فصل: بابُ الْخِيَارِ في الصُّلْحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الْخِيَارِ في الصُّلْحِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:) اعْلَمْ بِأَنَّ حُكْمَ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ كَهُوَ فِي الْبَيْعِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَيُمْكِنُ فَسْخُهُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ كَالْبَيْعِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْمُدَّعِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ صَحِيحٌ، فَإِنْ اسْتَوْجَبَ الْعَقْدَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَلْفِ لِتَمَامِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَتَقَرَّرَ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَصَارَتْ الدَّنَانِيرُ عَلَى الْمُطَالِبِ الْأَوَّلِ إلَى شَهْرٍ مِنْ يَوْمِ اسْتَوْجَبَ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الدَّنَانِيرِ أَجَلَ شَهْرٍ وَاشْتَرَطَ الْأَجَلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتُوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ وَاشْتَرَطَ الْمَطْلُوبُ الْخِيَارَ ثَلَاثًا وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّوْبَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فِي الثَّلَاثِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ وَمَا لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بَائِعٌ لِلثَّوْبِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْبَائِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَقْبُوضِ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ دَيْنٌ فَصَالَحَاهُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَأَوْجَبَ الصُّلْحَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَرَدَّ عَلَى الْآخَرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْعَبْدِ مِنْهُمَا، وَقَدْ شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ الْخِيَارَ فِي النِّصْفِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ فَكَانَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ دُونَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِيَيْنِ لِلْعَبْدِ مِنْهُ وَأَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا فَمَضَتْ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْخِيَارِ الْفَسْخَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفَسْخِ وَمُدَّعِي الْفَسْخِ يَدَّعِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْفَسْخِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمْضَى فِي الثَّلَاثَةِ أُخِذَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مُدَّعِي الْفَسْخِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الْمُثْبِتُ لِعَارِضِ الْفَسْخِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ بِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِبَيِّنَتِهِ أَوْلَى.
وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ: أَخَذَ بِبَيِّنَةِ إمْضَاءِ الصُّلْحِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ: إنَّ فِي بَيِّنَةِ إمْضَاءِ الصُّلْحِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا شُبْهَةَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي الْبُيُوعِ مِنْ الْجَامِعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّلَاثَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ أَنَّهُ وُجِدَ فَسْخٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إذَا شَرَطَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخِيَارَ، ثُمَّ فَسَخَ الْعَقْدَ بِخِيَارِهِ فَالْمُدَّعِي يَعُودُ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَا يَكُونُ مَا صَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إقْرَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْبَاتَّ أَقْوَى مِنْ الصُّلْحِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الصُّلْحِ الْبَاتِّ لَا يَكُونُ إقْرَارًا فَعَلَى الصُّلْحِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْلَى.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الْعَيْنِ مَبِيعٌ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَدْلِ زُطِّيٍّ فَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَرَهُ، ثُمَّ صَالَحَ عَلَيْهِ الْقَابِضُ آخَرَ ادَّعَى قَبْلَهُ دَعْوَى أَوْ قَبَضَهُ الْآخَرُ، وَلَمْ يَرَهُ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الثَّانِي إذَا رَآهُ فَلَمْ يَرْضَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُشْتَرِي شَيْءٍ لَمْ يَرَهُ وَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ إنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ قَدْ سَقَطَ حِينَ مَلَكَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَعُودُ بَعْدَمَا سَقَطَ بِحَالٍّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الدَّعْوَى لَيْسَ بِإِقْرَارٍ فَبَعْدَ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ، وَفِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ أَيْضًا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ يَرْجِعُ فِي الدَّعْوَى إنْ كَانَ رَدُّهُ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَمَةٍ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَبَضَهَا فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ وَجَدَهَا عَوْرَاءَ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِيمَا يُصِيبُ الْعَوَرَ مِنْ الْمِائَةِ، فَإِذَا أَقَامَ أَوْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ أَوْ أَقَرَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ كُرَّ حِنْطَةٍ قَرْضًا فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ زَادَ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَقَطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصًا، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ الْعَشَرَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الرَّدَّ لِمَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا نَقَدَهُ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ الْكُرِّ فَيَسْتَوْفِي ذَلِكَ إنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ اسْتَحْلَفَ صَاحِبَهُ فَنَكَلَ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُقِرَّ بِهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى كُرٍّ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكُرَّ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْكُرَّ بِالْعَشَرَةِ وَبِمَا ادَّعَاهُ، وَهُوَ الْمِائَةُ فِي زَعْمِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنْ وَجَدَ بِالْكُرِّ عَيْبًا وَوُجِدَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ وَكَانَ عَيْبُهُ الْأَوَّلُ يُنْقِصُهُ الْعَشْرَ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ مِنْ الْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَيَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ هَذَا، وَهَذَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْمِائَةِ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْكُرِّ عَيْبًا، وَقَدْ حَدَثَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ وَكَانَ الْعَيْبُ الْأَوَّلُ يُنْقِصُهُ الْعُشْرَ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ تِسْعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بَقِيَ حَقُّهُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجَّلَهُ فِي ذَلِكَ إلَى شَهْرٍ، وَإِنَّمَا صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ بِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إلَى تَمَامِ الْمِائَةِ وَذَلِكَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ تِسْعِينَ دِرْهَمًا.
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ اشْتَرَى الْحِنْطَةَ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَشَرَطَ لَهُ التَّأْجِيلَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سِوَى الثَّمَنِ إلَى شَهْرٍ وَذَلِكَ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ بِهِ كَفِيلًا وَأَخَّرَهُ بِهِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَعْطَاهُ بِمَا عَلَيْهِ كَفِيلًا، وَالطَّالِبُ أَجَّلَهُ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ هُنَا مَعْنَى مُعَاوَضَةٍ، وَالْكَفَالَةُ بِالْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ سَوَاءٌ سَأَلَ الْمَطْلُوبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَسْأَلْ، وَالتَّأْجِيلُ يُثْبِتُ حَقًّا لِلْمَطْلُوبِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ فَأَبْرَأَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ بِهِ كَفِيلًا آخَرَ وَأَخَّرَهُ سَنَةً بَعْدَ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ يَتِمُّ بِالطَّالِبِ وَالتَّأْخِيرُ بِإِيجَابِ الطَّالِبِ ذَلِكَ لِلْمَطْلُوبِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ لَمَّا كَانَ تَمَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَخْصٍ آخَرَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ نِصْفَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُ مَا بَقِيَ سَنَةً بَعْدَ الْأَجَلِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي نِصْفِ الْمَالِ وَشَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ التَّأْجِيلَ فِيمَا بَقِيَ سَنَةً أُخْرَى فَهَذَا مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِالْأَجَلِ، وَهُوَ رِبًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعَجِّلُ مُؤَجَّلًا بِتَأْخِيرِ شَيْءٍ آخَرَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُعَاوَضَةِ الْأَجَلِ بِالْأَجَلِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَضَى الطَّالِبَ الْمَالَ قَبْلَ حَلِّهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَصْلِ وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ فِي ضِمْنِ التَّعْجِيلِ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إلَى أَجَلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا، أَمَّا فِي السَّتُّوقِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُوفِيًا لَهُ حَقَّهُ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ، وَفِي الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ قَدْ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالرَّدِّ، وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِمَا فِي أَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ حِينَ عَادَ الْأَجَلُ وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ نَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا إلَّا أَنَّا نَجْعَلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الْأَجَلِ، وَعِنْدَ رَدِّ الزُّيُوفِ رُجُوعُهُ بِأَصْلِ حَقِّهِ، وَهُوَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ حَقِّهِ مُؤَجَّلًا فَلِهَذَا رَجَعَ بِهِ بَعْدَ حَلِّهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ بِهِ عَبْدًا أَوْ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَبْدٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِ أَنْ يُقِيلَهُ الصُّلْحَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْأَجَلِ فَأَقَالَهُ أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ إنْ جُعِلَتْ فَسْخًا عَادَ الْمَالُ إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ جُعِلَتْ كَعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ فَقَدْ شَرَطَ التَّأْجِيلَ فِي الْبَدَلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الْأَجَلُ فَالْمَالُ حَالٌّ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَمُطْلَقُهُ يُوجِبُ الْمَالَ حَالًّا.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا وَعَوْدُ الْأَجَلِ مِنْ حَقِّهِمَا قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِهِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْأَجَلُ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَالْإِقَالَةُ فِيهِ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ.
وَلَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ لَمْ يُعَدْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ آخَرُ سِوَى مَا كَفَلَ بِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ بِهِ رَهْنٌ، وَهُوَ فِي يَدِ الطَّالِبِ حِينَ رَدَّ بِالْعَيْبِ كَانَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْفَسَخَ بِرَدِّ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ الرَّهْنُ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَيَبْقَى مَحْبُوسًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِثْلُهُ.
وَلَوْ كَانَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ إلَى أَجَلٍ فَعَجَّلَ لَهُ الْمِائَةَ الدِّينَارَ عَلَى أَنْ أَخَّرَ عَنْهُ الْأَلْفَ إلَى سَنَةٍ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي الدَّنَانِيرِ عِوَضًا عَمَّا أَجَّلَهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَوْ قَالَ: أُعَجِّلُ لَكَ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرَ عَنِّي الدَّنَانِيرَ سَنَةً أُخْرَى فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ عَاجِلًا، فَإِنَّمَا أَجَّلَهُ فِي الدَّنَانِيرِ خَاصَّةً وَلَيْسَ بِمُقَابَلَةِ إسْقَاطِ الْآخَرِ أَجَلَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى أَنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ حَالٌّ وَلَيْسَ هَذَا صُلْحًا، وَإِنَّمَا هَذَا إسْقَاطٌ مِنْ الْمَطْلُوبِ حَقُّهُ فِي الْأَجَلِ وَالْأَجَلُ حَقُّهُ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبْطَلْتُ الْأَجَلَ الَّذِي فِي هَذَا الدَّيْنِ إنْ تَرَكْتُهُ أَوْ جَعَلْتُهُ حَالًّا فَهَذَا كُلُّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِلْأَجَلِ إنْ قَالَ: قَدْ بَرِئْتُ مِنْ الْأَجَلِ أَوْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْأَجَلُ عَلَى حَالِهِ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ حَقُّهُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِظْهَارُهُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْأَجَلِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ فِي الْحَالِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ الْأَجَلُ.
وَقَوْلُهُ قَدْ بَرِئْتُ مِنْ الْأَجَلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَبْرَأْتُ الطَّالِبَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَغْوٌ، فَإِنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ فَإِبْرَاءُ الطَّالِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ شَيْءٌ يَكُونُ لَغْوًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَبْطَلْتُ الْأَجَلَ فَذَلِكَ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِحَقِّهِ وَتَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ يَجْعَلُهُ حَالًّا وَلَيْسَ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ بِشَيْءٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَصَالَحْتُكَ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَفْظٌ خَاصٌّ بِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ فَإِقْدَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْعَبْدَ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَمْلِيكُ الْمَالِ بِإِزَاءِ إسْقَاطِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا حَتَّى لَوْ قَالَ صَالَحْتُكَ مِنْ حَقِّكَ عَلَى أَنَّ لَكَ هَذَا الْعَبْدَ كَانَ إقْرَارًا بِحَقِّهِ أَيْضًا، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى عَبْدٍ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ مُخَالِفٌ لِلْبَيْعِ يَعْنِي لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ مَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْحَطِّ، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ قَرْضًا فَجَحَدَهُ فَصَالَحَهُ فُضُولِيٌّ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِتَصْيِيرِهِ دَرَاهِمَ وَنَقَدَهَا إيَّاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَصِيرُ الْمُصَالِحُ مُشْتَرِيًا الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنْ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْمُدَّعِي حَقَّهُ قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ لِإِيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْبَيْعِ وَلَفْظِ الصُّلْحِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ حَالٍّ فَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَأْخُذُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ، وَلَا يُشَارِكُهُ الْمُؤَخَّرُ فِي الْمَقْبُوضِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِي الْمَقْبُوضِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُؤَخِّرَ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ نَصِيبِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي إسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ، وَلَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَصِيبِهِ لَا إلَى غَايَةٍ بِأَنْ أَبْرَأَ عَنْ نَصِيبِهِ كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا أَسْقَطَ مُطَالَبَتَهُ إلَى غَايَةٍ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى عَيْنٍ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِنَصِيبِهِ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ صَحِيحًا لِمَا أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي خَالِصِ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَ نَصِيبَهُ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِأَنَّ الدَّيْنَ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ وَأَنْكَرَ صَحَّ إقْرَارُ الْمُقِرِّ فِي نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَأَ التَّأْجِيلَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْغَيْرِ مَعَ تَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ بِالْإِنْشَاءِ وَلَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ تَأْجِيلَهُ يُلَاقِي بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ يَبْقَى مُشْتَرَكًا بَعْدَ التَّأْجِيلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ تَأْجِيلَهُ مُضَافًا لِنَصِيبِهِ خَاصَّةً إلَّا بَعْدَ قِسْمَةِ الدَّيْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّمْيِيزُ، وَفِي الْعَيْنِ الْقِسْمَةُ بِدُونِ التَّمْيِيزِ لَا تَحْصُلُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ فَقَالَ: اقْتَسَمْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ لِي وَالْجَانِبَ الْآخَرَ لَكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ تَمْلِيكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَمَّا يَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا قِسْمَةٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا لِنَصِيبِ الْآخَرِ فِي الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَ إلَّا هَذَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَأْجِيلَهُ يُصَادِفُ بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَنَّ الْآخَرَ إذَا قَبَضَ نَصِيبَهُ، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْبَاقِي هُوَ مَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَلَوْ سَلَّمَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ نَوَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ فَيُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهُ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ رَجَعَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ فَسَادُ مَذْهَبِهِمَا، فَإِنَّهُ بَعْدَ التَّأْجِيلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُطَالِبَ بِنَصِيبِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْآخَرُ قَابِضًا لِنَصِيبِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ قِسْمَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُشَارِكَهُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِنْ جُعِلَ قَابِضًا لِبَعْضِ نَصِيبِ الْمُؤَخِّرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُطَالِبَ بِنَصِيبِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى نَصِيبُهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُلَاقِي شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي الثَّمَنِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ فَنَصِيبُ الْمُسْتَوْفِي لَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ أَوْ صَالَحَ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ فِيهِ فَقَدْ وُجِدَ اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مُؤَجَّلٌ فَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّيْنَ كُلَّهُ مُؤَجَّلٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ عَنْهُ لَا لِأَنَّ نَصِيبَهُ غَيْرُ مُؤَجَّلٍ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلَا يَكُونُ فِي إعْمَالِ إقْرَارِهِ فِي نَصِيبِهِ مَعْنَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ النَّسَأِ وَالْأَجَلِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ مُؤَجَّلٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ فِي تَصَرُّفِ الْآخَرِ إضْرَارًا لِشَرِيكِهِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِصَاحِبِهِ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ كَمَا لَوْ كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ الْمُكَاتَبَةَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنَةَ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَخِّرُ نَصِيبَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، فَإِذَا أَجَّلَ الْأَجَلَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، ثُمَّ يُؤَخِّرُ نَصِيبَهُ مِمَّا بَقِيَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، فَإِذَا أَجَّلَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ هَكَذَا حَتَّى تَكُونَ مُؤْنَةُ الْمُطَالَبَةِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَبِهِ فَارَقَ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ هُنَاكَ إضْرَارٌ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا يَقْبِضُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ أَوْ الشِّرَاءُ بِنَصِيبِهِ أَوْ الصُّلْحُ أَوْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ لَيْسَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ، وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ مُؤَجَّلٌ فَهُوَ غَيْرُ مُلْحِقٍ الضَّرَرَ بِشَرِيكِهِ وَلَكِنْ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الشَّرِيكَ ظَالِمٌ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ فَيَكُونُ هُوَ فِي الْمُطَالَبَةِ ظَالِمًا مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْمُطَالَبَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمَدْيُونَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَخَّرَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا قَبَضَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ جُزْءٌ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ حَقُّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَعِنْدَهُمَا تَأْخِيرُهُ فِيمَا بَقِيَ صَحِيحٌ وَالْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَهُ كَانَ حَقُّهُمَا فِي الدَّيْنِ سَوَاءً فَصَارَ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَتَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَمَسُّ الْمَقْبُوضَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمِلْكِ، فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ فَتَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ دَيْنِهِمَا فَقَدْ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حِصَّتِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ، وَلَا يَكُونُ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ صَارَ قَابِضًا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا مَقْضِيًّا، فَإِنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ أَوَّلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُوبَ، وَإِنَّمَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا يُقْبَضُ، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَابِضًا شَيْئًا لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ نَصِيبِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ عَمْدًا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً يَكُونُ أَرْشُهَا خَمْسَمِائَةٍ أَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مَضْمُونًا أَوْ شَيْئًا قَابِلًا لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا صَارَ مُتْلِفًا لِنَصِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْمَدْيُونِ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِنَصِيبِهِ مَالًا مَضْمُونًا وَضَمَانُ الْغَصْبِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ وَلِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَكُونُ قَابِضًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ يَكُونُ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ.
وَلَوْ حَرَقَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا لِلْمَدْيُونِ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَاقِ صَارَ قَابِضًا مُتْلِفًا لِلْمَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَضْمُونًا فَيَكُونُ كَالْغَصْبِ، وَالْمَدْيُونُ صَارَ قَابِضًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَيَجْعَلُ الْمُحْرَقَ مَقْضِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِنَصِيبِهِ بِمَا صَنَعَ لَا قَابِضٌ، وَالْإِحْرَاقُ إتْلَافٌ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ جَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَدْيُونِ حَتَّى يَسْقُطَ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا جَنَى عَلَى مَالِهِ بِالْإِحْرَاقِ.
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَة دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمِائَةِ أَوْ قَبْلَ قَبْضِهَا كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِائَةٌ وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَالْمَقْبُوضُ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّلَ فِيمَا بَقِيَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يُسْقِطُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ حَقُّ الْمَقْبُوضِ فَلِهَذَا بَقِيَ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَ الْمِائَةَ وَقَاسَمَهُمَا شَرِيكُهُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ لَهُ كَانَتْ الْقِسْمَةُ جَائِزَةً لَا تُعَادُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ كَانَ حَقُّهُمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ سَوَاءً فَسُقُوطُ مَا بَقِيَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْإِبْرَاءِ لَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْقِسْمَةَ بَعْدَ تَمَامِهَا.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةُ قَرْضٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ حِصَّتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَدْفَعُ إلَى شَرِيكِهِ إنْ شَاءَ رُبْعَ كُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الصُّلْحِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِنَصِيبِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ، وَهُوَ رُبْعُ كُرٍّ كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ يُصَحِّحُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ مَا أَمْكَنَ وَمُبَادَلَةُ الْكُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَمِنْ حُجَّةِ الْمُصَالِحِ مُبَادَلَةُ الْكُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحِيحَةٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ إنَّمَا تَوَصَّلْتُ إلَى نَصِيبِي؛ لِأَنِّي تَجَوَّزْتُ بِدُونِ حَقِّي، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُشَارِكَنِي فَتَجَوَّزْ بِمَا تَجَوَّزْتُ بِهِ لِأَدْفَعَ إلَيْكَ نِصْفَ مَا قَبَضْتُ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِقَابِضِ الدَّرَاهِمِ فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ بَاعَهُ حِصَّةً مِنْ الطَّعَامِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ رُبْعَ الْكُرِّ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَيَصِيرُ هُوَ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَوْفِي بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ، لِشَرِيكِهِ نِصْفَهُ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ ضَمَانٍ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ ضَمَانَ نِصْفِ نَصِيبِهِ وَالصُّلْحُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، ثُمَّ فِي الشِّرَاءِ إذَا رَجَعَ بِرُبْعِ الْكُرِّ فَمَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ نِصْفُ كُرٍّ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَشَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ.
وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ رَجُلٍ بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَكَتَبَا عَلَيْهِ صَكًّا وَاحِدًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّحَادِ الصَّكِّ كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ وَكَتَبَا بِالْأَلْفِ صَكًّا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ نَصِيبَ فُلَانٍ مِنْهُ مِائَةٌ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ خَمْسُمِائَةِ بَخِّيَّةٍ وَشَرَطَ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةِ سَوْدَاءَ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَفَرَّقَتْ وَيُغْنِي نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَصْفًا، فَأَمَّا إذَا بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَأَيُّهُمَا قَبَضَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا شَرَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ لَهُمَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَقْبِضُ أَحَدُهُمَا شَيْئًا إلَّا بِشَرِكَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ بَدَلًا عَنْهُ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمِ بَخِّيَّةٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ زُيُوفٍ أَوْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ سُودٍ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُشَارَكَةِ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى صِفَةِ الْمَقْبُوضِ فَيُشَارِكُهُ فِيهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ إنَّمَا وَصَلَ إلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ فَعَلَى الْآخَرِ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهِ إذَا أَرَادَ مُشَارَكَتَهُ؛ لِأَنَّ مُشَارَكَتَهُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ رِضَاهُ بِقَبْضِهِ، وَعِنْدَ الرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُمَا قَبَضَا ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ وَقَبَضَهُ وَأَعْطَى شَرِيكَهُ رُبْعَ كُرِّ حِنْطَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالشَّعِيرِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ الْعُشْرَ، وَقَدْ حَدَثَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ عُشْرِ كُرِّ حِنْطَةٍ، وَهُوَ حِصَّةُ الْعَيْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ بَدَلَ هَذَا الْمَقْبُوضِ لِشَرِيكِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقْبُوضَ بَدَلٌ عَنْ هَذَا الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ، وَقَدْ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ حِصَّةَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ ثَوْبًا بِفِرْقٍ بِثَمَنٍ جَيِّدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى فِرْقِ زَيْتٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ يَسْتَحِقُّ ثَمَنًا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالِاسْتِبْدَالُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَإِذَا تَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ بِالْقَبْضِ فَهُوَ كَالْمُعَيَّنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكُرِّ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَلَوْ كَانَ الشَّعِيرُ بِعَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا سِوَى عَقْدِ الصَّرْفِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا وَمِائَةُ دِينَارٍ لِلْآخَرِ فَصَالَحَاهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ لِوَاحِدٍ فَهُنَاكَ يَصِيرُ مُبْرِئًا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِلْآخَرِ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَهُنَا لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا صَالَحَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ لَهُمَا فَلَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ قَسَمْنَا الدَّرَاهِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ فَيَكُونُ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ رِبًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَلِلْآخَرِ كُرُّ شَعِيرٍ قَرْضٍ فَصَالَحَاهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِسْمَةِ الْمَقْبُوضِ عَلَى قِيمَةِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَقِيمَةِ كُرِّ شَعِيرٍ بَيْنَهُمَا وَقُبِضَتْ الْحِنْطَةُ دُونَ كَيْلِهَا وَذَلِكَ رِبًا، وَلَوْ صَالَحَاهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَاهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَتُقْسَمُ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْبَائِعَيْنِ مِنْهُ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْبَدَلُ يُقْسَمُ عَلَى قِيمَةِ الْمُبْدَلِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى حِصَّةٍ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ بِحِصَّتِهِ شَيْئًا مَقْبُوضًا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى أَحَدٍ، فَلَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَهُوَ كَالْجِنَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَرَوَى بَشِيرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيُضَمِّنَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ وَالصَّدَاقُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، ثُمَّ يَصِيرُ الزَّوْجُ مُسْتَوْفِيًا لِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ دَيْنُ الْمَرْأَةِ فَتَصِيرُ هِيَ قَاضِيَةً بِهِ نَصِيبَ الزَّوْجِ مِنْ الدَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِامْرَأَتَيْنِ عَلَى زَوْجِ إحْدَاهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْأُخْرَى أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ قَاصَّهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ أَوْ لَمْ يُقَاصَّهَا رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نَصِيبَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، ثُمَّ تَتْبَعُ ابْنَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِتَنَصُّفِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَتْبَعَانِهَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَيْضًا فَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى حِسَابِ ذَلِكَ أَثْلَاثًا.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: قَدْ بَرِئْتَ إلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مُبْتَدَأٍ بِالْمَطْلُوبِ مُتَحَتِّمٍ بِالطَّالِبِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِيفَاءِ فَكَانَ هَذَا وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا دَارًا بِحِصَّتِهِ مِنْهَا وَسَكَنَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ أَوْ اسْتَأْجَرَ بِنَصِيبِهِ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ وَهِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ فَكَذَا هَذَا.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَصَابَ قِصَاصًا بِنَصِيبِهِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَجُعِلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ، فَإِذَا كَانَ بَدَلُ نَصِيبِهِ الْمَنْفَعَةَ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِهِ مَالًا مُطْلَقًا لِشَرِيكِهِ، وَاَللَّهُ- تَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.