فصل: باب طهورية ماء البحر وغيره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 كتاب الطهارة

 أبواب المياه

الكتاب مصدر يقال كتب كتابًا وكتابة وقد استعملوه فيما يجمع شيئًا من الأبواب والفصول وهو يدل على معنى الجمع والضم ومنه الكتيبة ويطلق على مكتوب القلم حقيقة لانضمام بعض الحروف والكلمات المكتوبة إلى بعض وعلى المعاني مجازًا‏.‏

وجمعه كتب بضمتين وبضم فسكون‏.‏ وقد اشتهر في لسان الفقهاء اشتقاق الكتابة من الكتب واعترضه أبو حيان بما حاصله أن المصدر لا يشتق من المصدر‏.‏ والطهارة يجوز أن تكون مصدر طهر اللازم فتكون للوصف القائم بالفاعل وأن تكون مصدر طهر المتعدي فتكون للأثر القائم بالمفعول وأن تكون اسم مصدر طهر تطهيرًا ككلم تكليمًا‏.‏ وأما الطهور فقال جمهور أهل اللغة‏:‏ إنه بالضم للفعل الذي هو المصدر وبالفتح للماء الذي يتطهر به هكذا نقله ابن الأنباري وجماعات من أهل اللغة عن الجمهور‏.‏ وذهب الخليل والأصمعي وأبو حاتم السجستاني والأزهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما‏.‏ قال صاحب المطالع‏:‏ وحكي فيهما الضم ‏[‏قال النووي في شرح المهذب بعد ما نقل كلام صاحب المطالع‏:‏ وهو غريب شاذ ضعيف‏]‏‏.‏

والطهارة في اللغة النظافة والتنزه عن الأقذار‏.‏ وفي الشرع صفة حكمية تثبت لموصوفها جواز الصلاة به أو فيه أوله ‏[‏وهذا التعريف يذكره المالكية في كتبهم وينسبه المتأخرون إلى ابن عرفة وهو مع صعوبة فهمه مشتمل على ضمائر لا يهتدي إليها إلا المغرمون بتأويل كلام المؤلفين فإن المراد بضمير به الثوب وضمير فيه المكان وضمير له الشخص ولا يخفى ما فيه من التكلف وكان ينبغي للشارح أن يأتي بتعريف غير هذا كما صنعت في تعليقي على شرح عمدة الأحكام فانظره‏]‏‏.‏ ولما كانت مفتاح الصلاة التي هي عماد الدين افتتح المؤلفون بها مؤلفاتهم‏.‏ والأبواب جمع باب وهو حقيقة لما كان حسيًا يدخل منه إلى غيره ومجاز لعنوان جملة من المسائل المتناسبة‏.‏ والمياه جمع الماء وجمعه مع كونه جنسًا للدلالة على اختلاف الأنواع‏.‏

 باب طهورية ماء البحر وغيره

1- عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏(‏سأل رجل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللَّه إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏)‏‏.‏

رواه الخمسة وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وابن الجارود في المنتقى والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي في سننهما وابن أبي شيبة‏.‏ وحكى الترمذي عن البخاري تصحيحه وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحًا عنده لأخرجه في صحيحه ورده الحافظ وابن دقيق العيد بأنه لم يلتزم الاستيعاب ثم حكم ابن عبد البر مع ذلك بصحته لتلقي العلماء له بالقبول فرده من حيث الإسناد وقبله من حيث المعنى وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه‏.‏

وصححه أيضًا ابن المنذر وابن منده والبغوي وقال‏:‏ هذا الحديث صحيح متفق على صحته‏.‏

وقال ابن الأثير في شرح المسند‏:‏ هذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة في كتبهم واحتجوا به ورجاله ثقات‏.‏ وقال ابن الملقن في البدر المنير‏:‏ هذا الحديث صحيح جليل مروي من طرق الذي حضرنا منها تسع ثم ذكرها جميعًا وأطال الكلام عليها وسيأتي تلخيصها‏.‏ وقد ذكر ابن دقيق العيد في شرح الإمام ‏[‏الإمام هو كتاب جليل جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة عن الأسانيد ثم شرحه مؤلفه العلامة ابن دقيق العيد وبرع فيه وسماه الإلمام‏.‏ قيل إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الاستنباطات والفوائد لكنه لم يكمله‏.‏ وذكر البقاعي في حاشية الألفية أنه أكمله ثم لم يوجد بعد موته منه إلا القليل فيقال إن بعض الحسدة أعدمه لأنه كتاب جليل القدر لو بقي لأغنى الناس عن تطلب كثير من الشروح اهـ‏.‏ ويوجد منه قطع في بعض المكاتب اطلعت عليها‏]‏‏.‏ جميع وجوه التعليل التي يعلل بها الحديث قال ابن الملقن في البدر المنير‏:‏ قلت وحاصلها كما قال فيه إنه يعلل بأربعة أوجه ثم سردها وطول الكلام فيها‏.‏

وملخصها أن الوجه الأول الجهالة في سعيد بن سلمة والمغيرة بن أبي بردة المذكورين في إسناده لأنه لم يرو عن الأول إلا صفوان بن سليم ولم يرو عن الثاني إلا سعيد بن سلمة وأجاب بأنه قد رواه عن سعيد الجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره مهملة وهو ابن كثير رواه من طريقه أحمد والحاكم والبيهقي‏.‏ وأما المغيرة فقد روى عنه يحيى بن سعيد ويزيد القرشي وحماد كما ذكره الحاكم في المستدرك‏.‏

الوجه الثاني من التعليل الاختلاف في اسم سعيد بن سلمة وأجاب بترجيح رواية مالك أنه سعيد بن سلمة من بني الأزرق ثم قال فقد زالت عنه الجهالة عينًا وحالًا‏.‏

الوجه الثالث التعليل بالإرسال لأن يحيى بن سعيد أرسله وأجاب بأنه قد أسنده سعيد بن سلمة وهو وإن كان دون يحيى بن سعيد فالرفع زيادة مقبولة عند أهل الأصول وبعض أهل الحديث‏.‏

الوجه الرابع التعليل بالاضطراب وأجاب بترجيح رواية مالك كما جزم به الدارقطني وغيره‏.‏ وقد لخص الحافظ ابن حجر في التلخيص ما ذكره ابن الملقن في البدر المنير فقال ما حاصله‏:‏ ومداره على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة قال الشافعي‏:‏ في إسناد هذا الحديث من لا أعرفه قال البيهقي‏:‏ يحتمل أنه يريد سعيد بن سلمة أو المغيرة أو كليهما ولم يتفرد به سعيد عن المغيرة فقد رواه عنه يحيى بن سعيد الأنصاري إلا أنه اختلف عليه فيه فروى عنه عن المغيرة بن عبد اللَّه بن أبي بردة أن ناسًا من بني مدلج أتوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فذكره وروي عنه عن المغيرة عن رجل من بني مدلج وروي عنه عن المغيرة عن أبيه وروي عنه عن المغيرة بن عبد اللَّه أو عبد اللَّه بن المغيرة وروي عنه عن عبد اللَّه بن المغيرة عن أبيه عن رجل من بني مدلج اسمه عبد اللَّه وروي عنه عن عبد اللَّه بن المغيرة عن أبي بردة مرفوعًا وروي عنه عن المغيرة عن عبد اللَّه المدلجي هكذا قال الدارقطني وقال‏:‏ أشبهها بالصواب عن المغيرة عن أبي هريرة‏.‏ وكذا قال ابن حبان والمغيرة معروف كما قال أبو داود وقد وثقه النسائي‏.‏ وقال ابن عبد الحكم‏:‏ اجتمع عليه أهل إفريقية بعد قتل يزيد بن أبي مسلم فأبي قال الحافظ فعلم من هذا غلط من زعم أنه مجهول لا يعرف‏.‏

وأما سعيد بن سلمة فقد تابع صفوان بن سليم في روايته له عنه الجلاح بن كثير رواه جماعة‏.‏ منهم الليث بن سعد وعمرو بن الحارث‏.‏ ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم والبيهقي ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن حماد بن خالد عن مالك بسنده عن أبي هريرة‏.‏

وفي الباب عن جابر عند أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة وله طريق أخرى عنه عند الطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس انتهى وذلك لأن في إسناده ابن جريج وأبا الزبير وهما مدلسان قال ابن السكن‏:‏ حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب وعن ابن عباس عند الدارقطني والحاكم بلفظ‏:‏ ماء البحر طهور قال في التلخيص‏:‏ ورواته ثقات‏.‏ ولكن صحح الدارقطني وقفه وعن ابن الفراسي عند ابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة وقد أعله البخاري بالإرسال لأن ابن الفراسي لم يدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة وفي إسناده المثنى الراوي له عن عمرو وهو ضعيف‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ووقع في رواية الحاكم الأوزاعي بدل المثنى وهو غير محفوظ وعن علي بن أبي طالب عند الدارقطني والحاكم بإسناد فيه من لا يعرف‏.‏

وعن ابن عمر عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة وعن أبي بكر الصديق عند الدارقطني وفي إسناده عبد العزيز بن أبي ثابت وهو كما قال الحافظ ضعيف وصحح الدارقطني وقفه وابن حبان في الضعفاء‏.‏

وعن أنس عند الدارقطني وفي إسناده أبان بن أبي ثوبان قال وهو متروك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سأل رجل‏)‏ وقع في بعض الطرق التي تقدمت أن اسمه عبد اللَّه وكذا ساقه ابن بشكوال بإسناده وأورده الطبراني فيمن اسمه عبد وتبعه أبو موسى الحافظ الأصبهاني في كتاب معرفة الصحابة فقال عبد أبو زمعة البلوي الذي سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن ماء البحر قال ابن منيع‏:‏ بلغني أن اسمه عبد وقيل اسمه عبيد بالتصغير‏.‏ وقال السمعاني في الأنساب‏:‏ اسمه العركي وغلط في ذلك وإنما العركي وصف له وهو ملاح السفينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هو الطهور‏)‏ قد تقدم في أول الكتاب ضبطه وتفسيره وهو عند الشافعية المطهر وبه قال أحمد‏.‏ وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة عن مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة أن الطهور هو الطاهر ‏[‏وحكي أيضًا عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وعن بعض أهل اللغة واحتج بقوله‏:‏ تعالى ‏{‏وسقاهم ربهم شرابا طهورًا‏}‏ ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس فعلم أن المراد بالطهور الطاهر‏.‏ وأجيب بأن اللَّه تعالى وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير‏]‏‏.‏ واحتج الأولون بأن هذه اللفظة جاءت في لسان الشرع للمطهر كقوله‏:‏ تعالى ‏{‏ماء طهورًا‏}‏ وأيضًا السائل إنما سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته ويدل على ذلك أيضًا قوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وسلم في بئر بضاعة ‏(‏إن الماء طهور‏)‏ لأنهم إنما سألوه عن الوضوء به‏.‏

قال في الإمام شرح الإلمام‏:‏ فإن قيل لم لم يجبهم بنعم حين قالوا ‏(‏أفنتوضأ به‏)‏ قلنا لأنه يصير مقيدًا بحال الضرورة وليس كذلك‏.‏ وأيضًا فإنه يفهم من الاقتصار على الجواب بنعم أنه إنما يتوضأ به فقط ولا يتطهر به لبقية الأحداث والأنجاس ‏[‏فإن قيل‏]‏ كيف شكوا في جواز الوضوء بماء البحر قلنا يحتمل أنهم لما سمعوا قوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تركب البحر إلا حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل اللَّه فإن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا‏)‏ أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر مرفوعًا ظنوا أنه لا يجزئ التطهر به‏.‏ وقد روي موقوفًا على ابن عمر بلفظ‏:‏ ‏(‏ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة أن تحت البحر نارًا ثم ماء ثم نارًا حتى عد سبعة أبحر وسبع أنيار‏)‏ ‏[‏هو جمع نار فتذكر وتؤنث ولها جموع كثيرة‏]‏‏.‏

وروي أيضًا عن ابن عمر بن العاص أنه لا يجزئ التطهر به ولا حجة في أقوال الصحابة لا سيما إذا عارضت المرفوع والإجماع‏.‏

وحديث ابن عمر المرفوع قال داود‏:‏ رواته مجهولون‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ ضعفوا إسناده‏.‏ وقال البخاري‏:‏ ليس هذا الحديث بصحيح‏.‏ وله طريق أخرى عند البزار وفيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف‏.‏ قال في البدر المنير‏:‏ في الحديث جواز الطهارة بماء البحر وبه قال جميع العلماء إلا ابن عبد البر وابن عمر وسعيد بن المسيب‏.‏ وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وروايته ترده وكذا رواية عبد اللَّه بن عمر‏.‏

وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحسر لا ينفي طهورية غيره من المياه لوقوع ذلك جوابًا لسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر وعلى تسليم أنه لا تخصيص بالسبب ولا يقصر الخطاب العام عليه فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطهورية عن غير مائه عموم مخصص بالمنطوقات الصحيحة الصريحة القاضية باتصاف غيره بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحل ميتته‏)‏ فيه دليل على حل جميع حيوانات البحر حتى كلبه وخنزيره وثعبانه وهو المصحح عند الشافعية وفيه خلاف سيأتي في موضعه‏.‏ ومن فوائد الحديث مشروعية الزيادة في الجواب على سؤال السائل لقصد الفائدة وعدم لزوم الاقتصار وقد عقد البخاري لذلك بابًا فقال باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله وذكر حديث ابن عمر ‏(‏أن رجلًا سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما يلبس المحرم فقال لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبًا مسه الورس أو الزعفران فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين‏)‏ فكأنه سأله عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاد حالة الاضطرار وليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر تقتضي ذلك‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وفي حديث الباب دليل على أن المفتي إذا سئل عن شيء وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه ولم يكن ذلك تكلفًا لما لا يعينه لأنه ذكر الطعام وهم سألوه عن الماء لعلمه أنهم قد يعوزهم الزاد في البحر انتهى‏.‏ وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة بل المراد أن الجواب يكون مفيدًا للحكم المسؤول عنه‏.‏ وللحديث فوائد غير ما تقدم قال ابن الملقن‏:‏ إنه حديث عظيم أصل من أصول الطهارة مشتمل على أحكام كثيرة وقواعد مهمة‏.‏ قال الماوردي في الحاوي‏:‏ قال الحميدي‏:‏ ‏[‏الحميدي هذا هو شيخ البخاري وصاحب الإمام الشافعي رحمهم اللَّه ورضي عنهم‏]‏‏.‏ قال الشافعي‏:‏ هذا الحديث نصف علم الطهارة‏.‏

وعن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا فأتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بوضوء فوضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤا من عند آخرهم‏)‏‏.‏

متفق عليه ومتفق على مثل معناه من حديث جابر بن عبد اللَّه‏.‏

لفظ حديث جابر ‏(‏وضع يده صلى اللَّه عليه وسلم في الركوة فجعل الماء يثور ‏[‏أي ينبع بقوة وشدة‏]‏‏.‏ بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قلت‏:‏ كم كنتم قال‏:‏ لو كنا مائة ألف لكفانا قال‏:‏ كنا خمس عشرة مائة‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحانت‏)‏ ‏[‏أي دخل وقتها‏]‏‏.‏ الواو للحال بتقدير قد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الوضوء‏)‏ بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتي‏)‏ بضم الهمزة على البناء للمفعول وقد بين البخاري في رواية أن ذلك كان بالزوراء وهي سوق المدينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بوضوء‏)‏ بفتح الواو أيضًا أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به‏.‏ ووقع في رواية للبخاري فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير فصغر أن يبسط فيه صلى اللَّه عليه وسلم كفه فضم أصابعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينبع‏)‏ بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها قاله في الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى توضئوا من عند آخرهم‏)‏ قال الكرماني‏:‏ حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم‏.‏ وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال الذين هم في آخرهم‏.‏ وقال التيمي‏:‏ المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر وقال النووي‏:‏ من هنا بمعنى إلى وهي لغة وتعقبه الكرماني بأنها شاذة ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند ولا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة‏.‏ والحديث يدل على مشروعية المواساة بالماء عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه وعلى أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل لا يصير الماء مستعملًا‏.‏ واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب لا حتم وسيأتي تحقيق ذلك‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث شهده جمع من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره ولطلب الناس علو السند وناقضه القاضي عياض فقال‏:‏ هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات عن الجم الغفير عن الكافة متصلًا عن جملة من الصحابة بل لم يؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك فهو ملتحق بالقطعي‏.‏ قال الحافظ‏:‏ فانظر كم بين الكلامين من التفاوت انتهى‏.‏

ومن فوائد الحديث أن الماء الشريف يجوز رفع الحدث به‏.‏ ولهذا قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وفيه تنبيه أنه لا بأس برفع الحدث من ماء زمزم لأن قصاراه أنه ماء شريف متبرك به والماء الذي وضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يده فيه بهذه المثابة‏.‏ وقد جاء عن علي كرم اللَّه وجهه في حديث له قال فيه‏:‏ ‏(‏ثم أفاض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ‏)‏ رواه أحمد انتهى‏.‏

وهذا الحديث هو في أول مسند علي من مسند أحمد بن حنبل ولفظه حدثنا عبد اللَّه يعني ابن أحمد بن حنبل حدثني أحمد بن عبدة البصري حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه عن زيد بن علي بن حسين بن علي عن أبيه علي بن حسين عن عبيد اللَّه بن أبي رافع مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقف بعرفة فذكر حديثًا طويلًا وفيه ‏(‏ثم أفاض فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ثم قال انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت‏)‏ الحديث‏.‏

وهذا إسناد مستقيم لأن عبد اللَّه بن أحمد ثقة إمام وأحمد بن عبدة الضبي البصري وثقه أبو حاتم والنسائي والمغيرة بن عبد الرحمن قال في التقريب‏:‏ ثقة جواد من الخامسة وأبوه عبد الرحمن قال في التقريب‏:‏ من كبار ثقات التابعين وعبيد اللَّه بن أبي رافع كان كاتب علي وهو ثقة من الثالثة كما في التقريب وقال ابن معين‏:‏ لا بأس به وقال أبو حاتم‏:‏ لا يحتج بحديثه‏.‏ وأما الإمامان زيد بن علي ووالده زيد العابدين فهما أشهر من نار على علم وقد أخرج هذا الحديث أهل السنن وصححه الترمذي وغيره وشربه صلى اللَّه عليه وسلم من زمزم عند الإفاضة ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث جابر الطويل بلفظ‏:‏ ‏(‏فأتى يعني النبي صلى اللَّه عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوًا فشرب منه‏)‏ وهو في المتفق عليه من حديث ابن عباس بلفظ‏:‏ ‏(‏سقيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم‏)‏ وفي رواية ‏(‏استسقى عند البيت فأتيته بدلو‏)‏ والسجل بسين مهملة مفتوحة فجيم ساكنة الدلو المملوء فإن تعطل فليس بسجل‏.‏ ويأتي تمام الكلام عليه في باب تطهير الأرض‏.‏ ولحديث الباب فوائد كثيرة خارجة عن مقصود ما نحن بصدده فلنقتصر على هذا المقدار‏.‏