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا فإني لأسر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، فيقال لي: يا راهبة ? هذا ابنك قد أقبل، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات.
وعن أنس بن منصور قال: كان رجل يختلف إلى الجنائز فيشهد الصلاة عليها، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وقبل حسناتكم، ولا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال ذلك الرجل: فأمسيت ذات ليلة، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، فبينا أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، إنك كنت عودتنا منك هدية. فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعوا بها. قلت: فإني أعود لذلك، فما تركتها بعد.
وقال بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار ? هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمرة بمانديل الحرير. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: هكذا دعاء الأحياء إذا دعوا للموتى واستجيب لهم، جعل ذلك الدعاء على أطباق النور، وخمر بمناديل الحرير، ثم أتى به إلى الذي دعي له من الموتى، فقيل له، هذه هدية فلان إليك.