فصل: بَابُ الْحَوَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْحَوَالَةِ:

(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-) ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ: إذَا أَفْلَسَ فَلَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ مَالَ الطَّالِبِ يَعُودُ فَدَلِيلُهُمَا أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا فَقَدْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فِيهِ وَوَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ (فَفِي الْكِتَابِ) أَشَارَ إلَى حُرُوفٍ فَإِنَّكَ لَا تَكْتُبُ: ذِكْرُ حَقِّ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ أَحَالَهُ بِهَا عَلَى فُلَانٍ.
فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْسُنُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْكَلَامِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَوَّلَهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَحْسُنُ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ ضَمِنَهَا عَنْهُ فُلَانٌ (ثُمَّ وُجُوهُ التَّوَى) قَدْ بَيَّنَّاهَا فِيمَا سَبَقَ.
(وَالْجَوَابُ) بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الدُّيُونِ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالْمَهْرِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الْحَقِّ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى؛ لِيَصِحَّ التَّحْوِيلُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ بِالْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَوَّلَ الْمَالُ إلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ الْتَحَقَ بِمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَكَمَا يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى ذِمَّتِهِ؛ يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَوَالَةِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَلَكِنْ يُعَامِلُهُ بِحَسَبِ مَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَصْلِ الْكَفِيلِ (وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ) فَإِنَّ فِي الْكَفَالَةِ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ بَاقِيَةٌ، فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ مَا لَمْ يُؤَدِّ، وَبَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا سَقَطَتْ مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمُحِيلِ عَلَى الثَّبَاتِ بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى التَّأْجِيلِ.
أَوْ لَمَّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِغَرَضِ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ جُعِلَ كَالْمُتَوَجَّهِ فِي الْحَالِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةٌ بِالثَّمَنِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ بَلْ مُطَالَبَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَكِيلِ فَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَوْ قَضَى الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ؛ كَانَ رِبْحُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ قَدْ اسْتَوْجَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجِّلٌ لِأَدَائِهِ.
وَمَنْ اسْتَعْجَلَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَرَبِحَ؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْبَحَ عَلَى مِلْكٍ صَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى آخَرَ فَقَضَاهَا إيَّاهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَالَ الْأَصِيلُ: كَانَتْ لِي عَلَيْك، وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ: مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَائِهِ، وَالْمُحِيلُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِيَجْعَلَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً.
بَلْ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ مِنْ وَجْهٍ: فَتَوْكِيلٌ بِالْأَدَاءِ وَالْقَبْضِ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ دَلَالَةُ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْإِنْكَارِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ؛ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْحَوَالَةِ وَالْمُحِيلُ كَانَ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ كَفِيلًا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي لَمْ يَحِلَّهُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ فِي هَذِهِ الْخَمْسمِائَةِ كَانَ كَفِيلًا وَقَدْ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ.
فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَرُجُوعِهِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحِيلُ رَجَعَ بِنِصْفِهَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ وَأَدَاءُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَأَدَائِهِ أَدَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَأَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَدَّى إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ بِنَفْسِهَا عَلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى رَجُلَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ إلَيْهِمَا إضَافَةً عَلَى السَّوَاءِ فَيَقْسِمُ عَلَيْهِمَا انْقِسَامًا عَلَى السَّوَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَفَالَةِ نَظِيرَهُ فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِالْأَلْفِ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ بِجَمِيعِ الْمَالِ هُنَا فِي النِّصْفِ عَنْ الْأَصِيلِ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ فَإِذَا أَدَّاهَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى مُكَاتَبٍ مَالٌ فَأَحَالَهُ الْمُكَاتَبُ بِهِ عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِهِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ لِلطَّالِبِ فِي أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مِنْ غَرِيمِهِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَرَ لِلْغَرِيمِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ.
وَهَذَا التَّكَلُّفُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ أَحَالَ الطَّالِبَ حَوَالَةً مُطْلَقَةً؛ يَجُوزُ.
فَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُكَاتَبِ الْمُقَيَّدَةُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ يَجُوزُ مُقَيَّدًا بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ إلَى الْمُحِيلِ أَوْ إلَى الْمُحْتَالِ.
وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي هَذَا كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَاهُ عَلَى وَاحِدٍ جَازَتْ الْحَوَالَةُ مِنْهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِالْمَالِ وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَحْتَالُ بِدَيْنِ الْيَتِيمِ عَلَى رَجُلٍ أَمْلَأَ مِنْ غَرِيمِهِ الْأَوَّلِ فَاحْتَالَ بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قُرْبَانُ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ فَإِنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِمَلَاءَةِ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ.
وَفِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَمْلَأُ: إظْهَارٌ لِلزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ وَتَيَسُّرُ الْوُصُولِ إلَى مَالِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَظَرًا مِنْ حَقِّهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْأَمْرِ بِنَقْدِ الْمَالِ:

(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-): وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَدَهَا؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْآمِرِ اسْتِقْرَاضٌ مِنْ الْمَأْمُورِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْدُهُ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُودُ مِلْكًا لَهُ وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْأَلْفَ وَوَكَّلَ صَاحِبَ دَيْنِهِ بِأَنْ يَقْبِضَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ مِنْ عِنْدِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنَ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ فَيُؤَدِّيَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ لِلْمَأْمُورِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يُؤَدِّي فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اُنْقُدْ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: اقْضِهِ عَنِّي كَذَا أَوْ قَالَ: اقْضِهِ مَا لَهُ عَلَيَّ، أَوْ ادْفَعْ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ عَلَيَّ، أَوْ ادْفَعْ عَنِّي كَذَا، أَوْ أَعْطِهِ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَوْفِهِ مَالَهُ عَلَيَّ، فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهُ إقْرَارٌ مِنْ الْآمِرِ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ إمَّا لِقَوْلِهِ: عَنِّي أَوْ لِقَوْلِهِ: اقْضِهِ عَنِّي.
فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: أَوْفِهِ عَنِّي فَإِنَّ الْإِيفَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَوْ قَالَ: اُنْقُدْهُ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا أَوْ عَلَى أَنِّي كَفِيلٌ بِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ سَوَاءٌ وَإِذَا نَقَدَهَا إيَّاهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْتِزَامِ ضَمَانِ الْمَنْقُودِ لَهُ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي إنْ نَقَدَهُ الدَّرَاهِمَ أَوْ نَقَدَهُ بِهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ بَاعَهُ بِهَا جَارِيَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ.
فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ إذَا حَلَفَ لَيَسْتَوْفِيَنَّ مَالَهُ عَلَيْك قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَك وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَضَاءً وَلَمْ يَقُلْ: عَنِّي أَوْ قَالَ: اقْضِ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ فَدَفَعَهَا الْمَأْمُورُ فَإِنْ كَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْقَائِمَةَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْقِضَاءِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ يَنُوبُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ السَّابِقَةِ.
وَتِلْكَ الْخُلْطَةُ تُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا يُؤَدِّي بِأَمْرِهِ كَمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ.
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَإِنَّمَا رُجُوعُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ.
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ خَلِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ خَلِيطٍ لِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الدَّفْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ وَإِذَا اعْتَمَدَ فِي الْأَدَاءِ أَمَرَهُ فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ صَارَ مُغَرَّرًا مِنْ جِهَتِهِ.
وَالْغَرَرُ مَدْفُوعٌ كَمَا فِي الْخَلِيطَيْنِ (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِ قَضَاءً وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَى الْوُجُوبِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْمُورِ شَيْءٌ وَاجِبٌ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُ الْآمِرِ بِذَلِكَ بَلْ أَمْرُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآمِرِ وَكَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذَا وَقَوْلُهُ: اقْضِ عَنِّي سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- قَالَا إنَّ قَوْلَهُ: اقْضِ أَوْ ادْفَعْهُ إلَيْهِ قَضَاءُ كَلَامٍ مُحْتَمَلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيْك فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيَّ.
وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْهُ اسْتِقْرَاضًا وَلَا أَمْرًا بِأَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَطَرِيقُ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ هُنَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: قَضَاءً عَنِّي إذَا كَانَ قَضَاءً لِمَا لَهُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ زَالَ هُنَاكَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ أَمْرُهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ادْفَعْهُ إلَيَّ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ بَلْ يَقْضِهِ الْمَالَ مِنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ هُنَا إلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلْمَالِ مِنْهُ دُونَ الْآمِرِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَهَذَا وَأَمْرُهُ لَلْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ.
وَيَدُ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِ، وَلَوْ دَفَعَ بِنَفْسِهِ قَضَاءً كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ حَتَّى أَدَّى، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إذَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ زَوْجَهَا فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ أَجِيرًا لَهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التِّلْمِيذَ الْخَاصَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ شَرِيكًا لَهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ وَحَمْلٌ لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ أَوْ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ رَجَعَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْآمِرِ بِاعْتِبَارِ الْخُلْطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرَرِ مِنْ جِهَتِهِ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَرْجِعْ الْآمِرُ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ فَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ.
وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَابِضَ يَسْتَوْفِي حَقًّا وَاجِبًا لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً.
وَلَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَنْقُدَ فُلَانًا عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَجِيَّةٍ فَنَقَدَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ غَلَّةً أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَى بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالنَّجِيَّةِ إذَا أَدَّى بِالْغَلَّةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنَّجِيَّةِ فَإِنَّ رُجُوعَ الْكَفِيلِ بِحُكْمِ الِالْتِزَامِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ النَّجِيَّةَ فَاسْتَوْجَبَ مِثْلَهَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ثُمَّ إنْ سَامَحَهُ الطَّالِبُ فَتَجُوزُ بِالْغَلَّةِ؛ لَا يَجِبُ أَنْ يُسَامِحَ الْأَصِيلَ بِشَيْءٍ فَأَمَّا الْمَأْمُورُ فَهُوَ غَيْرُ مُلْتَزِمٌ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْأَدَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْمُؤَدِّي.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ رَجُلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَاهَا الْمُحْتَالُ قَالَ الْمُحْتَالُ لِلْمُحِيلِ: كَانَ الْمَالُ لِي عَلَيْك فَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْت حَقَّ نَفْسِي، وَقَالَ الْمُحِيلُ: بَلْ كُنْت وَكِيلِي فِي قَبْضِ مَالِي؛ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ ظَاهِرًا كَالْمَقْبُوضِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ ثُمَّ الْقَابِضُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْبِسَ مَالَهُ بِذَلِكَ.
وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إحَالَتَهُ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَيُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ دَيْنُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ وَرَبُّ الْمَالِ غَائِبٌ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ.
فَهُوَ مِثْلُ الْحَوَالَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ عَنِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِالْمَالِ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اضْمَنْ عَنِّي لَهُ، بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ مِنْهُ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ إذَا قَالَ: يَحْتَالُ إلَيْك بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْك؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ: هُوَ مُحْتَالٌ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِتُؤَدِّيَهَا عَنِّي مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحْتَالِ.
وَإِذَا قَالَ: يَحْتَالُ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالْمَالِ وَلَكِنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَالِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لَهُ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ.
وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَ، وَإِنْ أَدَّاهَا وَكَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهَا الْآمِرُ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْحَوَالَةِ نَظِيرَهُ فَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُسَلَّمُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: ادْفَعْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مِنْ الْمَأْمُورِ الْتِزَامُ شَيْءٍ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ.
وَهُنَا بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ قَدْ الْتَزَمَ الْمَالَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى إلَيْهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.