فصل: بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَالَ: يَقْطَعُ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ الْيُمْنَى وَأَرْجُلَهُمْ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُصَلِّبَهُمْ إنْ شَاءَ، وَإِنَّمَا شَرْطُنَا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا؛ لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبُونَ بِالنَّصِّ، وَالْمُحَارَبَةُ عَادَةً مِنْ قَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَقْوَوْنَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ إلَّا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَشَرْطُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا فَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ خِلَافٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَشَرْطُ أَنْ يَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً فِي مَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لِانْعِدَامِ الْعِصْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فِي مَالِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى فَهُوَ مِثْلُهُ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى.
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى التَّرْتِيبِ بِحَسَبِ جِنَايَتِهِمْ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ نَأْخُذْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قَدْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ أَغْلَظُ الْعُقُوبَاتِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ عَلَى مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُبَاشِرْ، وَالْقَطْعُ جَزَاءُ أَخْذِ الْمَالِ، كَمَا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى إلَّا أَنَّ ذَاكَ دَخَلَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخْفِي فِعْلَهُ، وَهَذَا يَغْلُظُ بِالْمُجَاهَرَةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ أَعْضَائِهِ ثُمَّ مَنْ هَمَّ بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، فَكَذَلِكَ مَنْ هَمَّ بِأَخْذِ الْمَالِ هَاهُنَا وَلَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامُ فِيهِمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ قَتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامُ يَصْلُبُهُمْ أَخْذًا فِيهِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، كَمَا إذَا اجْتَمَعَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالرَّجْمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ فَلَا فَائِدَةَ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَرْفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَبْنَى هَذَا الْحَدِّ عَلَى التَّغْلِيظِ لِغِلَظِ جَرِيمَتِهِمْ وَالْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ أَقْرَبُ إلَى التَّغْلِيظِ فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ هَذَا الْحَدُّ، وَالثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ السَّبَبِ وَالْكُلُّ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الزِّنَا إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ.
(فَإِنْ قِيلَ) هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَدَعَ الْقَطْعَ.
(قُلْنَا) لَا بِطَرِيقِ التَّدَاخُلِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي أَجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْقَطْعِ بَعْدَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ كَالزَّانِي إذَا ضُرِبَ خَمْسِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الصَّلْبِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَاكْتَفَى بِالْقَتْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَ الصَّلْبَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِشْهَارُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ فَيَنْزَجِرَ فَلَا يَتْرُكُهُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ يَتِمُّ بِالْقَتْلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَبَ أَحَدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْعُرَنِيِّينَ مَعَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي عُقُوبَتِهِمْ حَتَّى سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ.
(قَالَ) وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْلُبَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ يَطْعَنُ تَحْتَ ثَنْدُوَتِهِمْ الْأَيْسَرِ لِيَمُوتُوا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا صَلَبَهُمْ أَحْيَاءَ لَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ فَبِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِي قَتْلِهِمْ ثُمَّ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاشْتِهَارِ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ يَتْرُكُهُمْ عَلَى الْخَشَبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُمْ كَذَلِكَ تَغَيَّرُوا وَتَأَذَّى بِهِمْ الْمَارَّةُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيُنْزِلُوهُمْ فَيَدْفِنُوهُمْ.
(قَالَ) وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُمْ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجِرَاحَاتِ فِي تَعَلُّقِ الْأَرْشِ وَالْقِصَاصِ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْجَبُوا أَتَمَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَعَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ يُقَامُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِسْقَاطُ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ وَيَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِمْ أَوْ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِمْ، فَأَمَّا مَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا عَفْوَ فِيهِ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ نَائِبٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ فِي الْعَفْوِ كَغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا «لَا يَنْبَغِي لِوَالِي حَدٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَقَامَهُ» ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَتْلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ مُتَحَتِّمٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ عَفْوُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتْلٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَتْلِ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ يَكُونُ قِصَاصًا إلَّا أَنَّهُ تَأَكَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِسْقَاطُ كَالْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ثُمَّ الْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ الْقَتْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ هَذَا الْقَتْلِ مَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَمَا يَجِبُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ خِزْيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
(قَالَ) فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُحَارِبٌ، وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى يَسْتَوِي بِالْحُرِّ، فَكَذَلِكَ فِي الْكُبْرَى، وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَتْلٌ وَقَطْعٌ، وَفِي الْقَطْعِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالسَّرِقَةِ، وَفِي الْقَتْلِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالرَّجْمِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُحَارَبَةُ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ بِهِمْ وَالْمَرْأَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَتْ بِمُحَارِبَةٍ كَالصَّبِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَأَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ ثُمَّ يُسَاوِيهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحَدِّ، وَفِي الصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الرِّجَالِ الطَّرِيقَ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ فَبَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقَتْلَ وَأَخَذَتْ الْمَالَ دُونَ الرِّجَالِ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَامُ عَلَيْهَا، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِيهِمْ وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ فِيهِمْ كَالصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَا يُقَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الرِّدْءُ تَبَعٌ لِلْمُبَاشِرِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالرِّجَالُ لَا يَصْلُحُونَ تَبَعًا لِلنِّسَاءِ فِي التَّنَاصُرِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِمَا جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الرِّجَالِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا الْفِعْلُ مِنْهَا بِقُوَّتِهِمْ، فَإِنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِدُونِ الرِّجَالِ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا مَعْنًى فِيهَا لَا فِي فِعْلِهَا، وَهُوَ أَنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصِحُّ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْفِعْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
(قَالَ) وَالْمُبَاشِرُ وَغَيْرُ الْمُبَاشِرِ فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْفِعْلَ كَحَدِّ الزِّنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَفِي حَقِّ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَأْخُذُوا.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحَارَبَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ كَاسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْغَنِيمَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا مُبَاشِرُونَ السَّبَبَ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا جَمِيعًا بِالْقِتَالِ خَفِيَ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ لِكَثْرَةِ الزَّحْمَةِ، وَلَا يَسْتَقِرُّونَ إنْ زَلَّتْ قَدَمُهُمْ فَانْهَزَمُوا، فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ رِدْءًا لَهُمْ الْتَجَئُوا إلَيْهِمْ وَتَنْكَسِرُ شَوْكَةُ الْخُصُومِ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَتَوَلَّى أَخْذَ الْمَالِ الْأَصَاغِرُ مِنْهُمْ وَالْأَكَابِرُ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ يَكُونُ بِهِمْ جَمِيعًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ مُبَاشِرُونَ لِلسَّبَبِ، فَأَمَّا أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلُ شَرْطٌ فِيهِ وَإِذَا صَارَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا بِقُوَّتِهِمْ وَبَاشَرُوا السَّبَبَ بِأَجْمَعِهِمْ قُلْنَا: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ.
(قَالَ) وَإِنْ أَصَابُوا الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَلَمْ يُقَتَّلُوا؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا أَخْذَ الْمَالِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ جَزَاؤُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
(قَالَ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا طُلِبُوا إلَى أَنْ يُوجَدُوا أَوْ يَنْقَطِعَ أَذَاهُمْ وَيَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ مِنْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ، وَذَلِكَ نَفْيُهُمْ مِنْ الْأَرْضِ فِي تَأْوِيلِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ قَتَلُوا، وَلَمْ يُصِيبُوا مَالًا قُتِلُوا، وَلَمْ تُقْطَعْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ أَخْذِ الْمَالِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ.
(قَالَ) فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ثُمَّ تَابُوا فَرَدُّوا الْمَالَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ الْإِمَامَ لَمْ يَقْطَعْهُمْ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ تَوْبَتِهِ فِي رَدِّ الْمَالِ لِيَنْقَطِعَ بِهِ خُصُومَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ إلَّا بِخُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْجَرِيمَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُمْ أَوْ يُصَالِحُونَهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي التَّوْبَةِ إنَّمَا يَسْقُطُ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَلِأَوْلِيَائِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وَقَدْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ مُتَقَرِّرًا مِمَّنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ حَدًّا كَانَ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ الْقَوَدِ، فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ زَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْقَوَدِ وَالْقَوَدُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ دُونَ الرِّدْءِ.
(قَالَ) وَلِلْوَلِيِّ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِوَلِيِّ الْقَتْلِ أَتَعْفُو فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَقْتُلُ فَقَالَ نَعَمْ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَاشَرَ مِنْهُمْ الْجِرَاحَاتِ فَفِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ بِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْجِرَاحَاتِ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَالَ سَقَطَ حُكْمُ التَّضْمِينِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقَطْعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ ظَهَرَ حُكْمُ التَّضْمِينِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا حُبِسُوا حَتَّى يَتُوبُوا بَعْدَ مَا يُعَزَّرُونَ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ عُوقِبُوا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِمَا فِي التَّعْزِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} يَعْنِي يُحْبَسُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ الطَّلَبُ لِيَهْرُبُوا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فَالْأَخْذُ بِمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُطَالَبُونَ بِمُوجَبِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ أَرْشٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْجِرَاحَاتِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ تَابُوا، وَفِيهِمْ عَبْدٌ قَدْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ دَفَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ فَدَاهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَبْقَى حُكْمُ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَطْرَافِ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَمْدًا لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ فِي مَالِهَا.
(قَالَ) وَإِذَا أَخَذَهُمْ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا، وَقَدْ أَصَابُوا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْمَالِ الْمُصَابِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ قَطْعَ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهَا هُنَا الْمُسْتَحَقُّ قَطْعُ عُضْوَيْنِ، وَلَا يُقْطَعُ عُضْوَانِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا حَدٌّ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي مَالًا خَطِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ خَطِيرٌ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ إقَامَةُ الْحَدِّ، كَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ تَغَلُّظُ الْحَدِّ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ تَغَلُّظِ فِعْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ فَفِي النِّصَابِ هَذَا الْحَدُّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَكَذَا مَذْهَبُهُ فِي الصُّغْرَى، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا كَامِلًا سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَاحِدُ أَوْ الْجَمَاعَةُ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطِيرًا فِي نَفْسِهِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ فِي نَفْسِهِ تَافِهًا ثُمَّ يَضْمَنُونَ الْمَالَ إذَا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَالْأَمْرُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَغَيْرِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ شَاءُوا اسْتَوْفَوْا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا لَا قِصَاصًا وَالرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذُوا مَعَ الْقَتْلِ مَالًا يَبْلُغُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا إمَّا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَمَا يُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَكِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَخْذَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقَتْلِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَهُمْ لَمْ يَكُنْ الْمَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَتْلَ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ قَتْلًا بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمْ كَانَ أَخْذَ الْمَالِ وَأَنَّ إقْدَامَهُمْ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا دُونَ النِّصَابِ، فَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَيَبْقَى حُكْمُ الْقِصَاصِ قَالَ وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى قَوْمٍ مُسَافِرِينَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَأُخِذُوا بِرَدِّ الْمَالِ وَأُدِيرُوا وَحُبِسُوا وَالْأَمْرُ فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ جُرِحَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ وَجَرِيمَتُهُمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَغْلَظُ مِنْ جَرِيمَتِهِمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ تَغَلُّظَ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَالَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ، وَهَذَا فِي الْمِصْرِ أَظْهَرُ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَدُّ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْمِصْرِ، وَفِي الْمَفَازَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنْ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ لَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَ الْقُرَى فَالنَّاسُ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّطَرُّقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَعْدَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمَفَازَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَسِيرُ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَمِدًا عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالنَّاسِ عَادَةً، وَهُوَ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ بِالتَّطَرُّقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِهِ مَعْنَى النُّقْصَانِ فِي فِعْلِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مُحَارَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُخْتَلِسِ مِنْ السَّارِقِ فِي أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا جَاهَرَ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمِصْرِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَثَبَتَ مَعَ ذَلِكَ تَمَكُّنُ دَفْعِ الْقَاصِدِ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى نَادِرٍ، وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ كَانَ يَنْدُرُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعُمْرَانِ وَاتِّصَالِ عُمْرَانِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ هَذِهِ الْعَادَةَ وَهِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ فِي الْأَمْصَارِ فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي الْأَمْصَارِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ قَصَدَهُ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْقُرَى بِالسِّلَاحِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ قَصَدَهُ بِالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ يُقَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ، فَأَمَّا الْخَشَبُ وَالْحَجَرُ لَا يَكُونُ مِثْلَ السِّلَاحِ فِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَوْثَ يَلْحَقُ بِالنَّهَارِ فِي الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي اللَّيْلِ الْغَوْثُ يُبْطِئُ فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ وَيَخْرُجُوا قَدْ أَتَى عَلَيْهِ، فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ.
(قَالَ) وَإِنْ بَيَّتُوا عَلَى مُسَافِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي غَيْرِ مِصْرٍ، وَلَا فِي مَدِينَةٍ فَكَابَرُوهُمْ وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِينَ قَطَعُوا الطَّرِيقَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلُوا فِي مَشْيِهِمْ أَوْ فِي حَالِ نُزُولِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ نَزَلَ الْمُسَافِرُونَ مَنْزِلًا فِي قَرْيَةٍ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْقَرْيَةَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُغِيثُ الْبَعْضَ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ أَغَارَ بَعْضُ النَّازِلِينَ فِي الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَعْضِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، فَإِنْ نَزَلَ رَجُلٌ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي فُسْطَاطٍ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ وَضَمَّ إلَيْهِ مَتَاعَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَسَرَقَ مِنْ فُسْطَاطِهِ أَوْ بَيْتِهِ شَيْئًا فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي السَّارِقِ فِي الْمِصْرِ.
(قَالَ) وَمَا قَتَلَ بِهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ عِصِيٍّ أَوْ سَوْطٍ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَنْبَنِي عَلَى الْمُحَارَبَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِالْغَنِيمَةِ وَثُبُوتِ صِفَةِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ الْعَمْدِيَّةَ وَالْمُمَاثَلَةَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ.
(قَالَ) وَإِذَا أَخَذَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ وَيَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةٌ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ لِمَا بَيَّنَّا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي السَّرِقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاسْتِهْلَاكِ الْحُكْمِيِّ أَوْ شُبْهَةِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ إتْلَافَهُ حَقِيقَةً قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لِشَلَلٍ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعَ هَذَا الْقَطْعِ جَزَاءُ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُسْتَوْفَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُتْلِفًا لَهُ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ؟ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ حُكْمًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ إتْلَافًا ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ إتْلَافًا مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْيُمْنَى مِنْهُ مَقْطُوعَةً قُطِعَتْ الرِّجْلُ الْيُسْرَى وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ، وَإِنْ كَانَ أَشَلَّ الْيُمْنَى قَطَعَهَا مَعَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ.
(قَالَ)، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْقُطَّاعِ أَوْ شَرِيكٌ لَهُ مُفَاوِضٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِلشُّبْهَةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ لِلشَّرِكَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ شَرِكَةٌ لِلْجَمِيعِ وَلِلشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ؛ لِأَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فِي حُكْمِ الْعُقُوبَةِ، كَمَالِهِ فَشَرِكَتُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ أَحَدِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ، فَأَمَّا إذَا أَخَذُوا مَعَ ذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ يَلْزَمُهُمْ الْقِطَاعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَالِ، كَمَا لَوْ سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالًا وَمِنْ حِرْزِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَاكَ فِي الْحِرْزِ.
وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِرْزِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حَافِظٌ لِمَالِهِ مُحْرِزٌ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَالَ جَمِيعِ الْقَافِلَةِ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا أَخْذَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي حَقِّهِمْ، فَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي جَمِيعِهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ثُمَّ مِنْ حِرْزٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ هُنَاكَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ ثُمَّ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ أَجَانِبَ وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْقَتْلِ حَتَّى لَوْ قَتَلُوا أَحَدَهُمْ يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْقَتْلِ.
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمْ بِمُعَايَنَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِالْقَطْعِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ، وَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْنَا وَعَلَى أَصْحَابِنَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَأَخَذُوا الْمَالَ مِنَّا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى وَالِدِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ خُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَفِيمَا كَانَ الْخَصْمُ أَبَ الشَّاهِدِ أَوْ ابْنَ الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِأَبِيهِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ أَوْ لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ إلَّا إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى خُصُومَةِ الْخَصْمِ.
(قَالَ) فَإِنْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى تُجَّارٍ مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يُمْضِ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا السَّبَبَ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ، وَفِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ إذَا كَانُوا فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ يَدُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا رُفِعَ قَوْمٌ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إلَى الْقَاضِي فَرَأَى تَضْمِينَهُمْ الْمَالَ وَسَلَّمَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَوَدِ فَصَالِحُوهُمْ عَلَى الدِّيَاتِ ثُمَّ رُفِعُوا بَعْدَ زَمَانٍ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إمَّا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ أَوْ لِانْعِدَامِ الْخَصْمِ، وَقَدْ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُمْ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لِقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِمْ بِمَا قَضَى، فَإِنَّ ذَلِكَ نَافِذٌ لِحُصُولِهِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبُ الْقَوَدِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ.
(قَالَ) وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَحُبِسُوا لِذَلِكَ فَذَهَبَ رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَلَّ دَمَهُمْ حِينَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ، وَمَنْ قَتَلَ حَلَالَ الدَّمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ سُقُوطَ حُرْمَةِ أَطْرَافِهِ ضَرُورَةً وَيَتِمُّ بَقِيَّةُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَإِنْ افْتَاتَ فِيهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَدِّ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ حِينَ قُدِّمَ إلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا عِصْمَةَ فِي طَرَفِهِ، وَلِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيمَا صَنَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَدَّادِ.
(قَالَ)، وَإِذَا أَقَرَّ الْقَاطِعُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَرَّةً وَاحِدَةً أُخِذَ بِالْحَدِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَأُخِذَ بِالْمَالِ وَالْقَوَدِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ بَاطِلٌ.
(قَالَ) وَإِذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَخَذَ الْمَالَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ زَمَانًا لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُقَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَزِمَهُ بِارْتِكَابِ سَبَبِهِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِتَوْبَتِهِ وَتَحَوُّلِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ قَطَعَ الطَّرِيقَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَتَابَ فَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَرَكَ وَتَحَوَّلَ عَنْهُ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ.
(قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحَدُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ فِي مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ قَائِمٌ، وَهُوَ كَوْنُ مَالِكِهِ حَرْبِيًّا، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ الْمَالَ وَدِيَةَ الْقَتْلَى لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ بِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا مُسْقِطٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يُوجَعُونَ عُقُوبَةً لِتَخْوِيفِهِمْ النَّاسَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، كَمَا إذَا لَمْ يُصِيبُوا مَالًا، وَلَا نَفْسًا.
(قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَمُسْتَأْمَنُونَ أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَقَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَاصَّةً فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْقَافِلَةِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ الْحَدِّ كَمَالِهِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي فِعْلِهِمْ، فَأَمَّا مَالُ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَيْسَ كَمَالِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالِهِمْ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْتَأْمَنَيْنِ بِشَيْءٍ.
(قَالَ) وَإِذَا أَحْرَمَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ حِينَ يَأْتِي بِهِ الْإِمَامُ لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَوْ اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ، وَهَذَا الْحَدُّ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْحُدُودِ حُكْمًا، وَكَمَا أَنَّ إحْرَامَهُ وَإِسْلَامَهُ لَا يَمْنَعُ إقَامَةَ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدُّ.
(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَهُ رَجُلٌ فِي حَبْسِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَا صَنَعَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَالتَّقَوُّمَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِحِلِّ دَمِهِ، فَإِنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَةً فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِحِلِّ دَمِهِ بَعْدَ مَا قَتَلَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَوُجُودِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ كَعَدَمِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الَّذِي قَتَلَهُ هَذَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبِ الْمُوجِبَ لِلْقَوَدِ قَدْ تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُهُ إذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ حَدًّا، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْوَلِيُّ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.