فصل: بَابُ الْإِجَارَةِ فِي الصِّيَاغَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِجَارَةِ فِي الصِّيَاغَةِ:

قَالَ:- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ يَعْمَلُ لَهُ فِي فِضَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَصُوغُهَا صِيَاغَةً مَعْلُومَةً، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْحُلِيُّ، وَالْآنِيَةُ، وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمَنَاطِقُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ، وَبَيْنَ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ لَا بِمُقَابَلَةِ مَحَلِّ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُخَلِّصَ لَهُ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً مِنْ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ، أَوْ تُرَابَ الْمَعَادِنِ؛ إذَا اشْتَرَطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِهِ بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُفَضِّضَ لَهُ حُلِيًّا، أَوْ يَنْقُشَ بِنَقْشٍ مَعْرُوفٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُمَوِّهَ لَهُ لِجَامًا، فَإِنْ اُشْتُرِطَ ذَهَبُ التَّمْوِيهِ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ الْأَجْرَ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الذَّهَبِ لِلتَّمْوِيهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ صَرْفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ لِيُمَوِّهَ لَهُ حِرْزًا بِقِيرَاطِ ذَهَبٍ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَقْبِضَ الدَّرَاهِمَ، وَيَقْبِضَ ذَلِكَ الْقِيرَاطَ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إلَيْهِ، وَيَقُولَ: مَوِّهْ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ بِذَهَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذَّهَبِ صَرْفٌ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَرَضٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُمَوِّهَ لَهُ ذَلِكَ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَضِ بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ الْمُسَمَّى يَكُونُ تَبَعًا، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، وَبَعْضُهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَا شَرَطْتَ لِي، وَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ فَعَلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي بَعْضِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ يُعْطِي الْمُمَوَّهَ قِيمَةَ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ أَصْلَ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّهُ غَيَّرَهُ عَنْ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، عَلَيْهِ فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فَقَدْ وَجَدَ إبْقَاءَ الْمَشْرُوطِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي بَابِ الِاسْتِصْنَاعِ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّيَّاغِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ مَالًا مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ، أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً مُسَمَّاةً، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ تُرَابَ الْمَعَادِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ، وَالْمَحْمُولِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبِيعُ لَهُ شَهْرًا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ، وَرَدَتْ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِلتَّذْرِيَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْفِرُ لَهُ فِي هَذَا الْمَعْدِنِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ بِكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُنَقِّيَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ بِنِصْفِ مَا يُخْرِجُ مِنْهُ، كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ، وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ، وَهُوَ اسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ حُلِيَّ ذَهَبٍ يَوْمًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ مُنْتَفِعٌ بِهِ، لُبْسًا أَوْ اسْتِعْمَالًا، وَالْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فِيهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنَاءٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءُ عَيْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ لَا تَتَحَقَّقُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ سَيْفًا مُحَلَّى أَوْ مِنْطَقَةً، أَوْ سَرْجًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ، أَوْ أَقَلَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُمْكِنٌ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْحِلْيَةِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ صَائِغًا يَصُوغُ لَهُ طَوْقَ ذَهَبٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، وَقَالَ: زِدْ فِي هَذَا الذَّهَبِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِلْكِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ فِي إقَامَةِ عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي ذَهَبٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُعْتَادٌ فَقَدْ يَقُولُ الصَّائِغُ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ: إنَّ ذَهَبَك لَا يَكْفِي لِمَنْ تَطْلُبُهُ، فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ التَّعَامُلُ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ زِدْتُ فِيهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ، وَقَالَ رَبُّ الطَّوْقِ: إنَّمَا زِدْتَ فِيهِ خَمْسَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْشُوًّا بِوَزْنِ الطَّوْقِ لِيَظْهَرَ بِهِ الصَّادِقُ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ مَحْشُوًّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الطَّوْقِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسِ مَثَاقِيلَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الصَّائِغُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ، وَيَكُونُ الطَّوْقُ لِلصَّائِغِ؛ لِأَنَّ الطَّوْقَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ؛ مَا لَمْ يُعْطِهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِيَمِينِ رَبِّ الطَّوْقِ، فَكَانَ لِلصَّائِغِ أَنْ يُمْسِكَ الطَّوْقَ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ، يُرِيدُ بِهِ مَسْأَلَةَ الْحِرْزِ، فَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّ ذَهَبَ التَّمْوِيهِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ، وَهُنَا عَيْنُ مَا زَادَ مِنْ الذَّهَبِ قَائِمٌ فِي الطَّوْقِ، فَالصَّائِغُ فِيهِ كَالْبَائِعِ، فَيَكُون لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الْعِوَضِ.
وَإِنْ أَمَرَ الصَّائِغَ أَنْ يَصُوغَ لَهُ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ دِرْهَمٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَأَرَاهُ الْقَدْرَ وَقَالَ: لِتَكُونَ الْفِضَّةُ عَلَيَّ قَرْضًا مِنْ عِنْدِك.
لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لِلصَّائِغِ كُلَّهَا، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا فَيَبْقَى الصَّائِغُ عَامِلًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، ثُمَّ بَائِعًا مِنْهُ الْفِضَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ الْمُسْتَقْرِضُ يَصِيرُ قَابِضًا لِلذَّهَبِ يَخْلِطُهُ بِمِلْكِهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الصَّائِغُ عَامِلًا لَهُ فِي مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخَاتَمِ يَفْسُدُ أَيْضًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ صَرْفٌ بِالنَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ وَزْنِهِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابٌ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ قَالَ:- رَحِمَهُ اللَّهُ- رَجُلٌ غَصَبَ رَجُلًا قَلْبَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ فَاسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجُودَةِ، وَالصَّنْعَةِ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ قِيمَةً، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ، وَالصَّنْعَةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، فَلَوْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ أَدَّى إلَى الرِّبَا، وَإِنْ ضَمِنَ مِثْلَ وَزْنِهَا فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ، فَلِمُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا: يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا، وَعِنْدِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ لِلصَّنْعَةِ عِنْدَهُ قِيمَةً، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَالرِّبَا إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، فَأَمَّا فِي ضَمَانِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلِكَات، فَلَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ، وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْمِلْكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَصْلَيْنِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَالْغَصْبِ، وَالْقَوْلُ فِي الْوَزْنِ، وَالْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالطَّالِبُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكْسِرُ إنَاءَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ سَوَاءٌ قَلَّ النُّقْصَانُ بِالْكَسْرِ، أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّ الْوَزْنَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسْرِ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ بِانْفِرَادِهَا، وَلَوْ رَجَعَ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ، كَانَ آخِذًا عَيْنَ مَالِهِ وَزْنًا، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ رِبًا، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ قُلْنَا: يُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَيَدْفَعُ الْمَكْسُورَ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْمَكْسُورَ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَضْمِينُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى ذَلِكَ كَانَ مُبَرِّئًا لَهُ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ إذَا أَحْرَقَهُ فَهُنَاكَ بِالْحَرْقِ الْيَسِيرِ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ فَقَطْ وَفِي الْحَرْقِ الْفَاحِشِ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الثَّوْبَ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، فَكَانَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً، فَإِيجَابُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِيهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِافْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا صَرْفٌ؛ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِضَّةِ الْمَكْسُوَّةِ بِالذَّهَبِ، وَالتَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ، وَلِأَجَلِهِ يَثْبُتُ حُكْمُ الرِّبَا فِيهِ، حَتَّى لَا يَقُومَ بِجِنْسِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّقَابُضِ، وَبِأَنْ كَانَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ لَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الصَّرْفِ فِيهِ فِي حُكْمِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ، وَفِي الدَّارِ صَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، يُشْتَرَطُ قَبْضُ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْغَاصِبِ بِرَدِّ عَيْنِ الْقَلْبِ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ شَرْطًا لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ، وَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ التَّقَابُضُ، فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَعْتَقْتُ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ- إنْ كَانَ مَقْصُودًا-؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ الْبَيْعِ هُنَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ، وَبِهِ فَارَقَ الشُّفْعَةَ، فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ ابْتِدَاءً بِمَا يُعْطِي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَدَلَ الدَّارِ، فِي حَقِّهِ فَلِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ مَقْصُودًا شَرَطْنَا قَبْضَ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ، يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ، لِلتَّعْيِينِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَالْغَصْبُ، وَالِاسْتِهْلَاكُ لَا يَرِدَانِ إلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ هُنَا لِلتَّعْيِينِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اُنْتُقِضَ الْقَضَاءُ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ، احْتَاجَ الْقَاضِي إلَى إعَادَتِهِ بِعَيْنِهِ مِنْ سَاعَتِهِ، فَيَكُونُ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ، وَكَذَلِكَ إنْ اصْطَلَحَا عَلَى الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ وَلَوْ أَجَّلَ الْقِيمَةَ عَنْهُ شَهْرًا، جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي التَّأْجِيلِ فِي الْغُصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلِكَات، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَنَدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَعَنَدَهُ هَذَا التَّأْجِيلُ بَاطِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَبْضَ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَهُ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلَكِ عِنْدَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَعِنْدَنَا قَبْضُ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْقِيمَةُ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَبِالتَّأْجِيلِ يَلْزَمُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، بِخِلَافِ تِبْرِ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، فَهُوَ مَوْزُونٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، وَفِي الْآنِيَةِ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ بِهِمَا تُقَوَّمُ، وَبِأَيِّهِمَا قُوِّمَ هُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يُبَاعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ يَقْضِي بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ بِالدَّنَانِيرِ فَبِالدَّنَانِيرِ، وَكَذَلِكَ السَّيْفُ وَالسِّلَاحُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَهُ، أَوْ هَشَمَهُ هَشْمًا يُفْسِدُهُ، فَإِنْ كَانَ هَشْمًا لَا يُفْسِدُهُ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ لَا يُبَاعُ، وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَكَانَ كَالثَّوْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا، أَوْ الْأَوَانَيْ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ أَنَّ بِالصَّنْعَةِ هُنَاكَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْزُونَةً بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فِيهِمَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا الْعُرْفُ.
وَإِذَا كُسِرَ إنَاءُ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَاسْتَهْلَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، فَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الَّذِي كَسَرَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَسْلِيمُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ، وَقَدْ فَوَّتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ.
وَلَوْ غَصَبَ إنَاءَ فِضَّةٍ فَكَسَرَهُ، وَصَاغَهُ شَيْئًا آخَرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَأْخُذُهُ، وَلَكِنْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الْأَوَّلِ مَصُوغًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَإِنْ غَصَبَهُ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ فَأَذَابَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذَابَةِ مَا أَحْدَثَ فِيهَا صَنْعَةً، وَإِنَّمَا فَوَّتَ الصَّنْعَةَ، وَبِهِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ، وَلَمْ يَخِطْهُ.
وَإِذَا غَصَبَ دِرْهَمًا فَأَلْقَاهُ فِي دَرَاهِمَ لَهُ فَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ خَلْطًا يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِهِ، فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِمِثْلِهِ، وَالْمَخْلُوطُ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَا يُخْلَطُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ.
وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً، وَسَبَكَهَا فِي فِضَّةٍ لَهُ حَتَّى اخْتَلَطَا فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ لِرَجُلٍ، وَدَرَاهِمَ لِآخَرَ فَخَلَطَهُمَا خَلْطًا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ، أَوْ سَبَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا، وَالْمَخْلُوطُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَعِنْدَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ، وَالشَّرِكَةِ.
وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَجَعَلَهَا عُرْوَةً فِي قِلَادَةٍ، فَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ حَتَّى يُدْخِلَ بَيْعَ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَقَدْ غَصَبَهَا- مَقْصُودًا- بِنَفْسِهِ، فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ، فَهُوَ نَظِيرُ السَّاحَةِ إذَا أَدْخَلَهَا الْغَاصِبُ فِي بِنَائِهِ.
وَإِذَا رَدّ الْغَاصِبُ أَجْوَدَ مِمَّا غَصَبَ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ، وَرَضِيَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ حِينَ رَضِيَ بِالْأَرْدَأِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْقَدْرِ جَازَ؛ فَكَذَلِكَ عَنْ الصِّفَةِ، وَفِي الْأَجْوَدِ أَحْسَنَ الْغَاصِبُ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرْجَحَ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالْأَجْوَدِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ.
وَإِنْ غَصَبَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةٍ دِينَارٍ، وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ، وَالدَّرَاهِمَ قَائِمَةً فِي مَنْزِلِ الْغَاصِبِ، أَوْ مُسْتَهْلَكَةً، فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلِأَنَّهُ قَابِضٌ لِبَدَلِ الدَّنَانِيرِ بِذِمَّتِهِ، وَفِي حَالِ قِيَامِ الْعَيْنِ هُوَ قَابِضٌ لَهَا بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهَا، وَهَذَا الْقَبْضُ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي غَصَبَهُ إنَاءَ فِضَّةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى مِثْل وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَعْطَاهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنَاءُ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمَفْصُولَ، فَإِنْ صَالَحَهُ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى ذَهَبٍ بِتَأْخِيرٍ، أَوْ عَلَى فِضَّةٍ مِثْلِهَا بِتَأْخِيرٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ، قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ، فَمَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّيْءِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ يَبِيعُهُ إيَّاهُ، يَعْنِي لَوْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ قَدْ أَظْهَرَهُ فَبَاعَهُ مِنْهُ، كَانَ هَذَا صَرْفًا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ يَكُونُ مُعَاوَضَةً مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ غَائِبًا عَنْهُ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِنَسِيئَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْعِ كَرِهْتُ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ مِنْ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ قَائِمٍ، فَلَفْظُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْإِنَاءِ قَائِمًا، فَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، وَالْقِيَاسُ فِي الصُّلْحِ هَكَذَا، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الصُّلْحِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مَغِيبًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ حُكْمًا أَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا، أَوْ هُوَ مُقِرٌّ بِهِ فَإِنِّي أَكْرَهُ الصُّلْحَ، وَالْبَيْعَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ، فَإِنَّ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا صَرْفٌ بِزَعْمِهِمَا فَيُؤَاخَذَانِ بِأَحْكَامِ الصَّرْفِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.