فصل: بَابُ الْجِمَاعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْجِمَاعِ:

(قَالَ) وَاذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُهِلَّانِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَقِفَا بِعَرَفَةَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، هَكَذَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ، قَالَ: يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إذَا رَجَعَا لِلْقَضَاءِ يَفْتَرِقَانِ مَعْنَاهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِهِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كَمَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوَاقِعَهَا مَا لَمْ يُحْرِمَا، وَالِافْتِرَاقُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِالِافْتِرَاقِ فِي وَقْتٍ تَحِلُّ الْمُوَاقَعَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ نُسُكٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَوَانَ أَدَاءِ مَا هُوَ نُسُكٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا قَرُبَا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَفْتَرِقَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ إذَا وَصَلَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ تَهِيجَ بِهِمَا الشَّهْوَةُ فَيُوَاقِعَهَا فَيَفْتَرِقَانِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَاقَعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بِسَبَبِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فَلَوْ وَجَبَ الِافْتِرَاقُ إنَّمَا يَجِبُ عَنْ النِّكَاحِ، وَأَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِهَذَا ثُمَّ إذَا بَلَغَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلَا فِيمَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِ لَذَّةٍ يَسِيرَةٍ ازْدَادَا نَدَمًا وَتَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ ثَانِيًا لِكَيْ لَا يُصِيبَهُمَا الْآنَ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ إنْ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْفِتْنَةَ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا كَمَا يُنْدَبُ الشَّابُّ إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّقْبِيلِ فِي حَالَةِ الصِّيَامِ إذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ.
(قَالَ) وَإِنْ كَانَا قَارِنَيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْمُوَاقَعَةِ وَقَدْ سَقَطَ دَمُ الْقِرَانِ عَنْهُمَا لِفَسَادِ نُسُكِهِمَا وَإِنْ لَزِمَهُمَا الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمُ نُسُكٍ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مِنْ جَمْعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّ بِالطَّوَافِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَحْلِقْ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ مَا أَدَّى عُمْرَتَهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَلَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا فَسَدَ حَجُّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ.
وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ جَزُورٌ لِجِمَاعِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ وَشَاةٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى النُّسُكَيْنِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ (قَالَ): وَاذَا جَامَعَ الْحَاجُّ بَعْدَمَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَأَهْدَى جَزُورًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ إحْرَامَهُ نُقْصَانٌ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ فَالْجِمَاعُ الثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَكْفِيهِ شَاةٌ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَكَانَ عَلَيْهِ جَزُورٌ (قَالَ): وَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ كَجَمِيعِ الطَّوَافِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّ الطَّوَافَ تَحَلَّلَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِأَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدُ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ طَافَ مُحْدِثًا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ يَحْصُلُ بِطَوَافِ الْجُنُبِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ دَمٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ إلَّا فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا لَوْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ فَصَارَ فِي الْمَعْنَى كَالْجِمَاعِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَهُنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَكْثَرِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ مُعْتَدٌّ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَا بَقِيَ هُنَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ النُّقْصَانِ فِي طَوَافِ الْمُحْدِثِ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ جَامَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ جُنُبًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ أَصْلِ الطَّوَافِ عِنْدَ فَوْتِ أَدَائِهِ وَهِيَ الْبَدَنَةُ فَجِمَاعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَجِمَاعِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ حَتَّى جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ التَّحَلُّلَ بِالطَّوَافِ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْلِقْ (قَالَ): وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيلُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ: إنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ يَفْسُدُ بِهِ الْإِحْرَامُ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالتَّقْبِيلِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فَسَادُ الْإِحْرَامِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لَا يَفْسُدُ وَمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَدِّ ثُمَّ مَا يَجِبُ هُنَا أَبْلُغُ مِمَّا يَجِبُ هُنَاكَ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَكُونُ قِيَاسَ الْكَفَّارَةِ فِي الصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْكَفَّارَةُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ هُنَا الْقَضَاءُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ، أَمَّا إذَا أَنْزَلَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّفَثِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالرُّخْصَةِ فِي التَّقْبِيلِ هُنَاكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ هُنَاكَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّقْبِيلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَهُنَا الْمُحَرَّمُ الْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ وَالتَّقْبِيلُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَيُّبَ مُحَرَّمٌ هُنَا وَلَا يُحَرَّمُ هُنَاكَ (قَالَ): وَالنَّظَرُ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْئًا وَإِنْ أَنْزَلَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ بِمَنْزِلَةِ التَّفَكُّرِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ مِنْهُ صُنْعٌ بِالْمَحِلِّ، وَلَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ (قَالَ): وَحُكْمُ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاحِدٌ إذَا كَانَ عَنْ نِسْيَانٍ أَوْ عَمْدٍ أَوْ فِي حَالِ نَوْمٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ طَوْعٍ إلَّا فِي الْإِثْمِ، أَمَّا النَّاسِي عِنْدَنَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْعَامِدَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِجِمَاعِ النَّاسِي عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ وَبِسَبَبِ النِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ عَيْنُ الْجِمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ وَهُوَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمَيْنِ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ فَجَعَلَ النِّسْيَانَ فِيهِ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
(قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً يَفْسُدُ حَجُّهَا عِنْدَنَا وَلَا يَفْسُدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَتَى أَبَاحَ الْإِقْدَامَ أَعْدَمَ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالنَّوْمُ يُعْدِمُ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ النَّائِمِ وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَذَا الْفِعْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ النَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ فِي دَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إعْدَامِ أَصْلِ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ وَيَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادُ النُّسُكِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّ فَسَادَ النُّسُكِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ إذَا كَانَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ الرَّفَثُ، وَالرَّفَثُ اسْمُ الْجِمَاعِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَجَامَعَ فِيهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِأُخْرَى يَنْوِي قَضَاءَهَا قَالَ: هِيَ هِيَ؛ لِأَنَّهُ بِالْجِمَاعِ وَإِنْ فَسَدَ نُسُكُهُ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَنِيَّتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْإِهْلَالِ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ الْوَاحِدَ لَا يَتَّسِعُ لِلْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ فَكَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ وَيَفْرُغُ مِنْهَا وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ مُهِلًّا بِالْحَجَّةِ (قَالَ): وَإِنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا حَجَّةً يَقْضِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ الصَّحِيحَةِ جَائِزٌ فَإِلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ أَوْلَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ.
وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ تَرْكِ الْوَقْتِ إذَا أَفْسَدَ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِهِ يَعْنِي إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ هَذَا الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ النُّسُكِ فَيَعُودُ فَيُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي النُّسُكَ بِهَذَا الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَتَأَدَّ نُسُكُهُ بِهَذَا الْإِحْرَامِ حِينَ أَفْسَدَهُ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا (قَالَ): الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ النِّسَاءَ وَرَفَضَ إحْرَامَهُ وَأَقَامَ حَلَالًا يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ الْحَلَالُ مِنْ الطِّيبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ حَرَامًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ بِإِفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ وَكَذَلِكَ بِنِيَّةِ الرَّفْضِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ دَمًا وَاحِدًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ فَيَكْفِيهِ لِذَلِكَ دَمٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالشُّرُوعِ، وَالْأَدَاءُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَا يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ:

(اعْلَمْ) بِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ، وَقَالَ: يَأْتُونَ شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذَا الْوَصْفَ وَمَا يَكُونُ صِفَةَ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: إنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: كَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْ الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بِهِ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ تُوجَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَ الْقَلِيلَ أَوْ الْكَثِيرَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَزَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَالْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ فَتَمَّ بِهِ جِنَايَتُهُ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِي جِنَايَتِهِ نُقْصَانٌ فَتَكْفِيهِ نُقْصَانُ الصَّدَقَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ وَاعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا طَيَّبَ شَارِبَهُ أَوْ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ دُونَ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ.
وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي رُبْعِ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ فِي رُبْعِ عُضْوٍ آخَرَ وَجَعَلَ الرُّبْعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ عَلَى قِيَاسِ الْحَلْقِ ثُمَّ الدُّهْنُ إذَا كَانَ مُطَيَّبًا كَدُهْنِ أَلْبَانٍ وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ فَهُوَ طِيبٌ يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدُّهْنُ قَدْ طُبِخَ وَجُعِلَ فِيهِ طِيبٌ، فَأَمَّا إذَا ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِخَلٍّ غَيْرِ مَطْبُوخٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ فِي الشَّعْرِ يُزِيلُ الشَّعَثَ فَيَكُونُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الشَّعْرِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ وَلَا مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ مَأْكُولٌ، وَلَيْسَ بِطِيبٍ فَيَكُونُ قِيَاسَ الشَّحْمِ وَالسَّمْنِ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَلَكِنَّهُمَا قَالَا: اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَيَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْجِنَايَةِ فَيَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الدُّهْنُ أَصْلُ الطِّيبِ فَإِنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِي الدُّهْنِ فَيَصِيرُ تَامًّا فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ أَصْلِ الطِّيبِ مَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ كَمَا إذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ.
(قَالَ): وَإِذَا دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلِهِ بِزَيْتٍ أَوْ شَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ التَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِنْ دَهَنَ بِهِ شُقَاقَ رِجْلِهِ أَوْلَى (قَالَ): وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالزَّعْفَرَانَ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ مَسُّ الطِّيبِ وَهُوَ لَمْ يَمَسَّهُ وَإِنْ شَمَّ رَائِحَتَهُ كَمَنْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا مَعَ أَنَّ الرَّيْحَانَ مِنْ جُمْلَةِ نَبَاتِ الْأَرْضِ لَا مِنْ الطِّيبِ فَهُوَ كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي الطِّيبِ مَعْنَى الرَّائِحَةِ، وَاسْتِعْمَالُ عَيْنِ الطِّيبِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ فَمَا يُوجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التُّفَّاحِ هَكَذَا وَمَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْأَكْلُ فَأَمَّا الرَّيْحَانُ فَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَى رَائِحَتِهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ اشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْجُلُوسِ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهِ، وَذَكَرَ حَمْرَانِ عَنْ أَبَانَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ أَيَدْخُلُ الْبُسْتَانَ، قَالَ: نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ): فَإِنْ كَانَ تَطَيَّبَ أَوْ ادَّهَنَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ وَجَدَ رِيحَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ لَبِسَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أُجْمِرَ فِيهِ فَطَالَ مُكْثُهُ حَتَّى عَلِقَ ثَوْبَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَارَ إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ فَعَيْنُ الطِّيبِ لَمْ يَتَّصِلْ بِثَوْبِهِ وَلَا بِبَدَنِهِ إنَّمَا نَالَ رَائِحَتَهُ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَمَرَ ثِيَابَهُ فَإِنَّ عَيْنَ الطِّيبِ قَدْ عَلِقَ بِثِيَابِهِ فَإِذَا كَانَ الْإِجْمَارُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَيْنِ الطِّيبِ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعَ الْمُحْرِمِ رَائِحَتُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ الَّذِي فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الطِّيبُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ السِّكْبَاجَ الْأَصْفَرَ فِي إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّ قَصْدَهُ بِهَذَا الطَّعَامِ التَّغَذِّي لَا التَّطَيُّبُ، وَإِنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّعَامِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ لَا يُتَغَذَّى بِهِ كَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلطَّعَامِ.
وَمَنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ كَمَا هُوَ يَضْحَكُ حَتَّى يَمُوتَ فَكَانَ هُوَ بِالْأَكْلِ مُطَيِّبًا فَمَه بِالزَّعْفَرَانِ وَهُوَ عُضْوٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ فَأَمَّا إذَا جُعِلَ فِي الطَّعَامِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ إنْ كَانَ فِي طَعَامٍ قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَعَامٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ مِثْلِ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْلُوبًا فِيهِ وَالْمَغْلُوبُ كَالْمُسْتَهْلَكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا عَلَى الْمِلْحِ فَحِينَئِذٍ هُوَ وَالزَّعْفَرَانُ الْبَحْتُ سَوَاءٌ.
وَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَإِنْ لَزِقَ بِيَدَيْهِ تَصَدَّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِقَ بِيَدَيْهِ كَثِيرًا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْكَثِيرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِقْ بِهِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ، وَإِنْ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَأَصَابَ فَمَه أَوْ يَدَهُ خَلُوقٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُوقُ الْتَزَقَ بِهِ مِنْ الرُّكْنِ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتَحِلَ الْمُحْرِمُ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْكُحْلَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَتَتَفَاوَتُ الْجِنَايَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَذًى فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، فَإِنْ كَانَ عَنْ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ الطِّيبُ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ أَوْ شَرِبَ شَرَابًا؛ لِأَنَّ التَّدَاوِيَ يَكُونُ عَنْ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى وَالْأُولَى عَلَى حَالِهَا فَدَاوَى الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ الْكُلَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَبْرَأْ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ اسْتَنَدَتْ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ (قَالَ): وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَبُطَّ الْقُرْحَةَ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ وَيُعَصِّبَ عَلَيْهِ وَيَنْزِعَ ضِرْسَهُ إذَا اشْتَكَى وَيَحْتَجِمَ وَيَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَالَجَةِ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ.
أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَّةِ» وَدَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْحَمَّامَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ (قَالَ): وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْخَطْمَيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ يَغْسِلُ بِهِ رَأْسَهُ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَالُوا وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ بَعْدَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ عِنْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْخِطْمِيُّ مِنْ الطِّيبِ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً وَهُوَ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ أَيْضًا فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ (قَالَ): وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ بِالْحِنَّاءِ يَدَهَا فَعَلَيْهَا دَمٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ، وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ»، وَلِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً مُسْتَلَذَّةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً.
وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَسْمَةَ لَيْسَتْ بِطِيبٍ إنَّمَا تُغَيِّرُ لَوْنَ الشَّعْرِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا لِلْإِخْضَابِ، وَلَكِنْ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
(قَالَ): وَإِنْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَكِنْ إنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ الْهَوَامَّ أَطْعَمَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ فَتَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَيُدْخِلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ دُونَ يَدَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ مَخِيطٌ فَإِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ صَارَ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ فَإِنَّ الْقَبَاءَ يُلْبَسُ هَكَذَا عَادَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ لُبْسُ الْقَبَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ وَاضِعًا الْقَبَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا لَابِسًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لُبْسِ الرِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تُكَلِّفْ حِفْظِهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَابِسُ الرِّدَاءِ، أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ فَيَكُونُ لَابِسًا لِلْمِخْيَطِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ لَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا زَرَّهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ هُوَ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَالتَّطَيُّبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ بِلُبْسٍ مَقْصُودٍ، وَاللُّبْسُ الْمَقْصُودُ فِي النَّاسِ عَادَةً يَكُونُ فِي يَوْمٍ كَامِلٍ فَإِنَّ مَنْ أَصْبَحَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ ثُمَّ لَا يَنْزِعُهَا إلَى اللَّيْلِ فَإِذَا لَبِسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ تَتَكَامَلْ جِنَايَتُهُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ فَتَكْفِيهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا قَدْ يَرْجِعُ الْمَرْءُ إلَى بَيْتِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي لَبِسَهَا لِلنَّاسِ فَكَانَ اللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ اسْتِمْتَاعًا مَقْصُودًا عَادَةً، وَالْأَكْثَرُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ.
(قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْخَزَّ وَالْبُرُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْبُرْدَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْوَرْسِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُوَرَّسِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ»، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِدَاءً مُعَصْفَرًا فِي إحْرَامِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَرَى أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَهُوَ قِيَاسُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهُ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا كَرِهَتْ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ الرِّدَاءَ الْمُعَصْفَرَ حَتَّى قَالَ: لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مُمَشَّقٌ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَهُ رَائِحَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ غُسِلَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ قَدْ عَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَصْبُوغًا بِمَدَرٍ عَلَى لَوْنِ الْعُصْفُرِ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ فَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ فَأَمَّا الْمَصْبُوغُ عَلَى لَوْنِ الْهَرَوِيِّ هُوَ أَدْمَى اللَّوْنِ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُعَصْفَرِ إذَا غُسِلَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ فِي إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ، بِنَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي لُبْسِ الْقَبَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَلَنْسُوَةً يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَمَّا إذَا ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ أَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ.
وَأَمَّا فِي الْقَلَنْسُوَةِ فَلِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَفَتَقَ السَّرَاوِيلَ إلَّا مَوْضِعَ التِّكَّةِ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِلُبْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِئْزَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ قَطَعَ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ وَفَسَّرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- الْكَعْبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمِفْصَلِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا: لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمِشَكَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْكَعْبَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلَيْنِ فَإِنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَالْقَبَاءَ وَالسَّرَاوِيلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ غَطَّى وَجْهَهُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ اللِّحْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُغَطِّي وَجْهَهُ.
(قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ يَشُدُّ بِهَا حَقْوَيْهِ فِيهَا نَفَقَتُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ فَقَالَتْ اسْتَوْثِقْ مِنْ نَفَقَتِكَ بِمَا شِئْتَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا بِأَنْ يَعْقِدَ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ وَفِيهِ نَفَقَتُهُ»، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ نَفَقَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ لُبْسِ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَفِي هَذَا يَسْتَوِي نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ غَيْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَخِيطِ، وَقِيلَ: هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَرَاهَةِ مَا قَلَّ مِنْ الْحَرِيرِ وَكَثُرَ لِلرِّجَالِ (قَالَ): وَيَتَوَشَّحُ الْمُحْرِمُ بِالثِّيَابِ وَلَا يَعْقِدُ عَلَى عُنُقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَقَدَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى تَكَلُّفٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا إذَا ائْتَزَرَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا فَقَالَ: أَلْقِ ذَلِكَ الْحَبْلَ وَيْلَكَ»، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخُلَّ رِدَاءَهُ بِخِلَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفٍ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ (قَالَ): وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَصِّبَ رَأْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ بِالْعِصَابَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إلَّا أَنَّ مَا غَطَّى بِهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ رَأْسِهِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ لِعَدَمِ تَمَامِ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ عَصَّبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ مِنْ عِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَمَا يُكْرَهُ شَدُّ الْإِزَارِ وَشَدُّ الرِّدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَإِنْ غَطَّى الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: إنْ غَطَّى أَكْثَرَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ لَا تَتِمُّ بِهِ الْجِنَايَةُ وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ، وَهَذَا أَصْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ قَالَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلرُّبْعِ فِيهِ حُكْمُ الْكَمَالِ كَالْحَلْقِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَغْطِيَةَ بَعْضِ الرَّأْسِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَفْعَلُهُ الْأَتْرَاكُ وَغَيْرُهُمْ عَادَةً بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَأَمَّا الْمُحْرِمَةُ تُغَطِّي كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا وَجْهَهَا وَتَلْبَسُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ إلَّا الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فَإِنَّ فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهَا إلَى لُبْسِهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ وَفِيمَا تَحْتَاجُ إلَى لُبْسِهِ وَسَتْرِهِ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ الرَّجُلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتَه الْقُفَّازَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ وَعَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْحُلِيِّ فِي الْإِحْرَامِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الْحُلِيَّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَيْنِ تَطُوفَانِ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ» الْحَدِيثَ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ (قَالَ): وَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْمَصْبُوغَ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَسْدُلَ الْخِمَارَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُصِيبُ وَجْهَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ تَغْطِيَةَ الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ وَجْهَهَا دُونَ مَا لَا يُمَاسُّهُ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى دُخُولِهَا تَحْتَ سَقْفٍ.
وَيُكْرَهُ أَنْ تَلْبَسَ الْبُرْقُعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمَاسُّ وَجْهَهَا فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ الْخِفَافِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِلُبْسِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إذَا لَبِسَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ مَا شَاءَ، وَذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، وَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ مَعَهُ عِمَامَةً أَوْ قَلَنْسُوَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي لُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَيَتَخَيَّرُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَيُّهَا شَاءَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ زِيَادَةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَلَا تَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا لَوْ اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي الزِّيَادَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَكَانَتْ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ مُوجِبُهَا (قَالَ): فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِلضَّرُورَةِ أَيَّامًا، وَكَانَ يَنْزِعُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ لَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَزَعَ لِزَوَالِ الضَّرُورَةِ ثُمَّ اضْطَرَّ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَبِسَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّرُورَةِ الْأُولَى قَدْ انْتَهَى بِالْبُرْءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ يُدَاوِي الْقُرْحَةَ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ مِرَارًا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً مَا لَمْ يَبْرَأْ فَإِذَا بَرِئَ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا بِالطِّيبِ فَهَذِهِ جِنَايَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ بِهِ حُمَّى غِبٍّ فَكَانَ يَلْبَسُهُ يَوْمَ الْحُمَّى وَلَا يَلْبَسُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَجِبُ بِهَا إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُحْوِجَةَ إلَى اللُّبْسِ قَائِمَةٌ، أَرَأَيْتُ لَوْ جَلَسَ فِي الشَّمْسِ فَاسْتَغْنَى عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ الشَّمْسُ احْتَاجَ إلَى الْمَخِيطِ فَأَعَادَ اللُّبْسَ أَكَانَتْ هَذِهِ جِنَايَةً أُخْرَى بَلْ الْكُلُّ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ مَادَامَ الْعِلَّةُ قَائِمَةً فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ فَدَعَا الْمَسَاكِينَ فَغَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُجْزِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اعْتَبَرَ الْمَقْصُودَ، فَقَالَ: هَذَا طَعَامُ كَفَّارَةٍ فَيَتَأَدَّى بِالتَّغْذِيَةِ وَالتَّعْشِيَةِ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَمَا وَرَدَ بِلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ لَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ (قَالَ): فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ قَمِيصَهُ، وَلَمْ يُزَرِّرْهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ قَدْ تَمَّ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّكَلُّفِ لِحِفْظِ الْقَمِيصِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِلُبْسِ الطَّيْلَسَانِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَزُرَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ، وَلَكِنَّا أَخَذْنَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ مُحِيطٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ لِحِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ الْمَخِيطِ (قَالَ): وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْجَوْرَبَيْنِ كَمَا لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا.
(قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ الْمُحْرِمُ فُسْطَاطًا لِيَسْتَظِلَّ بِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا آذَاهُ الْحُرُّ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَظِلَّ بِسَقْفِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ فَكَذَلِكَ الْفُسْطَاطُ.
(قَالَ) وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ فَإِنْ كَانَ السِّتْرُ يُصِيبُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا عَلَى رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ كَالطَّسْتِ وَالْإِجَّانَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الثِّيَابِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ يَكُونُ هُوَ حَامِلًا لَا مُسْتَعْمَلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا (قَالَ): فَإِنْ كَانَ الْمُحْرِمُ نَائِمًا فَغَطَّى رَجُلٌ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ بِثَوْبٍ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ كَفِعْلِهِ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنْ كَانَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَأْثَمِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِ، وَعُذْرُ النَّوْمِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَى صَيْدٍ فِي حَالِ نَوْمِهِ فَقَتَلَهُ (قَالَ): صَبِيٌّ أَحْرَمَ عَنْهُ أَبُوهُ وَجَنَّبَهُ مَا يُجَنَّبُ الْمُحْرِمُ فَلَبِسَ ثَوْبًا أَوْ أَصَابَ طِيبًا أَوْ صَيْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْمَالِيَّةَ عَلَى الصَّبِيِّ كَالْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ الْوَلِيُّ بِأَدَائِهِ مِنْ مَالِهِ، وَعِنْدَنَا الْمَالِيُّ وَالْبَدَنِيَّ سَوَاءٌ فِي أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ.
وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ثُمَّ إحْرَامُ الصَّبِيِّ لِلتَّخَلُّقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ جِنَايَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ مُلْزِمًا إيَّاهُ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَمُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُ الْأَبِ فِي الْإِحْرَامِ وَاقِعًا بِصِفَةِ النَّظَرِ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَخَلُّقًا غَيْرَ مُلْزِمٍ إيَّاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ الِالْتِزَامُ بِالنَّذْرِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِاللَّفْظِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْمَشْيُ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ.
وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْتِزَامَ النُّسُكِ، وَاللَّفْظُ إذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِحْرَامَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْإِحْرَامُ لِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ إمَّا الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَيَمْشِي فِيهَا كَمَا الْتَزَمَ فَإِذَا رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا»، وَلِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ عَلَى الرُّكْبَانِ، فَقَالَ {يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}، وَلَهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ يَتَأَسَّفُ عَلَى تَرْكِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا.
وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَمْشِي فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بِجَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْكَبُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَشَى فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ: الْوَاحِدَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ قُلْنَا: إذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدَّى أَنْقَصَ مِمَّا الْتَزَمَ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ دَمٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَقَدْ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ، وَقَالَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ رَفِيقَهُ، وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ فِي النُّسُكِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَكِنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَقْصِدُونَ الْمَشْيَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قَالَ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَمِيقَاتُ الرَّجُلِ فِي الْإِحْرَامِ مَنْزِلُهُ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ.
فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَ الْإِحْرَامَ قُلْنَا: يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ كَمَا الْتَزَمَ ثُمَّ لَا يَرْكَبُ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ يَحْصُلُ فَإِنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ.
وَإِذَا اخْتَارَ الْعُمْرَةَ مَشَى إلَى أَنْ يَحْلِقَ فَإِنْ قَرَنَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَأْتِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِكَمَالِهِ فَنُسُكُ الْعُمْرَةِ الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَالْحَجُّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَدَّاهُمَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَكِبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرُكُوبِهِ مَعَ دَمِ الْقِرَانِ (قَالَ): وَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ فِي الْمَنَاسِكِ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بَدَنَةٍ سِتَّةُ نَفَرٍ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّمَاءُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا فِي حُكْمِ الْجَوَازِ حَتَّى إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءَ الصَّيْدِ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إرَاقَةُ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ خَالِصًا فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ الْقُرْبَةِ فَقَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَقَطْ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ دِمَاءَ الْقُرَبِ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ كَدِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ وَبَعْضُهَا يَحِلُّ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فَقَدْ اتَّحَدَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْمَذْبُوحِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ (قَالَ): فَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدًا آخَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
أَمَّا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فَلِأَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلَفْظِهِ، وَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وَإِذَا عُلِمَتْ نِيَّتُهُ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ يُبَاحُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَمْشِي إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاعِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ، وَلَكِنْ يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ نَذْرٌ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَهُوَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا أَطْلَقُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ يُرِيدُونَ بِهَا الْكَعْبَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ وَقَوْلُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ سَوَاءٌ وَقَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ عَادَةً لِإِرَادَةِ الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِلْكَعْبَةِ، وَالْحَرَمُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِمَكَّةَ فَلَا يُجْعَلُ ذِكْرُ الْفِنَاءِ كَذِكْرِ الْأَصْلِ فِي النَّذْرِ بَلْ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا أَوْ إلَى الْمَرْوَةِ أَوْ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ- فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: نَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَصَارَ بِهِمَا مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: عَلَى السَّفَرِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الذَّهَابِ أَوْ الْإِتْيَانِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الرُّكُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَلَكِنْ فِيمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْتِزَامَ النُّسُكِ بِهِ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْعُرْفِ فَمَا لَا عُرْفَ فِيهِ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ، فَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ يَوْمَ أُكَلِّمُهُ يَنْوِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ يَوْمَ يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ يَقْضِيهَا مَتَى شَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِهَا يَوْمئِذٍ مَا لَمْ يُحْرِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ الْيَوْمَ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ يُحْرِمُ بِهَا مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَالشُّرُوعُ فِي الْأَدَاءِ لَا يَتَّصِلُ بِالِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ لَا يَصِيرُ صَائِمًا بِنَذْرِهِ، وَالْإِحْرَامُ شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَثْبُتُ بِالِالْتِزَامِ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا قَالَ: وَإِنْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِنَذْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ شِئْتَ، فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَشَاءَ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَوْلُهُ عَلَيَّ حَجَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِزَامُ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ لَزِمَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ يُرَادُ بِمِثْلِهِ التَّحْقِيقُ لِلْحَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ وَيُرِيدُ بِهِ التَّحْقِيقَ لَا الْعِدَةَ، وَقَوْلُهُ أَنَا أُهْدِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنَا أُحْرِمُ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ بِفُلَانٍ فَحَنِثَ فَإِنْ كَانَ نَوَى فَأَنَا أَحُجُّ وَهُوَ مَعَنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُحْجِجَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَهُ كَمَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَدْ أَلْصَقَ فُلَانًا بِحَجِّهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَحُجَّ فُلَانٌ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَنْ يُعْطِيَ فُلَانًا مَا يَحُجُّ بِهِ بِالْمَالِ، وَالْتِزَامُ الْأَوَّلِ بِالنَّذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْتِزَامُ الثَّانِي صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدِّي الْمَالَ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْبَدَلِ كَمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْأَصْلِ فَإِنْ نَوَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّ الْمَنْوِيَّ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ فَقَدْ نَوَى مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ يَحُجُّ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَ فُلَانًا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ مُحْتَمَلٌ وَالْوُجُوبُ لَا يَحْصُلُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُحْجُجَ فُلَانًا، فَهَذَا مُحْكَمٌ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ فَإِنَّهُ تَصْرِيحُ الِالْتِزَامِ بِإِحْجَاجِ فُلَانٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِالنَّذْرِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي فُلَانًا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِالْهَدْيِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَهُوَ قَدْ نَذَرَ هَدْيَ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا مَالِيَّةَ فِيهِ فَكَانَ نَذْرُهُ لَغْوًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِيُهْدِيَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ ذَلِكَ وَلَدَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الْمَعْرُوفِ فِي نَذْرِ ذِبْحِ الْوَالِدِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي كَذَا وَسَمَّى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْهَدْيُ قُرْبَةٌ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ فِي مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ الْإِهْدَاءُ يَكُونُ إلَى مَكَان، وَذَلِكَ الْمَكَانُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ حَقِيقَةٌ، وَلَكِنْ صَارَ مَعْلُومًا بِالْعُرْفِ أَنَّهُ مَكَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَدَايَا {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُهْدِيَهُ بِنَفْسِهِ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ يَحْصُلُ بِالْعَيْنِ تَارَةً وَيَحْصُلُ بِمَعْنَى الْمَالِيَّةِ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ لَا تُحَوَّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّصَدُّقِ بِمَالِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ حَجَبَةَ الْبَيْتِ أَجْزَأَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ.
(قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: فَثَوْبِي هَذَا سِتْرُ الْبَيْتِ أَوْ قَالَ: أَنَا أَضْرِبُ بِهِ حَطِيمَ الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَلَامِهِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ أَوْلَى.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِهْدَاءُ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: مَالِي هَدْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالَهُ كُلَّهُ، قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيُمْسِكُ مِنْهُ قَدْرَ قُوتِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، فَقَالَ: فِي الْقِيَاسِ يَنْصَرِفُ هَذَا إلَى كُلِّ مَالٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً بِخِلَافٍ، أَمَّا إذَا قَالَ: جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ هُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ فِي كُلِّ مَالٍ كَالْتِزَامِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ مَالٍ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ إنَّمَا حُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَالِ مُخْتَصٌّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا أَوْجَبَ الْهَدْيَ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْهَدْيِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ يُمْسِكُ مِقْدَارَ قُوتِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: كُلُّ مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْمَذْكُورَ جَوَابُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَغُلَامِي هَذَا هَدْيٌ فَبَاعَهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالْمُنْشَإِ، وَلَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغُلَامُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِالنَّذْرِ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ وَقْتَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ أَصْلًا (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَهَذَا الْمَمْلُوكُ هَدْيٌ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّتْ يَمِينُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ثُمَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءٍ بَعْدَهُ لَا إلَى شِرَاءٍ سَبَقَهُ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: فَهَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْتِزَامَ الْهَدْيِ صَحَّ نَذْرُهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَكَانِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ كَانَ أَوْلَى (قَالَ): وَإِذَا قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُهْدِيَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَزِمَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ الْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا جُعِلَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَهُمَا كَذِكْرِ مَكَّةَ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ هُنَا، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ غَيْرُ مُلْزَمٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ فَتَلْزَمُهُ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَشْيٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قُلْنَا هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذِكْرَ مَكَّةَ يَصِيرُ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَصَّ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِكْرَ مَكَّةَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ (قَالَ): وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْهَدْيَ، وَالْهَدْيُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمٌ لِلْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ التَّصَدُّقُ بِهَا فَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَالتَّصَدُّقُ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِسَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَفِي هَذَا فُقَرَاءُ مَكَّةَ وَفُقَرَاءُ الْكُوفَةِ سَوَاءٌ (قَالَ): وَكُلُّ هَدْيٍ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَفِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئ عَنْ الْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَلَهَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ وَبَعْدَ الذَّبْحِ صَارَ الْمَذْبُوحُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بِمِنًى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الْهَدَايَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنًى مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الشَّاةُ، فَإِنْ نَوَى الْإِبِلَ أَوْ الْبَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي نِيَّتِهِ وَنَوَى التَّعْظِيمَ فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَلَا يَذْبَحُهَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَصْرِيحِهِ بِالْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: عَلَيَّ بَدَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْبُدْنِ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَهُوَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ أَوْ جَزُورٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ وَالْعِظَمُ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْبَقَرَةَ وَالْجَزُورَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ لَفَظَّةَ الْبَدَنَةِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْجَزُورَ فَإِنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً أَفَتُجْزِي الْبَقَرَةُ، فَقَالَ: مِمَّ صَاحِبُكُمْ، فَقَالَ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، وَإِنَّمَا وَهَمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ ثُمَّ إنْ كَانَ نَوَى أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا إلَّا بِمَكَّةَ كَمَا نَوَى لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ،
وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ هُنَا بِالزَّمَانِ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْحَرَمُ كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ بِلَفْظَةِ الْهَدْيِ وَهُمَا قَالَا: كَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفَظَّةِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهَدْيِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّقَرُّبِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعِ نَحْرٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: لَا عَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ الْجَزُورِ فِي مَعْنَى الْهَدْيِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْقُرْبَةِ كَاسْمِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ اسْمِ الْجَزُورِ وَلِمَعْنَى الْقُرْبَةِ جَعَلْنَا اسْمَ الْبَدَنَةِ مُتَنَاوِلًا لِلْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا عَنْ سَبْعَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْهَدْيِ فَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ (قَالَ): وَلَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ.
وَالْكَلَامُ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهَدَايَا سُنَّةٌ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} وَصَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّدَ هَدَايَاهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»، وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ نَعْلَ أَوْ قِطْعَةَ أَدَمٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا أُعِدَّ لِلتَّطَوُّعِ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَيَصِيرُ جِلْدُهُ عَنْ قَرِيبٍ مِثْلَ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الْجِلْدِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْهِيرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّشْهِيرَ فِيمَا هُوَ نُسُكٌ دُونَ مَا هُوَ جَبْرٌ، وَلَهَذَا لَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَهَذَا فِيمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الرَّعْيِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ فَإِنَّ الْغَنَمَ يَعْدِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَلِهَذَا يُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّدُ الْغَنَمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ سُنَّةٌ فِي الْهَدَايَا، وَالْغَنَمُ مِنْ الْهَدَايَا، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَثَرٌ، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ.
(قَالَ): وَالتَّجْلِيلُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ كَانَتْ مُقَلَّدَةً مُجَلَّلَةً حَيْثُ «قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا»، وَإِنْ تَرَكَ التَّجْلِيلَ لَمْ يَضُرَّهُ وَالتَّقْلِيدُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّجْلِيلِ؛ لِأَنَّ لِلتَّقْلِيدِ ذِكْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ التَّجْلِيلِ.
وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ، وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَصِفَةُ الْإِشْعَارِ هُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ ثُمَّ يُلَطِّخَ بِذَلِكَ الدَّمَ سَنَامَهُ، سُمِّيَ ذَلِكَ إشْعَارًا بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ، وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْإِشْعَارُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ السَّنَامِ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ الْبُدْنَ بِيَدِهِ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ظَاهِرٌ حَتَّى قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلَ الْإِشْعَارِ وَكَيْف يَكْرَهُ ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَهَرَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ لِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْحَدَّ، فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَطَعَ الْجِلْدَ فَقَطْ دُونَ اللَّحْمِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ثُمَّ حُجَّتُهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ إعْلَامٌ بِأَنَّهَا بَدَنَةٌ حَتَّى إذَا ضَلَّتْ رُدَّتْ، وَإِذَا وَرَدَتْ الْمَاءَ وَالْعَلَفَ لَمْ تُمْنَعْ لَكِنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ بِالتَّقْلِيدِ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُحَلُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ بِالْإِشْعَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ فَكَانَ الْإِشْعَارُ حَسَنًا لِهَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَعْنَى الْإِعْلَامِ بِالتَّقْلِيدِ يَحْصُلُ وَهُوَ لِإِكْرَامِ الْبَدَنَةِ، وَلَيْسَ فِي الْإِشْعَارِ مَعْنَى الْإِكْرَامِ بَلْ ذَلِكَ يُؤْذِي الْبَدَنَةَ، وَلِأَنَّ التَّجْلِيلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا لِدَفْعِ أَذَى الذُّبَابِ عَنْ الْبَدَنَةِ، وَالْإِشْعَارُ مِنْ جَوَالِبِ الذُّبَابِ فَلِهَذَا كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ): وَلَا يَصِيرُ بِالْإِشْعَارِ وَالتَّجْلِيلِ مُحْرِمًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَجَعَلَ الْإِحْرَامَ قِيَاسَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْإِحْرَامُ قِيَاسُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ إلَّا رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِزَمَانِهِ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلصَّوْمِ مِعْيَارًا، وَلَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ فَبَعْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا حَاجَةَ إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْأَدَاءِ فَلِهَذَا صَارَ شَرْعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُنَا الزَّمَانُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلْحَجِّ، وَلَهَذَا صَحَّ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا أَدَاؤُهُ بِأَفْعَالِهِ وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَوْ قَلَّدَ الْبَدَنَةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ أَوْ أَمَرَ فَقُلِّدَ لَهُ وَهُوَ يَنْوِي الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ فِي التَّحَرُّمِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الشُّرُوعُ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ لَا يَقُومُ الْفِعْلُ فِيهِ مَقَامَهُ حَتَّى لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ بِنِيَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَبِإِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَكَذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} إلَى أَنْ قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْإِحْرَامِ فَفِي قَوْلِهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَحْصُلُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ فَبَعْدَ مَا غَسَلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ نَظَرَ، فَإِذَا هَدَايَاهُ قَدْ قُلِّدَتْ فَقَامَ وَتَرَكَ غَسْلَ الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ: أَمَّا إنْ قُلِّدَتْ هَذِهِ الْهَدَايَا لَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ وَالصَّوْمَ مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي أَثْنَائِهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّوْمِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّلَاةِ فَيُوَفِّرُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ فَنَقُولُ بِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَبِشَبَهِهِ بِالصَّوْمِ يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرِ إذَا أَتَى بِفِعْلٍ يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّلْبِيَةِ إظْهَارُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَبِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ يَحْصُلُ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ أَيْضًا وَفَرَّقَ بَيْنَ التَّجْلِيلِ وَالتَّقْلِيدِ، فَقَالَ بِالتَّجْلِيلِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَا أُعِدَّ لِلْقُرْبَةِ فَقَدْ تُجَلَّلُ الْبَدَنَةُ لَا عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ إظْهَارًا لِلْإِجَابَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْإِشْعَارِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يُشْكَلُ؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِهِ.
وَعِنْدَهُمَا الْإِشْعَارُ بِمَنْزِلَةِ التَّجْلِيلِ فَإِنَّهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنَةِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ثُمَّ إذَا نَوَى عِنْدَ التَّقْلِيدِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ بِمَنْزِلَةِ التَّلْبِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ إنَّمَا نَوَى الْإِحْرَامَ فَقَطْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتَى بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ حَجًّا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عُمْرَةً، وَإِنْ قَلَّدَ الشَّاةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَإِنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَبَعَثَ بِهِ وَهُوَ لَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَ هَدْيَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ وَسَارَ مَعَهُ صَارَ مُحْرِمًا الْآنَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ فَقَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ بِأَهْلِهِ حَلَالًا لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ.
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا أَدْرَكَهَا فَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ مِنْ ذَلِكَ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَى أَثَرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَسُوقَهَا كَمَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَكَمَا كَانَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ بِابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ بِخِلَافِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ (قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَكَ قَوْمٌ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ فَقَلَّدَهَا بَعْضُهُمْ بِأَمْرِ أَصْحَابِهِ صَارُوا مُحْرِمِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ شُرَكَائِهِ كَفِعْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ قَلَّدَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ صَارَ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِغَيْرِ أَمَرِهِمْ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ فَكَذَلِكَ إذَا قَلَّدَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الشُّرَكَاءِ يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ (قَالَ): وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِ هَدْيِهِ إذَا نَحَرَهُ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا».
(قَالَ): وَلَا يُعْطِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَجْرِ جِزَارَتِهِ لَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ لَحْمِهِ وَلَا مِنْ جِلَالِهِ هَكَذَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ مَنْ بَاعَ جِلْدَ ضَحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ»
(قَالَ): وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ مَعَ عَلْقَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ وَأَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا وَأَنْ يَبْعَثَ إلَى آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثُلُثٍ (قَالَ): وَإِنْ سَاقَ بَدَنَةً لَا يَنْوِي بِهَا الْهَدْيَ قَالَ: إذَا كَانَ سَاقَهَا إلَى مَكَّةَ فَهُوَ هَدْيٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا قَلَّدَهَا وَسَاقَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا بِالْهَدْيِ فَكَانَ سَوْقُهَا بَعْدَ إظْهَارِ عَلَامَةِ الْهَدْيِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِهِ إيَّاهَا بِلِسَانِهِ هَدْيًا (قَالَ): وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ضَحُّوا بِالثُّنْيَانِ وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ» إلَّا أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا يُجْزِي لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جِذْعَانًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِزُوهَا» وَلَمَّا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: إنِّي ذَبَحْتُ نُسُكِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نُسُكَكَ، فَقَالَ: عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُجْزِيكَ وَلَا يُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» فَدَلَّ أَنْ مَا دُونَ الثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ.
وَالْجَذْعُ مِنْ الضَّأْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْجَذْعُ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ (قَالَ): وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا الْعَوْرَاءُ أَوْ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ أَوْ جَدَّتْ عِنْدَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» «وَنَهَى رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوْرُهَا وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تَبْقَى وَالْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى مَنْسِكِهَا» وَالْحَادِثُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بَعْدَ شِرَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ، وَهَكَذَا إنْ أَضْجَعَهَا لِيَذْبَحَهَا فَأَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ عِنْدَ الذَّبْحِ فَيُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَجُعِلَ عَفْوًا لِهَذَا، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لَيُتْلِفَهَا فَتَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ.
(قَالَ:): وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الذَّنَبِ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ كَثِيرًا يَمْنَعُ الْجَوَازَ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ» فَالشَّرْقَاءُ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ عَرْضًا وَالْخَرْقَاءُ طُولًا وَالْمُقَابَلَةُ الَّتِي ذَهَبَ قُدَّامُ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ خَلْفَ أُذُنِهَا إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَادَةً فَجُعِلَ عَفْوًا، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ»، وَلَكِنْ جَعَلَهُ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يُجْزِي فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ مَا وَرَاءَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حُكْمُهُ مُخَالِفٌ لِلثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الذَّاهِبَ إذَا كَانَ بِقَدْرِ الرُّبْعِ يُمْنَعُ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الرُّبْعَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْمَسْحِ وَالْحَلْقِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ وَالْبَاقِي سَوَاءً لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ إذَا اسْتَوَى بِالْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ، وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ: أَخْبَرْتُ بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: قَوْلِي قَوْلُكَ أَوْ مِثْلُ قَوْلِكَ، قِيلَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ (قَالَ:): وَيُجْزِي فِي الْهَدْيِ الْخَصِيُّ وَمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ؛ لِأَنَّ مَا لَا قَرْنَ لَهُ يُجْزِي فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَرْنِ الْهَدْيِ وَأَمَّا جَوَازُ الْخَصِيِّ فَلِأَنَّهُ أَطْيَبُ لَحْمًا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا زَادَهُ الْخَصَا فِي طِيبَةِ لَحْمِهِ خَيْرٌ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا فَاتَ مِنْ الْخَصِيِّينَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحِينَ مَوْجُوءَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخِرِ عَنْ أُمَّتِهِ»
(قَالَ:): فَإِنْ اشْتَرَى هَدْيًا ثُمَّ ضَلَّ مِنْهُ فَاشْتَرَى مَكَانَهُ آخَرَ وَقَلَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ نَحَرَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ وَلِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ أَنْ يَنْحَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنْ نَحَرَ الْأَوَّلَ وَبَاعَ الثَّانِيَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الثَّانِيَ لِيَكُونَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ لِيَكُونَ خَلَفًا عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَإِذَا أَوْجَدَ مَا هُوَ الْأَصْلُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوَّلَ وَذَبَحَ الْآخَرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّانِي أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَوَّلَ هَدْيًا أَصْلًا فَإِنَّمَا يَجُوزُ إقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ أَنْقَصَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِيُتِمَّ جَعْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا جَعَلَهُمَا هَدْيًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ عَرَّفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ نُسُكٌ فَيَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الشُّهْرَةِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ لِلْمُتْعَةِ هَدْيَانِ فَنَحَرَ أَحَدَهُمَا حَلَّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ تَطَوُّعٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ (قَالَ:): وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ فَعَطِبَ فَنَحَرَ وَتَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ مَحِلَّهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ (قَالَ:): فَإِنْ اشْتَرَى بَدَنَةً لِمُتْعَتِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ سِتَّةُ نَفَرٍ فِيهَا بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ صَارَ الْكُلُّ لَازِمًا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدَّرَ مَا يُجْزِئُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ بِإِيجَابِهِ فَإِشْرَاكُهُ الْغَيْرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَوْجَبَ فِي الْبَعْضِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَعْضِ، وَلِأَنَّ إشْرَاكَهُ بَيْعٌ لِلْبَعْضِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْجَبَهُ هَدْيًا، وَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْكُلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ السَّبْعَةُ سَوَاءً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نِيَّةٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمْ بِأَمْرِ الْبَاقِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الشَّرِكَةُ مِنْهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ (قَالَ:): وَإِذَا وَلَدَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِهَدْيِهِ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى سَرَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَالْوَلَدَ مَعَهَا، وَإِنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَحَسَنٌ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَذْبَحَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ بِقِيمَتِهِ (قَالَ:): وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ أَوْ الْأُضْحِيَّةِ فَرَضِيَ وَارِثُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا مَعَهُمْ عَنْ الْمَيِّتِ أَجْزَأَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يُوصِ بِأَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْقُرْبَةِ عَنْ نَصِيبِهِ فَصَارَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَقْصِدْ التَّقَرُّبَ بِذَبْحِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَخَرَجَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالذَّبْحِ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَالْعِتْقِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ وَتَقَرُّبُ الْوَارِثِ بِالتَّصَدُّقِ عَنْ الْمَيِّتِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَكَذَلِكَ تَقَرُّبُهُ بِإِيفَاءِ مَا قَصَدَ الْمُوَرِّثُ فِي نَصِيبِهِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ يَكُونُ صَحِيحًا (قَالَ): وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا يُرِيدُ بِهِ اللَّحْمَ دُونَ الْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِمْ.
أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ كُفْرُهُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ الْوَاحِدِ إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ مَعَ الْمُوجِبِ لَهَا يَتَرَجَّحُ الْمُنَافِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُ أَحَدِهِمْ اللَّحْمَ فَلَا يُجْزِئُ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا لِيَكُونَ مُعَارِضًا وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ هَدْيٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَوَى، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ الَّذِي نَوَى اللَّحْمَ فَكَأَنَّهُ نَفَى مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَصِيبِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا ذَبَحَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ: تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يَكُونُ قُرْبَةً وَمَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَانِعُ مِنْ الْجَوَازِ مَعَ الْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا، فَأَمَّا إذَا نَوَوْا الْقُرْبَةَ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ جِهَاتُ قَصْدِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا تَسَعُ فِيهَا الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَصَدَ الْكُلُّ التَّقَرُّبَ فَكَانَتْ الْإِرَاقَةُ لِلَّهِ خَالِصًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِمَاءٌ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَحَرَ بَدَنَةً يَنْوِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ (قَالَ): وَلَا يَرْكَبُ الْبَدَنَةَ بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ- جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- خَالِصًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ»، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ مُحْتَاجًا إلَى رُكُوبِهَا، فَإِذَا رَكِبَهَا وَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ جُزْءًا مِنْهَا إلَى حَاجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلُبُ لَبَنَهَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ لَبَنُهَا، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعِيدًا يَنْزِلُ اللَّبَنُ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِالْبَدَنَةِ ضَارًّا فَيَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ بِقِيمَتِهِ وَأَيُّ الشُّرَكَاءِ فِيهَا نَحَرَهَا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْتَعِينُ بِشُرَكَائِهِ فِي نَحْرِهَا فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِهِ إفْصَاحًا (قَالَ:): وَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ نَحَرَهُ صَاحِبُهُ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَهَذَا مِلْكُهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلسِّبَاعِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْهَدَايَا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِهَا الْفِجَاجَ وَالْأَوْدِيَةَ حَتَّى يَخْرُجَ بِهَا إلَى مِنًى، فَقَالَ: مَاذَا أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ عَلَى يَدَيَّ مِنْهَا، فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا» وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رِفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا، وَمَقْصُودُهُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا عَلَامَةً يُعْلَمُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهَا هَدْيٌ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا مَعَ رِفْقَتِهِ ثُمَّ الْمُتَطَوِّعُ بِالْهَدَايَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَالْإِذْنُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا لَا يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا بَلْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا فَاتَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ يَتَعَيَّنُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ، وَذَلِكَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ غَنِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا أَيْضًا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا (قَالَ): وَإِذَا أَخْطَأَ الرَّجُلَانِ فَنَحَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَ صَاحِبِهِ أَوْ ضَحِيَّتَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا صَنَعَ فِي هَدْيِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ بِمَا صَنَعَ مِنْ صَاحِبِهِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ يَسْتَعِينُ بِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الذَّبْحِ فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَقُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَنَحْوِهَا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ هَدْيَهُ فَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ هَدْيِهِ فَيَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا آخَرَ وَيَذْبَحَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِالْقِيمَةِ.
وَإِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ قَائِمًا أَوْ أَضْجَعَهُ فَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ.
وَبَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْأَيْدِي الْيُسْرَى، وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَرَهَا قَائِمَةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَنْبِ السُّقُوطُ مِنْ الْقِيَامِ.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ خَمْسَ هَدَايَا أَوْ سِتًّا فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ» فَدَلَّ أَنَّهُ يَنْحَرُ قِيَامًا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: نَحَرْتُ بِيَدَيَّ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَكِدْتُ أُهْلِكُ قَوْمًا مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً أَوْ أَسْتَعِينَ بِمَنْ يَكُونُ أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي (قَالَ:): وَلَا أَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ يَعْنِي ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ» وَيَكْفِي فِي هَذَا أَنْ يَنْوِيَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ يَذْكُرَهُ قَبْلَ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَيَنْحَرُ (قَالَ:): وَلَا يُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قِيَامًا؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَذْبَحَهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَيْسَرَ عَلَى الْمَذْبُوحِ، قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» الْحَدِيثَ (قَالَ): وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيَهُ أَوْ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ.
(قَالَ:): وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ فَلَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْكَافِرِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا لَا نَسْتَعِينُ فِي أَمْرِ دِينِنَا بِمَنْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا»
(قَالَ): وَإِنْ ذَبَحَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُجْزِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ كَانَ هَدْيَ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَإِنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفُ الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَهَا قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطِي فِي الزَّكَاةِ قِيمَةَ الشَّاةِ فَيَجُوزَ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ فَأَهْدَى شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتَهَا قِيمَةُ شَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إرَاقَةَ دَمَيْنِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ وَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَلَا يَقُومُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ مَقَامَهُ حَتَّى قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ هُنَاكَ أَيْضًا.
وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاةً فَأَهْدَى جَزُورًا يُجْزِئُهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً فَإِنَّ الْجَزُورَ قَائِمٌ مَقَامَ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ حَتَّى يُجْزِيَ عَنْ سَبْعَةِ نَفَرٍ فَفِيهِ وَفَاءٌ بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ أَنَّهُ إذَا أَهْدَى مِثْلَ مَا عَيَّنَهُ فِي نَذْرِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ أَهْدَى قِيمَتَهُ أَجْزَأَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.