فصل: الْفَصْلُ الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.الْفَصْلُ الثَّانِي:

إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي إبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تُوجَدْ وَوَجَدَ ابْنَ اللَّبُونِ فَعِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ أَخْذُ ابْنِ اللَّبُونِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَعَيَّنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي وَاسْتَدَلَّا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ» ذَكَرٍ عَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ اللَّبُونِ عِنْدَ عَدَمِ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا اعْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمُعَادَلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ مَعْنًى، فَإِنَّ الْإِنَاثَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ قِيمَةً مِنْ الذُّكُورِ وَالْمُسِنَّةَ أَفْضَلُ قِيمَةً مِنْ غَيْرِ الْمُسِنَّةِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةَ السِّنِّ فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَقَامَ زِيَادَةِ الْأُنُوثَةِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَنُقْصَانَ الذُّكُورَةِ فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَقَامَ نُقْصَانِ السِّنِّ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَلَكِنْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَلَوْ عَيَّنَّا أَخْذَ ابْنِ اللَّبُونِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ أَوْ الْإِجْحَافِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَدَاءُ الْقِيمَةِ:

إنَّ أَدَاءَ الْقِيمَةِ مَكَانَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْوَاجِبِ حَتَّى لَقَّبُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالْإِبْدَالِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مَعَ قِيَامِ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا (حُجَّتُهُ) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ»، وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا هُوَ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْمُؤْتَى غَيْرُ مَذْكُورٍ فَالْتَحَقَ بَيَانُهُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ فَتَكُونُ الشَّاةُ حَقًّا لِلْفَقِيرِ بِهَذَا النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُقَدَّرٌ بِأَسْنَانٍ مَعْلُومَةٍ شَرْعًا فَلَا يَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا أَوْ يُقَالُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِمَحِلٍّ عُيِّنَ فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَالسُّجُودِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ لَمْ يُتَأَدَّ بِالْخَدِّ وَالذَّقَنِ، وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ الْبَعِيرِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِاعْتِبَارِ النَّصِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ مَالٌ، وَبَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي لَا لِتَقْيِيدِ الْوَاجِبِ بِهِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي تَعِزُّ فِيهِمْ النُّقُودُ وَالْأَدَاءُ مِمَّا عِنْدَهُمْ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ»، وَكَلِمَةُ فِي حَقِيقَةً لِلظَّرْفِ وَعَيْنُ الشَّاةِ لَا تُوجَدُ فِي الْإِبِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَدْرُهَا مِنْ الْمَالِ «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى الْمُصَدِّقِ، وَقَالَ: أَلَمِ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَقَالَ السَّاعِي أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ» إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ بِالْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ آخُذُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ أَوْ قَالَ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَلَّكَ الْفَقِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَدَّى بَعِيرًا عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ» فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الشَّاةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ سَدُّ الْخَلَّةِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَظْهَرَ وَلَا نَقُولُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ حَقُّ الْفَقِيرِ.
وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَلَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وُعِدَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَنَّهُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِكِفَايَتِهِ لَهُ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِكِفَايَةِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِكِفَايَتِهِمْ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ وَلَا مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالسُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا حَتَّى لَا يَتَنَفَّلَ بِهِ وَلَا يُصَارَ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يُقَامُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ فَقُرْبَةٌ وَفِيهِ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ إنَّ ظَاهِرَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَى الْمُصَدِّقِ يُعَيِّنُ أَيَّهَا شَاءَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى سِنًّا دُونَ الْوَاجِبِ وَفَضْلِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى سِنًّا فَوْقَ الْوَاجِبِ وَاسْتَرَدَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ حَتَّى إذَا عَيَّنَ شَيْئًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اعْتَبَرَ التَّيْسِيرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ (قَالَ) وَلَيْسَ فِي الْحِمْلَانِ وَالْفِصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ زَكَاةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقُلْتُ مَا تَقُولُ فِيمَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حَمَلًا، فَقَالَ: فِيهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ فَقُلْتُ رُبَّمَا تَأْتِي قِيمَةُ الشَّاةِ عَلَى أَكْثَرِهَا أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا فَتَأَمَّلَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَا وَلَكِنْ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَوَ يُؤْخَذُ الْحَمَلُ فِي الزَّكَاةِ؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إذًا لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي أَبُو يُوسُفَ وَبِقَوْلِهِ الثَّالِثِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِهِ حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَجْلِسٍ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَلَمْ يَضِعْ شَيْءٌ مِنْهَا.
فَأَمَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ»، وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِنْتَ مَخَاضٍ تَجِبُ شَاةٌ فِيهَا وَلَا تَجِبُ الشَّاةُ فِي تِلْكَ الْوَاحِدَةِ بَلْ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا جَازَ إيجَابُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ شَاةٍ بِاعْتِبَارِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْفِصْلَانِ جَازَ إيجَابُ الشَّاةِ بِاعْتِبَارِ خَمْسٍ مِنْ الْفِصْلَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ عَفْوٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَا يَزْدَادُ بِهَا الْوَاجِبُ، فَكَذَلِكَ نُقْصَانُ السِّنِّ عَفْوٌ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ الْوَاجِبُ (وَحُجَّتُنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَقَالَ: لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا» وَإِيجَابُ الْمُسِنَّةِ فِي الصِّغَارِ يُؤَدِّي إلَى هَذَا، ثُمَّ رُبَّمَا تَكُونُ قِيمَةُ الْمُسِنَّةِ آتِيَةً عَلَى أَكْثَرِ النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَأَخْذُ الْمُسِنَّةِ مِنْ الصِّغَارِ فِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ مُسِنَّةً، فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْمَحِلِّ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْعَنَاقِ مَدْخَلًا فِي الزَّكَاةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الصِّغَارِ، ثُمَّ اُعْتُبِرَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ وَلَا يَعْدِمُهَا، وَنُقْصَانُ الْوَصْفِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَصْلًا حَتَّى إنَّ فِي الْعِجَافِ وَالْمَهَازِيلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَذَلِكَ نُقْصَانُ السِّنِّ وَلَنَا حَدِيثُ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ «إيَّانَا مُصَدِّقُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنَ شَيْئًا، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلسَّاعِي: عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ، وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ أَخْذِ الصِّغَارِ» عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْنَانٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا مَدْخَلَ لِلصِّغَارِ فِيهَا مَقْصُودًا كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ الَّتِي اعْتَبَرَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ فِي الصِّغَارِ وَبِهِ فَارَقَ الْعِجَافَ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَسْنَانَ تُؤْخَذُ فِيهَا مَعَ الْعَجَفِ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ اعْتَبَرَ السِّنَّ فِي الْمَأْخُوذِ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّمَسُّكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعِقَالِ مَدْخَلًا فِي الزَّكَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفِصْلَانِ فَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا تَجِبُ فِيهَا الْوَاحِدَةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ ثِنْتَانِ مِنْهَا إلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ ثَلَاثٌ مِنْهَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً مِنْ مَالٍ اُعْتُبِرَ قَبْلَهُ أَرْبَعَةُ نُصُبٍ وَأَوْجَبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ ثِنْتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ اعْتَبَرَ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذِهِ النُّصُبِ لَوْ أَوْجَبْنَا كَانَ بِالرَّأْيِ لَا بِالنَّصِّ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَعْيِينَ الْوَاجِبِ بِالنَّصِّ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَالسِّنِّ وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ السِّنُّ فِي الْفُصْلَانِ فَبَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ يَجِبُ فِي خَمْسٍ فِصْلَانِ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ شَاةٍ وَفِي الْعَشْرِ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ شَاتَيْنِ وَفِي الْخَمْسَةَ عَشْرَ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ ثَلَاثِ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ أَرْبَعِ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي الْكِبَارِ الْوَاجِبَ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ لِلتَّيْسِيرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى وَاحِدَةً مِنْهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَكَذَلِكَ فِي الصِّغَارِ يُؤْخَذُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسَا فَصِيلٍ وَهَكَذَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْجُمْلَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- خَرَّجُوا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزِّيَادَاتِ فِي زَكَاةِ الْمَهَازِيلِ فَقَالُوا: إذَا مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْفِصْلَانِ نُظِرَ إلَى قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَالشَّاةِ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَقِيمَةُ الشَّاةِ عَشْرَةً فَنَقُولُ: لَوْ كَانَتْ الْوَاحِدَةُ بِنْتَ الْمَخَاضِ لَكَانَ يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ تُسَاوِي عَشْرَةً، وَذَلِكَ بِمَعْنَى خُمُسِ قِيمَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِيَكُونَ بِمَعْنَى خُمُسِ أَفْضَلِهِنَّ فَهَذَا هُوَ الْإِيجَابُ فِي الصِّغَارِ عَلَى قِيَاسِ الْإِيجَابِ فِي الْكِبَارِ وَإِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ السَّائِمَةِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ النِّصَابِ الْكَامِلِ النَّامِي وَالْمَدْيُونُ مَالِكٌ لِذَلِكَ، فَإِنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَصِفَةُ النَّمَاءِ بِالْإِسَامَةِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ، ثُمَّ الدَّيْنُ مَعَ الزَّكَاةِ حِقَّانِ اخْتَلَفَا مَحِلًّا وَمُسْتَحَقًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ (وَلَنَا) حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي رَمَضَانَ، أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْتَسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ الْمَدْيُونُ فَقِيرٌ وَلِهَذَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ مَالِهِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى»، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، وَالْخِطَابُ بِالْإِغْنَاءِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَمَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْمُوَاسَاةِ شَرْعًا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوَاسِيَ غَيْرَهُ وَالشَّرْعُ لَا يَرُدُّ بِمَا لَا يُفِيدُ وَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَ شَاةً مِنْ سَائِمَةِ الْغَيْرِ صَدَقَةً وَيُعْطِيَ شَاةً مِنْ سَائِمَتِهِ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ، فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدِمَ الْمِلْكَ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ كَانَ أَوْلَى، وَقَدْ جُعِلَ مَالُ الْمَدْيُونِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَالْمَمْلُوكِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى هَذَا، وَقَالَ: إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ يُؤَدِّي إلَى تَزْكِيَةِ مَالٍ وَاحِدٍ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ مِرَارًا.
بَيَانُهُ فِيمَنْ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ عَشْرٌ مِنْ الْأَيْدِي فَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَكَاةُ الْأَلْفِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَالْمَالُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا الْعَبْدَ حَتَّى إذَا أُقِيلَتْ الْبُيُوعُ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ شَيْءٌ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ لَا مُعْتَبَرَ فِيهِ بِغِنَى الْمَالِكِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِكِ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتِبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا فِي الْمَالِ النَّامِي بِوَاسِطَةِ غِنَى الْمَالِكِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْحَوْلُ حَتَّى إذَا سَقَطَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ يُعْدِمُ صِفَةَ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَيَكُونُ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَعِنْدَنَا لَا يَنْقَطِعُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) فَإِنْ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ، فَقَالَ: لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ عَلَى السَّائِمَةِ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا أَوْ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّائِمَةُ لِي وَحَلَفَ صُدِّقَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ أَمِينٍ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَنْكَرَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَبَ عَلَى السَّاعِي تَصْدِيقُهُ وَلَكِنْ يُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ كَمَا لَوْ قَالَ: صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَهُنَا السَّاعِي مُكَذِّبٌ لَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ فَلِهَذَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ: أَخَذَهَا مِنِّي مُصَدِّقٌ آخَرُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ إذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ كَانَ مُصَدَّقًا، وَإِذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ لَمْ يَكُنْ مُصَدَّقًا، وَهَذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَتَى بِالْبَرَاءَةِ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَقُولُ: وَجَاءَ بِالْبَرَاءَةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَجِيءَ بِالْبَرَاءَةِ شَرْطٌ لِتَصْدِيقِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- وَجْهُهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ وَلِصِدْقِهِ عَلَامَةٌ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمُصَدِّقَ إذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ دَفَعَ الْبَرَاءَةَ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ تِلْكَ الْعَلَامَةُ قُبِلَ خَبَرُهُ وَإِلَّا فَلَا كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِالْوِلَادَةِ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِهَا قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْبَرَاءَةَ خَطٌّ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَقَدْ لَا يَأْخُذُ صَاحِبُ السَّائِمَةِ الْبَرَاءَةَ غَفْلَةً مِنْهُ، وَقَدْ تَضِلُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بَعْدَ الْأَخْذِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ حُكْمًا فَبَقِيَ الْمُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ (قَالَ) فَإِنْ قَالَ: دَفَعْتُهَا إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُصَدَّقْ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، وَقَالَ {وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، فَإِذَا أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَالْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَهْلِ أَخْذِ حَقِّهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا أَقْبِضَ الْمُوَكِّلَ الثَّمَنَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ يَقْبِضُ لِيَصْرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ فَهُوَ كَفَى السَّاعِيَ هَذِهِ الْمَئُونَةَ وَأَوْصَلَهَا إلَى مَحِلِّهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ سَبِيلٌ (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ إذَا صُرِفَ بِنَفْسِهِ إلَى الْمُقَاتَلَةِ، ثُمَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الزَّكَاةَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ مَنْ يُعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِمَامُ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إلَّا بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: وَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ فِيمَا يَقُولُ يُؤْخَذْ مِنْهُ ثَانِيًا وَلَا يَبْرَأُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ لِلْإِمَامِ رَأْيًا فِي اخْتِيَارِ الْمَصْرِفِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ رَأْيَ الْإِمَامِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ.
وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ السَّاعِيَ عَامِلٌ لِلْفَقِيرِ وَفِي الْمَأْخُوذِ حَقُّ الْفَقِيرِ وَلَكِنَّهُ مَوْلًى عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَخْذِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ بِطَلَبِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ لِصَغِيرٍ دَفَعَهُ الْمَدْيُونُ إلَيْهِ دُونَ الْوَصِيِّ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ يَبْرَأُ بِالْأَدَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ صِدْقُهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِطَلَبِهِ فَجَعْلُ السَّاعِي نَائِبًا عَنْهُ كَانَ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُ، فَإِذَا أَدَّى مَنْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ إلَيْهِ حَصَلَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ فَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (قَالَ) وَلَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي سَائِمَتِهِمَا عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِمَا وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيُتْمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى قَالَ: إذَا أَدَّاهُ الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضَمِنَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ، أَوْ قَالَ: تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ»، وَذَلِكَ دَلِيلُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ يُصْرَفُ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ شَرْعًا فَالصِّغَرُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ كَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَبِالصَّرْفِ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ وَالصِّغَرُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حَقِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَالنَّفَقَةُ صِلَةٌ وَجَبَتْ لِلْمَحَاوِيجِ الْمَاسِّينَ لَهُ فِي الْقَرَابَةِ، وَالزَّكَاةُ صِلَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ الْمَاسِّينَ لَهُ فِي الْمِلَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ كَانَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ حَتَّى إنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتَأَدَّى بِأَدَاءِ وَكِيلِهِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَبِهِ فَارَقَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ فَلَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» وَفِي إيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْوَلِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ عَلَى الصَّبِيِّ وَفِيهِ يُوجَدُ الْخِطَابُ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ أَيْ النَّفَقَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الدَّيْنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ أَصْلِ الدَّيْنِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الدَّيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}، وَقَالَ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَبِجَعْلِ الْمَالِ لَهُ خَالِصًا يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ وَعَزِيمَةٍ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَوِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ تَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ شَرْعًا وَمِثْلُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لَا تَتَأَدَّى بِهَا الْعِبَادَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتِلْكَ نِيَابَةٌ عَنْ اخْتِيَارٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ مِنْهُ وَبِهِ فَارَقَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا لِمَعْنَى الْمُؤْنَةِ حَتَّى تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْأَبِ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ فِي مَالِهِ احْتَجْنَا إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَبِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَبِهِ فَارَقَ الْعُشْرَ، فَإِنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وُجُوبُهَا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْمُؤْنَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ لَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ حَتَّى يُفِيقَ، فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ طَارِئًا فَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبْرَةَ لِأَكْثَرِ الْحَوْلِ، فَإِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَجَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَرِضَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجِزْيَةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ هَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَجَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الصَّوْمِ فَالسَّنَةُ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ وَالْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَالْإِفَاقَةِ فِي جَمِيعِهِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَجْنُونِ الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ فَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي كِتَابِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا اعْتَرَضَ جُنُونُهُ إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَوْلِ فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَبَرَ الْإِفَاقَةَ فِي آخِرِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهَا يَكُونُ (قَالَ) وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتِبِ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَصْرِفٌ لِلزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ بِكَسْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ وَبِدُونِ الْمِلْكِ لَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْغِنَى وَالْمَالُ النَّامِي سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِوَاسِطَةِ غِنَى الْمَالِكِ فَبِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَبِدُونِهِ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَوِّنُ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ السَّائِمَةِ مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاسْتَفَادَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ضَمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ وَزَكَّاهَا كُلَّهَا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ لِلْمُسْتَفَادِ حَوْلٌ جَدِيدٌ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ (وَحُجَّتُهُ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ فِيهِ الْحَوْلُ» وَالْمُرَادُ الْحَوْلُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ اثْنَا عَشْرَ شَهْرًا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِهِ فَيَكُونُ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ، فَإِنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيَسْرِي إلَيْهَا حُكْمُ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّصَابِ لِيَحْصُلَ الْغِنَى بِهِ لِلْمَالِكِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالنِّصَابِ الْأَوَّلِ فَبِالزِّيَادَةِ بَعْدَهُ يَزْدَادُ الْغِنَى، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِحُصُولِ النَّمَاءِ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَنْجَبِرَ بِالنَّمَاءِ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا كَأَصْلِ الْمَالِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَالٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ رَأْسِ السَّنَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحَادِثِ كَمَا تَجِبُ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، ثُمَّ الضَّمُّ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا يُضَمُّ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فَضَمُّ بَعْضِ الْمَالِ إلَى الْبَعْضِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ دُونَ التَّوَالُدِ فَكَذَلِكَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَسْرِي بِعِلَّةِ التَّوَالُدِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَسْرِيَ إلَى الْحَادِثِ بَعْدَ الْحَوْلِ لِتَقَرُّرِ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ مَا بَعْدَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ بِنَاءٌ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَعٌ لَهُ حَتَّى يَسْقُطَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ فِيهِ وَيُجْعَلُ حُؤُولُ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ حُؤُولًا عَلَى التَّبَعِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَالُ النِّصَابِ لِإِيجَابِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعَادِنِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا حُؤُولُ الْحَوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ حَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَفَادِ؛ إذْ حُؤُولُ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ يَكُونُ حُؤُولًا عَلَى التَّبَعِ مَعْنًى فَإِنْ كَانَ إنَّمَا اسْتَفَادَهَا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِانْعِدَامِ حُؤُولِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنْ السَّائِمَةِ لَمْ يَضُمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمْ يَضُمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ (قَالَ) وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْإِبِلُ أَوْ الْبَقَرُ أَوْ الْغَنَمُ سَائِمَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَذَلِكَ كَالْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهَا الزَّكَاةُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ»، ثُمَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالِاسْتِعْمَالِ بَلْ يَزْدَادُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ بِالِاسْتِعْمَالِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَالصِّفَةُ مَتَى قُرِنَتْ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعَلَمِ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ وَالْمُطْلَقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ» وَفَسَّرَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ الْجَبْهَةَ بِالْخَيْلِ وَالنُّخَّةَ بِالْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: النُّخَّةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَسَّرَهَا بِالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو غُلَامُ ثَعْلَبٍ: هُوَ مِنْ النَّخِّ وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَوَامِلِ، ثُمَّ مَالُ الزَّكَاةِ مَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ عَيْنِهِ لَا مِنْ مَنَافِعِهِ، أَلَا تَرَى إلَى دَارِ السُّكْنَى وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا وَالْعَوَامِلُ إنَّمَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلْعَلَفِ فِي مِصْرَ أَوْ غَيْرِ مِصْرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَعْظُمُ عَلَى صَاحِبِهَا.
وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ خِفَّةِ الْمَئُونَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَئُونَةِ؛ لِأَنَّ لِخِفَّةِ الْمَئُونَةِ تَأْثِيرًا فِي إيجَابِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَإِنْ كَانَ يُسِيمُهَا فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَيَعْلِفُهَا فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَالْعِبْرَةُ لِأَكْثَرِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي زَمَانِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ فَجَعَلْنَا الْأَقَلَّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ عَلَفَهَا بِقَدْرِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ مُؤْنَةُ عَلَفِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ سَائِمَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا (قَالَ) وَالصَّدَقَةُ وَاجِبَةٌ فِي ذُكْرَانِ السَّوَائِمِ وَإِنَاثِهَا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، ثُمَّ طَلَبُ النَّمَاءِ مِنْ الْعَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ، إمَّا مِنْ الْأَوْلَادِ إذَا كُنَّ إنَاثًا بِأَنْ يُسْتَعَارُ لَهَا فَحْلٌ أَوْ مِنْ السَّمْنِ إذَا كَانُوا ذُكُورًا فَإِنَّهَا مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ (قَالَ) وَإِذَا بَاعَ السَّائِمَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا انْقَطَعَ الْحَوْلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إذَا بَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَدِيمِ: سَوَاءٌ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ غِنَى الْمَالِكِ بِهِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْبَدَلِ وَقَاسَهُ بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا فَحُكْمُ الزَّكَاةِ فِي الْبَدَلِ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا بَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَحُكْمُ الزَّكَاةِ فِي الْبَدَلِ يُخَالِفُ حُكْمَ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ مَا كَانَ ثَابِتًا بِبَقَاءِ الْبَدَلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِئْنَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ يُضَمُّ الْجِنْسُ إلَى الْجِنْسِ وَلَا يُضَمُّ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، فَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَنْبَنِي عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ وَيَسْتَقِلُّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ.
(وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ نِصَابُهُ مِنْ الْعَيْنِ وَالنَّمَاءِ فِيهِ مَطْلُوبٌ مِنْ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ النِّصَابُ مِنْ قِيمَتِهِ، ثُمَّ الِاسْتِبْدَالُ يُحَقِّقُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَيُضَادُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ أَصْحَابِ السَّوَائِمِ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِهِمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالِاسْتِبْدَالِ فَيَكُونُ نَظِيرَ تَرْكِ الْإِسَامَةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ يُرِيدُ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ لَا يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا بِحَوْلٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْرَهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُكْرَهُ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ وَلِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَالْفِرَارُ مِنْ الْعِبَادَةِ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هَذَا امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامِ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ إذَا الْتَزَمَهُ فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْعُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاسْتِبْدَالِ مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى سَائِمَتِهِ، وَعِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَزَكَّى السَّائِمَةَ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لَمْ يُزَكِّ مَعَهَا أَثْمَانَ الْإِبِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُزَكِّيهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: الضَّمُّ لِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ، وَأَدَاءُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَصْلِهِ لَا يَمْنَعُ ضَمَّ الثَّمَنِ إلَى مَا عِنْدَهُ كَمَنْ أَدَّى صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِ الْخِدْمَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ أَدَّى عُشْرَ الطَّعَامِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ثِنَا فِي الصَّدَقَةِ» غَيْرِ مَمْدُودٍ.
وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي ثَمَنِ السَّائِمَةِ فِي هَذَا الْحَوْلِ بَعْدَ مَا أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ أَصْلِهَا يُؤَدِّي إلَى الثِّنَى فِي الصَّدَقَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا يَبْقَى بِالثَّمَنِ الْمَالِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ بِالْبَيْعِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ بِدُونِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، ثُمَّ زِيَادَةُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْغِنَى، وَلَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِأَصْلِ هَذَا الْمَالِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِهِبَةٍ أَوْ وِرَاثَةٍ فَقَدْ اسْتَفَادَ بِهِ زِيَادَةَ الْغِنَى وَبِخِلَافِ أَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِ الْخِدْمَةِ فَالْمَالِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ حَتَّى تَجِبَ عَنْ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الْمُسْتَغْرَقِ انْتَقَصَ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَالِيَّةً مُسْتَحَقَّةً بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَلَا مُعْتَبَرَ لِلْحَوْلِ فِيهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا لَيْلَةَ الْفِطْرِ أَدَّى عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْعُشْرَ كَذَلِكَ لَا مُعْتَبَرَ بِالْحَوْلِ فِيهِ وَوُجُوبُهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ بَلْ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ هُوَ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ حَتَّى إذَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ أَحْوَالًا لَا شَيْءَ فِيهِ فَالْبَيْعُ أَفَادَهُ الْغِنَى شَرْعًا وَكَذَلِكَ السَّائِمَةُ إذَا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا بِهَا شَرْعًا فَبِالْبَيْعِ اسْتَفَادَ صِفَةَ الْغِنَى فَهُوَ وَالْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ فَقُضِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِوَلَدِهِ بِالدِّيَةِ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ قَبَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ يَقْبِضُهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْإِبِلِ بِصِفَةِ الْإِسَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ سَائِمَةً، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَالْمِلْكُ لِلْوَارِثِ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى إبِلٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ سَائِمَةً، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى إبِلٍ سَائِمَةٍ بِأَعْيَانِهَا وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِ الزَّوْجِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَوَّلًا إذَا قَبَضَتْ مِنْهَا نِصَابًا كَامِلًا فَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: إذَا قَبَضَتْ مِنْهَا شَيْئًا يَلْزَمُهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ الْمَقْبُوضِ لِمَا مَضَى سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ دُونَهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بِالْعَقْدِ مَلَكَتْ الصَّدَاقَ مِلْكًا تَامًّا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَ الْيَدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ انْعِقَادِ الْحَوْلِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَلَكَتْ الْمَالِيَّةَ ابْتِدَاءً بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهَا فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ مِلْكَ الْمَالِيَّةِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِالْبَيْعِ بَلْ يَتَحَوَّلُ مِنْ أَصْلٍ كَانَ مَالًا إلَى بَدَلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ الْحُكْمُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا بِالْقَبْضِ أَوْ يَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِهَذَا لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَجْعُولِ صَدَاقًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ بِالْعَقْدِ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَتَمَامُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ،
وَصَيْرُورَتُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ لَا عَلَى حُصُولِ أَصْلِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ نُفُوذَهُ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِ الْمِلْكِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يُكَوِّنُ نِصَابَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ غَيْرُ نَامٍ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الْأَوَّلِ إنَّ الصِّدْقَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْبَدَلِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَالَ الْبَدَلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ حَتَّى يَقْبِضَ نِصَابًا تَامًّا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: هُنَاكَ أَصْلُهُ كَانَ مَالًا، وَهَذَا أَصْلُهُ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالصَّدَاقُ جُعِلَ صِلَةً مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهَا الْمَالَ إلَّا بِالْقَبْضِ.
فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالصَّدَاقُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا زَكَاةٌ فِي نَصِيبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ النِّصَابِ وَلَوْ كَانَ عُشْرًا كَانَ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ فِي نَصِيبِهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَلْزَمُهَا زَكَاةُ نَصِيبِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ إبِلٌ سَائِمَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا أَوْ يَعْلِفَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَائِمَةً فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ وَمَا نَوَى كَانَ حَدِيثَ النَّفْسِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا»، ثُمَّ الِاسْتِعْمَالُ فِعْلٌ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يُفْعَلْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَوَى فِي عَبْدِ الْخِدْمَةِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَتَّجِرْ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَنَوَاهُ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِالْعَمَلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْكَافِرِ يَنْوِي الْإِسْلَامَ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا مَا لَمْ يَأْتِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَوْ نَوَى أَنْ يَكْفُرَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- صَارَ كَافِرًا بِنِيَّتِهِ تَرْكَ الْإِسْلَامِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَحَلَّ عَلَيْهَا حَوْلَانِ فَعَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ هَلْ يَأْثَمُ بِمَا صَنَعَ؟ فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ آثِمٌ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى.
، وَرَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَذْهَبِهِ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَقَالَ: فِي الزَّكَاةِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، وَفِي تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إضْرَارٌ بِهِمْ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ يَقُولُ يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَرَّقَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ الْحَجِّ، وَقَالَ: أَدَاءُ الْحَجِّ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ وَفِي التَّأْخِيرِ عَنْهُ تَفْوِيتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْقَى إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ تَفْوِيتٌ فَكُلُّ وَقْتٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهَا، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَجَبَ عَلَيْهِ شَاتَانِ فَانْتَقَصَ بِقَدْرِهِمَا مِنْ الْعُشْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الثَّانِيَةِ إلَّا شَاةٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ شَاتَانِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَالَ: لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى- كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَكَانَ الْبَلْخِيُّ يُفَرِّقُ عَلَى أَصْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ عَنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَقَالَ: فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لِلسَّاعِي حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فَكَانَ نَظِيرُ دَيْنِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى رَجُلٍ يُوجِبُ فِي مِائَتِي دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمُرَادُهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا ثَمَانُونَ حَوْلًا.
ثُمَّ دَيْنُ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِمَنْزِلَتِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى فَوَّضَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمَّا خَافَ الْمَشَقَّةَ وَالْحَرَجُ فِي تَفْتِيشِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُعَاةِ السُّوءِ فَكَانَ ذَلِكَ تَوْكِيلًا مِنْهُ لِصَاحِبِ الْمَالِ بِالْأَدَاءِ فَنَفَذَ تَوْكِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِلْمُصَدِّقِ إذَا مَرَّ بِالْمَالِ عَلَيْهِ فِي سَفَرِهِ فَلِهَذَا مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَالِ الْقَائِمِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَعَنْ الْمَالِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْقَائِمَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْمُسْتَهْلَكِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ فَصِيلًا وَنَاقَةٌ مُسِنَّةٌ فَعَلَيْهِ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ تَبَعٌ لِلْمُسِنَّةِ تُعَدُّ مَعَهَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَتُعَدُّ صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا»، وَهَذَا لِأَنَّ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مَوْجُودٌ فِي مَالِهِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَاجِبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا.
، فَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فَصِيلًا وَنَاقَةٌ مُسِنَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَجِبُ إلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَجِبُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ مَعَ فَصِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجَبُ فِي الصِّغَارِ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ إبِلٌ سَائِمَةٌ قَدْ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ نِصَابُ السَّائِمَةِ تَامًّا فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ نِصَابًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاتَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: زَكَاةُ السَّائِمَةِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَالضَّعِيفُ لَا يُعَارِضُ الْقَوِيَّ، فَإِذَا أَمْكَنَ إيجَابُ زَكَاةِ السَّائِمَةِ لَا تَظْهَرُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَفِي تَرْجِيحِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ مَنْفَعَةٌ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُهَا وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ مُفَوَّضٌ أَدَاؤُهَا إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا لَا يُؤَدِّي وَعُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- قَالُوا: إنْ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ يَنْعَدِمُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسَّوْمِ وَمَا لِأَجْلِهِ أُوجِبَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ فِي السَّائِمَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِيهَا وَبِنِيَّةِ التِّجَارَةِ يَنْعَدِمُ هَذَا فَكَانَتْ سَائِمَةً صُورَةً لَا مَعْنًى وَهُوَ مَالُ التِّجَارَةِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتُرَجَّحُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِهَذَا وَحَقُّ الْأَخْذِ ثَابِتٌ لِلسَّاعِي سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ أَوْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ مَالٌ ظَاهِرٌ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَى الْحِمَايَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ حَتَّى إذَا احْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ فِيهَا بِالْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا قَالَ وَإِنْ كَانَتْ السَّائِمَةُ بَيْنَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ وَبَيْنَ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ كَافِرٍ فَعَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ زَكَاةُ نَصِيبِهِ لَوْ بَلَغَ نِصَابًا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَالَةَ الِاخْتِلَافِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ (قَالَ) وَإِذَا ذَهَبَ الْعَدُوُّ بِالسَّائِمَةِ أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى صَاحِبِهَا بَعْدَ سِنِينَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى عِنْدَنَا.
، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ فِي الَّذِي ذَهَبَ بِهَا الْعَدُوُّ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَفِي الْمَغْصُوبِ الْمَجْحُودِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَلْزَمُهُ فِيهَا الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى الْأَمْوَالِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّ بِالْغَصْبِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ دُونَ الْمِلْكِ.
وَجْهُ قَوْلِنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ» وَمَعْنَاهُ مَالٌ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِكَ بَعِيرٌ ضَامِرٌ إذَا كَانَ نَحِيفًا مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَصْحَابِهَا قِيلَ أَفَلَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ زَكَاتَهَا لِمَا مَضَى قَالَ: لَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ ضِمَارًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ كَانَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ، وَقَدْ انْسَدَّ عَلَى صَاحِبِهَا طَرِيقٌ يُحَصِّلُ النَّمَاءَ مِنْهَا بِجُحُودِ الْغَاصِبِ إيَّاهَا فَانْعَدَمَ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ نِصَابُ الزَّكَاةِ بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَدٍ ثَانِيَةٍ كَمَا يَحْصُلُ بِيَدِهِ فَكَانَ نِصَابُ الزَّكَاةِ لِهَذَا، وَكَذَلِكَ الضَّالَّةُ وَمَا سَقَطَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِي النُّمُوِّ وَالِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا صُورَةً وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ وَأُطْلِقَ الْجَوَابُ فِيهِ فِي الْكِتَابِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: إنْ كَانَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ بِعِلْمِ الْقَاضِي.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ إذْ لَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ ذُلٌّ فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- قَالُوا: إذَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْهُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- إنَّ الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ يُقِرُّ مَعَهُ سِرًّا وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا أَخَذَهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (قَالَ) وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ انْتَقَصَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقْتًا طَوِيلًا مَا لَمْ يَنْقَطِعْ أَصْلُهُ مِنْ يَدِهِ وَمَالُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِيهِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ كَامِلًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السَّائِمَةِ كَذَلِكَ، وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ قَالَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ خَاصَّةً وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَنْزِلَةِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يُجْعَلُ كَهَلَاكِهِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ، وَكَذَلِكَ السَّائِمَةُ إذَا جَعَلَهَا حَمُولَةً أَوْ عَلُوفَةً فِي وَسَطِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ كَالْعَلُوفَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّائِمَةِ كَذَلِكَ، وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ قَالَ: الْقِيَاسُ هَكَذَا وَلَكِنِّي أُزَكِّيهِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ الْقِيمَةِ وَيَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ قُلْنَا: إنَّمَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ اشْتِرَاطَ كَمَالِ النِّصَابِ لَيَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ، وَالْغِنَى مُعْتَبَرٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ وَعِنْدَ كَمَالِهِ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَالِ انْعِقَادِ الْحَوْلِ وَلَا بِحَالِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا يُشْتَرَطُ غِنَى الْمَالِكِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ حَالُ بَقَاءِ الْحَوْلِ الْمُنْعَقِدِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحِلِّ لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَحِلِّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهَا عَلُوفَةً أَوْ أَعَدَّهَا لِلِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَحِلِّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، فَأَمَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْبَعْضِ فَبَقِيَ الْمَحِلُّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ وَهُوَ نَظِيرُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يُبْقِي عَلَى الْأَلْفِ بِبَقَاءِ بَعْضِهَا حَتَّى إذَا رَبِحَ فِيهَا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَتْ كُلُّهَا وَمَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَشَقَّةِ صَالِحٌ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ (قَالَ) وَيُحْتَسَبُ عَلَى الرَّجُلِ فِي سَائِمَتِهِ الْعَمْيَاءُ وَالْعَجْفَاءُ وَالصَّغِيرَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْكُلِّ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّاسَ شَكَوْا إلَيْهِ مِنْ السُّعَاةِ فَقَالُوا: إنَّهُمْ يَعُدُّونَ عَلَيْنَا السِّخَالَ وَلَا يَأْخُذُونَهَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلسَّاعِي: عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ، وَإِنْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ أَلَسْنَا تَرَكْنَا لَكُمْ الرُّبَى وَالْأَكِيلَةَ وَالْمَاخِضَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ خِيَارِ الْمَالِ وَرُذَالِهِ فَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذْنَا وَقُلْنَا لَا تُؤْخَذُ الرُّبَى وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا وَلَا الْأَكِيلَةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ قَالَ يُونُسُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ الْأَكُولَةُ وَأَمَّا الْأَكِيلَةُ فَهِيَ الَّتِي تُكْثِرُ تَنَاوُلَ الْعَلَفِ وَلَكِنْ فِي عَادَةِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ الْأَكِيلَةَ وَمَقْصُودُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيمُ الْعَوَامّ فَاخْتَارَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَفْهَامِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَثَرِ إلَّا أَنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ اللُّغَةُ وَالْمَاخِضُ هِيَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ وَفَحْلُ الْغَنَمِ ظَاهِرٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»، ثُمَّ كَمَا نَظَرْنَا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ مِنْ الْكَرَائِمِ نَظَرْنَا لِلْفُقَرَاءِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ مِنْ الصِّغَارِ وَالْعِجَافِ مَعَ عَدِّهَا عَلَيْهِمْ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (قَالَ) وَإِذَا وَجَبَتْ الصَّدَقَةُ فِي السَّائِمَةِ، ثُمَّ بَاعَهَا صَاحِبُهَا جَازَ بَيْعُهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ قَوْلَانِ.
وَحُجَّتُهُ أَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ صَارَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَمْتَنِعُ عَلَى صَاحِبِهَا بَيْعُهَا كَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَالنِّصَابُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَصِيرُ كَالْمَرْهُونِ بِمَا وَجَبَ فِيهِ وَبَيْعٌ الْمَرْهُونِ لَا يَجُوزُ.
وَعُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً بِالدِّينَارِ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَاشْتَرَى شَاةً أُخْرَى بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ» فَقَدْ جَوَّزَ بَيْعَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ مَا وَجَبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا فَصَارَ هَذَا أَصْلًا لَنَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَالِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيْعَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ وَمِلْكُهُ بَاقٍ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلَمْ يَخْتَلَّ ذَلِكَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَكَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا بِخِلَافِ الْمَرْهُوقِ، فَإِنَّ الْيَدَ هُنَاكَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهَنِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْدُورُ التَّسَلُّمِ لَهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ مَالِيَّتَهُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْغَرِيمِ بِدَيْنِهِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ تَعَلُّقًا يَتَعَيَّنُ فِيهِ حَتَّى إنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ اخْتِيَارَ الْأَدَاءِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ نَظِيرُ تَعَلُّقِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِ الْمُوَلَّى فِيهِ كَمَا قُلْنَا فَكَذَلِكَ هَذَا.
(قَالَ) وَإِذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى عَيْنِ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ صَارَ مُتْلِفًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَضْمَنُهُ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إنْ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْعَيْنِ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- اخْتَلَفُوا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالسَّاعِي مُجْتَهِدٌ فَإِنْ شَاءَ اعْتَبَرَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اعْتَمَدَ الْقِيَاسَ الظَّاهِرَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِنَفْسِهِ وَأَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ الْبَائِعِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَقْلِ الْمَاشِيَةِ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ مَا نَقَلَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا يُخَيَّرْ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ دَاخِلَةً فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً بِالنَّقْلِ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ النَّقْلِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّقْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُشْرِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ إذَا بَاعَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ الْعَيْنِ تَفَرَّقَا أَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا نَقَلَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَنْقُلْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عُشْرُ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمِلْكِ فِيهِ وَفِي الزَّكَاةِ الْوُجُوبُ عَلَى الْمَالِكِ حَتَّى لَا تَجِبَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (قَالَ) وَإِذَا نَفَقَتْ السَّائِمَةُ كُلُّهَا بَعْدَ حَوْلِ الْحَوْلِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ ضَمِنَ صَاحِبُهَا الزَّكَاةَ، فَأَمَّا قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَلَا ضَمَانَ وَلَهُ قَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ قَالَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ كَمَالِ النِّصَابِ وَحَوْلَانِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: التَّمَكُّنُ شَرْطُ الضَّمَانِ لَا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَاسْتَدَلَّ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ، ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ صَارَ ضَامِنًا كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَالَبَهُ الْفَقِيرُ بِالْأَدَاءِ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ لِلْفَقِيرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ وُجُوبِ الطَّلَبِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ صَارَ ضَامِنًا.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ مَحِلَّ الزَّكَاةِ هُوَ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ وَالشِّقْصِ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِتَفْوِيتِ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ كَسَائِرِ الضَّمَانَاتِ وَهُوَ بِهَذَا التَّأْخِيرِ مَا فَوَّتَ عَلَى الْفَقِيرِ يَدًا وَلَا مِلْكًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ شَرْعًا بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَبَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ اسْتَحَقَّ الْمُوَاسَاةَ مَعَهُمْ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوَاسِيَ غَيْرَهُ وَالْوَاجِبُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِهِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِالْمَالِ النَّامِي حَتَّى يَنْجَبِرَ بِالنَّمَاءِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْخُسْرَانِ بِالْأَدَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَلَوْ اسْتَوْفَى كَانَ الْمُسْتَوْفِي غَيْرَ مَا وَجَبَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ الْأَدَاءِ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِهَلَاكِ مَالِهِ.
أَمَّا إذَا طَالَبَهُ الْفَقِيرُ فَهَذَا الْفَقِيرُ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلَهُ رَأْيٌ فِي الصَّرْفِ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ، فَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُونَ: يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ وَبِالِامْتِنَاعِ يَصِيرُ مُفَوِّتًا، وَمَشَايِخُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُونَ: لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: إذَا حَبَسَهَا بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ حَتَّى مَاتَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ، فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ وَبِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا إنَّمَا مُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسُ بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، فَإِنْ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ عَلَى النِّصَابِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ كُلُّهُ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ مَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ جَعَلْتُمُوهُ شَرْطَ الْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ كَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ شَرْطَ الْأَدَاءِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ أَدَاءُ شَيْءٍ إذَا انْتَقَصَ النِّصَابُ قُلْنَا كَمَالُ النِّصَابِ لَيْسَ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ لِعَيْنِهِ وَلَكِنْ لِحُصُولِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهِ وَغِنَى الْمَالِكِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْغِنَى لَيْسَ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ أَدَاءِ الصَّدَقَةِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى النِّصَابِ وَالْوَقَصِ فَهَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْوَقَصِ دُونَ النِّصَابِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ النِّصَابِ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَجْعَلَانِ الْهَالِكَ مِنْ الْكُلِّ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ الْحَوْلُ فَهَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ.
(حُجَّتُهُمَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ، وَالْمَعْنَى يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ الْمَالَ النَّامِيَ لَا يَخْلُو عَنْ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مَالٌ نَامٍ لَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ شَهِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ بِحَقٍّ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَسْتَغْنِي عَنْ الثَّالِثِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ فَمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عُشْرًا فَهَذَا» تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْوَقَصِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَقَصَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ وَالنِّصَابُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْوَقَصِ، وَالْوَقَصُ لَا يَسْتَغْنِي بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ عَنْ النِّصَابِ، وَالْمَالُ مَتَى اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَإِذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ مِنْهَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَا هَذَا، ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ النِّصَابِ يُجْعَلُ أَصْلًا وَمَا بَعْدَهُ بِنَاءً وَتَبَعًا فَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ فِيمَا زَادَ عَلَى أَوَّلِ النِّصَابِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَوَّلُ النِّصَابِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ نِصَابٌ آخَرُ، فَإِذَا أَتَى نِصَابٌ آخَرُ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ آخِرُ النِّصَابِ أَصْلًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ الْحَوْلُ، ثُمَّ هَلَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَاقِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَمَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ آخِرَ النِّصَابِ أَصْلًا وَالْهَالِكُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْمَخَاضِ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ فَيَسْقُطُ حِصَّةُ مَا هَلَكَ وَيَبْقَى حِصَّةُ مَا بَقِيَ (قَالَ) وَتَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَالِ الْكَامِلِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ مِنْ سَائِمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَائِزٌ عَنْ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ (أَحَدُهَا) فِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ، فَإِنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجَوِّزُ التَّعْجِيلَ أَصْلًا وَيَعْتَبِرُ الْعِبَادَةَ الْمَالِيَّةَ بِالْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَيَقُولُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، ثُمَّ بِكَمَالِ النِّصَابِ» حَصَلَ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الزَّكَاةِ مِنْ النِّصَابِ النَّامِي وَغِنَى الْمَالِكِ وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ تَأْجِيلٌ وَتَعْجِيلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ الْمَالُ وَالْأَدَاءُ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ وَالرَّجُلِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ جَازَ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ مُتَأَخِّرًا، أَوْ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْوُجُوبِ لِتَحَقُّقِ النَّمَاءِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ السَّنَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ صَحِيحًا، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ وَبَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِسَنَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَجُوزُ إلَّا لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ التَّعْجِيلَ عِنْدَهُ عَلَى آخِرِ الْحَوْلِ لَا عَلَى أَوَّلِهِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْجِيلَ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ الثَّانِي بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ مَا لَمْ يَنْتَقِصْ عَنْهُ وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ السَّبَبِ وَفِي ذَلِكَ الْحَوْلُ الثَّانِي كَالْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ، ثُمَّ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ النُّصُبِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ إلَّا عَنْ النِّصَابِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ، وَفِي مِلْكِهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدَنَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ الْكُلِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ زَكَاةِ الْخُمُسِ قَالَ: لِأَنَّ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بَعْدَ وُجُودِ مِلْكٍ بِدَلِيلِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فِي نُصُبٍ يَمْلِكُهَا عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، فَإِذَا جُعِلَ الْمِلْكُ الْحَاصِلُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ يُجْعَلُ الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لِهَلَاكِ مَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ دَفَعَ إلَيْهِمْ إنْ بُيِّنَ لَهُ أَنَّهُ يُعْطِي مُعَجَّلًا وَإِنْ أَطْلَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إذَا بُيِّنَ لَهُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَمَنْ قَضَى دَيْنَ إنْسَانٍ، ثُمَّ انْفَسَخَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّيْنِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَا يُؤَدِّيهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بَلْ إنْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ كَانَ مُتَنَفِّلًا كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الْأَدَاءَ (قَالَ) وَيَنْظُرُ فِي السَّائِمَةِ إلَى كَمَالِ النِّصَابِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا نَاقِصَةً عَنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ وَيَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهَا إنْ أَرَادَ بِهَا التِّجَارَةَ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَبَرَ فِي السَّائِمَةِ كَمَالَ الْعَدَدِ دُونَ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي السَّائِمَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ إنَّمَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ مَالِيَّتِهَا فَاعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ حَيْثُ يُطْلَبُ النَّمَاءُ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ وَلَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ صَارَ وُجُودُ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَعَدَمِهَا فَتَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ.
قُلْنَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً مَعْنًى عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالصُّورَةُ بِدُونِ الْمَعْنَى لَا تَكْفِي لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ (قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَى الْإِبِلَ لِلتِّجَارَةِ فَلَمَّا مَضَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَوْلِ بَدَا لَهُ فَجَعَلَهَا سَائِمَةً فِرَارًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ حِينِ جَعْلِهَا سَائِمَةً؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ فِيهَا وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَقِيقَةً فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِالْفِعْلِ وَزَكَاةُ السَّائِمَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَقُلْنَا بِاسْتِئْنَافِ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ جَعْلِهَا سَائِمَةً (قَالَ) وَيُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ صَدَقَةُ سَائِمَتِهِمْ ضَعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا بَلَغَتْ مِقْدَارَ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَبَنُو تَغْلِبَ قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا بِقُرْبِ الرُّومِ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُوَظِّفَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ أَبَوْا وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ نَأْنَفُ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ وَظَّفْت عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَحِقْنَا بِأَعْدَائِكَ مِنْ الرُّومِ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتُضَعِّفَهُ عَلَيْنَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَشَاوَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كُرْدُوسٌ التَّغْلِبِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَالِحْهُمْ، فَإِنَّكَ إنْ تُنَاجِزْهُمْ لَمْ تُطِقْهُمْ فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الصُّلْحِ بَعْدَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَزِمَ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ صُلْحَهُمْ حِينَ رَآهُمْ قَلُّوا وَذَلُّوا قُلْنَا قَدْ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ هَذَا الصُّلْحَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ أَنَّ صُلْحَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ ضَغْطَةً وَلَكِنْ تَأَيَّدَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْحَقُّ يَدُورُ مَعَهُ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِمَّا دُونَ النِّصَابِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَالٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضَعْفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ رِجَالِهِمْ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ قَالَ: لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا مَالُ الصُّلْحِ وَالنِّسَاءُ فِيهِ كَالرِّجَالِ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعًا فِرْيَةً» وَهُوَ نَظِيرُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا شَيْءَ مِنْهَا عَلَى النِّسَاءِ فَإِنْ صَالَحَتْ امْرَأَةٌ عَنْ قِصَاصٍ عَلَى مَالٍ أَخَذَتْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَهْدُ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الرِّجَالِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ.
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ سَوَائِمِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ.
أَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ وَلَكِنْ تُوضَعُ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ بَنُو تَغْلِبَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ نَسَبًا لَا وَلَاءً فَبَقِيَتْ مَوَالِيهِمْ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» قُلْنَا الْمُرَادُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي تَغْلِبَ لَا يَكُونُونَ أَعْلَى حَالًا مِنْ مَوَالِي الْمُسْلِمِينَ وَمَوْلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ أَوْلَى.
(قَالَ) وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا صَالَحَهُمْ قَالَ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ مَعْنَاهُ جِزْيَةٌ فِي حَقِّنَا فَنَضَعُهُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ حَقِيقِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذَا التَّقَرُّبِ وَهُوَ جِزْيَةٌ مَعْنًى فَالْجِزْيَةُ اسْمٌ لِمَالٍ مَأْخُوذٍ بِسَبَبِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّضْعِيفِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَسْقُطَ إذَا أَسْلَمُوا فَلِهَذَا يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ قَالَ وَإِذَا ظَهَرَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذُوا مِنْهُمْ صَدَقَةَ أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِمْ وَالْجِبَايَةُ تَكُونُ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّاجِرِ إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَعَشَرَهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشِرُهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَرَضَ مَالَهُ حِينَ مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُعْذَرْ وَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ وَلَكِنْ يُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَدَاءِ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا عَلَى طَرِيقِ الصَّدَقَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ وَلَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفِ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا أَخَذُوا مِنْهُ شَيْئًا ظُلْمًا وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ خَرَاجَ رُءُوسِهِمْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ الْإِمَامُ بِمَا مَضَى لِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ.
فَأَمَّا مَا يَأْخُذُ سَلَاطِينُ زَمَانِنَا هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي يُفْتُونَ بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَ الْمَأْخُوذَ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَقُولُ فِي الصَّدَقَاتِ يُفْتُونَ بِالْإِعَادَةِ فَأَمَّا فِي الْخَرَاجِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتَلَةِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ حَتَّى إذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ ذَبُّوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَ إلَى هَذِهِ الْمَصَارِفِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إذَا نَوَوْا بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَالِهِمْ فَلَوْ رَدُّوا مَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ مَاهَانَ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ أَمِيرًا بِبَلْخٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَسَأَلَ عَنْهَا الْفُقَهَاءَ عَمَّا يُكَفِّرُ بِهِ فَأَفْتَوْهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ لِحَشَمِهِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَا لَكَ مِنْ الْمَالِ وَكَفَّارَتُكَ كَفَّارَةُ يَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الرَّجُلِ مِنْ الْجِبَايَاتِ إذَا نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عُشْرِهِ وَزَكَاتِهِ جَازَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا (قَالَ) وَتُقَسَّمُ صَدَقَةُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى فُقَرَاءِ بِلَادِهِمْ وَلَا يُخْرَجُ إلَى غَيْرِهِمْ «لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ»، وَلِأَنَّ لِفُقَرَاءِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ حَقَّ الْقُرْبِ وَالْمُجَاوَرَةِ، وَاطِّلَاعُهُمْ عَلَى أَرْبَابِ أَمْوَالِهِمْ أَكْثَرُ فَالصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ وَلَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ لِي جَارَيْنِ أَيُّهُمَا أَبِرُّ؟ فَقَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِمْ جَازَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ» وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ نَقَلَ عُشْرَهُ وَصَدَقَتَهُ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ أَيْ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ.
(وَلَنَا) ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَتَخْصِيصُ فُقَرَاءِ الْبَلْدَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهِمْ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ قَدْ حَصَلَ وَقَوْلُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ كَانَ بِالْيَمَنِ كَانَ يَنْقُلُ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَدِينَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ وَأَنْفَعُ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْقُلُ إلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ فُقَرَاءَهَا كَانُوا أَشْرَفَ الْفُقَرَاءِ حَيْثُ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ وَهَاجَرُوا لِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَصْرِفَ الصَّدَقَةَ إلَيْهِمْ وَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ.
(قَالَ) وَمَنْ كَانَ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ سِنِينَ فَلَمْ يُؤَدِّ صَدَقَةَ مَالِهِ، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حِمَايَةِ الْإِمَامِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ كَانَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ لَزِمَهُ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَصَارَتْ الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فِي حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْإِمَامِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهَا كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ (قَالَ) وَالْعَاشِرُ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ رَسُولِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِ كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ (قَالَ) وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ فِي تِلْكَ الدَّارِ سِنِينَ، فَإِنْ عَرَفَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤَدِّهَا، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ يُؤْخَذْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حِمَايَةِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ يُفْتِي بِأَدَائِهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ قَابِلًا لِأَحْكَامِهِ وَجَهْلُهُ عُذْرٌ فِي دَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّرْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ تَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَجُوِّزَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ شَائِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ غَيْرُ شَائِعَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِقِيَامِ الشُّيُوعِ مَقَامَ الْوُصُولِ إلَيْهِ (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى صَدَقَةَ مَالِهِ إلَى الْمُصَدِّقِ الَّذِي كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَكَفَّ عَنْهُ الْمُصَدِّقُ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى كَذِبِهِ بَعْدَ سِنِينَ أَخَذَهُ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يَسْقُطُ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالتَّأْخِيرُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ حَقَّ الْأَخْذِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلِهَذَا أَخَذَهُ بِالصَّدَقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.