فصل: بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ:

(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-): وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَالْمِنْحَةُ نَوْعٌ مِنْ الْعَارِيَّةِ، وَلَكِنْ فِيهَا مَعْنَى الْعَطِيَّةِ فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ غَيْرَهُ شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا؛ يُسَمِّي ذَلِكَ مِنْحَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مَنْ مَنَحَ غَيْرَهُ شَيْئًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ يَكُونُ عَارِيَّةً وَلَا يَكُونُ مِنْحَةً، وَإِنْ مَنَحَهُ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ؛ يَكُونُ هِبَةً لَا عَارِيَّةً، وَالْإِعَارَةُ فِي مِثْلِهِ تَكُونُ قَرْضًا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ رَدَّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَرَدَّ الْمِنْحَةِ عَلَى الْمَمْنُوحِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَتْ لَهُ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَدْيُونِ بِقَوْلِهِ: وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ.
وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ- وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ-: مَعْنَاهُ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ أَيْ ضَامِنٌ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ تَسْلِيمِ نَفْسٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إذَا حَلَّ أَجَلُ مَالِكَ عَلَى فُلَانٍ فَلَمْ يُوفِك مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: إنْ حَلَّ فَهُوَ عَلَيَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ.
وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَيَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ تُوجَدُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَتَعْلِيقُهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يُوفِيَكَ مَالَك فَهُوَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمَدْيُونِ سَبَبٌ لِحُلُولِ الْأَجَلِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ.
فَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَوْتِ رَجُلٍ آخَرَ وَإِذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ حُلُولِ الْمَالِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ كَانَ قَضَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ قَدْ تَقَرَّرَ وَقَدْ يَدَّعِي مَانِعًا مَا لَمْ يَظْهَرْ وَهُوَ قَضَاءُ الْمَطْلُوبِ حَقَّهُ وَلَوْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ الْكَفِيلُ وَلَوْ كَانَ حَالًّا فَقَالَ: إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ فَتَقَاضَى الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ فَلَمْ يُعْطِهِ سَاعَةَ تَقَاضَاهُ فَهُوَ لَازِمٌ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ امْتِنَاعُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْإِعْطَاءِ.
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَاضِي فَكَمَا تَقَاضَاهُ وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ فَقَدْ وَجَدَ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَفِيلِ مِنْ هَذَا دَفْعُ مُؤْنَةِ كَثْرَةِ التَّقَاضِي عَنْ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا صَارَ الْكَفِيلُ مُلْتَزِمًا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّقَاضِي وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَضَى بِكَفَالَةٍ وَقَالَ: إنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ.
وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا.
لَكِنْ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقَّ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ لَهُ.
وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهمَا شَاءَ وَبِمُطَالَبَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي مُطَالَبَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَوْعَ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا.
وَنَوْعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ قِبَلَ أَحَدِهِمَا فَيُعَيَّنُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِاخْتِيَارِهِ وَهُنَا أَصْلُ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي الصُّكُوكِ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَفُلَانٌ بِهِ كَفِيلٌ وَمُوجَبُ الْكَفَالَةِ: زِيَادَةُ الْحَقِّ لِلطَّالِبِ فِي الْمُطَالَبَةِ.
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا تَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ عَلَيْهِمَا، فَلَا تَكُونُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطَةً حَقَّهُ فِي مُطَالَبَتِهِ الْآخَرَ فَإِذَا أَخَذَ الْكَفِيلَ بِهِ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَكْفُولَ بِهِ فَيُعَامِلَهُ بِحَسَبِ مَا يُعَامِلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ الْأَصِيلِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ مُقْرِضٌ لِلذِّمَّةِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَلَكِنْ إنْ قَضَاهُ الْأَصِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ مُتَأَخِّرًا إلَى أَدَائِهِ- وَتَعَجُّلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ- فَإِذَا قَبَضَهُ الْكَفِيلُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ؛ كَانَ مَا رَبِحَ حَلَالًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَقْبُوضَ مُلْكًا صَحِيحًا فَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ لَدَيْهِ يَكُونُ لَهُ وَلَوْ هَلَكَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَعَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُقْتَضِي وَلَوْ اقْتَضَاهُ الطَّالِبُ مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصِيلُ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِيُسَلِّمَ لَهُ بِهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَهُ الْكَفِيلُ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ إلَى الْكَفِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ قَالَ: أَنْتَ رَسُولِي بِهَا إلَى فُلَانٍ الطَّالِبِ فَهَلَكَ مِنْ الْكَفِيلِ؛ كَانَ مُؤْتَمَنًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ حِينَ بَعَثَ بِالْمَالِ عَلَى يَدِهِ إلَى الطَّالِبِ وَلَوْ اسْتَعْمَلَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ الْكَفِيلَ حَتَّى إذَا أَدَّاهُ الْمَطْلُوبُ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ.
فَهَلَاكُ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا.
وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ عَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ بِمَا صَنَعَ.
وَالرِّبْحُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَطِيبُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ.
وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا فَأَرْسَلَ بِهِ الْأَصِيلُ مَعَ الْكَفِيلِ إلَى الطَّالِبِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْكَفِيلُ فَرَبِحَ؛ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ.
وَلَوْ أَعْطَاهُ الطَّعَامَ اقْتِضَاءً عَمَّا كَفَلَ بِهِ فَبَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: الرِّبْحُ لَهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ قَضَى الطَّالِبَ طَعَامَهُ؛ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْبَحَ عَلَى مُلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ.
وَإِنْ قَضَى الْمَطْلُوبُ طَعَامَهُ حَتَّى رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالطَّعَامِ الَّذِي أَعْطَاهُ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لِلْكَفِيلِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مُلْكِهِ كَانَ صَحِيحًا فَبِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ خُبْثٌ فِي الرِّبْحِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: يَرُدُّ الْأَصْلَ، وَالرِّبْحُ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ الشَّرْطُ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ: أَنْ يُفْتِيَ بِرَدِّ الرِّبْحِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ.
وَهُنَا قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ حِينَ كَانَ قَبَضَهُ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَسْلَمْ ذَلِكَ الشَّرْطُ لِلْمُعْطِي فَيُؤْمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ رِبْحُهُ حَاصِلًا عَلَى عَيْنِ الْمَالِ الْمَقْبُوضِ.
فَأَمَّا الطَّعَامُ يُتَعَيَّنُ؛ فَإِنَّمَا رَبِحَ عَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخُبْثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اُكْفُلْ عَنِّي لِفُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ إنْ كَفَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَكْفُلْ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَلَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ، أَوْ يُقْرِضَ ذِمَّتَهُ عَلَى أَنْ يُثْبِتَ فِيهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَقْتَضِي أَمْرُهُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ.
وَالثَّابِتُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاكْفُلْ بِهَا عَنِّي.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي الْكَفَالَةِ إلَى أَجَلٍ فَالْكَفِيلُ بِهَا ضَامِنٌ لِلْأَصِيلِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ.
وَالْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ بِهَذَا الْمَالِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ يَلْتَزِمُ فِي ذِمَّتِهِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ.
وَالثَّابِتُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ.
فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ زُيُوفٌ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ، وَالثَّمَنُ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَهُوَ سَبَبٌ مُبْتَدَأٌ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ بِهِ عَلَى الشَّفِيعِ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ إلَّا بِالشَّرْطِ.
فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِهَا ابْتِدَاءً وَلَكِنَّهَا الْتِزَامٌ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
فَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ فَهُوَ عَلَيْهِ حَالٌّ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَجَلِ وَلِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ لِإِبْقَاءِ الْأَجَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ وَارِثِهِ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ لِقِيَامِ الدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَهْلَكُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَالْأَجَلُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ سَقَطَ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصِيلُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يُطَالِبَهُ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ وَلَوْ مَاتَ الْأَصِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ حَلَّتْ عَلَيْهِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ وَلَمْ يَحِلَّ عَلَى الْكَفِيلِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَى الْأَجَلِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ سُقُوطُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَ الْكَفِيلُ فِيمَا عَلَيْهِ صَحَّ وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا.
وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ فَكَفَلَ بِهَا رَجُلٌ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ وَهَذَا تَأْخِيرٌ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ذِكْرُ حَقٍّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفُلَانٌ كَفِيلٌ بِهَا إلَى سَنَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إلَى سَنَةٍ وَعَنْ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ حَالٌّ؛ لِأَنَّهُ أَجَّلَ الْكَفِيلَ خَاصَّةً.
وَالتَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى غَايَةٍ فَإِذَا كَانَ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَالتَّأْجِيلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا أَجَّلَ الطَّالِبُ هُنَا أَصْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ- فِي قَوْلِهِ: فَكَفَلَ بِهَا إلَى سَنَةٍ- كِنَايَةٌ عَنْ أَصْلِ الْمَالِ.
وَإِضَافَةُ التَّأْجِيلِ إلَى أَصْلِ الْمَالِ يُثْبِتُ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلُ بِمَا الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ؛ يَبْقَى الْمَالُ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ.
وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ: إذَا أَضَافَهُ إلَى أَصْلِ الْمَالِ؛ يَكُونُ إبْرَاءً لَهُمَا وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً؛ يَكُونُ مُوجِبًا بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ.
وَإِذَا كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ مِنْ وَدِيعَةٍ لِفُلَانٍ عِنْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ الِالْتِزَامَ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ جَمِيعًا.
فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْتِزَامِ أَدَاءِ الْوَدِيعَةِ إلَى صَاحِبِهَا أَوْ غَرِيمِ صَاحِبِهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهَا.
فَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ الْوَدِيعَةَ فَقَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ الَّذِي الْتَزَمَ فِيهِ التَّسْلِيمَ لِلطَّالِبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّ مُبْطِلٌ لِلْكَفَالَةِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ وَعَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَطَلَبَ مِنْ الَّذِي عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ الْتِزَامَ أَدَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَهُوَ تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَكُونَ ضَامِنًا فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا بَعْدَ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ ثُمَّ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْكَفِيلِ لَا عَنْ حَقِّ الْغَرِيمِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ دَيْنِهِ مِنْهَا بِأَمْرِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ.
فَإِذَا هَلَكَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهَا هَلَكَتْ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي هَلَاكِهَا، وَإِنْ اغْتَصَبَهَا إيَّاهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَوْ اغْتَصَبَهَا إيَّاهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَاسْتَهْلَكَهَا؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَيْنِ مَا بَقِيَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا، فَإِذَا لَمْ تَبْقَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ ضَمِنَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبِعْهَا؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَهُوَ ثَمَنُ الدَّارِ وَلَا يَحْصُلُ ثَمَنُ الدَّارِ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَبِعْ الدَّارَ وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْ بَيْعَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَبِعْ الدَّارَ وَيَقْبِضْ الثَّمَنَ.
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا؛ فَالْجُعْلُ بَاطِلٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَيْسَ يَسْتَوْجِبُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ زِيَادَةَ مَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عِوَضٌ بِمُقَابَلَتِهِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْجَعْلُ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مَشْرُوطًا فِيهِ؛ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُلْتَزِمٌ، وَالِالْتِزَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرِضَاهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْكَفَالَةِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
فَإِذَا شَرَطَ الْجُعْلَ فِي الْكَفَالَةِ فَهُوَ مَا رَضِيَ بِالِالْتِزَامِ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْجُعْلَ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْكَفَالَةِ؛ فَهُوَ رَاضٍ بِالِالْتِزَامِ مُطْلَقًا فَيَلْزَمْهُ.
وَكَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِنَفْسٍ كَانَتْ أَوْ بِمَالٍ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ.
وَكَفَالَةُ الْمُرْتَدَّةِ جَائِزَةٌ وَإِنْ مَاتَتْ عَلَى الرِّدَّةِ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فِي السِّيَرِ.
فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَسُبِيَتْ؛ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَحِقَتْ وَسُبِيَتْ؛ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالَهَا لِوَرَثَتِهَا.
وَمَوْتُ الْكَفِيلِ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَمَةٍ كَفَلَتْ بِنَفْسٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَمَّا كَانَتْ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الْمَالِ وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ أَمَةً بِالِاسْتِرْقَاقِ؛ فَكَأَنَّهَا كَفَلَتْ ابْتِدَاءً.
وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا تُطَالَبُ بِذَلِكَ لِحَقِّ مَوْلَاهَا وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَقَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى مَا خَلَّفَتْ مِنْ الْمَالِ، فَكَانَ وَارِثُهَا مُطَالَبًا بِقَضَاءِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَإِنْ أُعْتِقَتْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ؛ لَمْ تُؤْخَذْ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَا بِالْمَالِ وَقَدْ أَبْطَلَ السَّبْيُ كُلَّ كَفَالَةٍ وَكُلَّ حَقٍّ قِبَلَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ مِنْهَا وَهِيَ أَمَةٌ؛ كَانَتْ تُؤْخَذُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمَّا تَبَدَّلَتْ نَفْسُهَا بِالرِّقِّ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهَا عَلَى مَا قِيلَ: الْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ وَالرَّقَبَةُ تَلَفٌ.
فَبَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَصْلًا وَتَحَوَّلَ الْمَالُ إلَى مَالٍ فَلَا يَعُودُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
وَلَوْ كَفَلَ مُسْلِمٌ بِنَفْسِ مُرْتَدٍّ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ فَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَلَحِقَ كَانَ الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ بِفُرُوعِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَنَسِيَتْ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ عَنْهَا بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ سُبِيَتْ فَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْحُضُورِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْإِحْضَارِ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّهَا لَمَّا تَبَدَّلَتْ نَفْسُهَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ وَمَوْتُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ مَأْخُوذٌ بِقَضَاءِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِذَا أَدَّاهُ رَجَعَ بِهِ فِيمَا تَرَكَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ دُيُونِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ تَرَكَتْ وَأَدَّى الْكَفِيلُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنْ عَتَقَتْ يَوْمًا لَمْ يَتْبَعْهَا مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ السَّبْيَ أَبْطَلَ عَنْهَا كُلَّ دَيْنٍ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَسْبِيِّ تَتَبَدَّلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ مِنْ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ، وَهَذَا الدَّيْنُ حِينَ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ شَاغِلًا لِشَيْءٍ سِوَى الذِّمَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهَا وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ وَلَحِقَا بِالدَّارِ وَقَدْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُمَا بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ فَإِنْ مَاتَا أَوْ سُبِيَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ فَإِنْ أَدَّاهُ ثُمَّ عَتَقَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا بِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَدَّةِ.
وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بَاقٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَكَمَا لَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ بِالْخَمْرِ فَكَذَلِكَ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُرْتَدُّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهَا مُسْلِمٌ.
فَإِنْ كَفَلَ بِهَا عَنْهُ مُسْلِمٌ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَلَوْ كَفَلَ مُسْلِمٌ لِمُرْتَدٍّ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارُ الْحَرْبِ كَانَ وَرَثَتُهُ عَلَى حَقِّهِ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ لِحَاقِهِ كَمَا يَخْلُفُونَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، فَإِنْ رَجَعَ ثَانِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ قَائِمًا مِنْ حُقُوقِهِ يَعُودُ إلَيْهِ إذَا رَجَعَ ثَانِيًا بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ أَمْلَاكِهِ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ قَدْ اسْتَوْفَوْا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ فَالْكَفِيلُ مِنْ ذَلِكَ بَرِيءٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ إلَى وَارِثِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِهِ وَكَفَالَةُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْكَفَالَةُ لَهُ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ لِيُعَامِلَنَا فَفِي الْمُعَامَلَاتِ يَسْتَوِي بِنَا.
فَإِنْ لَحِقَ بِدَارِهِ ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا فَالْكَفَالَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا حُكْمًا فَهُوَ قِيَاسُ مَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَدِّ وَإِنْ أُسِرَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ فِيمَا لَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَبَدَّلَتْ بِالْأَسْرِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحُقُوقِهِ، وَلَمْ يَخْلُفْهُ وَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَأَمَّا فِيمَا عَلَيْهِ فَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالْأَسْرِ كَمَا فِي الْمُرْتَدَّةِ وَبِالْمَالِ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُرْتَدَّةِ الْمَالَ يَتَحَوَّلُ إلَى مَا خَلَّفَتْ وَلَيْسَ هُنَا مَحَلٌّ هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَيْضًا.
وَمُكَاتَبُ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَعَبْدُهُ بِمَنْزِلَةِ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُكَاتَبِهِمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ هُمْ بِسَبَبِ عَقْدِ الضَّمَانِ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ عَبِيدُهُمْ وَمُكَاتَبُوهُمْ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.