فصل: باب الخيار في الإكراه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الخيار في الإكراه:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا قَالَ اللِّصُّ الْغَالِبُ لِرَجُلٍ لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَعْتِقَنَّ عَبْدَك، أَوْ لَتُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَك هَذِهِ أَيُّهُمَا شِئْت، فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ، فَمَا بَاشَرَ نَافِذٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَهُ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَيَغْرَمُ الْمُكْرَهُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ بِمُبَاشَرَتِهِ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا، فَالْإِتْلَافُ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ الْتَزَمَ الْأَكْثَرَ، فَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ لَهُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِ الْأَقَلِّ، فَيَكُونُ هُوَ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ غَيْرَ مُضْطَرٍّ، وَرُجُوعُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِسَبَبِ الِاضْطِرَارِ، فَيَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ لِذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرِهُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فَالْمَهْرُ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ مِلْكَ الْبُضْعِ، وَذَلِكَ لَا يُضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ، فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي إيقَاعِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ، وَالْإِلْجَاءِ.
وَلَوْ قِيلَ: لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَكْفُرَنَّ بِاَللَّهِ أَوْ تَقْتُلُ هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، فَإِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ مِنْهُ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِحَالٍ، فَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ نَعَمْ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا الْأَوَّل، فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ»، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ، وَلِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جِنَايَةً مَعْنًى عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ صُورَةً، وَمَعْنًى سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْلَى، فَإِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ.
فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِعِ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ فِيهِ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الشِّرْكِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ مُضَمَّنَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ يُتَحَرَّزُ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ سَبَبُهَا خَفِيٌّ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ لَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْقَوَدَ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَالِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّقَى لَهُ شُبْهَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَضُرُّهُ الْعِلْمُ فِيهَا، وَيَخْلُصُ فِي جَهْلِهِ.
وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ خَمْسُ مَسَائِلَ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَاب الْوِكَالَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ قَصَدَ مُغَايَظَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَيُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ لِمَا يَكُونُ فِيهِ كَبْتٌ، وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيُقَاتِلَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَفِي نَفْسِ الْغَيْرِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَوَدِ عَنْهُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَقْتُلَن هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا، فَالْتَحَقَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ الطَّعَامِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ وَقَتَلَ الْمُسْلِمَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ حِينَ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْمُبَاحِ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْقَوَدُ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْفُرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي هَذَا بِوَعِيدٍ أَوْ سِجْنٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَكْفُرَ، فَإِنْ، فَعَلَ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَطْشَانَ الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَالْمُكْرَهُ بِالْحَبْسِ قِيَاسُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَحَقَّقَ بِهِ الْإِلْجَاءُ صَارَ شُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحًا لَهُ، فَإِذَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فِي الْحُرِّ، وَفِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِوَطْئِهَا؛ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ مُعْتَبَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَعْضِ، وَحَدُّ الْخَمْرِ ضَعِيفٌ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ حَدٌّ فَيَمُوت، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِآرَائِنَا، فَلِهَذَا صَارَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْإِكْرَاهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ هَذَا الْحَدِّ خَاصَّةً وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ قُتِلَ بِهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ وَلَا فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ، فَلَا يَصِيرُ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاتِلِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، أَوْ تَزْنِي بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَصْنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ صَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَهُوَ آثَمُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَحِلُّ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ، وَقِيلَ بِاَلَّذِي قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ ظُلْمًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ زَنَى كَمَا أَمَرَهُ، فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلُ، وَبِالِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ الْآخَرُ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ.
، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ: وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ إذَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ كَانَ آلَةً فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَكَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُكْرِهُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا كَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِحُكْمِهِ، فَهُوَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا هُنَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْفِعْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا دَفْعًا لِلْقَتْلِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا دَفْعًا لِلْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ، فَهَذَا مِثْلُهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَحَقَّقَتْ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ حِينَ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَانَ الْمُكْرَهُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْزِيرِ، وَالْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَلِذَلِكَ إذَا أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَمْدًا كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ إذَا قَتَلَ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِهِ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ أُخِذَ بِحَدِّ الزِّنَا إنْ زَنَى، وَبِالْقَوَدِ إنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ بِهِ، فَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي مُوجِبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ دُرِئَ عَنْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ يَسَعُهَا التَّمْكِينُ، وَلَا تَأْثَمُ فِيهِ، فَإِذَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا، فَرَّقْنَا بَيْنَ جَانِبِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مُبَاشِرٌ لِفِعْلِ الزِّنَا مُسْتَعْمِلٌ لِلْآلَةِ فِي ذَلِكَ، وَحُرْمَةُ الزِّنَا حُرْمَةٌ تَامَّةٌ، فَلَا تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِحُرْمَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَهِيَ مَفْعُولٌ بِهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَاشَرَةٌ لِلْفِعْلِ إنَّمَا الَّذِي مِنْهَا التَّمْكِينُ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الِامْتِنَاعِ إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ لِوُجُوبِ دَفْعِ الْمُبَاشَرَةِ لِلزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، فَلَا يَأْثَمُ فِي تَرْكِ الِامْتِنَاعِ كَمَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ أَوْ تَأْخُذَ مَالَهُ، فَتَسْتَهْلِكَهُ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلُّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ، أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَيُبَاحُ إتْلَافُ الْمَالِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَيَصِيرُ هُوَ فِي ذَلِكَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ قُتِلَ بِهِ الَّذِي، وَلِيَ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَلَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ إثْمٌ، وَلَا ضَمَانَ كَانَ هُوَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِعِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَالَةُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْحُرْمَةِ شَرْعًا، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ مَالِ الْغَيْرِ، وَاسْتِهْلَاكَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ظُلْمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ يُبَاحُ لَهُ الْإِتْلَافُ شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ، فَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ جُبْرَانًا لِحَقِّهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الظُّلْمِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَأْخُذْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي تَرْكِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَدُلَّنَا عَلَى مَالِك، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، فَإِذَا كَانَ لَوْ قُتِلَ فِي دَفْعِهِ عَنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، فَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى قُتِلَ قَالَ: وَلَوْ أَثِمَ فِي هَذَا فِي مَالِهِ، أَوْ مَالِ غَيْرِهِ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ أَشَارَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ قُتِلَ دَفْعًا عَنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ كَانَ شَهِيدًا، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا فِي دَفْعِ مَا لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَكَ، أَوْ لَتُعْتِقَنَّ عَبْدَك، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَأْثَمْ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ دَفْعًا عَنْ مِلْكٍ مُحْتَرَمٍ لَهُ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُحْتَرَمٌ لِمِلْكِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاحْتِرَامُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ أَظْهَرُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ آثِمًا، وَإِنْ كَانَ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا وَقِيمَتُهُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ يَسْتَهْلِكَ مَالَهُ هَذَا، وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ لَمْ تَنْكَشِفْ بِالْإِكْرَاهِ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ قَائِمَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ السَّفَهِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ مِنْ السَّفَهِ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي إتْلَافِ الْمَالِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِيمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ «اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك، وَنَفْسَك دُونَ دِينِك»، فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ، وَلَمْ يَسْتَهْلِكْ الْمَالَ، فَهُوَ آثِمٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ، فَبَقِيَ فِعْلُهُ فِي الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوَدٌ، وَلَا قِيمَةٌ.
.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ هَذَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ الْآخَرِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُكْرِهَ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ هُنَا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَتْلِ، فَحُكْمُ الْقَتْلِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ كَهُوَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ، وَاذَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ صَارَ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَالْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي الْأَدْنَى وَالْأَدْنَى اسْتِهْلَاكُ الْمَالِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَبَقِيَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ مُخْتَارًا، وَهُنَا حُرْمَةُ نَفْسِ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ، أَوْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا، فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْأَطْرَافُ مُحْتَرَمَةٌ كَالنُّفُوسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدَ نَفْسِهِ، فَبِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزَنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِ عَبْدِهِ فَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي قَطْعِ طَرَفِهِ، فَوْقَ الضَّرَرِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَافَ عَلَى عَبْدِهِ الْهَلَاكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِكْرَاهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ مِائَةَ سَوْطٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَحَدِهِمَا، فَمَاتَ مِنْهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ إنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ أَقَلُّهُمَا قِيمَةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِيَّةِ الضَّرُورَةُ لِلْمَوْلَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ، فَهُوَ أَقْدَمَ عَلَى ضَرْبِ أَكْثَرِهِمَا قِيمَةً كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ مُوجِبُ الْفِعْلِ الْقَوَدُ يَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْقِيمَةِ، وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ، وَهُنَا مُوجِبُهُ الْمَالُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِمَا، فَاتَ عَنْ الْمَوْلَى، وَبَيْنَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ تَفَاوُتٌ وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ لَهُ الضَّرُورَةُ فِي أَقَلِّهِمَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي كُلِّهِ بِوَعِيدِ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ تَنَاوَلَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي بَقَاءِ الْحُرْمَةِ، وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَحَقِّ الْمَالِكِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ صَاحِبِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ حَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي الْغِنَى، فَالْأَخْذُ مِنْ الْفَقِيرِ يُلْحِقُ بِهِ هَمًّا عَظِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَخْذِ مِنْ الْغَنِيِّ فِي مُبَاسَطَةِ الشَّرْعِ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْفُقَرَاءِ يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ، وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ، وَالنَّفَقَةِ، فَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا، فَإِنْ كَانَا فِي الْغِنَى عَنْهُ سَوَاءٌ قُلْنَا: خُذْ أَقَلَّهُمَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ، وَفِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَالِ مِنْ التَّسَاهُلِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ، وَقِيلَ إنْ اسْتَوَيَا فِي الْمِقْدَارِ قُلْنَا خُذْ مَالَ أَحْسَنِهِمَا خُلُقًا، وَأَظْهَرِهِمَا جُودًا، وَسَمَاحَةً؛ لِأَنَّ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ يَتَفَاوَتُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَسُوءِ خُلُقِهِ، وَبُخْلِهِ وُجُودِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ، وَاسْتَهْلَكَهُ كَمَا أَمَرَهُ غَرِمَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا تَنَاوَلَهُ صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَهُمَا، فَاسْتَهْلَكَهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ مِقْدَارَ أَقَلِّهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ فِيهِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَهْلِكُ الْفَضْلَ لِصَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ لَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ هَذَا الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الْآخَرِ، أَوْ مَالَ صَاحِبِ الْعَبْدِ، فَيَطْرَحَهُ فِي مُهْلِكَةٍ، أَوْ يُعْطِيَهُ إنْسَانًا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِيهِ، وَغُرْمُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَتْلَ هُنَا إذْ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْقَتْلِ، وَحُرْمَةِ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ طَائِعًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ الْأَدَبُ، وَالْحَبْسُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ.
وَلَوْ كَانَ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَالَ، وَيَضْرِبَ الْعَبْدَ مِائَةَ سَوْطٍ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ يَخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكَ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ، فَإِنْ ضَرَبَهُ، فَمَاتَ مِنْهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّخْلِيصِ بِدُونِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُ إثْمٌ، وَلَا ضَمَانٌ، وَالْقَتْلُ بِالسَّوْطِ يَكُونُ سَبَبُهُ الْعَمْدُ، فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ، وَالْمَالُ لِلْمُكْرَهِ لَمْ يَسَعْهُ ضَرْبُ عَبْدِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَهْلِكُ مَالَهُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنْ ضَرَبَ عَبْدَهُ، فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا كَانَ يَتَخَلَّصُ بِدُونِ الضَّرْبِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ طَائِعًا، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ طَائِعًا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ الَّذِي أَكْرَهَهُ، أَوْ يَقْتُلَ ابْنَهُ، أَوْ قَالَ اُقْتُلْ عَبْدَك هَذَا الْآخَرَ، أَوْ اُقْتُلْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا هَدَّدَهُ بِقَتْلِ مَنْ سَمَّاهُ دُونَ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُلْجَأً بِهِ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ قَتَلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ سِوَى الْأَدَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ آلَةً لِلْمُكْرِهِ حِينَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ لَا يَخَافُ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ، وَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَسْتَهْلِكَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ يَقْتُلُونَ أَبَاهُ، فَاسْتَهْلَكَهُ ضُمِّنَّهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُلْجَأً إلَى هَذَا الْفِعْلِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ قَتْلَ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْقَتْلِ، أَوْ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ اقْتَصَرَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ هَهُنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ، وَكَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ، أَوْ لِنَفْسِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَخْذِ طَعَامِ الْغَيْرِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَقْوَى عَلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَدْفَعَهُ إلَى الْمُضْطَرِّ، فَيَأْكُلَهُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَأْخُذُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ شَرْعًا دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُضْطَرِّ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَسَعُهُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِلْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى قَتَلَ الرَّجُلُ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَكُونُ لِلْقَوِيِّ فِي فَضْلِ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ حُرْمَةَ أَبِيهِ فِي حَقِّهِ لَا تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَفِي حَقِّ أَبِيهِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ اسْتِهْلَاكَهُ ثُمَّ يَغْرَمَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ أَبِيهِ بِالْغُرْمِ الْيَسِيرِ يَعْنِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي، فَصْلِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ غُرْمِهِ وَيَدَعَ أَبَاهُ يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّاسِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْتِزَامِ الْقَلِيلِ لِإِحْيَاءِ أَبِيهِ يُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ، وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ.
، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَحَبُّ لِلْقَوِيِّ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ لَا يُجْحِفُ بِهِ غُرْمَهُ، وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ يُجْحَفُ بِهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ، وَلَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ رَجُلًا وَهُوَ يَقْوَى عَلَى مَنْعِهِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى نَفْسِ الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ، فَضْلِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا بِهَذَا الدَّفْعِ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِ الْقَاصِدِ، فَالْقَاصِدُ بَاغٍ قَدْ أُبْطِلَ دَمُهُ بِمَا صَنَعَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا قَصَدَ قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ، فَقَتَلَهُ هَذَا الَّذِي يَقْوَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي فَضْلِ الْمَال الْقَوِيِّ، فَيَلْتَزِمُ الْغُرْمَ بِمَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ لِلْمُضْطَرِّ لَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ، وَالْقِيمَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ انْتَهَوْا إلَى بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ، فَمَنَعَ الْمُضْطَرَّ مِنْ الشُّرْبِ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْوَ عَلَيْهِمْ، وَقَوِيَ صَاحِبُهُ عَلَى قِتَالِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَاءَ، فَيَسْقِيَهُ إيَّاهُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ أَتَى عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ، فَحَقُّ السُّقْيَا فِي مَاءِ الْبِئْرِ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَلَوْ قَوِيَ الْمُضْطَرُّ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ مِنْ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ رُفَقَائِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا يَفْعَلُهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْقَاصِدِ إلَى قَتْلِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا فِي الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقٌّ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَيْهِ إنْ مَنَعُوهُ، فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ الْغُرْمِ بِأَخْذِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْبِئْرِ لَوْ بَاعُوهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ.
.
وَلَوْ بَذَلُوا لَهُ الطَّعَامَ، أَوْ الشَّرَابَ بِثَمَنِ مِثْلِ مَا يُشْتَرَى بِهِ مِثْلُهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَاتِلِ نَفْسِهِ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ مَعَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وَلِأَنَّهُ مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ عِنْدَ عَرْضِهِمْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ، وَاجِدًا لِلثَّمَنِ.
وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا، أَوْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَلَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا.
وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا، أَوْ أَبَاك، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ، فَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يُهَدَّدُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِمَا هُدِّدَ بِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهُ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ رَاضِيًا عَادَةً بِقَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ، ثُمَّ هَذَا يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَيْعِ، وَالْإِقْرَارَ، وَالْهِبَةَ وَالْعُقُودَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِقَتْلِ ابْنِهِ وَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادَةِ فِي حُكْمِ الْإِحْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ.
وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَنَحْبِسَنَّ أَبَاك فِي السِّجْنِ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ، فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدَّدْ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ، وَحَبْسُ ابْنِهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ وَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَهِبَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ كُلُّهُ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ ابْنِهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحَزَنِ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ، أَوْ أَكْثَرُ فَالْوَلَدُ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْبَسُ، وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا، وَيُحْبَسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ، فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ يُعْدِمُ تَمَامَ الرِّضَا، فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينًا قَدْ حَنِثَ فِيهَا، فَكَفَّرَ بِعِتْقٍ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِسْقَاطِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَذَلِكَ مِنْ بَاب الْحِسْبَةِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَأَنَّهُ يُعَوِّضُهُ مَا جَبَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِسُقُوطِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَلِأَنَّ الْفِعْلَ فِي التَّكْفِيرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ مُكَفِّرٍ يُقْدِمُ عَلَى التَّكْفِيرِ خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَهُ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ هَذَا عَنْهَا، فَفَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا الْكَفَالَةُ لَا إبْطَالُ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَالْمُكْرِهُ فِي إكْرَاهِهِ عَلَى إعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ فِي الْإِتْلَافِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَإِذَا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِانْعِدَامِ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ حِينَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَتَّى بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ دُونَ الْمُكْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ، فَتَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ نُظِرَ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرِّقَابِ، وَمِنْ أَدْنَى الْكِسْوَةِ الَّتِي تُجْزِئُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرَهُ شَيْئًا لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي التَّكْفِيرِ، فَيَكُونُ الْمُكْرَهُ مُكْتَسِبًا سَبَبَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ غَيْرِهَا ضَمِنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْبَنُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ، وَلَا هَذَا النَّوْعِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ شَرْعًا بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِاخْتِيَارِهِ أَقَلَّهَا، فَيَكُونُ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَضْمَنُهُ لَهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَاسِدٌ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَالتَّمْلِيكُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ.
فَإِنْ أَمْضَاهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَمْ يَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ، فَإِمْضَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا، فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّهُ إذَا أَكْرَهَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ ضَمَانٌ، وَيُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ عَيْنٌ فِي الظِّهَارِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيهِ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْعَيْنِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إعْتَاقُ هَذَا بِعَيْنِهِ، وَلِلنَّاسِ فِي الْإِعْتَاقِ أَغْرَاضٌ فَيَلْزَمُ الْمُكْرِهَ الضَّمَانُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِذَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ بَدَنَةٍ، أَوْ هَدْيٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ حَجٍّ، فَأُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ، فَفَعَلَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْمُكْرِهُ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيُجْزِئُ عَنْ الرَّجُلِ مَا أَمْضَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُكْرِهَ مُحْتَسِبٌ حِينَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَمْرِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَالْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ}.
فَإِنْ، أَوْجَبَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ، فَأُكْرِهَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ جَازَ مَا صُنِعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا الْتَزَمَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا كَمَا الْتَزَمَهُ، فَإِذَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَيْنِ، وَالْمُكْرِهُ مَا زَادَ فِي أَمْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِمَا رَجُلٌ حَتَّى فَعَلَهُمَا أَجْزَأَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ، وَاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنْ عَلَيْهِ يَقْضِي بِأَدَائِهِ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ هَدْيٌ أُهْدِيهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَأُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ بَعِيرًا، أَوْ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا وَيَتَصَدَّقَ بِهَا، فَفَعَلَ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا، وَلَا تَجْزِيهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِلَفْظِ الْهَدْيِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَعِيرُ، وَلَا الْبَقَرَةُ، وَلَكِنْ يُخْرِجُ عَنْهُ بِالشَّاةِ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْبَدَنَةِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِحُصُولِ الْعِوَضِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْهَدْيِ فِي الْقِيمَةِ، وَغَيْرِهَا فَأَمْضَاهُ لَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا.
.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بِقَتْلٍ، فَأَعْتَقَهُ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَالْمُكْرِهُ فِي أَمْرٍ بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ، وَأَجْزَأَ عَنْ الْمُعْتِقِ لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: إنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَضْمَنُ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يُجْزِي إنَّمَا أَخَذَ جَوَابَهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، وَعَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الْجَوَابِ الْمُخْتَارِ هَذِهِ لَا تُشْبِهُ تِلْكَ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِالْمَنْذُورِ مِنْ أَعْيَانِ مِلْكِهِ، فَيَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ لِلْأَدْنَى عَنْ نَذْرِهِ، فَأَمَّا فِي الْكَفَّارَةِ، فَالْوَاجِبُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ أَعْيَانَ مِلْكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْكَفَّارَاتِ قَدْ يُخْرِجُ بِغَيْرِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاقِ، وَفِي النَّذْرِ لَا يُخْرِجُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يَكُونُ الْإِعْتَاقُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ.
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، أَوْ مَرْوِيٍّ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِأَنَّهُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي الْقِيمَةِ، وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَلْزَمَهُ بِالْإِكْرَاهِ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِنَذْرِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ نُظِرَ إلَى فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَغَرِمَ الْمُكْرِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَقَضُ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ بَعْضَهُ صَارَ نَاقِضًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ، فَلِهَذَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَالتَّصَدُّقُ بِالثَّوْبِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي ثَوْبًا كَمَا لَزِمَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَنَحْنُ، وَإِنْ، أَوْجَبْنَا ضَمَانَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَقَعَ الْمُؤَدَّى فِي مِقْدَارِ الْأَدْنَى مُجْزِيًا عَنْ الْوَاجِبِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي التَّصَدُّقِ تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ مَكَانَ الثَّوْبِ وَعِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْقِيمَةِ يَظْهَرُ الْفَضْلُ، وَفِي الْهَدَايَا، وَالضَّحَايَا وَعِتْقِ الرِّقَابِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْقِيمَةِ، فَلِهَذَا قُلْنَا إذَا صَارَ ضَامِنًا لِلْبَعْضِ ضَمِنَ الْكُلَّ.
وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِطَعَامِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَخْرُجُ عَنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَجْوِيزُهَا عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى النَّاذِرِ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى، فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ طَعَامَهُ مِثْلَ طَعَامِهِ، وَعَلَى النَّاذِرِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَوَجَبَ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ وَسَطٌ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ غَرِمَ الْمُكْرِهُ، فَضْلَ قِيمَتِهَا عَلَى قِيمَةِ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي إلْزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ فِي مِقْدَارِ الْوَسَطِ، فَلَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، فَيُمْكِنُ تَجْوِيزُ بَعْضِهِ عَنْ كُلِّهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ، فَبَلَغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ، فَلِهَذَا لَا تُوجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ إلَّا ضَمَانُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.