فصل: كِتَابُ الْإِجَارَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط




.كِتَابُ الْإِجَارَاتِ:

(قَالَ: الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيِّ إمْلَاءً: اعْلَمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ شَرْعًا نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالْآخَرُ: بِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ عُرِفَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أَيْ فِي الْعَمَلِ بِأَجْرٍ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ «عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ»، وَمَا ثَبَتَ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ لَازِمٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى انْفِسَاخِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفّ عَرَقَهُ» فَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْدُومِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُوجَدُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ وَالْمَعْدُومُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ مُضَافًا؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ (قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَاشْتِرَاطُ الْوُجُودِ وَالْمِلْكِ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَانِعِ فَإِنَّ الْوُجُودَ يُعْجِزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالتَّسْلِيمَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُ السَّبَبَ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ فَإِذَا كَانَ بِالْوُجُودِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَكِنْ تُقَامُ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَوْجُودَةً فِي مِلْكِ الْعَقْدِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ كَمَا تُقَامُ الْمَرْأَةُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيمِ وَتُقَامُ الذِّمَّةُ الَّتِي هِيَ مَحِلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ، أَوْ يُجْعَلُ الْعَقْدُ مُضَافًا لِلِانْعِقَادِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَيَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَالْفَقِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى مَالِ الْغَنِيِّ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى عَمَلِ الْفَقِيرِ وَحَاجَةُ النَّاسِ أَصْلٌ فِي شَرْعِ الْعُقُودِ فَيُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الشَّرْعِ، ثُمَّ يَرِدُ هَذَا الْعَقْدُ تَارَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى الْعَمَلِ أُخْرَى وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ بِهِ الْمُنَازَعَةُ فَإِعْلَامُ الْمَنْفَعَةِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، أَوْ الْمَسَافَةِ، وَذِكْرُ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ لَا لِلتَّوْقِيتِ فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَمَّا كَانَتْ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَمِقْدَارُهَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، أَوْ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ فَإِنَّ مِقْدَارَ السَّيْرِ وَالْمَشْيِ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا وَإِعْلَامُ الْعَمَلِ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَصْفٌ يُحْدِثُهُ فِي الْمَحَلِّ مِنْ قِصَارَةٍ، أَوْ دِبَاغَةٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ فَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَبَيْنَ النَّاسِ تَفَاوُتٌ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمْ وَكَمَا يَجِبُ إعْلَامُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ يَجِبُ إعْلَامُ الْبَدَلِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَقَالَ: لَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ».
وَهَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ بَدَأَ بِبَعْضِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ وَبِبَعْضِهِ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ وَهُوَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْقَبُولِ وَبِالْعَمَلِ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاسْتِيَامُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ.
وَهَذَا اللَّفْظُ يُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَيَكُونُ نَهْيًا وَالنَّهْيُ مَجْزُومٌ وَلَكِنَّ الْمَجْزُومَ إذَا حُرِّكَ لِاسْتِقْبَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ، وَبِرَفْعِ الْمِيمِ وَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ هَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّ أَبْلَغَ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ الْغَيْر وَاشْتَرَى، أَوْ نَكَحَ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا نَهْيٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ وَهُوَ الْأَذَى وَالْوَحْشَةُ الَّذِي يَلْحَقُ صَاحِبَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ فَيُوجِبُ الِاسْتِيَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، ثُمَّ هَذَا النَّهْيُ بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إذَا سَاوَمَهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يُسَاوِمَهُ وَيَشْتَرِيَهُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَاشْتَرَاهُ آخَرُ فَأَعْتَقَهُ» الحديث، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ قَعْبًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ» وَصِفَةُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ أَنْ يُنَادِيَ الرَّجُلُ عَلَى سِلْعَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ وَيَزِيدُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَمَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ النِّدَاءِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَإِذَا سَاوَمَهُ إنْسَانٌ بِشَيْءِ فَكَفَّ عَنْ النِّدَاءِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَيَكُونُ هَذَا اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَلَمْ تَرْكَنْ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُنِي، وَإِنَّ أَبَا الْجَهْمِ يَخْطُبُنِي فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَهُوَ لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عَنْ أَهْلِهِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَإِنَّكِ تَجِدِينَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، فَأَمَّا بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَالْمُرَادُ بِالنَّجْشِ الْإِثَارَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الصَّيَّادُ نَاجِشًا؛ لِأَنَّهُ يَنْثُرُ الصَّيْدَ عَنْ أَوْكَارِهَا فَالْمُرَادُ أَنْ يَطْلُبَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُسَاوِي ذَلِكَ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُرَغِّبَ الْغَيْرَ فِي شِرَائِهَا بِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ وَالْغُرُورِ وَقَوْلُهُ: «وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ {وَلَا تَنَابَذُوا} وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَالنَّبْذُ هُوَ الطَّرْحُ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ بُيُوعٍ كَانُوا تَعَارَفُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَرْمِيَ الْحَجَرَ إلَى سِلْعَةِ إنْسَانٍ فَإِنْ أَصَابَهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَطْلُبَ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ فَإِنْ طَرَحَ إلَيْهِ صَاحِبُهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ «وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْحُرِّ لِلْعَمَلِ وَوُجُوبِ إعْلَامِ الْأَجْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِعْلَامِ وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَلِيُؤْتِهِ أَجْرَهُ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى أَدَاءِ الْأُجْرَةِ وَجَعَلَ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْمُسَارَعَةِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ جُفُوفِ الْعَرَقِ فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ هَذَا وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنِّي أَكَرِي إبِلِي إلَى مَكَّةَ أَفَتَجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي الْجِمَارَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ حَاجٌّ».
وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ كِرَاءِ الْإِبِلِ إلَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسَافَةِ فِي الْإِعْلَامِ كَبَيَانِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أُشْكِلَ عَلَى السَّائِلِ حَالَ حَجِّهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِتَعَاهُدِ إبِلِهِ وَاكْتِسَابِ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ اكْتِسَابَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَأَزَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إشْكَالَهُ بِمَا ذَكَرَ لَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَهَذَا بَيَانٌ لَهُ أَنَّ بِالذَّهَابِ لَا يَتَأَدَّى الْحَجُّ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا وَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَهُ وُضُوحًا فَرَوَى الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَلِيلٌ يُسْتَدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ وَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسِّرَاجِ وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِالشَّمْسِ وَكَمْ مِنْ عَيْنٍ لَا تُبْصِرُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ وَتُبْصِرُ إذَا بَزَغَ الضِّيَاءُ الْوَهَّاجُ ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ الْوَحْيِ فِي بَعْضِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ أَخَّرَ جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي الْحَجِّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ التِّجَارَةِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَلَمَّا كَانَ إكْرَاءُ الْإِبِلِ فِي مَعْنَاهُ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْحَدِيثَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا الرُّسْتَاقِيُّ إذَا دَخَلَ الْمِصْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِشِرَاءِ الدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَشَهِدَ الْجُمُعَةَ فَهُوَ فِي الثَّوَابِ، وَاَلَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ سِوَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُسْلِمِ إقَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي ثَوَابِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: إنِّي أَجَّرْتُ نَفْسِي مِنْ قَوْمٍ وَحَطَطْتُ لَهُمْ مِنْ أَجْرِي أَفَيُجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا مِنْ الدَّيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى هَذَا السَّائِلِ مَا أُشْكِلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَكَأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ «وَإِنَّمَا لَكَ دِينَارُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَظَنَّ مِثْلَهُ فِي الْحَجِّ وَحَطَّ بَعْضَ الْأَجْرِ بِهِ لِيَرْتَفِعَ بِهِ نُقْصَانُ حَجِّهِ فَإِنَّ الْحَطَّ إحْسَانٌ وَانْتِدَابٌ إلَى مَا نُدِبَ فِي الشَّرْعِ وَمِثْلُهُ مَشْرُوعُ جَبْرِ النُّقْصَانِ الْفَرَائِضِ كَالنَّوَافِلِ فَأَزَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إشْكَالَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفِّ عَنْ حَطِّ الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ حَجُّهُ بِدُونِهِ تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَا يَحْسُنُ، وَهُوَ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِخِلَافِ حَالِ مِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ لَا لِيُبَاشِرَ الْجِهَادَ وَهَذَا خَرَجَ لِيُبَاشِرَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَيَخْدُمَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ.
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطِ فَقُلْتُ لِي اسْتَأْجَرْتُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ مِنْ الدُّنْيَا مَا يُعْجِبُ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَرْكَنُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ}.
الْآيَةَ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْإِعْجَابِ لَا يَضُرُّ أَحَدًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ جُهَّالُ الْمُتَعَسِّفَةِ أَنَّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا يَنْتَقِصُ مِنْ الْإِيمَانِ بِقَدْرِهِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَلَمَّا أَعْجَبَهُ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ هَذَا وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَعْنِي الْمَرْءُ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِئْنَاسِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَفِي قَوْلِ رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِي اسْتَأْجَرْتُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الْمَرْءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ بِإِجَارَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ حَنِثَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِلْأَرَاضِيِ وَدَلِيلُ فَسَادِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فَفِي الْمُزَارَعَةِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا تُخْرِجُهُ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ أَجَازَهُ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا وَأَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ يَفْتَحُ بَابَهُ وَيَغْلِقُهُ وَيُخْرِجُ مَتَاعَهُ فَلَا بَأْسَ بِالْفَضْلِ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مِنْ غَيْرِهِ وَبِهِ يَقُولُ: فَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْمَالِكِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَانَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِأَنَّ الْمَالِكَ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا نَحْوَ فَتْحُ الْبَابِ وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ فَيَكُونُ الْفَضْلُ لَهُ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ وَهَذَا فَضْلٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى بِالْفَضْلِ بَأْسًا وَيَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَيْثُ كَرِهُوا الْفَضْلَ، وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ الْفَضْلَ إلَّا أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا فَإِنْ زَادَ فِيهِ شَيْئًا طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقُلْنَا إذَا أَصْلَحَ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا، أَوْ طَيَّنَ الْبَيْتِ، أَوْ جَصَّصَ، أَوْ زَادَ فِيهِ لَوْحًا فَالْفَضْلُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا زَادَ مِنْ عِنْدِهِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا لَا يَطِيبُ لَهُ فَضْلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَالْمَنْفَعَةُ بِالْعَقْدِ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِرْبَاحًا عَلَى مَا لَمْ يَضْمَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَكَنْسُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ التُّرَابِ مِنْهُ فَلَا يَطِيبُ الْفَضْلُ بِاعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ الْبَابِ وَإِخْرَاجُ الْمَتَاعِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْبَيْتِ فَلَا يَطِيبُ الْفَضْلُ بِاعْتِبَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي الْعَقْدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَضْلُ بِمُقَابَلَتِهِ وَيَطِيبُ لَهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ إذَا أَبَضَعُوا بِضَاعَةً أَنْ يُعْطُوا صَاحِبَهَا أَجْرًا كَيْ يَضْمَنَهَا وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ دَلِيلًا لِمَنْ يُضَحِّي الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَبْضَعَ إذَا أَخَذَ أَجْرًا فَهُوَ أَجِيرٌ عَلَى الْحِفْظِ وَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَضْمَنُهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَيْ يَضْمَنَ مَا يُتْلِفُ بِعَمَلِهِ مِمَّا يَكُونُ قَصَدَ بِهِ الْإِصْلَاحَ دُونَ الْإِفْسَادِ وَبِهِ نَقُولُ، فَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَاصَمَ إلَيْهِ يُقَالُ: قَدْ أَجَّرَهُ رَجُلٌ بَيْتًا فَأَلْقَى فِيهِ مِفْتَاحَهُ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَقَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَيْتِ وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ شُرَيْحٍ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَلِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَعْدُومِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ اللُّزُومِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَاللُّزُومُ أَصْلٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَلِأَنَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَجِبُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ بِدُونِ صِفَةِ اللُّزُومِ.
ثُمَّ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ: إنْ أَلْقَى إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ بِعُذْرٍ لَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَيْتِ وَالْعُذْرُ أَنْ يُرِيدَ سَفَرًا، أَوْ يَمْرَضَ فَيُقَوِّمَ، أَوْ يُفْلِسَ فَيُقَوِّمَ مِنْ السُّوقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَفْتَى بِضَعْفِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَكِنْ جَعَلَهُ فِي الضَّعْفِ نِهَايَةً؛ حَيْثُ قَالَ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَمَنْ يَقُولُ: لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِهَايَةً فِي الْقُوَّةِ وَفِي الْجَانِبَيْنِ مَعْنَى الضَّرَرِ فَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ وَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْفَسْخِ تَعَذَّرَ بِقَصْدِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِنْدَ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَاوَضَةٌ وَهُوَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ وَعَدَمُ مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ عِنْدَ الْعَقْدِ دَلِيلُ ضَعْفِهِ وَمَا يُجَاذِبُهُ دَلِيلَانِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَدَلِيلُ الْقُوَّةِ قُلْنَا لَا يَنْفَسِخُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلِدَلِيلِ الضَّعْفِ قُلْنَا يَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ كَالْمُشْتَرِي يَرُدَّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ، وَظَاهِرُ مَا يَقُولُهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَنْ الْعُذْرِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إذَا أَثْبَتَ الْعُذْرَ عِنْدَهُمَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ غَيْرُ قَابِضٍ لِلْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَيْنَ الْحَانُوتِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْفَسْخِ وَهُوَ قَابِضٌ لِلْحَانُوتِ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ فَلِهَذَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ وَلَا غَيْرَهُ، وَفَسَّرَ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ فِي الْكِتَابِ بِالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ وَالْإِسْكَافِ وَكُلُّ مَنْ يَقْبَلُ الْأَعْمَالَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَأَجِيرُ الْوَاحِدِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لِيَخْدُمَهُ شَهْرًا، أَوْ لِيَخْرُجَ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُ الْأَجِيرُ أَنْ يُؤَجِّرَ فِيهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَجِيرَ الْوَاحِدِ مَنْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى مَنَافِعِهِ وَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُهُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِذِكْرِ الْمَسَافَةِ وَمَنَافِعُهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَإِنْ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ مَنْ يَكُونُ عَقْدُهُ وَارِدًا عَلَى عَمَلٍ هُوَ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ بِعَمَلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بِعَمَلٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ السَّلَمِ مَعَ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَمَّا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بِهِ قَبُولُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْبَيْعَ لَمَّا كَانَ يُلَاقِي الْعَيْنَ فَبَعْدَ مَا بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا مُشْتَرَكًا وَالْأَوَّلُ أَجِيرَ الْوَحْدَةِ، ثُمَّ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا، أَوْ مُشْتَرَكًا تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَأَخَذَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَجِيرِ الْوَاحِدِ أَيْضًا وَفِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَخَذَ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مَا ضَاعَ عَلَى يَدِهِ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ وَالصَّبَّاغَ وَنَحْوَهُمَا فَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْفَتْوَى بِالصُّلْحِ عَلَى النِّصْفِ، وَسَنُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِطَرِيقِ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْمَلَّاحَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْغَرَقَ وَالْحَرْقَ، وَالْمَلَّاحُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ.
إلَّا مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ هُوَ الْحَرْقُ الْغَالِبُ، أَوْ الْغَرَقُ الْغَالِبُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنْ غَرِقَتْ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ مُعَالَجَتِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ، وَإِنْ احْتَرَقَتْ مِنْ نَارٍ أَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ لَجَاجَةٍ لَهُ مِنْ خَبْزٍ، أَوْ طَبْخٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي إدْخَالِ النَّارِ السَّفِينَةَ لِحَاجَتِهِ، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ تَسَبُّبًا وَلَا مُبَاشَرَةً لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَإِنْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ مَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ غَالِبٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَهُوَ كَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْغَالِبَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الِاحْتِرَازُ مُمْكِنٌ بِمَنْعِ السَّفِينَةِ عِنْدَ الْمَدِّ وَالْمُعَالَجَةُ مِنْ مَوْضِعِ الْغَرَقِ فَإِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِعَمَلِهِ كَانَ ضَامِنًا وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَبَّاغٍ فَقَالَ:
إنِّي أَعْطَيْتُ هَذَا ثَوْبِي لِيَصْبُغَهُ فَاحْتَرَقَ بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ الصَّبَّاغُ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ ثَوْبَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ أَكُنْت تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَكَانَ هَذَا الْحَرْقُ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ عَرَفَ إمْكَانَ التَّحَرُّزِ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بِإِمْكَانِ إطْفَاءِ النَّارِ وَلَكِنَّهُ تَهَاوَنَ فَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَلِهَذَا قَالَ لَهُ: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِ الصَّبَّاغُ وَقَالَ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي؟ وَكَأَنَّهُ ادَّعَى بِهَذَا أَنَّ الْحَرْقَ كَانَ غَالِبًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ كُنْتَ تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَمَعْنَى اسْتِدْلَالِهِ هَذَا أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ عَلَيْكَ وَالْأَجْرَ لَكَ عَلَيْهِ فَكَمَا لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَك بِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِاحْتِرَاقِ بَيْتِكَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّبَّاغُ فَقِيهًا لَبَيَّنَ الْفَرْقَ وَيَقُولُ لَهُ: أَيُّهَا الْقَاضِي قِيَاسُكَ فَاسِدٌ؛ فَالْأَجْرُ لِي فِي ذِمَّتِهِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ لَا يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّي، وَحَقِّهِ فِي عَيْنِ الثَّوْبِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِي يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ هَذَا الْفَرْقُ أَوْ احْتَشَمَهُ فَلَمْ يُعَارِضْهُ وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا ضَامِنَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَجِيرِ الْوَاحِدِ إلَّا إذَا خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الصُّنَّاعِ احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ أَنْ لَا يُضَيِّعُوا مَتَاعَهُمْ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ عَنْ بِكِيرِ بْن الْأَشَجِّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُضَمِّنُ الصُّيَّاغَ مَا أَفْسَدُوا مِنْ مَتَاعِ النَّاسِ، أَوْ ضَاعَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِيمَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِغَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَفْسَدُوا مِنْ مَتَاعِ النَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّلَفِ بِعِلْمِهِمْ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَنَا؛ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ يَدُهُ وَسَيَأْتِيكَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ اتَّبَعْتُ كَاذِيًا مِنْ السُّفُنِ فَحَمَّلْتُ خَوَابِيَ مِنْهَا حَمَّالًا فَانْكَسَرَتْ الْخَابِيَةُ فَخَاصَمْتُهُ إلَى شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ الْحَمَّالُ: زَاحَمَنِي النَّاسُ فِي السُّوقِ فَانْكَسَرَتْ قَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا اسْتَأْجَرَكَ لِتُبَلِّغَهَا أَهْلَهُ فَضَمَّنَهُ أَيَّاهَا، وَالْكَاذِي دُهْنٌ تُحْمَلُ مِنْ الْهِنْدِ فِي السُّفُنِ إلَى الْعِرَاقِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ؛ لِمَا يَتَّخِذُهُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ مِنْ الْأَوَانِي كَالْأَمْتِعَةِ لِحَاجَتِهِ فَيَسْعَ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ مِنْ السَّفِينَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْحَمَّالُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَكَثْرَةُ الزِّحَامِ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَقِلَّ الزِّحَامُ؛ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّالِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ إذَا تَعَثَّرَ، أَوْ زَلَقَتْ رِجْلُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَاهُ حَائِكٌ بِثَوْبٍ قَدْ أَفْسَدَهُ قَالَ: رُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ غَزْلِهِ وَخُذْ الثَّوْبِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ فَسَادًا قَالَ عَلَيَّ بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يُوَفِّكَ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إذَا أَفْسَدَ كَانَ ضَامِنًا لِصَاحِبِ الْمَالِ مِثْلَ مَالِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْغَزْلُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنَّ أَدَاءَ الضَّمَانِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَضْمُونِ وَبِآخِرِ الْحَدِيثِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَائِكِ، وَعَلَى رَبِّ الثَّوْبِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ خَالَفَ شَرْطَهُ وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي صِفَتِهِ.
وَعَنْ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَاسْتَرَقَّ الْحُرُّ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا وَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَمَنَعَهُ أَجْرَهُ وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ» وَاللَّفْظُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبْلُغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعِيدِ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفِيعٌ لِأُمَّتِهِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرْجُو النَّجَاةَ بِشَفَاعَتِهِ فَإِذَا صَارَ الشَّفِيعُ خَصْمًا يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ أَيْ أَلْزَمْتُهُ وَحَجَجْتُهُ فَأَمَّا قَوْلُهُ: رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فَالْمُرَادُ صُورَةُ الْبَيْعِ لَا حَقِيقَتُهُ فَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَبِبَيْعِ الْحُرِّ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ وَلَكِنْ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ بَيْعًا وَمَا يَقْبِضُ بِمُقَابَلَتِهِ ثَمَنًا مَجَازًا وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحُرٍّ فَقَدْ اسْتَذَلَّهُ وَالْمُؤْمِنُ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمٌ لِمَنْ يَسْتَذِلُّهُ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَضَعْفِ ذَلِكَ الْحُرِّ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمٌ عَنْ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَهُوَ يَظْلِمُهُ بِاسْتِرْقَاقِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذُبُّ عَنْ كُلِّ مَظْلُومٍ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَرَجُلًا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَمَنَعَهُ أَجْرَهُ»؛ لِأَنَّهُ اسْتَذَلَّهُ بِالْعَمَلِ وَاسْتَزْبَنَهُ بِمَنْعِ الْأَجْرِ وَظَلَمَهُ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ، وَأَنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِهِ بِمَنْعِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَمَا اشْتَرَطَ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ لِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْعِ الْأَجْرِ وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ» أَيْ أَعْطَى كَافِرًا أَمَانَ اللَّهِ، وَأَمَانَ رَسُولِهِ، ثُمَّ غَدَرَ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي وَصِيَّتِهِ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا، وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، فَالْمُسْتَأْمَنُ يَكُونُ مُسْتَذَلًّا فِي دِيَارِنَا فَإِذَا غَدَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ، وَعَنْ أَبِي نُعَيْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ عَسْبِ التَّيْسِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَالْمُرَادُ بِعَسْبِ التَّيْسِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الضِّرَابِ وَهُوَ إنْزَاءُ الْفُحُولِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الْمَاءِ وَهُوَ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَهُوَ الْإِحْبَالُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى نَشَاطِ الْفَحْلِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَفِيزُ الطَّحَّانِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً مَعْلُومَةً بِقَفِيزٍ مِنْهَا، أَوْ مِنْ دَقِيقِهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ كَانَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ، ثُمَّ الْأَجْرُ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي عَيْنٍ مَوْجُودٍ وَهُوَ مَا الْتَزَمَهُ فِي الذِّمَّةِ وَدَقِيقُ تِلْكَ الْحِنْطَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا كَسْبُ الْحَجَّامِ فَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُونَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمُقَابَلَةِ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْ الدَّمِ، أَوْ مَا يَشْتَرِطُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَالْمُرَادُ بِمَهْرِ الْبَغِيِّ مَا تَأْخُذُ الزَّانِيَةُ شَرْطًا عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانُوا يُؤَاجِرُونَ الْإِمَاءَ لِذَلِكَ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الْآيَةُ؛ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ عَرَفْنَا أَنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ حَرَامٌ وَلَكِنَّا: نَقُولُ هَذَا النَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ قَدْ انْتَسَخَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي آخَرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَالَ «إنَّ لِي حَجَّامًا وَنَاضِحًا أَفَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنَّ لِي عِيَالًا وَحَجَّامًا أَفَأَطْعِمْ عِيَالِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» فَالرُّخْصَةُ بَعْدَ النَّهْيِ دَلِيلٌ انْتِسَاخِ الْحُرْمَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «اُحْتُجِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ» وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ الْحَرَامِ لَا يَحِلُّ إيكَالُهُ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنْ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ» وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنْ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: هَذَا النَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحِجَامَةِ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِشْفَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْنَى الْمَرْءَ بِهِ وَيُخَسِّسُهُ وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَبْغُضُ سَفْسَافِهَا» وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِمَا لَا يُدِينُهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَ بَعْضَ مَوَالِيهِ عَنْ كَسْبِهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ حَجَّامٌ فَقَالَ: إنَّ كَسْبَكَ لَوَسِخٌ وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الرَّاعِي، وَإِنْ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبِهِ يَقُولُ: إنْ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا فَهُوَ أَمِينٌ كَالْمُودِعِ وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ شُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا تَلِفَ مِنْ فِعْلِهِ شُرِطَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ وَعِنْدَهُمَا مَا تَلِفَ بِمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ شَرْطٌ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.