فصل: تفسير الآيات (197- 206):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (180- 196):

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}
{وَللَّهِ الأسماء الحسنى} التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معانٍ حسنة؛ فمنها ما يستحقه بحقائقه كالقديم قبل كل شيء، والباقي بعد كل شيء، والقادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والواحد الذي ليس كمثله شيء، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها كالغفور والرحيم والشكور والحليم، ومنها ما يوجب التخلق به كالفضل والعفو، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر {فادعوه بِهَا} فسموه بتلك الأسماء {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَئِهِ} واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه نحو أن يقولون: يا سخي يا رفيق، لأنه لم يسم نفسه بذلك. ومن الإلحاد تسميته بالجسم والجوهر والعقل والعلة {يُلْحِدُونَ} حمزة لحد وألحد مال {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} للجنة لأنه في مقابلة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في أحكامهم. قيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين، وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم} سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع إنهماكهم في الغي، فكلما جدد الله عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن ترادف النعم أثره من الله تعالى وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد، وهو استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة {وَأُمْلِى لَهُمْ} عطف على {سَنَسْتَدْرِجُهُم} وهو غير داخل في حكم السين أي أمهلهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} أخذي شديد. سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان. ولما نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون نزل {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم} محمد عليه السلام و{ما} نافية بعد وقف أي أولم يتفكروا في قولهم، ثم نفى عنه الجنون بقوله ما بصاحبهم {مّن جِنَّةٍ} جنون {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} منذر من الله موضع إنذاره {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} نظر استدلال {فِى مَلَكُوتِ السماوات والأرض} الملكوت الملك العظيم {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ} وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد {وَأَنْ عسى} {أن} مخففة من الثقيلة وأصله (وأنه عسى)، والضمير ضمير الشأن وهو في موضع الجر بالعطف على {مَلَكُوتَ}، والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى {أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} ولعلهم يموتون عما قريب فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به، وهو متعلق ب {عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا؟ {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} أي يضلله الله {وَيَذَرُهُمْ} بالياء: عراقي، وبالجزم: حمزة وعلي عطفاً على محل {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد {وَيَذَرُهُمْ} والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم.
الباقون: بالنون {فِي طغيانهم} كفرهم {يَعْمَهُونَ} يتحيرون. ولما سألت اليهود أو قريش عن الساعة متى تكون نزل.
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق {أَيَّانَ} متى واشتقاقه من {أي} فعلان منه لأن معناه أي وقت {مرساها} إرساؤها مصدر مثل المدخل بمعنى الإدخال، أو وقت إرسائها أي إثباتها، والمعنى متى يرسيها الله {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} لا يظهر أمرها لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده {ثَقُلَتْ في السماوات واللأرض} أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة، ويتمنى أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها، وثقل عليه أو ثقلت فيها لأن أهلها يخافون شدائدها وأهوالها {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فجأة على غفلة منكم {يسئلونك كأنّك خفيٌّ عنها} كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه. وأصل هذا التركيب المبالغة، ومنه إحفاء الشارب، أو {عَنْهَا} متعلق ب {يَسْأَلُونَكَ} أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} وكرر {يَسْأَلُونَكَ} و{إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} للتأكيد ولزيادة {كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة، منهم محمد بن الحسن رحمه الله {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنه المختص بالعلم بها {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله} هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء} أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب.
وقيل: الغيب الأجل، والخير العمل، والسوء الوجل. وقيل: لاستكثرت لاعتددت من الخصب للجدب. والسوء الفقر وقد رد. {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} إن أنا إلا عبد أرسلت نذيراً وبشيراً، وما من شأني أن أعلم الغيب. والسلام في {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يتعلق بالنذير والبشير لأن النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم، أو بالبشير وحده والمتعلق بالنذير محذوف أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون.
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} هي نفس آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليطمئن ويميل لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصاً إذا كان بعضاً منه، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وذكر {لِيَسْكُنَ} بعدما أنث في قوله {واحدة} منها زوجها ذهاباً إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} جامعها {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} خف عليها ولم تلق منه ما يلقي بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ولم تستثقله كما يستثقلنه {فَمَرَّتْ بِهِ} فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق، أو حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت.
{فَلَمَّا أَثْقَلَت} حان وقت ثقل حملها {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا} دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعي ويلتجأ إليه فقالا {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا} لئن وهبت لنا ولداً سوياً قد صلح بدنه أو ولداً ذكراً لأن الذكورة من الصلاح {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك. والضمير في {ءاتَيْتَنَا} و{لَنَكُونَنَّ} لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما.
{فَلَمَّا ءاتاهما صالحا} أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} أي آتى أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك {فِيمَا ءاتاهما} أي آتى أولادهما دليله {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسميتهم أولادهم بعبد العزي وعبد مناف وعبد شمس ونحو ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم، أو يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصي أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار.
والضمير في {أَيُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. {شركاً} مدني وأبو بكر أي ذوي شرك وهم الشركاء. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} يعني الأصنام {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أجريت الأصنام مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة، والمعنى أيشركون مالاً يقدر على خلق شيء وهم يخلقون لأن الله خالقهم، أو الضمير في {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} للعابدين أي أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم مخلوقو الله فليعبدوا خالقهم، أو للعابدين والمعبودين وجمعهم كأولي العلم تغليباً للعابدين {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} لعبدتهم {نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كالكسر وغيره بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم {وَإِن تَدْعُوهُمْ} وإن تدعوا هذه الأصنام {إِلَى الهدى} إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} نافع {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية لرؤوس الآي {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي مخلوقون مملوكون أمثالكم {فادعوهم} لجلب نفع أو دفع ضر {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} فليجيبوا {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنهم آلهة. ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} مشيكم {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} يتناولون بها {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي فلم تعبدون ما هو دونكم {قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} واستعينوا بهم في عدواتي {ثُمَّ كِيدُونِ} جميعاً أنتم وشركاؤكم. وبالياء: يعقوب وافقه أبو عمرو في الوصل {فَلاَ تُنظِرُونِ} فإني لا أبالي بكم وكانوا قد خافوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك. وبالياء يعقوب {إِنَّ وَلِيّىَ} ناصري عليكم {الله الذي نَزَّلَ الكتاب} أوحى إليّ وأعزني برسالته {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} ومن سنته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم.

.تفسير الآيات (197- 206):

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
{والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} من دون الله {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} المرئي.
{خُذِ العفو} هو ضد الجهد أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا كقوله عليه السلام: «يسروا ولا تعسروا» {وَأْمُرْ بالعرف} بالمعروف والجميل من الأفعال، أو هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم، وفسرها جبريل عليه السلام بقوله: صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك. وعن الصادق أمر الله نبيه عليه السلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} وإما ينخسنك منه نخس أي بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به {فاستعذ بالله} ولا تطعه. والنزغ: والنخس كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزع نازغاً كما قيل جد جده، أو أريد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب كقول أبي بكر رضي الله عنه: إن لي شيطاناً يعتريني {إنّه سميعٌ} لنزغه {عَلِيمٌ} بدفعه {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان} {طيف} مكي وبصري وعليّ أي لمة منه مصدر من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفاً). وعن أبي عمرو: هما واحد وهي الوسوسة. وهذا تأكيد لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته {تَذَكَّرُواْ} ما أمر الله به ونهى عنه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته. وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله {وإخوانهم} وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين {يَمُدُّونَهُمْ في الغى} أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم {يَمُدُّونَهُمْ} من الإمداد: مدني {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا، وجاز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين والأول أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. وإنما جمع الضمير في {إخوانهم} والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ} مقترحة {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} هلا اخترتها أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} ولست بمقترح لها {هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} هذا القرآن دلائل تبصركم وجوه الحق {وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} به.
{وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها. وقيل: معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتم. وقيل: في استماع الخطبة. وقيل: فيهما وهو الأصح {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} متضرعاً وخائفاً {وَدُونَ الجهر مِنَ القول} ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر {بالغدو والأصال} لفضل هذين الوقتين. وقيل: المراد إدامة الذكر باستقامة الفكر. ومعنى بالغدو بأوقات الغدو وهي الغدوات، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي {وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين} من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه {إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ} مكانة ومنزلة لا مكاناً ومنزلاً يعني الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لا يتعظمون عنها {وَيُسَبّحُونَهُ} وينزهونه عما لا يليق به {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، والله أعلم.