فصل: بَابُ الْقِرَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْقِرَانِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ (وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ) أَحَدُهَا فِي تَفْسِيرِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ: فَالْقِرَانُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا أَوْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَرَنَ الشَّيْءَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّمَتُّعُ هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَالْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ أَوَّلًا، ثُمَّ يَعْتَمِرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ فِي السَّفَرِ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يَكُونُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ هُوَ الْقِرَانُ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّمَتُّعُ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ، وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ الْقِرَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ فَالشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَأَنَا مِمَّنْ كُنْت أُفْرِدُ»، وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَإِنَّمَا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَرَّةً فَمَا كَانَ يَتْرُكُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيمَا يُؤَدِّيه مَرَّةً وَاحِدَةً»، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ رُخْصَةٌ كَمَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ تَعَبِكِ وَنَصَبِكِ»، وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ، وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ، وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ، وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً، وَيَحْلِقُ لَهُمَا حَلْقًا وَاحِدًا، وَلِأَجْلِ هَذَا النُّقْصَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ جَبْرًا، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَأَدَاءُ النُّسُكِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إدْخَالِ النُّقْصَانِ وَالْجَبْرِ فِيهَا وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ»،
وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ».
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «كُنْت آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي، وَهُوَ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ جَمَعُوا رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَعَشَرَةٌ مِنْهُمْ تَرْوِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنُوَفِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ «لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ فَسَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَّ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنَقَلُوا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَبَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، ثُمَّ لَبَّى بِهِمَا فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا»، وَكُلٌّ نَقَلَ مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رَوَيْنَا مِنْ تَوْفِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فِعْلِهِ نَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِّلُوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ مَعْنَى الْوَصْلِ وَالتَّتَابُعِ فِي الْعِبَادَةِ.
وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ صَلَوَاتِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ زِيَادَةَ نُسُكٍ، وَهُوَ إرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَإِنَّ دَمَ الْقِرَانِ عِنْدَهُ دَمُ جَبْرٍ حَتَّى لَا يُبَاحَ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَعِنْدَنَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَدَمُ الْجَبْرِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ، وَإِنَّ سَبَبَهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ، وَدَمُ الْجَبْرِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، وَقَدْ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدَايَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قِطْعَةٌ فَتُطْبَخَ لَهُ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا»، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فَدَلَّ أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلِهَذَا جَعَلَ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ نُسُكٍ إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعْجِيلِ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَاسْتِدَامَةِ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا، وَفِي حَقِّ التَّمَتُّعِ الْعُمْرَةُ مِيقَاتِيَّةٌ، وَالْحَجَّةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ مَكِّيَّةٌ يُحْرِمُ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَالْمُفْرِدُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْحِلِّ، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكُوفَةِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا مَقْصُودًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّاسَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلُوَ الْبَيْتُ عَنْ الزُّوَّارِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْتَمِرُوا بِسَفَرٍ مَقْصُودٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْبَيْتُ مِنْ الزُّوَّارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّمَتُّعُ مَكْرُوهًا عِنْدَهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: كُنْت امْرَأً نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَتَيْنِ عَلَيَّ فَقَرَنْتُ بَيْنَهُمَا فَلَقِيتُ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا قَالَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ مَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَتَأَهُّبُهُ لِلْإِحْرَامِ كَتَأَهُّبِ الْمُفْرِدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ.
وَكَذَلِكَ يُلَبِّي بِهِمَا وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} وَلِأَنَّهُ فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يَبْدَأُ بِالْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ يَبْدَأُ فِي التَّلْبِيَةِ بِذِكْرِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ الصَّلَاةِ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ (قَالَ) ثُمَّ يَبْدَأُ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي الْحَجِّ ثُمَّ يَطُوفُ لِلْحَجِّ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى لَهُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ لِحَجَّتِهِ، وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا» هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْهُ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا، ثُمَّ رَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَلِعُمْرَتِكِ» «، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكْتَفِي لَهُمَا بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَفَرٍ وَاحِدٍ، وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ التَّدَاخُلُ فِي الْأَرْكَانِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ فَهِيَ مِنْ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ مَعَ الِاغْتِسَالِ فَكَمَا يَدْخُلُ الْوُضُوءُ فِي الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ قَرَنَ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ»، وَحَدِيثُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ قَرَنَ، وَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الْكِتَابِ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ لِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ نُسُكٍ بِكَمَالِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ أَشْوَاطُ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ.
وَمَعْنَى الدُّخُولِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْوَقْتُ أَيْ دَخَلَ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالسَّفَرُ وَالتَّلْبِيَةُ وَالْحَلْقُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا السَّفَرُ لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ النُّسُكِ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَرْكَانُ الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَدَاءَ شَفْعَيْنِ مِنْ التَّطَوُّعِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يَجُوزُ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الشَّفْعَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَالْوُضُوءُ مَعَ الِاغْتِسَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ لِيَقُومَ إلَى الْمُنَاجَاةِ طَاهِرًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُنَا كُلُّ نُسُكٍ مَقْصُودٌ فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ أَعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرَفٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ) ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ حَتَّى إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَتُجْزِئُهُ الشَّاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ»، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ، وَالْجَزُورُ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} فَمَا كَانَ أَقْرَبَ فِي التَّعْظِيمِ فَذَلِكَ أَفْضَلُ، وَقَدْ «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»، وَلَوْ كَانَ سَاقَ هَدَايَاهُ مَعَ نَفْسِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ وَقَلَّدَهَا، وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّدَهَا بِيَدِهِ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا».
وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»، وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحَلُّلُ الْقَارِنِ بِالذَّبْحِ لَا بِالْحَلْقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ حَتَّى أَنْحَرَ، ثُمَّ أَحْلِقَ بَعْدَهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا لَا يَحِلُّ فِي أَثْنَائِهَا كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ دُونَ الذَّبْحِ (قَالَ) وَإِذَا طَافَ الرَّجُلُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ التَّطَوُّعَ أَوْ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ فَهُوَ طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ كَمَنْ نَوَى بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّطَوُّعَ يَكُونُ لِلزِّيَارَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ، وَهَذَا وَاجِبٌ.
(قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَخْرُجَ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلِ مَكَّةَ بَعْدَ طَوَافِ الصَّدَرِ يُعِيدُ طَوَافَ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ كَاسْمِهِ يَكُونُ لِلصَّدَرِ فَإِنَّمَا يُحْتَسَبُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ حِينَ يَصْدُرُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» يَشْهَدُ لِهَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا قَدِمَ مَكَّةَ إلَّا لِأَدَاءِ النُّسُكِ فَعِنْدَمَا تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلصَّدَرِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ آخِرَ نُسُكِهِ طَوَافُ الصَّدَرِ لَا آخِرَ عَمَلِهِ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ الْمُفْرَدَةُ إذَا أَرَادَهَا يَتَأَهَّبُ لَهَا مِثْلَ مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهَا عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، وَأَقْرَبُ الْجَوَانِبِ التَّنْعِيمُ وَعِنْدَهُ مَسْجِدُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ كُلُّ نِسَائِك يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ، وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ؟ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا يَعْنِي مَكَانَ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَرَفَ النَّاسُ مَوْضِعَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ إذَا أَرَادُوا الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ مَا نَزَلَ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمْرٌ تَكْرَهُهُ إلَّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجٌ.
ثُمَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ يَتَّقِي مَا يَتَّقِيه فِي إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا «حَتَّى يَقْدَمَ مَكَّةَ، وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ حِينَ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ».
وَالِاخْتِلَافُ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ عِنْدَنَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ حِينَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ هُوَ الرُّكْنُ فِي الْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ فَكَمَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَهُنَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَا الطَّوَافُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ وُقُوعَ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ وَرُؤْيَةَ الْبَيْتِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا الْمَقْصُودُ الطَّوَافُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مَعَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجِّ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا (وَالثَّانِي) أَنَّ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ،
وَالسَّعْيِ يَحْلِقُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا حَلْقَ عَلَيْهِ إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَقَطْ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وَهُوَ بُشْرَى لَهُمْ بِمَا عَايَنُوهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلِأَنَّ التَّحَرُّمَ لِلْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ فَكَمَا سَوَّى بَيْنَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ فِي التَّحَرُّمِ فَكَذَلِكَ فِي التَّحَلُّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ سَوَّى بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي التَّحَرُّمِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّحَلُّلِ بِالتَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ هَذَا (قَالَ) وَكَذَا إنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَلَالًا، وَقَدْ بَيَّنَّا صُورَةَ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ كَانَ أَدَاءُ الْأَعْمَالِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْأَعْمَالِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَإِحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِحَيْثُ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَصْبِرَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَجَّ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَيَقُولُ لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِلْمَامَ مَاذَا يَكُونُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَكِّيَّ لَهُ الْمُتْعَةُ وَالْقِرَانُ، وَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَالتَّمَتُّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَأَتَى بَلْدَةً أُخْرَى غَيْرَ بَلْدَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ كُوفِيًّا فَأَتَى الْبَصْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صُورَةَ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً، وَهَذَا حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا إذَا عَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَهُوَ وَاَلَّذِي أَلَمَّ بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ قَوْمًا سَأَلُوهُ فَقَالُوا: اعْتَمَرْنَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ زُرْنَا الْقَبْرَ، ثُمَّ حَجَجْنَا فَقَالَ: أَنْتُمْ مُتَمَتِّعُونَ، وَلِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى حَجَّ، وَعَادَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا (قَالَ) وَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ الرَّوَاحَ إلَى مِنًى لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَلَبَّى بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ شَاءَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ فَسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا جَعَلْنَاهَا بِظَهْرٍ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ بِمَكَّةَ حَلَالٌ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ يُحْرِمُ مِنْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ وَرُكْنُ الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ، وَهُوَ مُؤَدًّى فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ، وَمُعْظَمُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ الْوُقُوفُ، وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ.
(قَالَ) وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَمَا قُدِّمَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»، وَلَمَّا «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ: أَحَمْزُهَا».
(قَالَ) وَيَرُوحُ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيَعْمَلُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمَ الْمُتْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}، ثُمَّ يَحْلِقُ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَيَزُورُ الْبَيْتَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ عَلَى هِينَتِهِ هُوَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمَلَ فِي أَوَّلِ طَوَافِ الْحَجِّ سُنَّةٌ، وَالسَّعْيَ عَقِيبَ أَوَّلِ طَوَافٍ فِي الْحَجِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ فِي الْحَجِّ هُنَاكَ، وَسَعَى بَعْدَهُ فَلِهَذَا لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ مَرَّةً، وَإِنْ كَانَ حِينَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَاقَ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {وَلَا الْقَلَائِدَ} وَلَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُقَلِّدَ الْهَدْيَ بَعْدَمَا يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَلَّدَ الْهَدْيَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَسَاقَهُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ صَارَ مُحْرِمًا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَلَائِدِ قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فَدَلَّلَ أَنَّهُ بِالتَّقْلِيدِ يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالتَّلْبِيَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ فَإِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى أَقَامَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ سَوْقَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا».
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَمَا إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ».
فَإِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ،
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِحْرَامَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجَّتِهِ فَعَلَ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى رَمَلَ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ طَافَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
(قَالَ) وَلَا يَدَعُ الْحَلْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُلَبِّدًا أَوْ مُضَفِّرًا أَوْ عَاقِصًا، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَ رَأْسِهِ عَلَى هَامَتِهِ، وَيَشُدَّهُ بِصَمْغٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ كَاللِّبْدِ، وَالتَّضْفِيرُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْرَهُ ضَفَائِرَ، وَالْعَقْصُ هُوَ الْإِحْكَامُ، وَهُوَ أَنْ يَشُدَّ شَعْرَهُ حَوْلَ رَأْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ، وَلَا يَدَعُ مَا هُوَ الْأَفْضَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ «لَبَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ» كَمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، وَمَعَ ذَلِكَ حَلَقَ (قَالَ) وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ أَلَا تَرَى «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَصَفَ لَهَا حَالَ نَفْسِهِ فِي الِاغْتِسَالِ فَدَلَّ أَنَّ حَالَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّهَا تَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الدُّرُوعِ وَالْقُمْصَانِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفِّ وَالْقُفَّازَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ» كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ»، وَفِي لُبْسِ الْإِزَارِ، وَالرِّدَاءِ يَنْكَشِفُ بَعْضُ الْبَدَنِ عَادَةً، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى أَسْتَرِ الْوُجُوهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ فَلِهَذَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ وَالْخُفَّيْنِ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا، وَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنْهَا عَوْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ تُجَافِي عَنْ وَجْهِهَا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كُنَّا فِي الْإِحْرَامِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْشِفُ وُجُوهَنَا فَإِذَا اسْتَقْبَلَنَا قَوْمٌ أَسْدَلْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُصِيبَ وُجُوهَنَا»، وَلَا تَلْبَسُ الْمَصْبُوغَ بِوَرْسٍ، وَلَا زَعْفَرَانٍ، وَلَا عُصْفُرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ غُسِلَ؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ فِي حَقِّهَا مِنْ اللُّبْسِ كَانَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضِرْوَةَ فِي لُبْسِ الْمَصْبُوغِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَزَيُّنٌ، وَهِيَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ كَالرَّجُلِ، وَلَا حَلْقَ عَلَيْهَا إنَّمَا عَلَيْهَا التَّقْصِيرُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ، وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ زِينَةٌ لَهَا كَاللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ فَكَمَا لَا يَحْلِقُ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا تَحْلِقُ هِيَ رَأْسَهَا، وَلَا رَمَلَ عَلَيْهَا فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ لِإِظْهَارِ التَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِتُظْهِرَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا فِي رَمَلِهَا، وَسَعْيِهَا أَوْ تَسْقُطَ لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا فَلِهَذَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَتُؤْمَرُ بِأَنْ تَمْشِيَ مَشْيًا فَهَذَا الْقَدْرُ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي الْفَرْقِ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا إنَّهَا لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَيْضًا لِمَا فِي رَفْعِ صَوْتِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ وَالزَّحْمَةِ مَعَهُمْ فَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إلَّا إذَا وَجَدَتْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا عَنْ الرِّجَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ.