فصل: فصل في أسباب مشاكل الزوجين وعلاجها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أسباب مشاكل الزوجين وعلاجها:

اعلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أنه يقع مشاكل كثيرة بين الزوجين للتنبيه عَلَيْهَا لِتُجْتَب من أسباب المشاكل العائلية سوء خلق أحد الزوجين وكونه يثور لأدني سبب ويغضب لأقل كلمة ولو كانَتْ خارجة سهوًا فكم ثارت في البيوت مشاكل من أسباب ضيق الصدر وسوء الخلق.
وَكَمْ انهارت بيوت فتفرقوا من أجل ضيق الصدر والحمق من الزوج أو الزوجة والغالب أن الزوج أكثر تجنيًا من الزوجة فالمرأة تتحمل من الزوج غالبًا أكثر مِمَّا يتحمل زوجها منها لغروره هَذَا في الزمن الأول أما الآن فالنساء أكثرهن على العكس لأن المرأة في زمننا صار لها الكلام وسيطرت على الرِّجَال في الغالب بأسباب مخالطة الأجانب لأنهم يخضعون لهن ويقدمونهن في كُلّ شَيْء ولا يخرجون عن رأيهن أبدَا.
ومن أسباب المشاكل العائلية سوء الظن من أحدهما وغضبه قبل التذكر والتثَبِّتْ فيقع النزاع وَرُبَّمَا حصل فراق ثُمَّ تبين الأَمْر خلاف الظن.
ومن أسباب المشاكل العائلية تدخل الزوج في الشئون البيتية أكثر مِمَّا تدعو الحاجة أو الضرورة إليه وَكَمْ من رجل فارغ من الْعَمَل يقف مَعَ زوجته في المطبخ ويعترض اعتراضات تافهة واقتراحات يريد بها التحدي والتعجيز وهَذَا تضيق زوجته بفضوله فما تلبث أن تنفجر وتثور ويقع الخصام واللجاج.
ومن أسباب المشاكل سوء فهم كُلّ من الزوجين لطباع الآخر فقَدْ يكون الزوج حاد المزاج شديد الإحساس يتأثر لأقل الأَشْيَاءِ التي يراها مخالفة لذوقه فلا تراعي زوجته فيه هَذَا فمثلاً تتركه وَهُوَ يوجه إليها الكلام وتمزح والمقام يقتضي الجد وتضحك وَهُوَ غَضْبَان ويتكلم بالكلمة.
فتقابله بعشرين كلمة فقل أن تطول المدة قبل الانفجار وقَدْ يجبرها على ما تكره لبسه أو يسكنها بما لا يصلح لمثلها فما تلبث الزوجة أن تحس بضيق الصدر والانقباض ثُمَّ ينقلب الانقباض إلى تبرم ثُمَّ يؤدي إلى الشقاق لأقل سبب وَرُبَّمَا أمرها والعياذ بِاللهِ بقص رأسها أو على أن تحضر عِنْدَ الملاهي.
ومن الأسباب التدخل فيما لا يعني إما منها أو منه وأكثر المشاكل تقع من هَذَا السبب ولهَذَا في الْحَدِيث «من حسن إسلام المرء تركه ما يعنيه».
ومن الأسباب عدم رضا أحدهما بالآخر رضًى صحيح وقبول وانقياد عِنْدَ عقَدْ النكاح بل إكراه أو مجاملة فهَذَا لا يلبث إِلا زمنٌ يسير ثُمَّ يقع الخصام والفراق والدعاوي والمطالبات.
ومن الأسباب تدخل أحد الأبوين بين الزوج والزوجة فتقع المشاكل بينهما ويطول النزاع وقَدْ تقع الفرقة من ذَلِكَ السبب.
ومن الأسباب خروج المرأة من بيتها من غير إذن زوجها وقَدْ كثر هَذَا في زمننا بسبب مخالطة الأجانب أبعدهم الله عنا.
ومن الأسباب خلو الزوجة مَعَ أقارب الزوج الَّذِينَ ليسوا محارم لها ولهَذَا قال صلى الله عليه وسلم: «الحمُو الموت».
ومن الأسباب إذا كَانَ له زوجتان فأكثر ميله إلى إحدى الزوجات فتجد بعض من عنده أكثر من زوجة يحرص على أن يجعل مواعيد الدعوة لطعام أو غيره في ليلة التي يكرهها أو أقل محبة من الأخرى ويأتي في ليلة التي يحبها من حين يصلي العشاء إن كَانَ ممن يشهدون صلاة الجماعة، وبَعْضهمْ يأتي راجحة المحبة في ليلة المرجوحة بغير رضاها والعياذ بِاللهِ.
وأما العادل فينظر إلى الساعة ويضع قرعة للدعوة فأيتهن خرجت في ليلتها عمل بذَلِكَ، هذه هِيَ معظم ما يحصل به المشاكل بين الزوجين فينبغي للإنسان أن يلاحظها ويجعلها علي باله دائمًا ليتجنبها وإذا كَانَ الرجل أكمل عقلاً منها فعَلَيْهِ أن يدمح الزالات البسيطة لتدوم العشرة وتسود المحبة وعَلَيْهَا هِيَ أيضًا أن تحرص كُلّ الحرص على طاعته في غير معصية الله.
إِذَا رَفَعَ الإلهُ مَكَانَ شَخْصٍ ** وَتَهْوَى أَنْ تَكُونَ لَهُ مُسَاعِدْ

أَنِلْهُ مَكَانَ رُتْبَتِهِ تَجِدْهُ ** يُنِيلُكَ إِنْ دَنَوْتَ وَإِنْ تَبَاعَدْ

وَلا تَقُلِ الَّذِي تَدْرِيهِ فِيهِ ** تَكُنْ رَجُلاً عَنِ الْحُسْنَى تَقَاعَدْ

فَكَمْ فِي الْعُرْسِ أَبْهَى مِنْ عَرُوسٍ ** وَلَكِنْ لِلْعَرُوسِ اللهِ سَاعَدْ

آخر:
أَلا يَا غَوَانِي مَنْ أَرَادَتْ سَعَادَةً ** وَتُوقَى عَذَابًا بِالنِّسَا صَارَ مُحْدِقَا

فَأَكْثَرُ أَهْلُ النَّارِ هُمْ حَقِيقَةً ** رَوَيْنَا حَدِيثًا فِيهِ صِدْقًا مُصَدَّقَا

تََُخِّلي التَّبَاهِي تُبْدلُ اللَّهْوَ بِالْبُكَا ** وَتَبْذُلُ كُلَّ الْجُهْدِ بِالزُّهْدِ وَالتُّقَى

وَتَعْتَاضُ عَنْ لِينٍ خُشُونَةً ** وَعَنْ يَابِسٍ فِي الدِّينِ أَخْضَرَ مُورِقَا

رَعَى اللهُ نِسْوَنًا تَبِيتُ قَوَاتِنًا ** وَيُصْبِحُ مِنْهَا الْقَلْبُ بِالْخَوْفِ مُحْرِقَا

تَظِلُّ عَنْ الْمَرْعَى الْخَصِيبِ صَوَائِمًا ** وَيُمْسِي سَمِينُ الْبَطْنِ بِالظَّهْرِ مُلْصَقَا

تَرَى بَيْنَ عَيْنٍ وَالسُّهَادِ تَوَاصًلاً ** وَبَيْنَ الْكَرَى وَالْعَيْنِ مِنْهَا تَفَرُّقَا

وَبَيْنَ مِعَاءٍ وَالْغِذَاءِ تَقَاطُعًا ** وَبَيْنَ خُلُوفِ الْمِسْكِ وَالثَّغْرِ مُلْتَقَى

تَرَى نَاحِلاتٍ قَارِئَاتٍ مَصَاحِفًا ** وَلُؤْلُؤُ بَحْرِ الدُّرِّ فِي الْوَرْدِ مُشْرِقَا

فَدَتْهَا مِن الآفَاتِ كُلُّ نُفُوسِ مَنْ ** يُخَالِفُهَا فِي الْوَصْفِ غَرْبًا وَمَشْرِقَا

خَلِيلِي إِنَّ الْمَوْتَ لا شَكَّ نَازِلٌ ** وَبَيْنَ الأَحِبَّا لا يَزَالُ مُفَرِّقَا

فَجُدَّا لِدَارٍ لا يَزُولُ نَعِيمُهَا ** بِهَا الْحُسْنُ وَاللَّذَاتُ وَالْمُلْكُ وَالْبَقَا

وَلُقْيَا حِسَانٍ نَاعِمَاتٍ مُنَعَّمٌ ** بِهِنَّ سَعِيدٌ سَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَقَا

كَوَاعِبَ أَتْرَابٍ زَهَتْ فِي خِيَامِهَا ** بِظِلٍّ نَعِيمٍ قَطُّ مَا مَسَّهَا شَقَا

كَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَبَيْض نَعَامَةٍ ** كَشَاهَا الْبَهَا وَالنُّورُ وَالْحُسْنُ رَوْنَقَا

تُغَنِّي بِمَا لَمْ تَسْمَع الْخَلْقُ مِثْلَهُ ** وَقَدْ حَبَّرَتْ صَوْتًا رَخِيمًا مُشَوَّقَا

غِنَاهُنَّ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَقَطُّ مَا ** نَبِيدُ وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا شَقَا

وَلا سَخَطٌ وَالرَّاضِيَاتُ بِنَا الْمُنَى ** فَطُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ مِنْ أُولِي التُّقَى

وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

.فَصْل في ذِكْرِ بَعْضِ أَحْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ والرَّدِّ عَلَى مَنْ َأَنْكَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ:

عباد الله قَدْ سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال مُنكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كَانَ مسخوطًا عَلَيْهِ وأعظم من ذَلِكَ الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل ونصب الميزان لمعرفة المقادير.
ثُمَّ جواز الصراط مَعَ دقته وحدته ثُمَّ انتظار النداء عِنْدَ فصل الِقَضَاءِ إما بالإسعاد وإما بالأشقاء فهذه أحوال وأهوال لابد من معرفتها ثُمَّ الإِيمَان بها على سبيل الجزم والتصديق ثُمَّ تطويل الفكر في ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مقداره خمسون ألف سنة.
كما جَاءَ في اْلكِتَاب والسنة يجمَعَ الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي وينفذهُم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو مِنْهُمْ الشمس ويُلجمهم العرق هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي تَذْهَلُ في كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
في ذَلِكَ الْيَوْم يبلغ الأَمْر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الَّذِي فمُهُ في ثديها وَهُوَ أعز شَيْء لديها فَكَيْفَ بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وَتَرَى النَّاسَ كأنهم سُكَارَى من شدة الروع والفزع والخوف الَّذِي صير من رآهم يشبههم بالسكارى لذهاب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} تَكُون الأرض كالسَّفِينَة في البحر عِنْدَ اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها.
فيميد النَّاس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأَمْر وبلوغه أقصى الغايات ولهَذَا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا}.
إنها لهزة عنيفة للقُلُوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافًا وتزلزل زلزالا وتنفض ما في جوفها وتخَرَجَ ما يثقلها من أجساد ونقود وغيرها مِمَّا حملته طويلاً وَهُوَ مشهد يهزُ كُلّ شَيْء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور.
إنه لمشهد مجرد تصوره، يخلع القُلُوب يري الإِنْسَان ما لا يعهد ويواجه ما لا يدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عَنْهُ: {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} ما الَّذِي يزلزلها هكَذَا ويرجها رجًا.
وكأنه من شدة ما نزل يتمايل علي ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يمسك بشَيْء لعله يثَبِّتْ لأن كُلّ ما حوله يمور مورًا شديدًا قَدْ امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب.
يرى الجبال وهي تسير وإذا الجبال سيرت، هذه الجبال وقَدْ نسفت وبست وراءها ذرات في الهواء: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً}، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}.
هذه تصرح وتشير إلى حدث عَظِيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباء يتلاشى ثباتها ورسوخها واستقرارها وتماسكها والإِنْسَان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}.
هنا يشاهد ويواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عَلَيْهِ السَّلام والملائكة صفًا بين يدي الرحمن: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً} بين يدي الرحمن {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}.
وموقف هؤلاء المقربين خاشعين خاضعين لعظمة الله: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}.
موقفهم هكَذَا صامتين لا يتكلمون إِلا بإذن من الرحمن يلقي في النفس الرهبة والرعب والفزع من ذَلِكَ الْيَوْم العَظِيم الَّذِي ينكشف فيه كُلّ مستور ويعلم فيه كُلّ مجهول.
وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزَادَ في موقف الفصل والحساب: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}.
في ذَلِكَ الْيَوْم يكون التغير العَظِيم الشامل للمعهودات السماوات والأرض الشمس مُكورة والنجوم منكدرة والسماء مُنشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار مُعطلة: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}، {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت}، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً}، {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}.
هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إِلا الله إنه حادثٌ عَظِيم ترجُف الأرض منه وتخاف وتنهار فَكَيْفَ بالخلق الضعاف المهازيل الَّذِينَ تهزهم الصواعق هزًا وتخلع قُلُوبهمْ خلعًا: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ}، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً}.
وفي وسط هَذَا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإِنْسَان المذعور أين المفر ويدو ذَلِكَ في سؤاله وكأنما ينظر في كُلّ اتجاه فإذا هُوَ مسدود دونه مأخوذ عَلَيْهِ ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده: {كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانفُذُوا}.
ففي هَذَا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} إِنَّكُم في قَبْضَةً الله: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، إنه ليوم عصيب وموقف رهيب: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كُلّ فرد وكل فرد يقوم وحيدًا لا يأنس بأحد فإذا هُوَ فريد وحيدٌ أمام الديان {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب النَّاس إليه وألصقهم به أولئك الَّذِينَ تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تُمزَّق هذه الروابط وتقطع الوشائج والصلات: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}.
فالهول يفزع النفس ويقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبدادًا فلكل نَفْسهُ وشأنه ولديه الكفاية من الهم الْخَاص به الَّذِي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}.
فها هِيَ ذي الساعة التي يغفل عَنْهَا الغافلون ويلهوا عَنْهَا اللاهْوَن وَيَسْتَعْجِلُ بِهَا المستعجلون: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}.
وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجَاءَ ولا خلاص بل قَدْ أيقنوا في العطب: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}.
هنا يعترفون بالخطيئة ويقرون بالحق الَّذِي جحدوه بالدُّنْيَا ويعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدُّنْيَا لإصلاح ما فات في الدُّنْيَا ومنظرهم إذ ذاك مُفزعٌ مخيفٌ وهم ناكسوا الرؤوس خجلاً وخزيًا.
فالأَمْر أمر فظيع والحال مزعجة أقومًا حاسرين مكروبين وسؤال غيرُ مجاب لفوات وَقْت الإمهال: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ}.
فيا عباد الله انتبهوا من رقدتكم واستدركوا بقية أعماركم واحذروا الانهماك في دار الغرور فالويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفُلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكِتَاب وأخذته والصراط ودقته، والموت، وسكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبة يا لها من جذبة وكربة يا لها من كربة فالمسكين يكابد غُصص المنون داهش العقل كالمحزون.
فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل مفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية حيث لا مال ولا ولد نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجَاءَ طامَعَ ولا حسنة تُزادُ ولا سيئة تُحذف ولا حياة تعاد ويزودك أحبابك بالحزن عَلَيْكَ والبُكَاء فلا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال.
أَلا إِنَّ أَيَّامَ الْحَيَاةِ مَرَاحِلُ ** طَرِيق الْفَتَى مِنْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَاحِلُ

يُسَرُّ بِمَا يَمْضِي لِمَا هُوَ آمِلٌ ** وَيَأْتِي الرَّدَى مِنْ دُونِ مَا هُوَ أَمِلُ

وَمَا يَوْمُهُ إِلا غَرِيمٌ مُحْكَّمٌ ** إِذَا مَا اقْتَضَاهُ نَفْسَهُ لا يُمَاطِلُ

عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي السَّلامَةَ جَاهِدًا ** وَمَرُّ اللَّيَالِي كُلُّهُنَّ غَوَائِلُ

وَنَحْنُ بَنُو الأَيَّامِ نَظْلِمْ نُفُوسَنَا ** وَنَرْجِعُ وَهِيَ الْقَاتِلاتُ الثَّوَاكِلُ

اللَّهُمَّ أقم علم الجهاد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد، وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها، يا كريم يا جواد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وتفكر في حالتهم في المحشر تجد مشهد مكروب ذليل يثير الفزع والخوف: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}.
هذه أبصارهم لا تطرف من الهول الَّذِي فوجئوا به يَقُولُونَ يَا ويلنا وَهُوَ تفجع وتوجع المفجوء الَّذِي تنكشف له الحَقِيقَة المروعة بغتة فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ويدعو بالويل والهلاك ويعترف ويندم ولكن بعد فوات الأوان.
إنها مشاهد يوم القيامة وما يجري فيه من تغيرات كونية ومن اضطرابات نفسية ومن حيرة وتحسر في مواجهة الأحداث وتحسر في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون وفي اغترار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}.
وكَذَلِكَ خروجهم من القبور ينبئ أنهم في كرب وشدة وأنهم أذلاء غير متمكنين من الاستعصاء على الداعي إذ هم يهرولون مقهورين مَعَ خشوع أبصارهم وذلتها لهول ما تحققوا من الْعَذَاب.
قَدْ ملك القلق والخوف قُلُوبهمْ واستولى على أفئدتهم وسكن حركاتهم وقطع أصواتهم تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن والهم العَظِيم الَّذِي لا يرجي له فرج: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}، {تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}.
إن هؤلاء الظالمين الطغاة كَانُوا في الدُّنْيَا متكبرين فناسب أن يكون الذل والصغار هُوَ مظهرهم البارز يوم القيامة الجزاء على الأعمال فعِنْدَ ما يشاهدون الحقائق ويرون الْعَذَاب تتهاوى كبرياؤهم وعظمتهم ويتساءلون في ذل وانكسار وخوف: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}.
في هذه العبارة التي يفهم منها اليأس مَعَ التلهف والانهيار مَعَ التطلع إلى أي بارقة للخلاص ويعرضون على النار خاشعين لا من ورع ولا تقوى ولا من حياء وخجل ولكن من الذل والهوان منكسي أعينهم من الذل والعار ينظرون من طرف خفي.
إنه لمنظر وَمَرْأً فظيعًا صعبًا شنيعًا مجرد تصوره يزعج ويقلق حيث يظهر منه الندم العَظِيم والحزن الطويل والأسف الشديد على ما سلف مِنْهُمْ من الإهمال والتفريط والتضييع الَّذِي لا يمكن تلافيه.
فيا أيها الغَافِل الساهي المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه ومثل نفسك في هَذَا الْيَوْم العَظِيم الجامَعَ للأولين والآخرين فيا لعظم يوم يوجه السؤال فيه لمن قال الله جلا وعلا في حقهم: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}، {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}.
في ذَلِكَ الْيَوْم العصيب ينادون الخلائق واحدًا وَاحدًا يا فلان هَلُمَّ إلى العرض وعِنْدَ ذَلِكَ تنخلع القُلُوب وترتعد الفرائض وتضطرب الجوارح وتنبهت العقول وتتحير وييبس اللسان وتشخص الأبصار.
فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد وفؤاده مضطرب ولبه طائر وفرائضه ترتعد وجوارحه تنتفض ولونه متغير ولِسَانه وشفتاه قَدْ نشف ما بهما من رطوبة وقَدْ عض على يديه ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يسترح ولم يجلس ولم يركب.
والعَالِم والجو عَلَيْهِ مظلم وضاقت عَلَيْهِ الأرض وصَارَت الدُّنْيَا أضيق من سم الخياط مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب والأولين والآخرين وأَهْل السماوات وأتى يتخطى رقاب النَّاس ويخترق الصفوف يقاد كما يقاد الفرس المجنوب وقَدْ رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهى به إلى عرش الرحمن فرموه من أيديهم.
وناداه الله سُبْحَانَهُ وتعالى فدنى بقلب محزون خائف وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاده متحطم متكسر وأعطي كتابه الَّذِي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أحصاها.
فكم من فاحشة نسيها فتذكرها وَكَمْ من ساعة قتلها عِنْدَ منكر وَكَمْ من ليلة أضاعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من فلوس أنفقها في المعاصي وَكَمْ من صلاة ضيعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من زكاة تهاون بها وَكَمْ من صيام في الكذب والغيبة خرقه وَكَمْ من أعراض انتهكها وجلود مزقها وَكَمْ من جيران تأذوا بمجاورته وَكَمْ من بريء قذفه بالزنا واللواط وَكَمْ من محصنة قذفها واتهمها وَكَمْ من مُحصنة حاولها للفساد وَكَمْ من مخالط له أوقعه في المعاصي وَكَمْ من أرحام قطعهم وَكَمْ من مسلم غشه وَكَمْ من ساعة قتلها فيما يُغضب الله حول المنكرات وَكَمْ من زكاة تناساها وَكَمْ من صلاة أضاعها وأسدها.
وَكَمْ من حقوق لخلق الله نسيها أو تناسها ومن أسرار تسمعها لم يؤن له في ذَلِكَ وَكَمْ من محرم نظر إليه ومسلم جس عَلَيْهِ وأوقعه فأفزعه وأزعج أولاده وأحباءه وأثر به الفزع والهم إلى أن أباده وَكَمْ من رحلة إلى بلاد الكفر أقامها وأنفق فيها الأموال في المعاصي.
وَكَمْ من أعداء لله جالسهم ومازحهم وشاركهم وولاهم وداهنهم وَكَمْ من أَوْلِيَاء لله عاداهم وانتهك أعراضهم وَكَمْ من كفار والاهم وصادقهم ومدحهم وَكَمْ من عمل بالرياء أفسده: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}.
فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله وبأي لسان يجيب وبأي قلب يعقل ما يَقُولُ وبأي يد يتناول وبأي عين ينظر وبديع السماوات والأرض أمامه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
إذا فهمت ما سبق من أحوال يوم القيامة وأدلته فاعْلَمْ أن أكثر خلق الله لم يدخل الإِيمَان بالْيَوْم الأخر في قُلُوبهمْ ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم.
ويدل على ذَلِكَ استعداهم لبرد الشتاء وحر الصيف وتهاونهم بجهنم وزمهريرها وزقومها وحميمها وويلها وغساقها مَعَ ما يتبع ذَلِكَ من الشدائد والأهوال والكروب والقلاقل والمزعجات.
ولو كَانُوا مصدقين ما كَانُوا بهذه الحال، اللسان يصدق والْعَمَل يكذب إذا سئلوا عن الْيَوْم الآخر نطقت ألسنتهم وغفلت عَنْهُ قُلُوبهمْ.
ومن قدم له طعام وأخبر أنه مسموم فَقَالَ للذي أخبره صدقت فيه سم ثُمَّ مد يده يتناوله ليأكل كَانَ مصدقًا بلِسَانه ومكذبًا بفعله وتكذيب الْعَمَل أبلغ من تكذيب اللسان قال بَعْضهمْ:
وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ** يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ

لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنٌ ** وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ

عِيَانٌ كَإِنْكَارٍ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ ** بِمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يَتُيَقَّنُ

آخر:
بَادِرْ شَبَابَكَ أَنْ تَهْرَمَا ** وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ تَسْقَمَا

وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ** فَمَا قَصْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا

وَوَقْتُ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ ** لَيَالِي شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا

آخر:
أَمِنْ بَعْدِ شَيْبٍ أَيُّهَا الرَّجُلُ الْكَهْلُ ** جَهِلتَ وَمِنْكَ الْيَوْمَ لا يَحْسُنُ الْجَهْلُ

تَحَكَّمَ شَيْبُ الرَّأْسِ فِيكَ وَإِنَّمَا ** تَمِيلُ إِلَى الدُّنْيَا وَيَخْدَعُكَ الْمَطْلُ

دَعِ الْمَطْلَ وَالتَّسْوِيفَ إِنَّكَ مَيِّتٌ ** وَبَادِرْ بِجِدٍّ لا يُخَالِطُهُ هَزْلُ

سَأَبْكِي زَمَانًا هَدَّنِي بِفُرَاقِهِ ** فَلَيْسَ لِقَلْبِي عَنْ تَذَكُّرِهِ شُغْلُ

عَجِبْتُ لِقَلْبِي وَالْكَرَى إِذْ تَهَاجَرَا ** وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ بَيْنَهُمَا وَصْلُ

أَخَذْتُ لِنَفْسِي حَتْفَ نَفْسِي بِكَفِّهَا ** وَأَثْقَلْتُ ظَهْرِي مِنْ ذُنُوبٍ لَهَا ثِقْلُ

وَبَارَزْتَ بِالْعِصْيَانِ رَبًّا مَهَيْمنًا ** لَهُ الْمَنُّ وَالإِحْسَانُ وَالْجُودُ وَالْفَضْلُ

أَخَافُ وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَعِقَابَهُ ** وَأَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلُ