فصل: بَابُ الْمَوَاقِيتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْمَوَاقِيتِ:

(قَالَ): بَلَغَنَا «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ جُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الثَّلَاثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ وَلَا يَلَمْلَمَ وَفِي هَذِهِ- الْآثَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ سِوَى الْمَنْعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ مَا انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِالِاتِّفَاقِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَعُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- قَالُوا: التَّأْقِيتُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَوَاقِيتِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}: إنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَّتْنَا لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ وَقْتٌ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ حَلَالًا فَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ كَانَ مِيقَاتُهُ لِلْإِحْرَامِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَذَا هُنَا، ثُمَّ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إنَّمَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ طَلَبِ غَرِيمٍ لَهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ النُّسُكِ بِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ قَاصِدٍ أَدَاءَ النُّسُكِ فَكَانَ الْحَرَمُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَأَمَّا عِنْدَنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ إذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْحَجُّ أَوْ الْقِتَالُ أَوْ التِّجَارَةُ لِحَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَقَدْ تَرَخَّصَ لِلْقِتَالِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «إنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً» فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخُصُوصِيَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَصْنَعَ كَصَنِيعِهِ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَ: إنِّي جَاوَزْتُ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبِّ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لِإِظْهَارِ شَرَفِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ وَمَنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ سَوَاءٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِحَاجَتِهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِيقَاتِ وَأَهْلِ الْآفَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ».
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُجَاوِزُونَ الْمِيقَاتَ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ بَلَغَتْهُ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَصَالِحَ أَهْلِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِمْ بِهِمْ فَكَمَا يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا لِحَوَائِجِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لِأَهْلِ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى فَرُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا إذَا أَرَادُوا النُّسُكَ فَالنُّسُكُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَإِرَادَةُ النُّسُكِ لَا تَكُونُ عِنْدَ كُلِّ دُخُولٍ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ وَأَهْلُهُ فِي الْوَقْتِ أَوْ دُونَ الْوَقْتِ إلَى مَكَّةَ فَوَقَّتَهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمُوا مِنْ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ وَالْحَرَمُ حَدٌّ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَمَا أَنَّ مِيقَاتَ الْآفَاقِيِّ لِلْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَيَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ فَكَذَا هُنَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْحَرَمِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَالشَّرْطَ هُنَا أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَرَمَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ بِهَذَا يَحْصُلُ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ فَأَحْرَمَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُلَبِّيَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يَطَّوَّفَ بِالْبَيْتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمِيقَاتَ الْمَعْهُودَ فِي حَقِّهِ لِلْإِحْرَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ يُحْرِمُ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ لِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْ مَكَانِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ إلَى الْحِلِّ، وَإِنْ عَادَ فَالْخِلَافُ فِيهِ مِثْلُ الْخِلَافِ فِي الْآفَاقِيِّ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ): وَإِنْ أَرَادَ الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ إنَّمَا يُرِيدُ الْبُسْتَانَ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ لَهَا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَإِذَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ حَلَالًا كَانَ مِثْلَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَوَائِجِهِمْ مِنْ غَيْر إحْرَامٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ، وَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُتَوَطِّنًا بِالْبُسْتَانِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَإِنْ نَوَى الْمُقَامَ بِهَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ قَبْلَ قَصْدِهِ دُخُولَ مَكَّةَ، فَإِنَّمَا قَصَدَ دُخُولَ مَكَّةَ بَعْدَ مَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ فَكَانَ حَالُهُ كَحَالِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ (قَالَ): وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرِنَ أَوْ أَنْ يَتَمَتَّعَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي ذَلِكَ {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ يَكُونُ مَنْزِلُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَقُلْنَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا وَكَمَا لَا يَتَمَتَّعُ مَنْ هُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ لَهُ الْقِرَانُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَارِنَ عَلَى قَوْلِهِ يَتَرَفَّهُ بِإِدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَالْمَكِّيُّ فِي هَذَا وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّرَفُّهِ بِالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لَا فِي إدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى السَّفَرِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِالسَّفَرِ كَثِيرُ مَشَقَّةٍ فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ لَهُمَا صَحَّ وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْقَارِنِ أَنْ تَكُونَ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مُتَقَارِنَتَيْنِ يُحْرِمُ بِهِمَا جَمِيعًا مَعًا، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَلَوْ اعْتَمَرَ هَذَا الْمَكِّيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إذَا لَمْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَالْمَكِّيُّ هُنَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا إنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَكَذَلِكَ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ، ثُمَّ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ وَهُنَا الْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَكَانَ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحًا، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَعَلَى هَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ مَاتَ وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَنْزِله وَهُوَ بِمَكَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُخْرِجُ مُسَافِرًا فَيُوصِي بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَلَوْ أَوْصَى هَذَا الْمَكِّيُّ بِأَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ لَا يَكُونُ مِنْ مَكَّةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ.
(قَالَ): وَالْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْوَقْتَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنْ جَاوَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ قَصَدَ إلَى مَوْضِعٍ فَحَالُهُ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ كَحَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (قَالَ): وَوَقْتُ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْحَرَمُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ بِمَكَّةَ حَلَالًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فَحَلُّوا مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ»
(قَالَ): وَمِيقَاتُ إحْرَامِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَوْضِعِ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَأَدَاءُ الْحَجِّ يَكُونُ بِالْوُقُوفِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ وَأَدَاءُ نُسُكِ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ.
(قَالَ): كُوفِيٌّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ نَحْوَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ جَازَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا، فَإِذَا جَاوَزَهُ حَلَالًا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ» وَأَخَّرَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ فَتَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي حَجِّهِ وَنُقْصَانُ الْحَجِّ يُجْبَرُ بِالدَّمِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبَّى إنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ يُبَاشِرُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بَعْد مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ،
وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْشَاءُ تَلْبِيَةٍ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَوُجُوبُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لَا بَعْدَهُ فَهُوَ- وَإِنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ- فَإِنَّمَا أَتَى بِتَلْبِيَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا فَاتَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولَانِ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا أَنْ يُنْشِئَ الْإِحْرَامَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ، ثُمَّ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، وَلَمْ يُلَبِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ، وَلَمْ يُلَبِّ فَقَدْ تَدَارَكَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ حَلَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ عَادَ فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ مِيقَاتَهُ هُنَاكَ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ، وَقَدْ لَبَّى عِنْدَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): فَإِنْ قَرَنَ هَذَا الْكُوفِيُّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْإِحْرَامَيْنِ جَمِيعًا عَنْ الْمِيقَاتِ فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ إحْرَامٍ دَمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِنَ إذَا ارْتَكَبَ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضِعْفُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا: الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَانَ جَائِزًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ دَمٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ صَارَ بِجِنَايَتِهِ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِتَأْخِيرِهِ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْحَجِّ الْحَرَمُ، وَقَدْ أَحْرَمَ بِهِ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَيْضًا كَانَ عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَنْ مِيقَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ الْحِلُّ بِمَنْزِلَةِ مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ فَحِينَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَقَدْ تَرَكَ مِيقَاتَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا فَيَلْزَمُهُ لِذَلِكَ دَمٌ آخَرُ (قَالَ): كُوفِيٌّ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَقَالَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَيُّ ذَلِكَ شَاءَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ الْإِحْرَامَ بِالنَّذْرِ، وَفِي نَذْرِ الْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَكَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِدُخُولِ مَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَهَلَّ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا تَنُوبُ عَمَّا صَارَتْ نُسُكًا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا يَنُوبُ هَذَا عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- فَقَالُوا: لَوْ كَانَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءِ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ نَابَ ذَلِكَ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لَا أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَنْ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ لِلِاعْتِكَافِ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَوْ أَحْرَمَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءَ كَأَنْ يُؤَدِّي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَدْ أَدَّاهَا حِينَ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَصَارَ بِهِ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لَمْ يَصِرْ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي الثَّانِيَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِهَذَا الْعَوْدِ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ وَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ؟.
(قُلْنَا) هُوَ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُؤَقَّتَةً فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ السَّنَةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَلَا يَصِيرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مُتَدَارِكًا لِلْمَتْرُوكِ (قَالَ): وَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَفَاتَهُ الْحَجُّ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا فَاتَهُ الْحَجّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِمَا ارْتَكَبَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَانْعَدَمَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ (قَالَ): وَكَذَلِكَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْيَانَهُ وَقْتًا آخَرَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ عِنْدَهُ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّ مِنْ حَصَّلَ فِي مِيقَاتٍ فَإِحْرَامُهُ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ (قَالَ): عَبْدٌ دَخَلَ مَكَّةَ مَعَ مَوْلَاهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ إذَا عَتَقَ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّمِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ، وَلَكِنْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ يَدْخُلُ مَكَّةَ، ثُمَّ يُسْلِمُ، ثُمَّ يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ الصَّبِيُّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ يَحْتَلِمُ بِمَكَّةَ فَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْوَقْتِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْإِحْرَامِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُمَا الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُمَا بِمَكَّةَ، وَمِيقَاتُ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ الْحَرَمُ، وَقَدْ أَحْرَمَا مِنْهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاك الْوَقْت وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَوَصِيَّتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُمَا الْحَجُّ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَانْعِدَامُ شَرْطِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِالْأَدَاءِ فِي وَقْتِهِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ، ثُمَّ احْتَلَمَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِئُهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِهِ عِنْدَهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَيُجْعَلُ وَكَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُنَا أَيْضًا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ: وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَكُمْ مِنْ الشَّرَائِطِ دُونَ الْأَرْكَانِ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حِينَ أَحْرَمَ: هُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الصَّرُورَةِ إذَا أَحْرَمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا لَا يُجْزِئُهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ، وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِلْفَرْضِ وَالْإِحْرَامُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِيَقِينٍ فَلِهَذَا لَا يُجْزِئُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ الَّذِي بَاشَرَهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ كَانَ تَخَلُّقًا، وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ بِتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا أَحْرَمَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعَبْدِ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا فَلَا يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَلِهَذَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَأَهَلَّ بِهَا بَعْدَ سَنَةٍ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ الْأَوَّلِ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ قَالَ: يُجْزِيهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَوْ أَحْرَمَ مِنْ هَذَا الْمِيقَاتِ أَجْزَأَهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَجُعِلَ هَذَا كَعَوْدِهِ إلَى الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إذَا جَاءَ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَصَّلَ عِنْدَ مِيقَاتٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.