فصل: تفسير الآيات (26- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكانت في البيت كوَّةٌ يدخل منها الضوء، فَدَخَلَ طيرٌ صغيرٌ من الذهب، ووقع قريبًا منه، وكان لداود ابنٌ صغيرٌ فَهَمَّ أن يأخذَه ليدفعَه إلى ابنه، فتباعَدَ عنه. وجاء في التفاسير: أنه كان إبليس، قد تصوَّر له في صورة طير، فَتَبِعَه داود، ولم يزل الطائرُ يتباعد قليلًا قليلًا، وداود يتبعه حتى خَرَجَ من الكوة، وَنَظَر داود في إثره فَوَقَعَ بَصَرُه على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردةً، فعاد إلى قلبه منها شيء، فكان هذا السبب.
ويقال لم يَرْعَ الاهتمامَ بسبب وَلَدِه حتى فعل به ما فعل، وفي ذلك لأولي الأبصار عِبْرَةٌ.
ويقال لم يكن أوريا قد تزوَّجَ بها بَعْدُ، وقد كان خَطَبَها، وأجابَتْه في التزوج به، فَخَطَبَ داود على خِطْبَتِه. وقيل بل كانت امرأتَه وسأله أن ينزل عنها، فَنَزَلَ علىأمره وتزوجها. وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقُتِلَ وتزوَّج بها. فلمَّا تَسَوَّرَ الخصمان عليه، وقيل دَخَلاَ من سور المحراب أي أعلاه ولذلك:-
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَان بَغَا بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}.
نحن خصمان ظَلَمَ بعضُنا بعضًا، فاحكُمْ بيننا بالعدل.
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} {أَكْفِلْنِيهَا} أي انزلْ عنها حتى أكفلَها أنا، {وَعَزَّنِى في الْخِطَابِ}. أي غلبني، فقال داود:
قوله جلّ ذكره: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} فضحك أحدهما في وجه صاحبه، وصَعدَ إلى السماء بين يديه، فَعَلِمَ داودُ عند ذلك أنه تنبيهٌ له وعتابٌ فيما سَلَفَ منه، وظنَّ واستيقن أنه جاءَتْه الفتنةُ الموعودة: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يومًا لا يرفع رأسَه من السجود إلا للصلاة المكتوبة عليه، وأخذ يبكي حتى نَبَتَ العُشبُ من دموعه، ولم يأكل ولم يشرب في تلك المدة، حتى أوحى اللَّهُ إليه بالمغفرة، فقال: يا رب، فكيف بحديث الخصم؟ فقال: إني استوهبْتُك منه، وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} إن له عندنا لَقُربةً وحُسْنَ رجوع، وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجًا بدموعه. ويقال لمَّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وَجَدَ المغفرةَ والتجاوز. وهكذَا مَنْ رجع في أوائل الشدائد إلى الله فاللَّهُ يكفيه مما ينوبه، وكذلك مَنْ صَبَرَ إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنَّ زَلّةً أَسَفُكَ عليها يوصلك إلى ربِّك أَجْدَى عليك من طاعةٍ إعجابُكَ بها يُقْصِيكَ عن ربِّك. اهـ.

.قال السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قِصَّةِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَكْثَرُوا.
وَذَلِكَ مَشْهُورٌ جِدًّا، وَذَكَرُوا أُمُورًا مِنْهَا مَا هُوَ مُنْكَرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ جِدًّا؛ وَمِنْهَا مَا ارْتَضَاهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عِنْدِي مُنْكَرٌ.
وَتَأَمَّلْت الْقُرْآنَ فَظَهَرَ لِي فِيهِ وَجْهٌ خِلَافُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
فَإِنِّي نَظَرْت قَوْله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} فَوَجَدْته يَقْتَضِي أَنَّ الْمَغْفُورَ فِي الْآيَةِ، فَطَلَبْته فَوَجَدْته أَحَدَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إمَّا ظَنُّهُ وَإِمَّا اشْتِغَالُهُ بِالْحُكْمِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَإِمَّا اشْتِغَالُهُ بِالْعِبَادَةِ عَنْ الْحُكْمِ أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ: {الْمِحْرَابَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ دَاوُد أَعْبَدُ الْبَشَرِ وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ انْقَطَعَ فِي الْمِحْرَابِ لِلْعِبَادَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَجَاءَتْ الْخُصُومُ فَلَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا فَتَسَوَّرُوا إلَيْهِ وَلَيْسُوا مَلَائِكَةً وَلَا ضُرِبَ بِهِمْ مَثَلٌ وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ تَخَاصَمُوا فِي نِعَاجٍ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إلَيْهِ حَكَمَ فِيهِمْ ثُمَّ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ وَكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ خَافَ أَنْ يَكُونَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَتَنَهُ بِذَلِكَ إمَّا لِاشْتِغَالِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَإِمَّا لِاشْتِغَالِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ بِالْحُكْمِ تِلْكَ اللَّحْظَةَ وَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ فَتَنَهُ أَيْ امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ هَلْ يَتْرُكُ الْحُكْمَ لِلْعِبَادَةِ أَوْ الْعِبَادَةَ لِلْحُكْمِ؟ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» فَاسْتِغْفَارُهُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَظْنُونَيْنِ، أَعْنِي تَعَلَّقَ الظَّنُّ بِأَحَدِهِمَا.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} فَاحْتَمَلَ الْمَغْفُورُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ واحْتَمَلَ ثَالِثًا وَهُوَ ظَنُّهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يُرِدْ فِتْنَتَهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ إظْهَارَ كَرَامَتِهِ.
وَانْظُرْ قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} كَيْفَ يَقْتَضِي رِفْعَةَ قَدْرِهِ وَقوله: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً} يَقْتَضِي ذَلِكَ وَيَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْحُكْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ حَمَلْته حَصَلَ تَبْرِئَةُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا يَقُولُهُ الْقُصَّاصُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ ص أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} كَانَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ إشْعَارٌ بِهَضْمِهِمْ جَانِبَهُ فَغَارَ اللَّهُ لِذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَتِهِ وَلَا لَهُمْ مِلْكٌ.
وَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مَهْزُومُونَ.
وَكَأَنَّهُ يَقُولُ وَمَا قَدْرُ هَؤُلَاءِ؟ {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} وَاذْكُرْ مَنْ آتَيْنَاهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ؛ وَهُوَ أَخُوك وَأَنْتَ عِنْدَنَا أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْهُ.
وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَفْرَحُ لِإِخْوَتِهِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ كَمَا لَوْ حَصَلَ لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ وَأَكْثَرَ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رُتْبَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَكْمَلُ وَإِذَا ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ احْتَقَرَ مَا قُرَيْشٌ فِيهِ.
وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي أُوتُوهُ وَافْتَخَرُوا بِهِ لَا شَيْءَ.
فَهَذَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذِكْرِهِ ثُمَّ اسْتَطْرَدَ فَذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَصْفُهُ بِقوله: {ذَا الْأَيْدِ} لِأَنَّ الصَّبْرَ يَحْتَاجُ إلَى أَيْدٍ وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال صاحب التفسير الواضح:

ولما مدح اللّه داود وذكر له صفات عشرا كلها ثناء عليه أتبع ذلك بذكر حادثة له. وبدأها باستفهام للتنبيه على القصد وسمو الغرض ولفتا للنظر، ألا ترى إلى قوله: {نبأ} والنبأ: هو الخبر المهم، وهذه القصة كانت مثار نقاش كثير من قديم الزمن، وخب فيها وأوضع القصاص ونقلة الأخبار، وقد ساعدهم على ذلك أن في التوراة والإنجيل ما يثبت لبعض الأنبياء- كداود- ما يترفع عنه عامة الناس، فكيف الحال مع الأنبياء والمرسلين؟
ونحن- المسلمين- نقول بعصمة الأنبياء، أي: ترفعهم عن الدنايا وبعدهم عن سفساف الأمور، فإنا نرى أن زعماء الإصلاح قوم غير عاديين يكونون غالبا بعيدين عن الدنايا والأنبياء- عليهم السلام- أولى بذلك منهم، وهم قوم اصطفاهم اللّه واختارهم، وصنعهم على يده فأرواحهم طاهرة، ونفوسهم عالية، يستحيل عليهم ما قاله الإسرائيليون في حقهم ونقله بعض علماء المسلمين ودونوه في كتبهم، وإن كنا رأينا كثيرا من العلماء نفى مثل هذه الأقوال بشدة كالفخر والبيضاوي وغيرهم.
ونحن نسوق القصة على أساس أن داود نبي اللّه وهو معصوم من الزنا والقتل والدس والوقيعة، فإن ذلك غير مقبول بحال من الأحوال، وسياق القصة يثبت ذلك فالقرآن قد ذكر لداود صفات كلها مدح وثناء فإنه تواب أواب وله زلفى ومكانة عند ربه، وصاحب قوة وفضل في عمله ثم ذكر القصة وأردفها بذكر مدائح له وهذا كله يتنافى مع وصفه بالفعل المنكر والعمل القبيح.
بعض الناس أثبت لداود أنه فعل الكبيرة كالزنا والقتل، وبعضهم أثبت له بعض الصغائر التي لا تليق.
وفي الواقع تتلخص الحادثة: أن داود كان ملكا له سلطان، وله أتباع وخدم، وله مصالح مادية مع الناس، وهذا كله يوجد له أعداء. واتفق أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن ينالوا من نبي اللّه داود، وكان له يوم يخلو فيه للعبادة، وانتهزوا الفرصة وتسوروا عليه المحراب، فلما دخلوا عليه ووجدوا عنده ما يمنعهم من ذلك، اختلقوا كذبا وزورا سببا لدخولهم فقالوا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، ولا تجر، واهدنا إلى سواء السبيل، ويجوز أن يكونا متخاصمين حقيقة، ولما دخلوا على داود بلا إذن، وتوجس منهم خيفة وظن بهم الظنون، وهم بذلك أن يصيبهم بسوء كانت هذه الواقعة فتنة وابتلاء لداود، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام، وتاب عما دار بخلده من ظن، وخر راكعا فتاب اللّه عليه وغفر له.
أما قصتهما كما أخبر فهي: إن هذا أخى، أي: في الدين والإنسانية له تسع وتسعون نعجة- هي الواحدة من الغنم أو بقر الوحش- ولى نعجة واحدة، فقال صاحب الغنم الكثيرة أعطنى نعجتك أكفلها لك وأضمها لغنمي وغلبه في المخاصمة والمجادلة.
قال داود متسرعا قبل أن يسمع جواب الخصم الثاني- ولعل هذا هو الذنب الذي ألم به داود-: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء والشركاء ليبغى بعضهم على بعض حبا في الدنيا، وشحا في النفوس إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغى بعضهم على بعض وقليل ما هم.
وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة فاستغفر ربه مما ألم به وتاب، وخر راكعا وصلى للّه قائما وساجدا وأناب، فغفر له ربه ذنبه- لا تنس أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وإن لداود عند ربه لقربى ومنزلة كريمة، وحسن مآب، أليس وصف داود بعد القصة بأن له زلفى وحسن مآب يدل على أنه عبد صالح أواب يستحيل عليه الإلمام بمعصية تغضب اللّه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْم} الآية.
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك، والجواب أن الخصم في الأصل مصدر خصمه والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكّرته، وعليه فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان ويجوز جمعه وتثنيته لتناسي أصله الذي هو المصدر وتنزيله منزلة الوصف.
قال ابن مالك:
ونعتوا بمصدر كثيرا ** فالتزموا الإفراد والتذكيرا

. اهـ.

.تفسير الآيات (26- 29):

قوله تعالى: {يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
قوله تعالى عقبها على هيئة الاستثمار منها صارفًا القول عن مظهر العظمة إلى المواجهة بلذيذ الخطاب، على نحو ما يجري بين الأحباب {يا داود}.
ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر، أكده لذلك وإظهارًا لأنه مما يرغب فيه لحسنه وجميل أثره وينشط غاية النشاط لذكره فقال: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {جعلناك} فلا تحسب لشيء من أسبابه حسابًا ولا تخش له عاقبة {خليفة} أي من قبلنا تنفذ أوامرنا في عبادنا فحكمك حكمنا، وحذف ما يعلم أنه مراد من نحو {قلنا} إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود إعلامًا بصدق ظنه، وقال: {في الأرض} أي كلها إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها، فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها، ولم يذكر المخلوف تعظيمًا له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بفي، وأشار الإطلاق والتعبير بآل إلى أنها الأرض الكاملة لانبساط الحق منها بإبراهيم عليه السلام وذريته على سائر الأرض وهو خليفة في جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم فيها صح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى قومه خاصة فيكون ما يؤديه إليه واجبًا عليه، وأما بقية الناس فأمره معهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما فعله منه صح ومضى، ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل بابنه سليمان عليه السلام فاستوفى الإطلاق {وآل} المكملة أقصى ما يراد منه، إعلامًا بأن كلام القدير كله كذلك وإن لم يظهر في الحالة الراهنة، وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر وبسببه محمد صلى الله عليه وسلم كان خليفة بالفعل في أرض العرب التي هي الأرض كلها لأن الأرض دحيت منها وبيتها لأول بيت وضع للناس وهو قيام لهم، ومن انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض وفي جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى، فقد أعطى تميمًا الداري رضى الله عنهارض بلد الخليل من بلاد الشام قبل أن يفتح وصح ونفذ، وأعطى شويلًا- رضى الله عنه بنت بقيلة من أهل الحيرة وصح ذلك ونفذ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه صلى الله عليه وسلم الذي هو من ذرية داود عليه السلام ثم في جميع الوجود يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه، ويغبطه الأولون والاخرون بذلك المقام المحمود.
ولما تمت النعمة، سبب عنها قوله: {فاحكم بين الناس} أي الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا {بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع.
ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه لما لها من الشهوات، وأعظم جناياته وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله، مشيرًا بصيغة الافتعال إلى أنه سبحانه عفا الخطرات، وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه توبة إلى الله تعالى: {ولا تتبع الهوى} أي ما يهوى بصاحبه فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان، ثم سبب عنه قوله: {فيضلك} أي ذلك الاتباع أو الهوى لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقًا فغلب صاحبها عن ردها عنه، ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى تعظيمًا لأمر سبيله، وحثًا على لزومه والتشرف بحلوله، فقال: {عن سبيل الله} أي طريقه التي شرعها للوصول إليه بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل، ولا يوصل إليه بدونها لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية، والإهمال لتكميل القوى الروحانية، الموصلة إلى السعادة الأبدية، فإن دواعي البدن والروح متضادتان فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى.
ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى، ميالة عن السوى، قال معللًا للنهي مؤكدًا لما للنفس من التعللات عند المخالفة بالكرم والمغفرة الدافع للعذاب: {إن الذين يضلون} أي يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى الموجب لاتباع الهوى المقتضي لأن يكون متبعه ضالًا {عن سبيل الله} إعادة تفخيمًا لأمره وتيمنًا بذكره وإيذانًا بأن سبيله مأمور به مطلقًا من غير تقييد بداود عليه السلام ولا غيره فيه {لهم عذاب شديد} أي بسبب ضلالهم.