فصل: باب عتق النسمة عن الميت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب عتق النسمة عن الميت:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ نَسَمَةً لِيُعْتِقَهَا عَنْ الْمَيِّتِ كَتَبَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَصِيُّ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ اشْتَرَى مَمْلُوكًا يُقَالُ: لَهُ فُلَانُ الْفُلَانِيُّ، وَهُوَ رَجُلٌ قَدْ اجْتَمَعَ بِكَذَا دِرْهَمًا نَسَمَةً كَانَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِهَا لَهُ فَيُعْتِقُهَا عَنْهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ التَّقَابُضَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الرَّسْمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّكَّ حِكَايَةُ مَا جَرَى، وَالْمَقْصُودُ التَّوْثِيقُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ فَالنَّسَمَةُ هِيَ الرَّقَبَةُ الَّتِي تُشْرَى لِلْعِتْقِ، وَيَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُوصِي رَقَبَةً أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلًا مُجْتَمِعًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إنَّمَا يَتِمُّ بِإِعْتَاقِ مِثْلِهِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ عَاجِزَانِ عَنْ الْكَسْبِ وَالْأُنْثَى كَذَلِكَ فَيَصِيرُ بَعْدَ الْعِتْقِ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ رَجُلًا قَدْ اجْتَمَعَ يَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ الرِّقِّ، وَيَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّكَسُّبِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ مَعْنَى الرَّقَبَةِ فِي إعْتَاقِ مِثْلِهِ، وَقَصَدَ الْمُوصِي التَّقَرُّبَ وَصِفَةُ الْإِطْلَاقِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُعْتِقُ عَنْهُ بِالثُّلُثِ رَقَبَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمُوصِي، وَهُوَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبُ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ النَّسَمَةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ مِنْ مَحَلِّهَا، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الثُّلُثُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ بِالثُّلُثِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُصَدَّقَ لَهُ مِنْ مَالِهِ بِمِائَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْجَبَهَا لَهُ الْمُوصِي لَا يَجُوزُ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ بِنَسَمَةٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاَلَّتِي قِيمَتُهَا خَمْسُونَ غَيْرُ الَّتِي قِيمَتُهَا مِائَةٌ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَشْتَرِي بِثُلُثِ مَا يُوجَدُ كَانَ هَذَا تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي، ثُمَّ لِلْمُوصِي فِي تَقْدِيرِ الثَّمَنِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ التَّحَرُّزُ عَنْ إعْتَاقِ الْحَدِيثِ وَالتَّقَرُّبُ بِإِعْتَاقِ أَفْضَلِ الرِّقَابِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَرْغَبُ فِي وَلَاءِ عَبْدٍ كَثِيرِ الْقِيمَةِ وَيَتَحَرَّزُ عَنْ وَلَاءِ قَلِيلِ الْقِيمَةِ، فَفِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ إبْطَالُ مَقْصُودِ الْمُوصِي، وَإِلْزَامُ وَلَاءٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ وَبِهَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَإِنَّمَا نَظِيرُ هَذَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَجِّ لَوْ أَنَّ صَحِيحًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُحِجَّ عَنْهُ رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَحَجَّ عَنْهُ رَجُلًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُنَاكَ يَصِيرُ مُخَالِفًا ضَامِنًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ نَسَمَةً بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا يُشْتَرَى لَهُ بِالثُّلُثِ نَسَمَةٌ فَتُعْتَقُ عَنْهُ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لَهُمَا فِي الْأَصْلِ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِائَةٌ مِنْ مَالِهِ وَمِائَةٌ مِنْ مَالِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَكُنْتُ أُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَمَّى مَالَ الْأَجْنَبِيِّ أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لَهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ بِإِنْسَانٍ حُرٍّ أَوْ يُزَادَ مَعَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْءٌ لَا يَصْلُحُ مِنْ مَالِهِ أَكُنْتُ أُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ لَا أُبْطِلُهَا، وَهِيَ جَائِزَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فَإِذَا فِيهَا دِرْهَمٌ سَتُّوقَةٌ أَوْ أَكْثَرُ لَا يُنْفَقُ أَمَا كُنْت آمِرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا بَقِيَ أَرَأَيْت لَوْ تَجَوَّزَ بِهَذَا الْبَائِعُ أَمَا كُنْت آمِرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا أَرَأَيْت لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ أَوْ هَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ أَكُنَّا نُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ قِيلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْخِلَافِ وَمِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَقِيلَ: بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَيَقُولُ: إذَا أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى نَسَمَةٌ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لَكَانَ الْمُشْتَرَى كُلُّهُ وَالْعِتْقُ يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُجِيزُوا لَوْ قُلْنَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ كُنَّا نُلْزِمُهُ.
وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ لَوْ أَجَازَ الْغَيْرُ هُنَاكَ لَا يَكُونُ الْمُشْتَرَى كُلُّهُ لَهُ، وَلَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَيْسَ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ فِي مَالِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِالثُّلُثِ فَثُلُثُ مَالِهِ يُقَسَّمُ عَلَى الثُّلُثِ وَعَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ قِيمَةِ النَّسَمَةِ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْأَدْنَى فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ قِسْمَةُ الثُّلُثِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ مِنْ كُلِّ وَصِيَّتِهِ فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ النَّسَمَةِ يُعْتِقُ بِهِ النَّسَمَةَ، وَمَا أَصَابَ الثُّلُثَ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدُ فُلَانٍ فَيُعْتَقَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ، وَإِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مِنْ الْبَيْعِ بِالثُّلُثِ أُوقِفَ الثُّلُثُ حَتَّى يَبِيعَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْوَصِيَّةِ فَمَا دَامَ فِيهِ رَجَاءُ التَّنْفِيذِ يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ الثُّلُثُ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا فَيَرْجِعُ إلَى الْوَارِثِ ذَلِكَ إنْ كَانَ سَمَّى مَا يُشْتَرَى بِهِ مِنْ الثُّلُثِ.
وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَسَمَةً بِهَذِهِ الْمِائَةِ بِعَيْنِهَا فَيُعْتِقُهَا مِنْ الثُّلُثِ عَنْهُ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ تِلْكَ الْمِائَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ وَالْمِائَةُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِتِلْكَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ بِمَا ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُضِيَ بِمَالِ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهَا، وَيَكُونُ الْعِتْقُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ يَكُونُ ثَمَنُ النَّسَمَةِ الثُّلُثَ مِنْ ذَلِكَ بَرِئَ الْوَصِيُّ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّ غَيْرُ مُخَالِفٍ، وَأَنَّهُ نَفَّذَ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا فَلَا يَلْحَقُهُ عَهْدٌ وَلَا ضَمَانٌ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ نَسَمَةٌ فَتُعْتَقُ عَنْهُ فَبَاعَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ رُدَّ الْعَبْدُ مِنْ عَيْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْوَصِيُّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ، وَذَلِكَ رَدَّ الثَّمَنَ عِنْدَ رَدِّ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ يُقَالُ بِعْ الْعَبْدَ، فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي شِرَاءِ النَّسَمَةِ وَالْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ بَلْ هُوَ مُنَفِّذٌ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا.
وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ فَالْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَمَّا إذَا نَقَصَ ثَمَنُ الْعَبْدِ عَمَّا اشْتَرَى بِهِ النَّسَمَةَ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةً يَشْتَرِيهَا بِثَمَنِ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ نَسَمَةٌ اشْتَرَاهَا بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَكَانَ غَيْرَ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوَصِيَّةُ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْعِتْقُ عَنْهُ وَيَشْتَرِي بِالثَّمَنِ نَسَمَةً أُخْرَى فَيُعْتِقُهَا عَنْ الْمَيِّتِ.
وَلَوْ لَمْ يُرَدَّ الْعَبْدَ بِالْعَيْبِ، وَلَكِنْ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الثَّمَنَ فَكَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ اشْتَرَى الْوَصِيُّ النَّسَمَةَ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الشِّرَاءِ عَلَى مَنْ اشْتَرَى لَهُ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ وَكَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُوصِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَرْجِعُ الْوَصِيُّ بِهِ؟، أَرَأَيْت لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا لِلْيَتِيمِ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ بَاعَ لَهُ فَلَحِقَهُ غُرْمٌ وَلَيْسَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ أَكَانَ يَرْجِعُ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ نَسَمَةٌ تُعْتَقُ عَنْهُ وَمَالُهُ ثَلَثُمِائَةٍ فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ بِمِائَةٍ نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا، وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ مِائَتَيْنِ فَاسْتُحِقَّتْ النَّسَمَةُ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ وَقَبَضَ الْوَصِيُّ الْمِائَةَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا نَسَمَةً أُخْرَى فَتَلِفَتْ مِنْهُ مِائَةٌ يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا أَخَذُوا لِيَشْتَرِيَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ بَاطِلٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْمُوصِي، وَفِي قَوْلِهِمَا مُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْوَرَثَةَ جَائِزَةٌ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا أَصَابَ الْوَرَثَةَ بِشَيْءٍ وَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَجِّ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لَهُ نَسَمَةٌ بِعَيْنِهَا فَتُعْتَقُ عَنْهُ فَاشْتَرَاهَا الْوَصِيُّ، ثُمَّ مَاتَتْ فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا لِشَخْصٍ آخَرَ وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَدُفِعَتْ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا، وَهُوَ مِلْكُ الْمُوصِي.
وَلَوْ فَدَاهَا الْوَرَثَةُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ فِي الْفِدَاءِ وَتُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ عَنْ الْجِنَايَةِ وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَحَلًّا لِوَصِيَّتِهِ وَالْوَرَثَةُ مَا كَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْفِدَاءِ فَكَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسَمَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حُكْمًا فَكَأَنَّهُمْ فَدَوْهَا مِنْ الْجِنَايَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ حَالُهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ وَلَدَتْ النَّسَمَةُ أَوْ الْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَإِنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْمَيِّتِ الْوَلَاءَ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْمَيِّتُ وَلَاءَ الْأَمَةِ لَا وَلَاءَ وَلَدِهَا وَالْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُفْصَلُ مِنْهَا الْوَلَدُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَهَا لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّسَمَةُ وَالْأُمُّ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ تُعْتَقْ بِذَلِكَ حَتَّى تُعْتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْوَصِيَّةِ يَمْنَعُ انْتِقَالَهَا إلَى الْوَارِثِ بَلْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ إذَا عَتَقَتْ عَنْهُ.
وَلَوْ أَعْتَقَهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمَيِّتِ وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ فِي عَيْنٍ بِجِهَةٍ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ عَنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ وَتَصْرِيحُهُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِي لَمْ تَكُنْ مُدَبَّرَةً، وَلَكِنَّهَا تُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَمَاتَ الْقَائِلُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ فِي حُكْمِ الْمَالِكِ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بَدَلَهَا وَزَوَائِدَهَا وَكَسْبَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ مَالِكًا فِيمَا فِيهِ إبْطَالُ وَصِيَّةِ الْمُوصِي، فَأَمَّا فِيمَا فِيهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فَيُجْعَلُ الْوَارِثُ كَالْمَالِكِ فَيَصِحُّ مِنْهُ تَعْلِيقُ عِتْقِهَا بِمَوْتِهِ أَوْ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُجْعَلُ كَالْمُنَجَّزِ لِعِتْقِهَا فَيُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ إذَا عَلَّقَ عِتْقَهَا بِالشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ التَّفْوِيضِ وَالْمُفَوَّضُ إلَيْهِ يُنَجِّزُ الْعِتْقَ وَالْمَأْمُورُ بِالتَّنْجِيزِ إذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِلًا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا الْوَارِثُ: أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْتِ فَقَبِلَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا تُعْتَقُ بِجِهَةِ الْوَصِيَّةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ تُعْتَقَ نَسَمَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ فَإِذَا أَوْصَى كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ كَالتَّطَوُّعَاتِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ أَوْ بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَجَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً فَالْأَرْشُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي كَوْنِهِ فَارِغًا عَنْ الْوَصِيَّةِ فَالْوَارِثُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لَهَا فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ فَكَانَ كَسْبُهَا لِلْوَرَثَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَلَوْ زَوَّجُوهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تَثْبُتُ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ رَقَبَتَهَا لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِالْوَصِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَوَجَبَ الْمَهْرُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ يَبِيعُ عَبْدَهُ هَذَا، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَبَاعَهُ الْوَصِيُّ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّةً يَقُولُ: يَضْمَنُ الْوَصِيُّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ، وَالْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الثَّمَنَ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِمَّا وَصَلَ إلَى الْوَرَثَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَرْجِعُ الْوَصِيُّ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلْمَيِّتِ فَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ لَهُ يَسْتَوْفِيه مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ مِمَّا يَغْرَمُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا الْغُرْمُ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَلِهَذَا يُقْتَصَرُ رُجُوعُهُ عَلَى ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب الوصي والوصية:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ تَرَكْته؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلتَّوَثُّقِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَأَكْثَرُ مَا تَقَعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ التَّرِكَةُ الَّتِي تَصِيرُ فِي يَدِ الْمُوصِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهَا فِي الْكِتَابِ إنْ كَتَبَ فِيهِ أَنَّهُ يُعْمَلُ كَذَا إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا أَوْ فِي سَفَرِهِ هَذَا فَرَجَعَ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَبَرَأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ وَقَدْ فَاتَ، وَالْوَصِيَّةُ إلَى الْغَيْرِ إثْبَاتُ الْخِلَافَةِ أَوْ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْوَكَالَةِ أَوْ هِيَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ.
وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِي مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَدَ الْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَصَايَا تُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي التَّصَرُّفِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَالْأَخَوَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَبِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ إنَابَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا نَائِبَيْنِ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فَلَا تَثْبُتُ الْإِنَابَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، وَبَيَانُ أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ التَّصَرُّفِ الْفَرْقُ لِلْمُوصِي، لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي وَالْإِنَابَةُ تَسْتَدْعِي قِيَامَ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَتُبْطِلُ سُقُوطَ وِلَايَتِهِ كَالْوَكَالَةِ.
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ فَتَسْتَدْعِي سُقُوطَ وِلَايَةِ مَنْ هُوَ أَصْلٌ لِيَصِيرَ الْخَلَفُ قَائِمًا مُقَامَهُ كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: سَبَبُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ التَّفْوِيضُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ سَبَبِ التَّفْوِيضِ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِمَا حَقَّ التَّصَرُّفِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الْعِلَّةِ وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْأُخُوَّةُ، وَهِيَ مُتَكَامِلَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِاعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْمُوصِي وَرِضَاهُ بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى فَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، وَمَقْصُودُهُ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ رَأْيَيْهِمَا أَظْهَرُ فَأَشْبَهَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْوَكَالَةَ فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَعْدُودَةُ فَهُوَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلصَّغِيرِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَقَبُولُ الْهِبَةِ وَالْخُصُومَةُ وَالْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا؛ لِأَنَّ التَّجْهِيزَ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ وَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَفِي اشْتِرَاطِ اجْتِمَاعِهِمَا إلْحَاقُ الضَّرَرِ لَا تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّبِيِّ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوصِيَ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ؛ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَبِدُّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إلَى فِعْلٍ أَوْ رَأْيٍ مِنْ الْوَصِيِّ فَرَدُّ الْوَدِيعَةِ كَذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ إذَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَذَلِكَ فَالْوَصِيُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالْخُصُومَةِ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا، وَإِنْ حَضَرَا لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلِهَذَا مَلَكَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ الْخُصُومَةَ وَالتَّفَرُّدَ بِهَا أَمَّا قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي الْوِلَايَةَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّبِيَّ يَقْبَلُ بِنَفْسِهِ وَمَنْ يَعُولُهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ لَهُ فَأَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ بِذَلِكَ أَوْلَى فَأَمَّا اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِرْدَادُ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ، وَيَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ وَفِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَحِفْظِ الْمُثَنَّى وَإِنَّمَا رَضِيَ الْمُوصِي بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّ هَاهُنَا يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وُكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ إنَّمَا نُثْبِتُ الْوَصِيَّةَ لَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالْإِيصَاءِ إلَى الثَّانِي يَقْصِدُ إشْرَاكَهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَمْلِكُ إشْرَاكَ الثَّانِي مَعَهُ، وَقَدْ يُوصِي الْإِنْسَانُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْمَامِ مَقْصُودِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ عَجْزُهُ عَنْ ذَاكَ فَيَضُمُّ لَهُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ فَإِنَّ رَأْيَ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ هُنَاكَ.
وَإِذَا عَجَزَ الْوَكِيلُ يُمَكِّنُ الْمُوَكَّلَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ ضَمَّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ إنَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِي مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّ الْآخَرَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ، وَالْقَاضِي قَائِمٌ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي النَّظَرِ فَيُعْجِزُهُ بِنَفْسِهِ عَنْ النَّظَرِ فَيَضُمُّ إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنَّمَا كَانَ الْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَ مُتَصَرِّفِينَ فِي حُقُوقِهِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ نَصَبَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُوصِي مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْضَى بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِي لَمْ يَرْضَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ.
وَإِذَا مَاتَ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ بِحَالٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِعَقْدٍ فَهُوَ كَالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ الْوَكَالَةُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا مَاتَ وَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ سُقُوطِ وِلَايَةِ وَصِيٍّ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوصِي حُكْمًا كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ حُكْمًا وَفِقْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصِيَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ فِي الرَّأْيِ يَتَفَاوَتُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوَكِّلُ الْوَصِيُّ أَيْضًا عِنْدِي، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ كَالْجَدِّ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ فِي الْمَالِ إلَى الْوَصِيِّ فِي النَّفْسِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْجَدُّ فِيمَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَوَّلِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ يُجْعَلُ الْأَوَّلُ قَائِمًا حُكْمًا وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْخِلَافَةِ إعْدَامُ الْأَصْلِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي أَنْ يَتَدَارَكَ بِرَأْيِهِ مَا فَرَّطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ هُنَاكَ قَائِمٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِوَكِيلِهِ الرِّضَا بِوَكِيلِ غَيْرِهِ أَوْ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيَقُولُ: هُوَ بِمُطْلَقِ الْإِيصَاءِ يَجْعَلُ الْوَصِيَّ خَلَفًا عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَحُقُوقِهِ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، وَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى تَرِكَتِهِ فَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَلَيْسَ مِنْ حَوَائِجِهِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ وَمَوْتِ الْمُوصِي صَارَ التَّصَرُّفُ فِي تَرِكَةِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مِنْ حَوَائِجِهِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَ خَلَفًا عِنْد قَائِمًا مُقَامَهُ فِي كُلِّ مَكَان يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي التَّرِكَتَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَخْلُفُهُ الْوَصِيُّ الثَّانِي فِيهِمَا جَمِيعًا بِمُطْلَقِ الْإِيصَاءِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَخُصَّ تَرِكَتَهُ عِنْدَ الْإِيصَاءِ إلَى الثَّانِي فَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ، وَبَالَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، ثُمَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُوصِي وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ وَبَعْدَ مَا قَبِلَ الْوَصِيُّ لَوْ جَازَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُوصَى؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ وَالْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ اعْتِمَادًا عَلَى قَبُولِهِ وَيَصِيرُ هَذَا الْوَصِيُّ بِالْقَبُولِ كَالْغَارِّ لَهُ وَالْغَرُورُ حَرَامٌ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ، وَإِنْ قَبِلَهُ فِي حَيَاتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَلَيْسَ فِي رَدِّهِ مَعْنَى الضَّرَرِ وَالْغَرُورُ حَقُّ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ إذَا رَدَّهُ لَا يَضِيعُ الْمَالُ بَلْ يَصِيرُ إلَى وَارِثِهِ وَذَلِكَ خَيْرٌ لِلْمُوصِي شَرْعًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيُّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِدُونِ قَبُولِهِ كَالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ فِي رَدِّهِ هُنَا غَرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُوصِي هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ حِينَ لَمْ يَعْرِفْ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ أَمْ لَا، فَإِنْ رَدَّهُ فِي وَجْهِ الْمُوصِي فَقَالَ الْمُوصِي مَا كَانَ ظَنِّي بِك هَذَا فَمَنْ يَقْبَلُ وَصِيَّتِي إذَا أَمْكَثَ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ قَبِلَ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ بِرَدِّهِ فِي وَجْهِهِ بَطَلَتْ الْوِصَايَةُ فَلَا يُمْكِنُ قَبُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّهُ رَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي، ثُمَّ قَبِلَهَا بِأَنْ سَمِعَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَصِيًّا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ: رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ وَصِيًّا؛ لِأَنَّ رَدَّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي إنَّمَا يَتِمُّ إذَا بَلَغَ الْمُوصِي فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى قَبِلَ صَارَ كَأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَبْلَ الْقَبُولِ هُوَ يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي، وَفِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ قَبِلَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَدَّهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَهَا فِي وَجْهِهِ بَلْ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وِلَايَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْقَبُولُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَلْزَمَ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، ثُمَّ دَلِيلُ الْقَبُولِ كَصَرِيحِ الْقَبُولِ حَتَّى لَوْ بَاعَ بَعْضَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ اشْتَرَى لِلْوَرَثَةِ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَوْ اقْتَضَى مَالًا أَوْ قَضَاهُ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْقَبُولِ وَالرِّضَى بِهِ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ أَوْ الْفَسْخِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَك الزَّوْجُ فَلَا خِيَارَ لَك»، وَإِذَا اشْتَكَى الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى تَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ اخْتَارَهُ وَرَضِيَ بِهِ وَالشَّاكِي قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا فِي شَكْوَاهُ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِيَانَتَهُ لَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى النِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ خِيَانَةً عَزَلَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ اعْتَمَدَ فِي اخْتِيَارِهِ أَمَانَتَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِخِيَانَتِهِ عَزَلَهُ وَالْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ قَائِمٌ مُقَامَهُ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي شَكَا إلَى الْقَاضِي عَجْزَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ وَعَجْزَهُ عَنْ الِاسْتِبْدَالِ ضَمَّ إلَيْهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ الْوَصِيُّ بِالْعَجْزِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ أَوْ يَتْرُكَ التَّصَرُّفَ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ وَيَرْتَفِعُ هَذَا الْخَلَلُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ عَجْزُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ اسْتَبْدَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ عَجْزُهُ اسْتَبْدَلَ بِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ مُقَامَهُ فِي النَّظَرِ، وَهُوَ الْقَاضِي.
وَإِذَا أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَجَازَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ، وَالرِّقُّ يَنْفِي وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَمْنَعُ وِلَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِمَوْلَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّبَرُّعِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ مِنْهُ لِلْعَبْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، فَإِذَا رَجَعَ عَنْهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِهِ، وَالْوَرَثَةُ كِبَارٌ أَوْ فِيهِمْ كَبِيرٌ فَلِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَيَمْنَعُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِمْ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي يَنْفِي الْوِلَايَةَ قَائِمٌ فِي عَبْدِهِ كَمَا هُوَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَرَثَةِ، وَإِثْبَاتُ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوْصَى إلَى مُخَاطَبٍ مُطَّلِعٍ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَوْصَى إلَى مُكَاتَبِهِ أَوْ مُكَاتَبِ غَيْرِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا مُطَّلِعٌ أَيْ مُسْتَنِدٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَنْعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا اكْتِسَابَ سَبَبٍ يَمْنَعُهُ.
وَلَوْ كَانَ الرِّقُّ يَمْنَعُ الْإِيصَاءَ إلَيْهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمُكَاتَبِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ: الْمُكَاتَبُ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الصِّغَارُ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَمْلِكُونَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَلَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ فِي حُقُوقِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ تَوَفُّرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ فَإِنَّ مَنْ رَبَّى عَبْدَهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ وَلِهَذَا اخْتَارَهُ لِلْوَصِيَّةِ فَلِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ جَوَّزَ الْوِصَايَةَ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا كَالْوَصِيَّةِ إلَى مُكَاتَبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ عَادَ قِنًّا فَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ، وَإِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ إلَى حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَأْمَنٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْوَصِيِّ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ، وَلَا وِلَايَةَ لِلذِّمِّيِّ وَلَا لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ يَخْلُفُ الْمُوصِيَ فِي التَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، ثُمَّ الْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَصِيًّا لِلْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الْحَرْبِيِّ لَمْ تَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الذِّمِّيِّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ وِلَايَةٌ بِالْقَرَابَةِ فَكَذَلِكَ بِالتَّفْوِيضِ، وَأَحَدُهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا لَهُ أَيْضًا.
وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ إرْثًا وَتَصَرُّفًا.
وَلَوْ أَوْصَى إلَى فَاسِقٍ مِنْهُمْ مُتَخَوِّفٍ عَلَى مَالِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ إنَّمَا يَجُوزُ شَرْعًا لِيَتِمَّ بِهِ نَظَرُ الْمُوصِي لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَبِالْإِيصَاءِ إلَى الْفَاسِقِ لَا يَتِمُّ مَعْنَى النَّظَرِ وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ بَاطِلَةٌ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَصِيًّا بَلْ يَصِيرُ وَصِيًّا لِكَوْنِ الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ إرْثًا وَتَصَرُّفًا حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ نَظَرُ الْمُوصِي لِنَفْسِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْتِ أَنَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ لِهَذَا، وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِمَالِهِ فَهُوَ وَصِيٌّ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَسَائِرِ أَسْبَابِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا إلَّا فِيمَا جَعَلَهُ وَصِيًّا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَا خَصَّهُ بِهِ الْمُفَوِّضُ كَالتَّوْكِيلِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَصِيَّ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فَيُثْبِتُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ إيجَابُ الْمُوصِي، وَقِيلَ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لَمَّا كَانَ سَبَبُ التَّقْلِيدِ كَانَ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ بِحَاجَةِ الْمُوصِي، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ فَرُبَّمَا يَكُونُ التَّفْرِيطُ مِنْهُ فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَنَجْعَلُهُ وَصِيًّا فِيمَا فَرَّطَ فِيهِ، وَرُبَّمَا يُؤْتَمَنُ هَذَا الْوَصِيُّ عَلَى نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَوْ يُعْرَفُ هِدَايَتُهُ فِي نَوْعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ نَوْعٍ، وَرُبَّمَا يَعْرِفُ شَفَقَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَلَا يَأْتَمِنُهَا عَلَى مَالِهِمْ فَيَجْعَلُ الْغَيْرَ وَصِيًّا عَلَى الْمَالِ دُونَ الْأَوْلَادِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا مُقَيَّدًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْجَدِّ، وَكَمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْجَدِّ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَقْبَلُ النَّقْلَ إلَيْهِ وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْإِيصَاءَ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت إلَيْك مُطْلَقًا.
وَلَوْ كَانَ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْإِنَابَةِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَالتَّوْكِيلِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك بِمَالِي لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَعَلْتُك حَاكِمًا لَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَهُنَا لَمَّا صَحَّ الْإِيصَاءُ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَرَفْنَا أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْوِلَايَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ وِلَايَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالتَّقْلِيدِ فِي الْحُكُومَةِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيصَاءَ تَفْوِيضٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّفْوِيضُ إنَّمَا يُعْمَلُ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي وَعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ كَانَ جَوَازُهُ لِحَاجَتِهِ، وَالْحَاجَةُ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَهُوَ عِنْدَ الْإِيصَاءِ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى النَّائِبِ بَعْدَهُ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَصِيِّ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُوصِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَقْصِدْ تَنْفِيذَ وِلَايَتِهِ بِمَا سُمِّيَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَهَمَّ عِنْدَهُ وَالْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ هَذَا يَذْكُرُ الْأَهَمَّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ فَإِذَا تَجَدَّدَتْ الْحَاجَةُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِتَفْوِيضِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي التَّقْلِيدِ، فَإِنَّ رَأْيَ الْمُقَلِّدِ قَائِمٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَفْصِلَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ الْمُعَيِّنِ إلَى رَجُلٍ وَبِتَقَاضِي الدَّيْنِ إلَى آخَرَ فَهُمَا وَصِيَّانِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيٌّ فِيمَا سُمِّيَ لَهُ خَاصَّةً، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوصِيَ أَحْسَنَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ هَهُنَا حِينَ اخْتَارَ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ بِمَنْ يَكُونُ أَمِينًا قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَاخْتَارَ لِتَقَاضِي الدَّيْنِ مَنْ يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى ذَلِكَ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنَّمَا قُلْنَا تَتَعَدَّى الْوِصَايَةُ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ؛ لِأَنَّ بِهِ تَمَامَ النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ وَتَمَامُ النَّظَرِ هَهُنَا فِي أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا سُمِّيَ لَهُ فَإِنَّمَا يُخْتَارُ لِيَتَقَاضَى إلَى النَّاسِ وَلِلتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ أَمِينُ النَّاسِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ التَّصَرُّفَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ لِلْوَصِيِّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي الْبَعْضِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَيَلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهَهُنَا التَّصَرُّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا سُمِّيَ لَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَلْحَقُ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَفِي إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا قَصْرُ وِلَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي شَرْعًا، وَالتَّقْيِيدُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ تَصَرُّفَهُ بِنَوْعٍ وَنَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوصِ إلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْكُلِّ عَرَفْنَا أَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَذَلِكَ الْإِيصَاءُ إلَيْهِمَا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَاحِدِ إذَا نُصَّ لَهُ عَلَى نَوْعٍ تَتَعَدَّى وِلَايَتُهُ إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا خَاصًّا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ يَثْبُتُ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ فِي النَّوْعِ الَّذِي سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا تَقْبَلُ التَّمْيِيزَ فِي الْأَنْوَاعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَائِبُهُ فِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ.
وَلَوْ قَالَ فُلَانٌ وَصِيِّي حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ إلَى فُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا لِكَوْنِ مَنْ يَخْتَارُهُ لِوَصِيَّتِهِ غَائِبًا فَيَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ غَيْرِهِ لِكَيْ لَا يَضِيعَ مَالُهُ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْغَائِبُ، ثُمَّ إذَا قَدِمَ فَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْوَصِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْخَاصَّةَ إلَى الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَتْ بِقُدُومِ الثَّانِي فَهُوَ كَالْمُنْتَهِي بِبُلُوغِ الْوَلَدِ، وَقَدْ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي مُعَلَّقَةً بِقُدُومِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، ثُمَّ بِهَذَا الْفَصْلِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: التَّقْيِيدُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ، ثُمَّ لَمَّا صَحَّ النَّوْعُ لَهُ أَنْ يُقَيِّدَ بِصَرْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَمَانٍ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ تَقْيِيدُهُ بِالنَّوْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى نَوْعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى جُزْءًا مِنْ الزَّمَانِ كَالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَانَ وَصِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْوَلَدُ، ثُمَّ إذَا نَصَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَهُمَا وَصِيَّانِ فَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ الثَّانِي تَنْضَافُ إلَى مَا بَعْدَ قُدُومِهِ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ مُطْلَقَةٌ فَيَتَصَرَّفُ الْأَوَّلُ إلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ أَوْ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَهُ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ صَارَ الثَّانِي وَصِيًّا وَالْأَوَّلُ وَصِيٌّ فَيَشْتَرِكَانِ فِي التَّصَرُّفِ.
وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَهُنَا لَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا مُطْلَقٌ وَفِي الْآخَرِ مُعَلَّقٌ فَأَمَّا هَهُنَا فَتَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا، وَالْعَقْدُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقٌ؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِلَافَةِ لَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ فَلِهَذَا تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ وَلَدِهِ وَمِيرَاثِهِمْ إلَى رَجُلٍ وَبِبَقِيَّةِ وَلَدِهِ وَمِيرَاثِهِمْ إلَى آخَرَ فَهُمَا وَصِيَّانِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُوصِي كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْكُلِّ، وَهِيَ مِمَّا تَقْبَلُ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِالْإِيصَاءِ فَيَقُومَانِ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي الْمَالِ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا اسْتَوْدَعَاهُ رَجُلًا، وَإِنْ أَحَبَّا كَانَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ إلَيْهِمَا، وَيَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُمَا يَنْقَطِعَانِ بِذَلِكَ عَنْ أَشْغَالِهِمَا فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْفَظَ نِصْفَهُ كَالْمُودِعِينَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَإِنْ أَحَبَّا اسْتَوْدَعَاهُ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِيمَا لَهُ مِنْ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالْإِيدَاعُ يَدْخُلُ فِي هَذَا وَقَدْ يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ فَإِذَا جَازَ لِلْوَصِيِّ الْوَاحِدِ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ جَازَ لِلْوَصِيَّيْنِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَازَ لَهُمَا أَنْ يُودِعَاهُ غَيْرَهُمَا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُمَا أَنْ يُودِعَاهُ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ رَأْيِ الْمُوصِي كَانَ أَوْلَى.
قَالَ: وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِنَفْسِهِ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَيَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً وَيُشَارِكَ بِهِ لَهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى التِّجَارَةِ فِي مَالِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ قَائِمًا مُقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لِيَكُونَ الْمَالُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ دَفْعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِلتَّصَرُّفِ كَالْوَكِيلِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُوصِي فِي وِلَايَتِهِ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا كُلَّهُ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا يَكُونُ أَصْلَحَ لِلْيَتِيمِ وَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} وَقَدْ يَكُونُ الْأَحْسَنُ فِي تَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ إلَى غَيْرِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِعَجْزِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إمَّا لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ أَوْ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا لَمْ يُشْهِدْ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً كَانَ مَا اشْتَرَى لِلْوَرَثَةِ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِمْ قَائِمٌ مُقَامَهُمْ.
وَلَوْ تَصَرَّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الرِّبْحُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِمْ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا تَصَرَّفَ، ثُمَّ هُوَ كَتَبَ أَعْمَلُ فِيهِ مُضَارَبَةً يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِشْهَادِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ عَلَيْهِمْ بَلْ يَبْقَى بَعْضُ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَيَجْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَالِهِمْ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي تَصَرُّفِهِ؛ فَلِهَذَا يَجُوزُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ وَالْوَرَثَةُ صِغَارٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ أَهْلَ الْوَصِيَّةِ فَأَعْطَاهُمْ الثُّلُثَ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْمُوصِيَ أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الْخِلَافَةَ لِحَاجَةِ وَرَثَتِهِ إلَى ذَلِكَ؛ وَلِيَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي النَّظَرِ لَهُمْ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ فَجَازَتْ مُقَاسَمَتُهُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تَجُوزُ مُقَاسَمَةُ الْوَرَثَةِ مَعَهُمْ أَنْ لَوْ كَانُوا بَالِغِينَ، فَإِنْ هَلَكَتْ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ يَكُونُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْهَلَاكُ فِي قَسْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ صَغِيرًا فَأَعْطَى الْوَصِيُّ الْوَارِثَ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ حَتَّى إذَا هَلَكَ الثُّلُثُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَارِثِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُ الْمَالَ ابْتِدَاءً بِالْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَبْقَى لَهُ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ فِي الْمُقَاسَمَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي تَمَيُّزِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ بِقَبُولِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَأَمَّا الْوَارِثُ فَيَخْلُفُ الْمَوْرُوثَ فِي مِلْكِهِ وَيَبْقَى لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْرُوثِ وَلِهَذَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ فَيَقُومُ الْوَصِيُّ مُقَامَهُ فِي تَمْيِيزِ ذَلِكَ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ هَهُنَا فَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا فَقَالَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْت عَلَيْهِمْ كَذَا دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةَ مِثْلِهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ زِيَادَةَ شَيْءٍ قَلِيلٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيهِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إنْ اتَّهَمُوهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمُحْتَمَلِ مَعَ الْيَمِينِ ثُمَّ هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْقَلِيلِ مِنْ الزِّيَادَةِ لَا يَخْرُجُ إنْفَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا أُخْبِرَ فِيمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ.
وَإِنْ اتَّهَمُوهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْكَبِيرَ، وَأَعْطَاهُ حِصَّتَهُ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ الصَّغِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الصَّغِيرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْمُقَاسَمَةُ مَعَ الْكَبِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ مِلْكُهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا، فَقَالَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْت عَلَى هَذَا كَذَا، وَعَلَى هَذَا كَذَا، وَكَانَتْ نَفَقَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَاجَةِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ حَاجَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ لَأَنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْأَكْلِ فَبِاخْتِيَارِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ لَا يَزُولُ احْتِمَالُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِهِ وَلَا يَخْرُجُ الظَّاهِرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ الْوَصِيُّ لِلْوَارِثَيْنِ وَهُمَا كَبِيرَانِ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: صَدَقْت وَقَالَ الْآخَرُ: كَذَبْت فَإِنَّ الَّذِي صَدَّقَهُ ضَامِنٌ لِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا يُؤَدِّيهَا إلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ شَرِيكُهُ مَا قَبَضَ الْخَمْسَمِائَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ الَّذِي صَدَّقَهُ بِقَبْضِ خَمْسِمِائَةٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ وَقَوْلُ الْوَصِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ فِي وُصُولِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَقَرَّ الْمُصَدِّقُ بِقَبْضِهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَهَا إلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ شَرِيكُهُ مَا قَبَضَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ يَدَّعِي الِاخْتِصَاصَ بِهَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ وَالْوَصِيُّ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِمَا وَمَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ مِنْ التَّرِكَةِ كَالْبَادِي.
وَإِذَا قَسَّمَ الْوَصِيُّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَهُمْ صِغَارٌ وَعَزَلَ لِكُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ أَوْ كَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا وَذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْكِبَارِ لَمْ يَجُزْ وَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ مِنْهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَمْيِيزِ الْأَنْصِبَاءِ وَالْوَاحِدُ لَا يَنْفَرِدُ بِذَلِكَ، ثُمَّ الْوَصِيُّ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتَامَى مَعَ نَفْسِهِ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ تَكُونُ لَهُمْ وَبِالْقِسْمَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَتْ قِسْمَتُهُ بَاطِلَةً وَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِذَا قَضَى الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ بِشُهُودٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَضَى ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي حَوَائِجِهِ وَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ وَقَدْ كَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنَهُ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَلِلْمُوصِي أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ الْقَاضِي، وَإِنْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ الْغَرِيمِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ، وَفِي التَّخْصِيصِ إبْطَالُ حَقِّ بَعْضِهِمْ وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فَيَكُونُ دَفْعُهُ جِنَايَةً فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ.
وَإِنْ كَانَ أَعْطَى الْأَوَّلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَدَفْعِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْقَابِضَ وَالْقَاضِي بِهَذَا لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا فَالْمَأْمُورُ مِنْ جِهَتِهِ بِالدَّفْعِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْقَابِضَ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقَّيْهِمَا، ثُمَّ لَيْسَ فِي الدَّفْعِ بِأَمْرِ الْقَاضِي إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ عَنْ الْمَدْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَالْقَابِضُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجُحُودِ وَأَمَّا إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَذَلِكَ مِنْهُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْآخَرِ أَوْ بِغَيْرِ نَصٍّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ رُبَّمَا يَجْحَدُ الْقَبْضَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْغَرِيمُ الْآخَرُ مِنْ اتِّبَاعِهِ.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ فَدَفَعَا إلَى رَجُلٍ دَيْنًا وَشَهِدَا أَنَّهُ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِجَمِيعِ مَا دَفَعَا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا فَقَدْ صَارَا ضَامِنَيْنِ لِمَا دَفَعَا إلَى الطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِشَهَادَتِهِمَا إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ بَقِيَ دَفْعُهُمَا الْمَالَ الْمُدَّعَى جِنَايَةً فِي حَقِّ مَنْ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لِجَمِيعِ مَا دَفَعَا.
وَلَوْ لَمْ يَكُونَا دَفَعَا حَتَّى شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي فَقَضَى الْقَاضِي بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَجَانِبِ وَإِنَّمَا دَفَعَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا وَأَمَرَهُمَا بِالدَّفْعِ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى دَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا دَفَعَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْمَقْضِيَّ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ حِصَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّهِمَا.
قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَهِيَ كَشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَيْهِمَا فِيهَا ضَرَرٌ، وَالْوَصِيُّ مُصَدَّقٌ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ فِيمَا يُكَفَّنُ بِهِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ أَمِينٌ مَنْصُوبٌ لَهُ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْوَصِيُّ الْكَفَنَ مِنْ مَالِهِ وَنَقَدَ لَهُ الثَّمَنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَفَنٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْكَفَنَ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ حَاضِرًا يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ مِنْهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ الْوَصِيُّ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ مِنْ مَالِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ بِشُهُودٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْخُوذُ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاصَمُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ مَعْنَاهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي حَالٍ لَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ.
وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَدَائِهِ مِنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَدَائِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ الطَّعَامَ وَالْكُسْوَةَ مِنْ مَالِهِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْ يُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ خَرَاجَهُمْ بِشُهُودٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّبِيُّ لَا يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ وَفِي الْخَرَاجِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِالْأَدَاءِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّأْخِيرِ فَيُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَيْسِيرِ الْأَدَاءِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى أَدَاءِ الْخَرَاجِ وَلَا شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ لَمْ يُجْعَلْ أَمِينًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالٌ فَقَالَ: أَدَّيْت مِنْهُ وَأَنْفَقْت مِنْهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ مِمَّا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُودَعِ إذَا أَمَرَهُ الْمُودِعُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى صَاحِبَ الدَّيْنِ دَيْنَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَيْت لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا قَبَضَ الْوَصِيُّ دَيْنًا كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَى إنْسَانٍ كَتَبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ بِمَا قَبَضَ، وَلَمْ يَكْتُبْ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ لِلْمَيِّتِ مَالًا سِوَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ لَهُ الْبَرَاءَةَ عَمَّا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ، وَهُوَ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُهُ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ هَذَا جَمِيعُ مَا لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ جَمِيعَ مَا لَهُ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمُوصِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا أَقَرَّ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، ثُمَّ هَذَا مِنْ الْوَصِيِّ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَمِنْ الْمُوصِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إبْرَاءُ الْوَصِيِّ الْغَرِيمَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: بَرِئْت الْآنَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي كَانَ عَلَيْك فَحِينَئِذٍ هُوَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ مُتَّصِلٌ بِالطَّالِبِ، وَذَلِكَ إيفَاءُ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِهِ بَرِئْت كَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لَفْظُ إبْرَاءٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَفَالَةِ، وَإِذَا أَخَذَ الصَّبِيُّ مَالَ الْوَرَثَةِ إلَى رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا، وَكَذَلِكَ إنْ حَطَّ شَيْئًا عَنْ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطٌ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ لَا بِعَقْدٍ هُوَ ثَابِتٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ فِي الْإِسْقَاطِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالتَّأْخِيرُ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ فَإِذَا احْتَالَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ أَمْلَأَ مِنْ الْغَرِيمِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَصَرُّفٌ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى لَهُمْ عَيْنًا.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي احْتَالَ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَالْغَرِيمُ مَلِيئًا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ وَالْمَالُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَا لَهُمْ عَلَى الْأَصْلَحِ وَالْأَحْسَنِ، وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ عَلَى حَقِّ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ خَيْرًا لَهُ يَوْمَ صَالَحَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَهُ لَمْ يَجُزْ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِلْيَتِيمِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَصَالَحَ الْوَصِيُّ عَلَى مَالٍ يَسْتَوْفِيهِ لِلْيَتِيمِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ بَيِّنَةٌ فَالصُّلْحُ شَرٌّ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إثْبَاتِهِ فَإِنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ إنْ ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، فَإِنْ ابْتَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنَ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَأَمَّا الْأَبُ إذَا فَعَلَ هَذَا مَعَ نَفْسِهِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ.
وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْوَكِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا مُسْلِمًا مُتَسَلِّمًا طَالِبًا مُطَالِبًا، ثُمَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ هُوَ مُتَّهَمٌ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى التُّهْمَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُعَامِلُ الْأَجْنَبِيَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَبَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَا يُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ مَعَ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفُهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءً فِي انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، ثُمَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ يَكُونُ نَائِبًا مَحْضًا فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَلَغَ الصَّغِيرُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُمْكِنُهُ الْتِزَامُ سَبَبِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِذَا صَارَ نَائِبًا فِي جَانِبِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْوَصِيَّيْنِ إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْأَبِ لِمَعْنَى وُفُورِ شَفَقَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَصِيِّ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِهَذَا.
وَلَوْ كَانَ هُوَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ مَعَ نَفْسِهِ لَمَلَكَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَحْسَنَا إذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ فِي تَصَرُّفِهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُفُورِ الشَّفَقَةِ وَإِيثَارِهِ الصَّبِيَّ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى الْمَالِيَّةِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُلْتَحَقُ بِمَنْ هُوَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَائِبًا فِي جَانِبِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْعُهْدَةَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْأَبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُ وَلَا مَا يَكُونُ جَائِزًا لِنُقْصَانِ تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَيْنِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَإِذَا نَفَّذَ الْوَصِيُّ أُمُورَ الْمَيِّتِ وَسَلَّمَ الْبَاقِيَ إلَى الْوَارِثِ، وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْوَارِثِ كِتَابَ بَرَاءَةٍ لِلْوَصِيِّ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنْ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ حَقِّهِ فَلَعَلَّهُ أَخْفَى بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ أَتْلَفَهُ فَإِنَّ الْخِيَانَةَ مِنْ الْأَوْصِيَاءِ ظَاهِرَةٌ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ نَادِرٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِمَا أَخَذَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مَنْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْوَصِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَصَوَّرُ هُوَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ قَالَ: وَإِذَا أَعْطَى الْوَصِيُّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ كَبِيرٌ نَصِيبَهُ مِمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ جَحَدَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَلْفٍ أُخْرَى حِصَّةَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِوُصُولِ الْأَلْفَيْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِ أَلْفًا إلَى أَحَدِهِمَا إقْرَارَهُ أَنَّ الْمَدْفُوعَ نَصِيبُهُ أَقَرَّ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلصَّغِيرِ فَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَكَانَ فِي الْجُحُودِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ لِلصَّغِيرِ أَلْفًا أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَسَائِرَ الْمِيرَاثِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّةَ الْكِبَارِ مِنْ الْعَقَارِ وَإِنَّمَا يَبِيعُ حِصَّةَ الصِّغَارِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِقَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الْعَقَارِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْقِيَاسُ هَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَصِيبِ الصَّغِيرِ دُونَ نَصِيبِ الْكَبِيرِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاخْتِلَاطِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَكَذَلِكَ وِلَايَتُهُ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا صَغِيرَ فِي وِلَايَتِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَمَّا ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي بَيْعِ الْبَعْضِ ثَبَتَتْ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي بَيْع الْبَعْضِ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِير جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُت بِهِ نَصِيبُ الْكَبِيرِ وَالْأَشْقَاصُ لَا يُشْتَرَى بِمَا يُشْتَرَى بِهِ الْجُلُّ فَكَانَ فِي بَيْع الْكُلِّ تَوَفُّرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِك الْحِفْظ وَبَيْع الْمَنْقُولَات حَالّ غِيبَته لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَة لَهُ قَالَ، وَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ فِي أَشْيَاء يُشْتَرَى بِهِ وَيَتَصَدَّق بِهَا وَالْوَرَثَة كُلّهمْ كِبَار فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيع الْعَقَار كُلّه فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَة عَلَى الْوَرَثَةِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيع مِنْ الْعَقَار غَيْر الثُّلُث؛ لِأَنَّ ثُبُوت الْوِلَايَة لَهُ بِسَبَبِ الْوَصِيَّة فَيَقْتَصِر عَلَى مَعْدِن الْوَصِيَّة، وَهُوَ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَة كِبَارًا كُلّهمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْن وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِبَار غُيَّبًا أَوْ بَعْضهمْ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيع الْحَيَوَان وَالْعُرُوض؛ لِأَنَّهُ يَمْلِك حِفْظَ التَّرِكَة إلَى أَنْ يَحْضُرُوا فَيَقْتَسِمُوا وَبَيْع الْحَيَوَان وَالْعُرُوض مِنْ الْحِفْظ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى عَلَيْهَا التَّلَف وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَر وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَة بَيْع الْعَقَار؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّة بِنَفْسِهَا فَبَيْعهَا لَيْسَ مِنْ الْحِفْظ.
وَإِنْ كَانُوا حُضُورًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيع شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْلَم الْكُلّ إلَيْهِمْ لِيَنْظُرُوا فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَة بَيْنهمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ النَّظَر لِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا حُضُورًا فَلَا حَاجَة إلَى نَظَّرَ الْوَصِيّ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَأَجْر الْوَصِيّ عَبْدًا أَوْ دَابَّة فَهُوَ جَائِز؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَاب النَّظَر وَالْحِفْظ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَة أَقْرَب إلَى الْهَلَاك مِنْ الْعَيْن؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَفِي اسْتِبْدَال ذَلِكَ بِمَا يَبْقَى لَهُمْ، وَهِيَ الْأُجْرَة تُوَفِّر الْمَنْفَعَة عَلَيْهِمْ وَمَا اشْتَرَى الْوَصِيّ لِلرَّقِيقِ مِنْ الْكِسْوَة فَلَا ضَمَان عَلَى الْوَصِيّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أُمَّيْنِ حَافِظ لَهُمْ بِحَقِّ فَهَلَاكه فِي يَده كَهَلَاكِهِ فِي أَيْدِيهمْ، وَإِذَا قَسَمَ الْوَصِيّ الْمَال بَيْنهمْ وَهُمْ كِبَار فَأَعْطَى نَصِيب الْحُضُور مِنْهُمْ وَأَمْسَكَ نَصِيب الْغَائِب فَهُوَ جَائِز؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُرُوض يَمْلِك الْبَيْع فِي نَصِيب الْغَائِب فَيَمْلِك الْقِسْمَة أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي قَسَمَتْهُ مَعْنَى الْحِفْظ فِي حَقّ الْغَائِب؛ لِأَنَّهُ يَتَمَيَّز بِالْقِسْمَةِ مُلْكه مِنْ مِلْك غَيْره وَإِذَا قَسَمَ الْوَصِيَّانِ مَالَ الْوَرَثَةِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً فَقَالَ أَحَدُهُمَا الَّذِي عِنْدِي لِفُلَانٍ خَاصَّةً وَاَلَّذِي عِنْدَك لِفُلَانٍ فَقِسْمَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ فِي التَّصَرُّفِ كَوَصِيٍّ وَاحِدٍ وَالْوَصِيُّ الْوَاحِدُ لَوْ قَاسَمَ نَفْسَهُ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ فَكَذَلِكَ الْوَصَايَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَسْتَبِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي تَصَرُّفٍ كَانَا فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ فَهُمَا فِيهِ كَوَصِيٍّ وَاحِدٍ.
وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ فَقَاسَمَ الْآخِرُ الْوَرَثَةَ وَأَعْطَى الْكِبَارَ حِصَّتَهُمْ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى إذَا ضَاعَتْ حِصَّةُ الصَّغِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا قَبَضَ الْكِبَارُ بِحِصَّتِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا يُقْدِمُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ بَيْعِ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ وَشِرَائِهِ لِلْيَتِيمِ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُل فَأَمَرَهُ الْوَصِيُّ أَنْ يُقْرِضَهَا أَوْ يَهَبَهَا أَوْ يُسْلِفَهَا فَأَمْرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَعْتَبِرُ أَمَرَهُ بِهِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِلْمَالِ بِدَفْعِهِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ جَازَ وَبَرِئَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ بِهَذَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِلْقَابِضِ بِالْقَبْضِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ وَدَفَعَهُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ وَدِيعَةً كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ مَنْ فِي يَدِهِ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ.
وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَصِيُّ بِأَنْ يَعْمَلَ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَتَاعًا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ يَمْلِكُ الْوَصِيُّ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.