فصل: باب الوصية بالجزء والسهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الوصية بالجزء والسهم:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَحْسَنُ سِهَامِ وَرَثَتِهِ سِهَامٌ يُزَادُ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُ السِّهَامِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: لَهُ السُّدُسُ فَيَتَنَاوَلُهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي سِهَامِ وَرَثَتِهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُزَادُ عَلَى الْفَرِيضَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ رُدَّ إلَى الثُّلُثِ إنْ لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ؛ لَا لِأَنَّ السَّهْمَ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بَلْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّرِكَةَ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ سَهْمًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ فَتَسْمِيَةُ السَّهْمِ لِلْمُوصَى لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ أَحَدَ تِلْكَ السِّهَامِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا أَقَلُّهَا؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِ الْأَقَلِّ مُرَادًا تَيَقُّنٌ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ شَكٌّ وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ السُّدُسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ: لَهُ السُّدُسُ وَهَكَذَا نَقَلَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالُوا: السَّهْمُ السُّدُسُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ السَّهْمِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ سَهْمَ مَنْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ وَرَثَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ عَارِضٍ وَذَلِكَ الْقَرَابَةُ دُونَ الزَّوْجِيَّةِ فَمَا يَكُونُ عَارِضًا فِي مُزَاحَمَةِ مَا هُوَ أَصْلِيٌّ كَالْمَعْدُومِ وَسِهَامُ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالْقَرَابَةِ السُّدُسَ أَوْ الثُّلُثَ أَوْ النِّصْفَ فَأَمَّا الرُّبْعُ وَالثُّمْنُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ أَدْنَى مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ وَهُوَ السُّدُسُ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْقُصُ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي سَهْمِ وَرَثَتِهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ لَهُ مِثْلَ سَهْمِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا الْمُتَيَقِّنُ بِهِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السَّهْمَ دُونَ الثُّلُثِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَالِكُ أَدَاءِ الثُّلُثِ لَا النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالنِّصْفِ فَيَتَعَيَّنُ السُّدُسُ مُرَادًا لَهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَعْدَلَ الْأَعْدَادِ فِي خُرُوجِ سِهَامِ الْفَرَائِضِ مِنْهُ السِّتَّةُ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالسُّدُسِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَجْرِي عَلَى الْأَسْدَاسِ فَيُجْعَلُ لِلسُّدُسِ سَبِيلًا عَلَى حِدَةٍ، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ لَلثُّمْنِ، وَلَا لِلرُّبْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ السُّدُسَ عَدْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ سِهَامِ وَرَثَتِهِ دُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُزَادُ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكَ وَرَثَتِهِ بِسَهْمٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَحْوِيلَ سَهْمِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إيجَابُ مِثْلِ أَحَدِ السِّهَامِ لَهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضِ مَالِهِ أَوْ بِشِقْصٍ مِنْ مَالِهِ أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُ شَيْئًا مَجْهُولًا وَلَيْسَ لَنَا عِبَارَةٌ مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّى لِيَصْرِفَ مِقْدَارَ الْمُسَمَّى بِالرُّجُوعِ إلَى عِبَارَةِ الْمُوصِي، وَجَهَالَةُ الْمُوصَى بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَارِثُ فِي الْبَيَانِ يُقَامُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ بِخِلَافِ السَّهْمِ فَقَدْ وَجَدْنَا هُنَاكَ عِيَارًا مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّى عِنْدَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مِقْدَارَ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ سِهَامُ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إلَّا شَيْئًا أَوْ إلَّا قَلِيلًا أَوْ إلَّا يَسِيرًا أَوْ بِزُهَاءِ أَلْفٍ أَوْ بِعَامَّةِ هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ جُلِّ هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ بِعِظَمِ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَهُوَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مُسْتَثْنًى مَجْهُولٍ، وَأَنَّ جَهَالَتَهُ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَكِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَثْنَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَكُونُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَزِيَادَةٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ بَيَانِ الزِّيَادَةِ إلَى الْوَرَثَةِ، ثُمَّ عَادَ إلَى بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ ابْنَتَانِ وَامْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ فَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْعَوْلِ وَأَخَسُّ السِّهَامِ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ فَيُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ نَصِيبِهَا فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَلَاثِينَ وَكَانَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ وَعَشَرَةُ بَنَاتٍ فَلَهُ سَهْمٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا وَأَخَسُّ السِّهَامِ سَهْمُ بِنْتٍ فَيُزَادُ ذَلِكَ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَهَا أَبَوَانِ وَابْنَتَانِ وَزَوْجٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ مِنْ بَعْدِ الْعَوْلِ مِنْ سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ فَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ أَخَسِّ السِّهَامِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا وَزَوْجًا جَعَلْت لَهُ سَهْمًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ الْعَوْلِ مِنْ عَشَرَةٍ لِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأَخَوَيْنِ وَأَوْصَتْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ سَهْمَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ زَائِدٌ عَلَى السُّدُسِ فَلَهُ السُّدُسُ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَخَوَيْنِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَعْدَلُ الْأَعْدَادِ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي قَوْلِهِمَا لَهُ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ أَخَسَّ الْأَنْصِبَاءِ الرُّبْعُ، وَهُوَ نَصِيبُ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ فَيُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَهُوَ الْخُمْسُ وَلَوْ تَرَكَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَأَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ جَعَلْت لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَنِصْفٍ بَعْدَ الْعَوْلِ لِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ أَخَسِّ السِّهَامِ سَهْمًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الشَّرْطِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ أَنْ تُعْتَقَ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ، ثُمَّ مَاتَ فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبُولُهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ التَّزَوُّجِ وَقَدْ قَبِلَتْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ عَتَقَتْ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهَا عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ لَهَا بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَتُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَوْلَى بِهَذَا اللَّفْظِ انْعِدَامَ التَّزَوُّجِ مِنْهَا أَبَدًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَوْتِهَا، وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَا يُتَصَوَّرُ عِتْقُهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ انْعِدَامُ التَّزَوُّجِ عَقِيبَ مَوْتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ قَبِلَتْ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فَتُعْتَقُ، ثُمَّ الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّزَوُّجِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَتَقَتْ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا لِوَرَثَتِهِ فَفَوَاتُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا السِّعَايَةَ كَمَا لَوْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ أَوْ تُصَلِّيَ تَطَوُّعًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ امْتِنَاعُهَا مِنْ الزَّوَاجِ عَقِيبَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَعْقُبْ ذَلِكَ.
وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ إنْ ثَبَتَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا تَرْجِعَ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ سَاعَةً بَعْدَ مَوْتِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ ثَبَاتُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهَا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ وَهُوَ الْعِتْقُ لَا يُتْرَكُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّفْظُ إذَا تَعَذَّرَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْأَقْصَى يُعْتَبَرُ الْأَدْنَى وَذَلِكَ فِي أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ سَاعَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ مَا قَالَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَنَجَّزُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَنْجِيزٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهَا لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا لَمْ يَتَنَجَّزْ بِنَفْسِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْفِيذِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ أَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ عَلَى أَنْ تَثْبُتَ مَعَ وَلَدِي فَقَبِلَتْ وَفَعَلَتْ مَا شَرَطَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُجُودُ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأَقْصَى فَيَتِمُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِقَبُولِهَا لِوُجُودِ ذَلِكَ الْأَدْنَى مِنْهَا، ثُمَّ لَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا وَلَوْ أَوْصَى لِخَادِمَةٍ أَنْ تُقِيمَ مَعَ أَبِيهِ أَوْ مَعَ ابْنَيْهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَا، ثُمَّ هِيَ حُرَّةٌ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ خَدَمَتْهُمَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةُ وَيُصِيبَ الْغُلَامُ خَادِمًا أَوْ مَالًا يَبْلُغُ خَادِمًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ خِدْمَتِهَا.
وَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ تَخْدُمُهُمَا حَتَّى يُدْرِكَا فَإِذَا أَدْرَكَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَهُوَ شَرَطَ عَلَيْهَا الْخِدْمَةَ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُمَا عَنْ خِدْمَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ تِلْكَ الْغَايَةِ، وَهِيَ اسْتِغْنَاءُ الْكَبِيرِ عَنْ خِدْمَتِهَا فَإِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ فَاسْتِغْنَاؤُهُمَا يَكُونُ بِالْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَكَّنَانِ مِنْ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمَا فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ فَقَدْ وُجِدَ مَا شُرِطَ عَلَيْهَا فَيَجِبُ إعْتَاقُهَا مِنْ ثُلُثِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا أُعْتِقَتْ وَسَعَتْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْنِيَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْعِتْقِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَإِذَا أَوْصَى النَّصْرَانِيُّ بِخَادِمَةٍ لَهُ بِالْعِتْقِ إنْ ثَبَتَتْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا وَعِتْقُهَا مَاضٍ.
وَإِنْ أَسْلَمَتْ عَقِيبَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَشَرْطُ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ ثَبَاتُهَا عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنْ تَثْبُتَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ سَاعَةً فَقَدْ تَمَّ الشَّرْطُ.
وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَوْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ أَبَدًا أَوْ وَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ بَعْدَ تَصْرِيحِهِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ بَعْدَ التَّوْقِيتِ نَصًّا بَلْ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَوَصِيَّتُهَا بَاطِلَةٌ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَعْتِقُوهَا إنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ عِنْدِ وَلَدِي إلَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ شَهْرًا فَإِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الشَّهْرِ أَوْ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ وَلَدِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لَهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِالْعِتْقِ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فُلَانًا بِعَيْنِهِ فَقَبِلَتْ ذَاكَ عَتَقَتْ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّرْطَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى وَيَتِمُّ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً فَيَجِبُ إعْتَاقُهَا وَبَعْدَ مَا عَتَقَتْ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إلَى الرِّقِّ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِالْعِتْقِ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فُلَانًا بِعَيْنِهِ أَبَدًا فَقَبِلَتْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا عِلْمنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَقْصِدْ تَأْخِيرَ عِتْقِهَا امْتِنَاعَهَا عَنْ التَّزَوُّجِ أَبَدًا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْعِتْقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ شَرْطٌ وَإِنَّمَا شَرَطَ قَبُولَهَا ذَلِكَ وَامْتِنَاعَهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَوْلَى فِي هَذَا الشَّرْطِ فَفَوَاتُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا السِّعَايَةَ فِي شَيْءٍ بَعْدَ مَا عَتَقَتْ.
وَإِنْ كَانَ فُلَانًا ذَلِكَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَأَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ فِي التَّزَوُّجِ بِهِ مَنْفَعَةُ الْوَارِثِ وَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ لِوَارِثِهِ عَلَيْهَا كَاشْتِرَاطِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَعْتَقَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ فَأَبَتْ كَانَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُوجِبُهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْهَا يَلْزَمُهَا رَدُّ مَا بِمُقَابَلَتِهِ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ عَلَى أَنْ لَا يُفَارِقَ وَلَدَهُ أَبَدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُمْ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ جَازَ عِتْقُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ.
وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْهُمْ ضَمِنُوا الدَّيْنَ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَقَدْ أَتْلَفُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ وَالْوَارِثِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أَوْصَى الصَّبِيُّ بِوَصِيَّةٍ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَصِيَّتُهُ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْخَيْرِ وَيَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّلَاحِ صَحِيحَةٌ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْمَجْنُونِ وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَاعٍ أَوْ قَالَ: يَافِعٌ، وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ يَسْتَغْنِي هُوَ عَنْ الْمَالِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ حَتَّى يَبْقَى لَهُ الْمَالُ فَيَصْرِفُهُ إلَى حَوَائِجِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَةَ بَعْدَ مَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أَحَبُّ الْمِيرَاثِ وَالصَّبِيُّ فِي الْإِرْثِ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسَاوٍ لِلْبَالِغِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُنِي عَلَى قَوْلِي هَذَا أَنَّ إسْلَامَهُ لَا يَصِحُّ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّبِيِّ إذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِوَلِيِّهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَرُشْدُهُ.
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَرُشْدُهُ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ يَحْصُلُ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا اكْتِسَابُ الْأَجْرِ بِالْوَصِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فِيهِ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ: هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ فَكَذَلِكَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِيهِ ضَرَرٌ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ.
وَإِنْ تَصَوَّرَ فِي الْوَصِيَّةِ مَنْفَعَةً فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْوَضْعِ لَا الْأَحْوَالِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَنْفَعُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الْفَقِيرَةَ وَيَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا الْمُوسِرَةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا لَهُ بِوَلِيِّهِ فَمَنْفَعَةُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَجْرُ وَصِلَةِ الرَّحِمِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِوَلِيِّهِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ الْغُلَامُ بَالِغًا وَلَكِنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْبُلُوغِ وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْسِرْ وَصِيَّتَهُ كَانَتْ بِعَمَلِ الْقُرْبَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ: إذَا أَدْرَكْت، ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثِي لِفُلَانٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ هَدَرٌ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَمَا هُوَ هَدَرٌ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إضَافَةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُمَا فَكَذَلِكَ إضَافَةُ التَّبَرُّعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا قَالَ: إذَا أُعْتِقْتُ فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ التَّبَرُّعِ إلَى حَالَةِ حَقِيقَةِ مِلْكِهِ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَغَيْرُ مُخَاطَبِ وَلَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي التَّبَرُّعَاتِ أَصْلًا فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اسْتَقْبَلَ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا.
وَإِذَا أَوْصَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَالِهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَنَا لَا يُجْرَى عَلَى وَرَثَتِهِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ امْتِنَاعَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَحِقَ الْوَرَثَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوا كَانَ نَافِذًا، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ فِي هَذَا بِسَبَبِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَمِنْ حَقِّهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ لَا إبْطَالُهَا.
وَإِنْ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَجَزْتُ وَصِيَّتَهُ وَرَدَدْت الْبَاقِيَ عَلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَمِنْ حَقّه تَسْلِيمُ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ إذَا فَرَغَ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ مَا أَوْصَى بِهِ فَارِغٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ.
وَإِنْ شَهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَجَزْتُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَقْبُولَةٌ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ بِدَلِيلِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَذَكَر فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَوَصِيَّةُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ تَأْثِيرًا فِي قَطْعِ الْعِصْمَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَمُحَمَّدٌ قَالَ: الْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بِالتَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَإِنْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَصَارُوا ذِمَّةً، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا.
وَإِنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا مِنْ قِبَلِ أَنِّي لَا آخُذُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ فَالْمُسْتَهْلِكُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلِكُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَالْإِسْلَامُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَكَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ لَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ مِنْ الذِّمِّيِّ.
وَإِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجُزْ لَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى بِمَالِهِ بِيعَةٌ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ نَارِهِمْ ذَبِيحَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
(وَوَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ): مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالْوَصِيَّةِ بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْرَاجِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَهَذَا يَجِبُ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا يَجِبُ تَنْفِيذُهُ إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا فَإِنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ.
وَإِنْ كَانُوا لَا يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يُوصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا مَعْصِيَةٌ عِنْدَهُمْ كَالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ وَالْغَزْوِ إلَى الرُّومِ إذَا كَانَ الْمُوصِي مِنْهُمْ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْقُرْبَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَبْنِيَ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ يَصْرِفُونَهُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَحِينَئِذٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِأَعْيَانِهِمْ لَا لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْلِمِ يُوصِي بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِلْمُغَنِّيَاتِ أَوْ لِلنَّائِحَاتِ، فَإِنْ كَانُوا أَقْوَامًا بِعَيْنِهِمْ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
وَوَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهَا وَقَعَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ كَانَ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُسْتَبْهِمَةً فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ كَانَ لِأَقْوَامٍ مُعِينِينَ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْهُ لَهُمْ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمُوصِي فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى رَبِّهِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ مَعْصِيَةً فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَاشْتِغَالَهُ بِالْوَصِيَّةِ مَعْصِيَةٌ مِنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَى مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنَّ نَبْنِيَ أَحْكَامَهُمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّا نُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ مِنْهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَإِنَّمَا نَعْتَبِرُ مَا يُظْهِرُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْتَبِرَ حَقِيقَةَ مَا يُضْمِرُونَ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ فِي الْخُصُومَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِيمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِغَيْرِ اعْتِقَادِهِمْ لَا اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ بَنِي فِي حَيَاتِهِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، ثُمَّ مَاتَ كَانَ مِيرَاثًا أَمَّا عِنْدهمَا؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ لَا يَلْزَمُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ بِتَحْرِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَجَعْلِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعِدُّهَا لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا بُقْعَةُ الْبِيَعِ فَإِنَّمَا يَعُدُّهَا لِلتَّبَرُّكِ وَعِبَادَةِ الشَّيَاطِينِ، فَلَا تَتَحَرَّرُ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا تَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ.
وَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْعَصِيرِ فِي حَقِّنَا.
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الْمُسْلِمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَخْلُفُ الْمُوصِي وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ فِي التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ كَتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فِي الْوَكَالَةِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ بَيْعَ ذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ شَرْعًا وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَيْنٍ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْوَصِيُّ مُسْلِمٌ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ وَكَّلَ بِخُصُومَتِهِ مُسْلِمًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِمَا تَوَلَّاهُ الْوَصِيُّ مِنْ عُقُودِهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْعَقْدَ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةٍ هِيَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَنَا اعْتِبَارًا لِلتَّبَرُّعِ بِالتَّمْلِيكِ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالتَّبَرُّعِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِبَيْتٍ لَهُ يُبْنَى مَسْجِدًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ جَعَلَهَا مُعَدَّةً لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا.
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُرَمَّ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ أَوْ يُلْقَى فِيهِ حَصًى أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ أَبْوَابٌ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ، وَذَكَر فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ: لِمَرَمَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِعِمَارَتِهِ أَوْ لِمَصَالِحِهِ فَإِنَّ مُطَلَّقَ قَوْلِهِ لِلْمَسْجِدِ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَسْجِدِ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ، وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُقَيِّدُ مُطَلَّقَ لَفْظِهِ، وَفِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَرَمَّةُ الْمَسْجِدِ أَوْ عِمَارَتُهُ.
وَإِنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَالْعُلُوَّ مَسْكَنًا أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَهُوَ مِيرَاثٌ يُبَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَسَاجِدِ الْكَعْبَةَ وَتِلْكَ الْبُقْعَةُ جُعِلَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَحَرَّرَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكُلُّ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَهُوَ نَافِذٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ إنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا دُونَ الْعُلُوِّ جَازَ.
وَإِنْ جَعَلَ الْعُلُوَّ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَالُهُ قَرَارٌ وَتَأْبِيدٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحَبْسَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَإِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِبِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَقَرَّبُ إلَيَّ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَقَعْ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِغَلَّةِ جَارِيَةٍ تَكُونُ فِي نَفَقَةِ الْمَسْجِدِ وَمَرَمَّتِهِ فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي بِنَائِهِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ تَقَعُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ.
وَلَوْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ بِيَدِهِ غَلَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فَإِنِّي أَبْنِي الْمَسْجِدَ ثَانِيًا وَأُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهَا يَعْنِي بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ فَيُقْضَى ذَلِكَ مِنْ غَلَّتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَإِنْ شَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.