فصل: بَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرِيضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرِيضِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَكَانَ قَدْرُ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ)؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ إصْرَارٌ بِالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ» وَلَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ سَائِرَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا رَوَيْنَا، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ هُوَ الثُّلُثُ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَيِّتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» ثُمَّ لَمْ يُجِزْ وَصِيَّتَهُ بِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ اتِّصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْوَارِثِ وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ لَا يَصِحُّ كَإِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ نَفَذَ كَمَا إذَا أَجَازُوا وَصِيَّتَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ مَحَلُّ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّهَا.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْإِقْرَارِ فِي مَالِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَا لَهُ بِمَرَضِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ لِبَعْضِهِمْ إيثَارًا مِنْهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّهِمْ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَقَدْ جُعِلَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِجَارِيَةٍ لَا يَسْتَحْقِقُ أَوْلَادَهَا، فَإِذَا كَانَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ إيجَابُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ وَالْمَرِيضُ مَمْنُوعٌ عَنْ مَيْلِهِ مَعَ الْوَارِثِ أَصْلًا فَرَجَّحْنَا هَذَا الْجَانِبَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَصَحَّحْنَاهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّتِهِ لَهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فَلَمْ يُلَاقِ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الْوَارِثُ لَمَّا عَامَلَهُ فِي الصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَاصِلِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ يُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقَبْضِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي هَذَا كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ مَحِلًّا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ.
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَمُتْ الْمَرِيضُ حَتَّى صَارَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَرَّ لِأَخِيهِ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَوْ كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَأَسْلَمَ أَوْ عَتَقَ وَصَارَ هُوَ الْوَارِثَ دُونَ الْأَخِ جَازَ إقْرَارُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُهُ وَارِثَهُ وَالْوِرَاثَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ هُوَ وَالْأَجَانِبُ سَوَاءً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمُقِرِّ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ، وَكَانَ هُوَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي أَيَمُوتُ فِي هَذَا الْمَرَضِ أَوْ يَبْرَأُ فَعَرَفْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ لِلْحَالِ صَحِيحٌ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ صَحِيحٌ وَجُعِلَ خُرُوجُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ فِي مَرَضِهِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا يَوْمَ مَوْتِهِ بِأَنْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ لَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إقْرَارُهُ لَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَتِهِ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَرِضَ وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَبِهَذَا فَارَقَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ وَنُظِرَ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لَا إلَى وَقْتِ الْهِبَةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَنَا أَنَّهُ وَرِثَ بِسَبَبٍ كَانَ يَثْبُتُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوِرَاثَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَثْبُتُ صِفَةُ الْوَارِثَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَارِثَةً بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حِينَ حَصَلَ كَانَ لِلْوَارِثِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مَرَضٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْحَجْرُ بِسَبَبِهِ لَا يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ الْهِبَةِ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ مُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَالْوِرَاثَةُ الثَّابِتَةُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ.
فَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا صَارَ مِنْ وَرَثَتِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ كَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا وَقْتَ لُزُومِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَهُوَ نَظِيرُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الْهِبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِنْ كَانَ يَوْمٌ أَقَرَّ لَهُ وَارِثُهُ بِمُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَيَوْمٌ مَاتَ وَارِثُهُ، وَقَدْ خَرَجَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ يُثْبِتُونَهُ أَوْ فَسَخَ الْمُوَالَاةَ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ دَائِرٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا وَرِثَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْأَوَّلِ قَدْ ارْتَفَعَ، وَلَمْ يَرِثْ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ وَالْعَقْدُ الثَّانِي مُتَجَدِّدٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الْإِقْرَارُ حَصَلَ لِلْوَارِثِ وَتَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ وَرِثَ بِأُخُوَّةٍ كَانَتْ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لَيُمَكِّنَ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْوِرَاثَةِ مُوجَدًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَانَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ مُتَمَكِّنَةً وَالْعَقْدُ الْمُتَجَدِّدُ قَامَ مَقَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي تَقَرُّرِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَتْ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْوِرَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَرِّرَةٍ ثَمَّةَ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ مُطْلَقًا.
وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَرِيضِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ، وَسَبَبُ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ قَائِمٌ وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ لِمَنْ هُوَ وَارِثُهُ فَلَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ حَلَفَ عَنْهُ قَائِمٌ فِيمَا هُوَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ وَارِثًا لِلْمُقِرِّ جُعِلَ بَقَاؤُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ كَبَقَاءِ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَفْسِهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَيَاةَ الْوَارِثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِيَتَحَقَّقَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ وَهُنَا الْمُقَرُّ لَهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَ بِمِلْكِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقِرِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْإِقْرَارِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ فَبَاعَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ وَارِثِ الْمُقِرِّ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِعَبْدٍ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِأَجْنَبِيٍّ، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ بَلْ هُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِ الْمَرِيضِ لَمْ يَكُنْ لِي فِيهِ حَقٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَمَّا حَوَّلَهُ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ صَارَ كَأَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَهُ بِسَبَبٍ أَنْسَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ آخَرُ يَحْدُثُ لِلْوَارِثِ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ غَيْرِ الْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَهُ بِعَيْنِهِ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْمَرِيضِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِالْمِلْكِ وَإِقْرَارُهُ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ لَهُ لِيُقِرَّ هُوَ لِوَارِثِهِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ فِي الْإِيثَارِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْمَرِيضَ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرِيضِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَالْقَاتِلِ لِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ الْعِتْقُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَهُنَاكَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ بِالْإِقْرَارِ إلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ، وَإِقْرَارُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنْ يُجْعَلَ كَالْقَابِلِ لِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ الْمُسْتَثْنَى لِلْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ جِهَتِهِ.
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِقَاتِلِهِ بِدَيْنٍ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اتِّصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ (قِيلَ) الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ قَاتِلَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ بِالْإِقْرَارِ لَهُ كَاذِبًا فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ هُنَا (قُلْنَا) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي إقْرَارِهِ لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا، فَقَدْ يُؤْثِرُ الشَّخْصُ قَاتِلَهُ لِمَثَلٍ فِي قَلْبِهِ إلَيْهِ أَوْ قَصْدِهِ إلَى مَجَازَاتِ إسَاءَتِهِ بِالْإِحْسَانِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ خَارِجًا لَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ صَحِيحٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ أَقَرَّ صَاحِبَ فِرَاشٍ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ بِكَوْنِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ مَرَضٍ عَادَةً وَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ مَرِيضٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَالْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ جَائِزٌ لِقَاتِلِهِ وَلِوَارِثِهِ كَمَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إذَا كَانَ خَطَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَرِيضٍ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ قَدْ يَمْشِي بِنَفْسِهِ لِجِنَايَتِهِ، وَقَدْ يَتَكَلَّفُ بِخُطُوَاتٍ يَخْطُوهَا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا.
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِعَبْدِ وَارِثِهِ وَلَا لِعَبْدِ قَاتِلِهِ وَلَا لِمُكَاتَبٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ بِخُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ لِلْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لِمَوْلَاهُ.
وَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ وَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ حَقِيقَةَ مِلْكٍ بِعَجْزِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ إقْرَارُهُ لِلْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِمَوْلَاهُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْهِبَةِ، فَقَالَ إذَا وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ لَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لِأَخِيهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ وَهُنَا جَعَلَهُ كَإِقْرَارٍ لِلْمَوْلَى فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْإِقْرَارِ هُنَا انْتِفَاعُ الْوَارِثِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ وَمَنْفَعَةُ الْمَالِيَّةِ وَتَمَكُّنُ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ لَهُ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَهُنَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْإِقْرَارِ لِلْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ، وَهُنَاكَ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الرُّجُوعِ قَصْدُهُ عِنْدَ الْهِبَةِ إلَى الْعِوَضِ وَالْمُكَافَآتِ وَعَدَمِ سَلَامَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَهُ، وَذَلِكَ قَائِمٌ إذَا كَانَ الْقَائِلُ لِلْهِبَةِ أَجْنَبِيًّا.
وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِإِقْرَارِهِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُشَارِكُهُ الْوَارِثُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَأُ عَقْدًا، فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْوَارِثُ.
وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ انْتَفَعَ الْوَارِثُ بِالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ لِي عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَارِثِهِ هَذَا شَرِكَةٌ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَصَحَّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّهُمَا بِالْمَالِ وَادَّعَى عَلَيْهِمَا الشَّرِكَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ، وَقَدْ صَدَّقَاهُ فِيمَا أَقَرَّ وَكَذَّبَاهُ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِمَا أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ الَّتِي ادَّعَاهَا إلَيْهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بِقَوْلِهِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بَقِيَ إقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحًا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَانَ مَنْفَعَةَ الْوَارِثِ، وَعِنْدَ انْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ لَا مَنْفَعَةَ لِلْوَارِثِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ وَقَعَ فَاسِدًا بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ قَصْدُهُ إلَى اتِّصَالِ الْمَنْعِ وَإِلَى وَارِثِهِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ مَانِعٌ مِنْ صَيْرُورَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُقَرِّ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى تَصْحِيحِ إقْرَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ لِهَذَا أَوْ هَذَا فَاصْطَلَحَا كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْإِقْرَارِ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ عَجْزُ الْمَجْهُولِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُفْسِدُ مَعْنًى مِنْ جِهَتِهِمَا وَلَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَحَّ مِنْهُمَا إزَالَةُ الْمُفْسِدِ بِالِاصْطِلَاحِ وَكَلَامُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهُمَا بِالْمَالِ إلَّا بِصِفَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مُشْتَرَكًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالْمَالِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَالِ وَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلْمَالِ، وَهُوَ حَقُّ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَبْقَى الْمَالُ كَمَا كَانَ، فَأَمَّا هُنَا كَوْنُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا صِفَةٌ لِهَذَا الدَّيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ، وَإِذَا وَجَبَ مُشْتَرَكًا بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا يَصِيرُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ مَا دَامَ دَيْنًا لِأَنَّ إيقَاعَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ لَا تَجُوزُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ كَانَ تَجَاحُدُهُمَا وَتَصَادُقُهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ سَوَاءً.
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثِهِ مَالًا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ لِلسَّبَبِ الْمُعَايَنِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِمَهْرٍ لِامْرَأَتِهِ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِثْلِهَا وَيُحَاصُّ غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فَوَجَبَ مِقْدَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِحُكْمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لَا بِإِقْرَارِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِي الْمَرَضِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهَا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِهَا بِقَبْضِ مَهْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهَا، فَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهِ.
وَلَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَارِثِ الْمَرِيضِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَرِيضِ كَانَ إلَى مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لَا إلَى وَارِثِهِ، ثُمَّ وَارِثُهُ إنَّمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي إمَّا بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ أَوْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِوَارِثِهِ فَلَمْ يُمَكَّنْ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ.
وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ يُحِيطُ بِمَالِ الْمَرِيضِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْفَيْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِالْمَنْعِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهِ مَا دَامَ دَيْنًا، وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إذَا كَانَتْ الْمُبَايَعَةُ فِي الصِّحَّةِ فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي الْمَرَضِ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَبِيعِ فَتَحَوَّلَ إلَى بَدَلِهِ وَمَا اسْتِحْقَاقُ الْمُشْتَرِي هُنَا بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ مَالٍ يَقُومُ مَقَامَ الْمَبِيعِ فِي حَقٍّ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ فَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ دَيْنًا وَجَبَ فِي مَرَضِهِ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ فَهُوَ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ دَيْنًا وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْمُحَاصَّةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ بِالْمُقَاصَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حِصَّةٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَخْصِيصُ الْمَرِيضِ بَعْضَ غُرَمَاءَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا يَصِحُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.