فصل: كِتَابُ الْوَلَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْوَلَاءِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَلَاءَ نَوْعَانِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، فَوَلَاءُ النِّعْمَةِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ {إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَالْآيَةُ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولُونَ: سَبَبُ هَذَا الْوَلَاءِ الْإِعْتَاقُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ مَوْلًى لَهُ، وَلَا إعْتَاقَ هُنَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ.
يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَلَا يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةَ.
وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاصَرُونَ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْحَلِفُ وَالْمُحَالَفَةُ.
فَالشَّرْعُ قَرَّرَ حُكْمَ التَّنَاصُرِ بِالْوَلَاءِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ»، فَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ بِالْحَلِفِ، وَلِمَعْنَى التَّنَاصُرِ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ التَّعَاقُدِ بِالْوَلَاءِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمَ الْإِرْثِ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ تَفَاوُتٌ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ، أَمَّا ثُبُوتُ أَصْلِ الْمِيرَاثِ بِالسَّبَبَيْنِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.
وَالْمُرَادُ الْمُوَالَاةُ وَفِيهِ تَحْقِيقُ مُقَابَلَةِ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ وَيَرِثُ مَالَهُ، إلَّا أَنَّ الْإِرْثَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلْمُعْتِقِ فِي مُعْتَقِهِ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَدَعْ وَارِثًا كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتُهُ»، فَقَدْ شَرَطَ لِتَوْرِيثِهِ عَدَمَ الْوَارِثِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ» وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وَمَا أَشْبَهَ الشَّيْءَ لَا يُزَاحِمُهُ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، بَلْ يَخْلُفُهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَكِنَّا نَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا فَمَاتَ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ بِنْتًا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ الْمَالِ لِلْبِنْتِ وَنِصْفَهُ لِبِنْتِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْفَرْضِ لِلْعَصَبَةِ»، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتِقَ عَصَبَةٌ وَرَدَّ الْبَاقِي عَلَى صَاحِبِ الْفَرْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ ذَوِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ عَلَى الْبِنْتِ بَلْ جَعَلَهُ لِلْمُعْتِقَةِ، عَرَفْنَا أَنَّهَا عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَفِي حَدِيثِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتُهُ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ مُرَادَهُ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا هُوَ عَصَبَةٌ.
وَقَوْلُهُ: «وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ» دَلِيلُنَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُضَافُ إلَى الْمُعْتِقِ بِالْوَلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقُّ تَلَفٌ حُكْمًا، فَكَانَ كَالْأَبِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِإِيجَادِ الْوَلَدِ فَتُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ، كَمَا تُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِالْأُبُوَّةِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الْإِضَافَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُضَافُ إلَى عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ الْوَلَاءِ، وَكَانَ الْوَلَاءُ خَلَفًا عَنْ الْأُبُوَّةِ فِي حُكْمِ الْإِضَافَةِ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْعُصُوبَةُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ كَمَا تُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِالْأُبُوَّةِ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الْوَرَثَةُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ مُؤَخَّرٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ أَصْلًا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ فِيمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ عِنْدَنَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ الْمَالِ وَعِنْدَهُ يَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ ذَلِكَ الْحَقِّ بِعَقْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ وَعِنْدَنَا الْمَالُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ لَا لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِبَيْتِ الْمَالِ.
فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَارِثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُوجِبَهُ بِعَقْدِهِ لِمَنْ شَاءَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّائِبَةُ يَضَعُ مَالَهُ حَيْثُ أَحَبَّ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ بِالْوَلَاءِ بَعْدَ الْمُعْتِقِ يَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ دُونَ بِنْتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
هُوَ يَقُولُ: الْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَكَمَا أَنَّ أَصْلَ مِلْكِ الْأَبِ فِي هَذَا الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ بِالْعِتْقِ يَزُولُ بَعْضُ الْمِلْكِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ.
وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَالنَّسَبُ لَا يُورَثُ وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ.
فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ بِإِحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَقِ وَنَفْيِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَلَاءُ جُزْءًا مِنْ الْمِلْكِ؟ وَمَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ لِلْقُرْبِ وَالْكِبَرُ بِمَعْنَى الْعِظَمِ وَبِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَدَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا}.
وَتَفْسِيرُهُ، رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ أَقْرَبُ إلَى الْمُعْتِقِ مِنْ ابْنِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ فَكَذَلِكَ بِالْإِرْثِ بِوَلَائِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ عَيْنُهُ لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا بَيْنَ الِابْنَيْنِ حَتَّى يَخْلُفَ الِابْنُ أَبَاهُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَكِنَّهُ لِلْأَبِ عَلَى حَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَقَ يُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَى الْمُعْتِقِ دُونَ أَوْلَادِهِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَخْلُفُهُ فِيهِ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ كَمَا يَخْلُفُهُ فِي مَالِهِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ، فَيَكُونُ لِابْنِهِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ، وَدُونَ ابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ.
وَالْبِنْتُ لَا تَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَكُونُ عَصَبَةً بِالِابْنِ، فَعِنْدَ وُجُودِهِ لَا تُزَاحِمُهُ وَعِنْدَ عَدَمِهِ هِيَ لَا تَكُونُ عَصَبَةً، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النُّصْرَةُ كَمَا بَيَّنَّا.
وَالنُّصْرَةُ لَا تَحْصُلُ بِالنِّسَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَ حَمْلِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِرْثِ بِوَلَاءِ الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِالْوَلَاءِ طَرِيقُهُ الْعُصُوبَةُ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ مُقَدَّمٌ، فَلِهَذَا يُعْطِي نَصِيبَ بِنْتِ الْمُعْتِقِ أَوَّلًا وَكَذَلِكَ نَصِيبُ زَوْجَتِهِ إنْ كَانَتْ، ثُمَّ حُكْمُ الْبَاقِي هُنَا كَحُكْمِ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَيَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الِابْنُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَتْ بِنْتُ الْمُعْتِقِ فَمِيرَاثُهَا لِابْنَيْ الْمُعْتِقِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِأَبِيهَا فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ حَقِيقَةً لَهُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهِ فَكَانَ مِيرَاثُهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ ابْنَا ابْنِهِ كَمَا فِي مَالِهِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ.
وَكَذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ عَصَبَةٍ لِلْمُعْتِقِ وَقَدْ طَوَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَقْرَبَ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ يَخْلُفُهُ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ.
(قَالَ): فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الِابْنَيْنِ ابْنَانِ وَلِلْآخَرِ ابْنٌ وَاحِدٌ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَوْ مَاتَ الْآنَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الْمُعْتَقِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَلَاءِ الْمُدَبَّرِ وَمِيرَاثِهِ وَوَلَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَمِيرَاثِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَالْمُسْتَوْلَدَ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُمْ لِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْعِتْقِ بِهَذَا السَّبَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَبِعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ بِمَا أَوْصَى بِهِ وَفِعْلُ وَصِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ الْمُعْتَقِ مَاتَتْ عَنْ بِنْتٍ ثُمَّ مَاتَتْ ابْنَتُهَا فَلَيْسَ لِابْنَيْ ابْنِ الْمُعْتَقِ مِنْ مِيرَاثِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَرِثْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْلًى لَهَا إنَّمَا هُوَ مَوْلًى لِأُمِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ فِي النَّسَبِ لَا يَتْبَعُ أُمَّهُ إذَا كَانَ لَهُ نَسَبٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَعَنْ شُرَيْحٍ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ شَيْءٌ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، وَبِهَذِهِ الْآثَارِ نَأْخُذُ فَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ أَوْ جَرَّهُ وَلَاءُ مُعْتَقِ مُعْتَقِهِنَّ».
وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فَقَدْ تَأَكَّدَ بِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَيْنَا «أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَعْتَقَتْ مَمْلُوكًا فَمَاتَ، وَتَرَكَ بِنْتًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَهُ النِّصْفَ وَبِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» النِّصْفَ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عَصَبَةً لِمُعْتِقِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ لِلْوَلَاءِ إحْدَاثُ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ سَبَبَهُ الْفِرَاشُ، وَالْفِرَاشُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ صَاحِبَةَ فِرَاشٍ؛ وَلِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي هَذَا الْوَلَاءِ لِمُبَاشَرَتِهَا سَبَبَهُ وَكَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِلْكِ الْمَالِ تُسَاوِي الرَّجُلَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْفِرَاشُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فِي الْأَصْلِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ مَمْلُوكَةٌ نِكَاحًا فَلَا تَكُونُ مَالِكَةً نِكَاحًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي هَذَا الْوَلَاءِ كَانَ مِيرَاثُ مُعْتِقِهَا لَهَا فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ مُعْتَقِ مُعْتِقِهَا لِأَنَّ مُعْتَقَ الْمُعْتِقِ يُنْسَبُ إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ، وَهِيَ مِثْلُ الرَّجُلِ فِي الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتِقُ الْأَوَّلُ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَ مُعْتَقِ الْمُعْتِقِ يَكُونُ لِمُعْتَقِهِ بِالْعُصُوبَةِ وَمُعْتِقُهُ مُعْتِقُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَتَخْلُفُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمَا تَخْلُفُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْعُصُوبَةِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ، وَعَلَى هَذَا مُكَاتَبُهَا وَمُكَاتَبُ مُكَاتَبِهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ كَالْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا جَرَّ وَلَاءُ مُعْتَقِ مُعْتِقِهَا لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَتَسْتَوِي هِيَ بِالرَّجُلِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَابْنٍ وَبِنْتٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ، فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا إذْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا فِي الْعُصُوبَةِ حَظٌّ، وَالْبِنْتُ لَا تَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا، فَكَانَ أَقْرَبَ عَصَبَتِهَا الِابْنُ فَيَخْلُفُهَا مِنْ مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ أَعْتَقَتْهُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لَهَا بِإِحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَقِ وَفِي هَذَا يَسْتَوِي الْعِتْقُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
(قَالَ): وَإِذَا اشْتَرَتْ امْرَأَتَانِ أَبَاهُمَا فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا مَعَ الْأَبِ أَخًا لَهَا مِنْ الْأَبِ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَابْنَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُمَا مِنْ مِيرَاثِهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَاهُ لِأَبٍ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثُمَّ لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَخَ مَعَ الْأَبِ بِالْوَلَاءِ نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهَا مُعْتِقَةٌ نِصْفَهُ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ الْقَرِيبَ إعْتَاقٌ وَهِيَ الْمُشْتَرِيَةُ لِنِصْفِ الْأَخِ وَلَهُمَا جَمِيعًا نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بِوَلَاءِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ هُوَ الْمُعْتِقُ لِهَذَا النِّصْفِ مِنْ الْأَخِ بِشِرَائِهِ، وَهُمَا كَانَتَا مُعْتِقَتَيْنِ الْأَبَ بِشِرَائِهِمَا إيَّاهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِ مُعْتَقِهَا كَالرَّجُلِ، وَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ أَبِيهِمَا.
(قَالَ): امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَبَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لِأَبِيهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأُبُوَّةَ تُسْتَحَقُّ بِهَا الْعُصُوبَةُ كَالْبُنُوَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ عَصَبَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ يَنْبَنِي عَلَى الْعُصُوبَةِ، وَوُجُودُ الِابْنِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا حِرْمَانَ الْأَبِ أَصْلًا عَنْ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ مِيرَاثِهَا بِهَذَا، فَكَذَلِكَ عَنْ مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ بَيْنَهُمَا كَمِيرَاثِهِمَا لَوْ مَاتَتْ الْآنَ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرٌ فِي نَفْسِهِ وَيَتَّصِلُ بِهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْجُوبًا بِالْآخَرِ، فَهَذَا شِبْهُ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لِأَنَّ أَقْرَبَ عَصَبَةِ الْمُعْتَقِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ، وَالِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ دُونَ الْأَبِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَبِ السُّدُسَ مِنْهَا بِالْفَرِيضَةِ دُونَ الْعُصُوبَةِ، فَهُوَ كَاسْتِحْقَاقِ الْبِنْتِ نِصْفَ مَا لَهَا بِالْفَرِيضَةِ مَعَ الْأَبِ.
وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُزَاحَمَتِهَا مَعَ الْأَبِ فِي مِيرَاثِ مُعْتِقِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا.
(قَالَ): رَجُلٌ أَعْتَقَ أَمَةً ثُمَّ غَرِقَا جَمِيعًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَشَرْطُ اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ الْغَيْرِ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ هُنَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَوْ عَلِمْنَا مَوْتَهُمَا مَعًا لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَكِنْ مِيرَاثُهَا لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَرِثْهَا جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ مَيِّتًا قَبْلَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثُهَا لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا مِنْ أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأَمَةُ، فَمِيرَاثُهَا لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ وَلَيْسَ لِلْأَخِ لِأُمٍّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَخَ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ أَوْ أَخًا لِابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ وَأَخُ ابْنِ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَأَخُ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ إنَّمَا هُوَ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ وَلَا يَخْلُفُ الْمُعْتِقَ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِهِ إلَّا مَنْ كَانَ عَصَبَةً لَهُ.
(قَالَ): امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُمَا، فَالْمِيرَاثُ لِلِابْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا، يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ بِالْإِرْثِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ فِي الْخِلَافَةِ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَعَقْلُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَخِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ مُعْتِقِهَا كَجِنَايَتِهَا وَجِنَايَتِهَا عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا، فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مُعْتَقِهَا.
وَابْنُهَا لَيْسَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا.
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي مَوْلًى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَاتَ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَمَّتِي وَأَنَا أَرِثُ مَوْلَاهَا، وَأَعْقِلُ عَنْهُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أُمِّي وَأَنَا أَرِثُ مَوْلَاهَا فَقَضَى عُمَرُ بِالْمِيرَاثِ لِلزُّبَيْرِ وَبِالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: شَهِدْتُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ ذَهَبَ بِمَوَالِي صَفِيَّةَ، وَشَهِدْتُ عَلَى جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِمَوَالِي أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَ ابْنًا لَهَا، فَخَاصَمَهُ عَلَى مِيرَاثِ مَوْلَاهَا، فَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَثْبُتُ أَنَّ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ يَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ، وَإِنْ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.