فصل: بَابُ الشَّهَادَةِ في الرَّهْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الشَّهَادَةِ في الرَّهْنِ:

قَالَ (رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَقَدْ قَبْضَهُ، وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ؛ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَتَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ الْمَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَالْمِائَةُ غَيْرُ الْمِائَتَيْنِ، وَبِدُونِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ لَا يَثْبُتُ الرَّهْنُ، وَعِنْدَهُمَا يُثْبِتُ الْمِائَةَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْمِائَتَيْنِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَيُقْضَى الرَّهْنُ بِالْمِائَةِ فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي مِائَةً وَخَمْسِينَ فَالرَّهْنُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمِائَةِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَالْخَمْسُونَ عَطْفٌ عَلَى الْمِائَةِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ مِائَةً بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالثَّمَنُ هُنَاكَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ بِمِائَةٍ غَيْرُ الْعَقْدِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلَا يُمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ، وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الْمَالُ، وَهُنَا الدَّيْنُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ، وُجُوبُهُ بِالرَّهْنِ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِهِ لَا يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَمَعْنًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَعْنًى عِنْدَهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِدَنَانِيرَ، وَالْآخَرُ بِدَرَاهِمَ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْمَالَيْنِ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَاهِدَهُ الْآخَرَ.
وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَهِيَ قِيمَتُهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى مِائَةٍ، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ لِي عَلَيْهِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، وَهَذَا رَهْنٌ بِمِائَةٍ مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الدَّيْنِ، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ رَهْنَ الْعَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الرَّهْنَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِيمَا ثَبَتَتْ فِيهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا ثَوْبَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَلَاكِ فَحَاصِلُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِيمَا صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الثَّوْبِ الَّذِي هَلَكَ عِنْدَهُ.
وَإِذَا رَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَتَاعٍ بَاعَهُ إيَّاهُ فَيَقْبِضُ الْمَتَاعَ إلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الرَّهْنَ، وَجَحَدَ الرَّاهِنُ، فَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَأَبَى الْآخَرُ مِنْ دَفْعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَا الْبَيْعَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَا يَكُونُ مَرْهُونًا غَيْرَ مَقْبُوضٍ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مَتَاعَهُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الْآخَرُ الْعَبْدَ رَهْنًا أَوْ يُعْطِيَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا آخَرَ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ حِينَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ الْعَبْدَ رَهْنًا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَإِمْضَائِهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ رَهْنًا فَحِينَئِذٍ قَدْ وَفَّى لَهُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَالثَّانِي لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ إلَّا بِرِضَاهُمَا.
وَلَوْ لَمْ يَجْحَدْ الرَّاهِنُ، وَلَكِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَحَقَّ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ يَنْقُصُهُ فَلِبَائِعِ الْمَتَاعِ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا آخَرَ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قِيمَةَ ذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ أَوْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَانَ مَنْعُ الرَّاهِنِ الْقِيمَةَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَنْعِ الْعَيْنِ فِي حَالِ قِيَامِهِ فَلِأَجْلِهِ تَخَيَّرَ الْبَائِعُ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَخَذَ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ حَالًّا أَوْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ الرَّهْنِ: دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مَكَانَهُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ حِينَ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ حَالٌّ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ حَالًّا أَوْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلْفٌ عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا آخَرَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى رِضَا الْبَائِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ مَا هَلَكَ إذَا أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا أُخْرَى يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الثَّانِيَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْأَوْلَى إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْقِيمَةَ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى رِضَا الْبَائِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ مَا هَلَكَ إذَا أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا أُخْرَى يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِذَا أَعْطَاهُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَطْلُبَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَإِذَا ادَّعَى الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِذِي الْيَدِ قَدْ بِعْتَنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضْتُ مِنْكَ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ إنَّمَا يَقْضِي لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالرَّهْنِ بِنِصْفٍ، وَذَلِكَ يَنْعَقِدُ لِمَكَانِ الشُّيُوعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ هُنَا إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ أَوْ ثَبَتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ رَهْنٌ لِأَوَّلِهِمَا، وَقْتًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّهُ بِعَقْدٍ تَامٍّ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَبِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الثَّانِي بَعْدَهُ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأَوَّلِ بِانْفِكَاكٍ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ الْآخَرَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا.
وَذُو الْيَدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَكَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْأَوَّلُ فَحِينَئِذٍ شُهُودُهُ صَرَّحُوا بِسَبْقِ تَارِيخِ عَقْدِهِ، وَبِمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَهُ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَالتَّارِيخُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى التَّارِيخِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رَهْنًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقِيَاسِ وَبِهِ يَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ رَهْنًا بِنِصْفِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ يُعْمَلُ بِالْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ رَهْنٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَرَهْنُ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ صَحِيحٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَالتَّسَاوِي إنَّمَا يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا لِأَجْلِ الشُّيُوعِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْعَيْنَ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤُ، وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ هُنَا؛ لِأَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ أَضْعَفُ، وَوَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ حَتَّى إذَا قَبَضَ جَمِيعَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ دَيْنَ الْآخَرِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ فِي الْحَبْسِ مَعَهُ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ رَاهِنٍ بِحَقِّ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ وَاحِدٌ، وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ عَقْدًا آخَرَ.
وَالرَّهْنُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِعَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ بَيِّنَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ قَالَ: رَهَنْتُ هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْكُمَا بِأَلْفٍ نِصْفُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَنِصْفُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ ذَكَرَ الِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (رَحِمَهُمُ اللَّهُ) فَقَالُوا: هُنَاكَ لَا يَقْضِي قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى لَمْ يَتَمَكَّنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ قَبْضِ النِّصْفِ، وَقَبْضُ النِّصْفِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ، وَهُنَا الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَهْنِ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالرَّهْنُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ حَقِّهِ يُبَاعُ لَهُ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالتَّخْصِيصِ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّيْنِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) اسْتِحْسَانًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الرَّهْنُ بَاطِلٌ وَهُوَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالتَّخْصِيصِ فَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ، وَسَوَّى بَيْنَ مَا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّاهِنِ، وَحَالِ حَيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالرَّهْنِ إلَّا فِي النِّصْفِ، وَالشُّيُوعُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُمَا فَرَّقَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ إثْبَاتُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْجِنْسِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَيْنِ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ فِي دَيْنِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ مِيرَاثِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أُخْتَانِ نِكَاحَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْمِيرَاثِ، وَبِنِصْفِ مِيرَاثٍ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ دَوَامِ الْيَدِ، وَالْيَدُ فِي حَالِ حَيَاةِ الرَّاهِنِ مُسْتَدَامَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ فَتَمَكُّنُ الشُّيُوعِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُسْتَدَامُ حَبْسُ الرَّهْنِ، وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيْعِ النِّصْفِ فِي دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَهُوَ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِرَاهِنِهِ أَوَّلًا، وَذُو الْيَدِ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ مُرْتَهِنٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ لِلرَّاهِنِ الْخَارِجِ وَهُوَ لَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ دَيْنُهُ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ لَا يَثْبُتُ الرَّهْنُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الدَّيْنِ أَوَّلًا عَلَى رَاهِنِهِ حَتَّى يَثْبُتَ حَقُّهُ فَيَسْتَحِقَّ الْعَيْنَ عَلَى ذِي الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ رَهْنِ الْخَارِجِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَقَّتَ الْمُرْتَهِنُ الْخَارِجَ أَوَّلًا لِهَذَيْنِ الْعَيْنَيْنِ أَنَّهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ مِلْكَ رَاهِنِهِ، وَدِينُهُ عَلَى الرَّاهِنِ لَمَا ثَبَتَ حَقُّهُ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُهُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا بَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حَقِّهِ، وَهُوَ لِذِي يَدِهِ وَفِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَكَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا أَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَأَحَدُهُمَا خَارِجٌ، وَالْآخَرُ ذُو الْيَدِ، وَفِي هَذَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَتَاعُ فُلَانٍ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْهُ بِكَذَا، وَقَبَضَهُ فَهُوَ أَيْضًا رَهْنٌ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْآخَرِ بَيِّنَةٌ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى غَائِبٍ لَيْسَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى هَذِهِ قَضَى عَلَى رَاهِنِ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ، وَهُوَ غَائِبٌ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنِيَّيْنِ صَحِيحٌ، يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ شَاهِدًا يَعْنِي رَاهِنَ الْخَارِجِ، وَصَاحِبُ الْآخَرِ غَائِبًا لَمْ أَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ رَاهِنُ هَذَا؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ مُرْتَهِنٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا لِرَاهِنِ الْخَارِجِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ رَاهِنُ ذِي الْيَدِ فَإِذَا حَضَرَ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ، وَجَعَلْتُهُ رَهْنًا لَهُ، وَلَا أَنْظُرُ فِي هَذَا إلَى الْأَوَّلِ، وَالْآخَرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ حُضُورِهِمَا الدَّعْوَى دَعْوَى الْمِلْكِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَنْهُ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَبِالتَّارِيخِ فِي الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى.
وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ رَهَنَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ، وَفُلَانٌ غَائِبٌ، وَاَلَّذِي فِي يَدَيْهِ يَقُولُ: هُوَ عَبْدِي فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ، وَهُوَ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَنْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فِي الْعَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ عِنْدَ ظُهُورِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَا تُسَلَّمُ الْعَيْنُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْيَدَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ لِغَائِبٍ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِلْغَائِبِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ قَبْضَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ يُكَذِّبَهُ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حَافِظٌ يَتَعَيَّنُ.
وَلَوْ غَابَ الرَّاهِنُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: هُوَ رَهْنٌ فِي يَدِي مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ بِكَذَا، وَإِنَّ هَذَا غَصَبَهُ مِنِّي أَوْ اسْتَعَارَهُ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنِّي أَدْفَعُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَكُونُ دُونَ الْمُودِعِ، وَالْمُودِعُ خَصْمٌ لِلْغَائِبِ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِلِاسْتِرْدَادِ فَالْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَثْبَتَتْ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَهُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى رَاهِنِهِ أَوَّلًا، وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ رَاهِنِهِ فِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا يُقْضَى لَهُ بِالرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِأَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ كَانَ مِنْ يَدِهِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ، أَوْ الْإِجَارَةِ، أَوْ الْإِعَارَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ، وَذُو الْيَدِ خَصْمٌ لَهُ فِي ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي لَوْ شَهِدُوا أَنَّ ذَا الْيَدِ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الْمَالَ لَأُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي ادَّعَاهَا، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ثُمَّ الْإِلْزَامُ فِي بَيِّنَتِهِ دُونَ بَيِّنَةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ فَالْعَيْنُ الَّتِي أَثْبَتَ الرَّاهِنُ بَيِّنَةَ الرَّهْنِ مِنْهَا قَدْ انْتَفَى ذَلِكَ بِجُحُودِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ جُحُودَهُ أَقْوَى مِنْ رَدِّهِ وَتَبْقَى دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ اخْتَلَفَا فِيهِمَا قَدْ هَلَكَا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، فَالرَّاهِنُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلزِّيَادَةِ فِيمَا أَوْفَى، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُمَا جَمِيعًا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ رَهَنْتَنِي هَذَا وَحْدَهُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ.
وَإِذَا قَالَ: الْمُرْتَهِنُ رَهَنْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضْتُهُ مِنْكَ، وَلِي عَلَيْكَ سِوَى ذَلِكَ مِائَتَا دِينَارٍ لَمْ تُعْطِنِي بِهَا رَهْنًا، وَقَالَ: الرَّاهِنُ غَصَبْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ، وَلَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ رَهْنٍ وَقَدْ رَهَنْتُكَ بِالْمِائَتَيْ الدِّينَارِ أَمَةً يُقَالُ لَهَا فُلَانَةُ، وَقَبَضْتَهَا مِنِّي، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ لَمْ أَرْتَهِنْ مِنْكَ فُلَانَةَ أَمَتَكَ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ بَقِيَا فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ عَلَى دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ مُعَلَّقٌ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ فَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ فَإِنْ حَلَفَ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ.
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا يَحْلِفُ فِي الْأَمَةِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ فَجُحُودُهُ الرَّهْنَ فِي الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّهِ إيَّاهَا، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْهُونَةً عِنْدَهُ فَالِاسْتِحْسَانُ لَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيهَا، وَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَهُمَا أُثْبِتَتْ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلرَّاهِنِ، وَبَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لَا تُلْزِمُ الْمُرْتَهِنَ شَيْئًا فِي الْأَمَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَضَاءِ بِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ قَدْ مَاتَتْ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا الْمِائَتَيْ الدِّينَارِ بِهَلَاكِ الْأَمَةِ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَإِذَا أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ، وَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ، وَلَا يَدْرِي مَا فَعَلَ الْعَبْدُ فَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَيْهِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَبِحُكْمِ الرَّهْنِ يُقَدَّرُ الدَّيْنُ مِنْ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْأَمِينُ يَضْمَنُ الْأَمَانَةَ بِالْجُحُودِ فَإِذَا جَحَدَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ، وَلَمْ يَجْحَدْ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَذَهَبَ الْعَبْدُ بِمَا فِيهِ لِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ أَنَّهُ كَانَ مَرْهُونًا عِنْدَهُ، وَالرَّهْنُ إذَا هَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ مَوْتِهِ فِي يَدِهِ، وَإِذَا أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ رَهَنَهُ رَهْنًا وَقَبَضَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ الشُّهُودَ وَلَمْ يُعَايِنُوهُ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ الرَّهْنِ، وَالْقَوْلُ فِيمَا يُسَمِّي مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ ارْتَهَنَ مِنْهُ رَهْنًا ثُمَّ قَالَ: هُوَ هَذَا الثَّوْبُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الرَّاهِنُ زِيَادَةً، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الرَّاهِنِ أَنَّهُ رَهَنَ عِنْدَ هَذَا الْمُرْتَهِنِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا بِمِائَةٍ، وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسِينَ، وَجَحَدَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَا يَدْرِي مَا فَعَلَ بِالثَّوْبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ يُحْسَبُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَهُوَ هَالِكٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْهُ وَلَكِنْ جَاءَ بِثَوْبٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَالَ: هُوَ هَذَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَرْهُونَ ثَوْبٌ يُسَاوِي خَمْسِينَ، وَاَلَّذِي أَحْضَرَهُ لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ فَلَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ إذَا جَحَدَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ بَيَانُهُ بَقِيَ الْمَرْهُونُ هَالِكًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَيَطْرَحُ مِنْهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا.
وَإِذَا كَانَ الرَّاهِنُ اثْنَيْنِ فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِمَا رَهْنًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ رَهَنَهُ، وَقَبَضَهُ، وَالْمَتَاعُ لَهُمَا جَمِيعًا، وَهُمَا يَجْحَدَانِ الرَّهْنَ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الَّذِي لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ مَا رَهَنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ الرَّهْنُ عَلَيْهِمَا.
عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ وَعَلَى الْآخَرِ بِالنُّكُولِ الْقَائِمِ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَإِنْ حَلَفَ رَدَّ الرَّهْنَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الَّذِي حَلَفَ انْتَفَى الرَّهْنُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ نِصْفٌ شَائِعٌ مِنْ الْعَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ وَاحِدًا وَالْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ارْتَهَنْتُ أَنَا، وَصَاحِبِي هَذَا الثَّوْبَ مِنْكَ بِمِائَةٍ وَأَقَامَ لَهُ الْبَيِّنَةَ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ، وَقَالَ: لَمْ نَرْتَهِنْهُ، وَقَدْ قَبَضَا الثَّوْبَ فَجَحَدَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ: مُحَمَّدٌ أَقْضِي بِهِ رَهْنًا، وَأَجْعَلُهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ- الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ- مَالَهُ أَخَذَ الرَّهْنَ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ذَهَبَ نَصِيبُ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمَالِ فَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَكَذَبَ شُهُودَهُ بِجُحُودِهِ ثُمَّ قَالَ: أَبُو يُوسُفَ لَمَّا انْتَفَى الرَّهْنُ فِي نَصِيبِ الْجَاحِدِ انْتَفَى فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي أَيْضًا لِأَجْلِ الشُّيُوعِ، كَمَا فِي (الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِجَمِيعِهِ رَهْنًا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ بِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ جَمِيعُ دَيْنِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لَهُ بِالرَّهْنِ فِي نِصْفِهِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: هُوَ قَدْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ، وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي نَصِيبِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْآخَرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيُقْضَى بِالرَّهْنِ فِي جَمِيعِ حَقِّ الْآخَرِ، وَبِجُحُودِهِ صَارَ رَادًّا لِلرَّهْنِ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ فِي نَصِيبِهِ فَلَا يَجُوزُ إعَادَةُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْمُدَّعِي، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ الْجَاحِدِ إمْسَاكَهُ مَعَ رَدِّهِ بِجُحُودِهِ، وَيَتَعَذَّرُ جَعْلُ الْفَضْلِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الْمُدَّعِي لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَيُجْعَلُ عَلَى يَدِهِ، وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ هُوَ دَيْنَهُ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ رُدَّتْ الْعَيْنُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ذَهَبَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الشُّهُودُ مَا شَهِدُوا بِالرَّهْنِ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْمَالَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالرَّهْنِ عَلَى الْمَالَيْنِ بِحُكْمِ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، فَلِهَذَا إذَا حَلَفَ الْمُنْكِرُ رُدَّ الرَّهْنُ عَلَيْهِمَا.
وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ ذَا الْيَدِ هَذَا الثَّوْبَ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمُرْتَهِنِ لِإِثْبَاتِهِ حَقًّا لَازِمًا لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ- أَوَّلًا- وَدِيعَةً عِنْدَهُ ثُمَّ يَرْهَنُهُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ، وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّاهِنِ جَعَلْتُهُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لَا يُرَدُّ عَلَى الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلِيَّةِ، وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَكَانَ فِي بَيِّنَةِ الْبَيْعِ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ.
وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ الرَّهْنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ، وَهَبَهُ لَهُ وَقَبَضَهُ أَخَذْتَ بِبَيِّنَةِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ، وَالرَّهْنَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ، وَالْقَبْضَ، وَآخَرُ الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ، وَهُوَ فِي يَدَيْ الرَّاهِنِ أَخَذْتَ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الشِّرَاءُ دُونَ الرَّهْنِ لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشِّرَاءِ فِي النِّصْفِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ بِالرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ فَلِهَذَا قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي بِالْكُلِّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ جَعَلْتَهُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ صَاحِبُ الشِّرَاءِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُرْتَهِنِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشِّرَاءِ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَبَيِّنَتُهُ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَالْهِبَةَ فَالصَّدَقَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ الرَّهْنُ عَقْدُ ضَمَانٍ، وَالْهِبَةُ، وَالصَّدَقَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ فَكَانَ صَاحِبُ الرَّهْنِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْقَبْضَ بِعِلْمِ الْبَيِّنَةِ، وَالصَّدَقَةُ كَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ.
وَإِذَا اسْتَوْدَعَ رَجُلًا ثَوْبًا ثُمَّ رَهَنَهُ إيَّاهُ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَهُوَ فِيهِ مُؤْتَمَنٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُرْتَهِنُ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ يَدِ الرَّهْنِ لَهُ وَلِأَنَّ الْيَدَ بِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ دُونَ الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَالْأَضْعَفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْأَقْوَى فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لَهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ بَقِيَ مُؤْتَمَنًا فِيهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَإِنْ أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِالرَّهْنِ، وَهَلَكَ بَعْد ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِلرَّهْنِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ إيفَاءَ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ بِبَيِّنَةٍ يَبْقَى قَبْضُهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فَقَالَ: الرَّاهِنُ هَلَكَ فِي يَدِكَ، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ بَلْ قَبَضْتَهُ أَنْتِ مِنِّي بَعْدَ الرَّهْنِ فَهَلَكَ فِي يَدِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِرْدَادًا عَارِضًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْضًا بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِ الْقَبْضِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بِمِائَتَيْنِ، وَقَدْ قَبَضْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ مِمَّا ثَبَتَتْ لَهُ فِيهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ زِيَادَةً فِي الْإِيفَاءِ.
وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، وَقَبَضْتَهُمَا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ أَحَدَهُمَا بِعَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَبْدًا وَالدَّيْنُ أَلْفٌ فَذَهَبَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِإِنْكَارِهِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، وَالدَّيْنُ أَلْفًا فَذَهَبَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا فَقَالَ الرَّاهِنُ: كَانَتْ هَذِهِ قِيمَتِهِ يَوْمَ رَهَنْتُكَ فَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ حَقِّكَ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ رُبْعُ حَقِّي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَقِيمَتُهُ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى قِيمَتِهِ فِيمَا مَضَى وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةٌ فِيمَا أَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَبَيِّنَةُ نَفْيِ مِلْكِ الزِّيَادَةِ بِالْمَيِّتِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.