سورة الملك - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}
يمجد تعالى نفسه الكريمة، ويخبر أنه بيده الملك، أي: هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله. ولهذا قال: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} واستدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] فسمى الحال الأول- وهو العدم- موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خُلَيْد، عن قتادة في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء».
ورواه مَعْمَر، عن قتادة.
وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أي: خير عملا كما قال محمد بن عَجْلان: ولم يقل أكثر عملا.
ثم قال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} أي: هو العزيز العظيم المنيع الجناب، وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب، بعدما عصاه وخالف أمره، وإن كان تعالى عزيزا، هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز.
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي: طبقة بعد طبقة، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض، أو متفاصلات بينهن خلاء؟ فيه قولان، أصحهما الثاني، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.
وقوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي: بل هو مصطحب مستو، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة، ولا نقص ولا عيب ولا خلل؛ ولهذا قال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: انظر إلى السماء فتأملها، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا؛ أو فطورًا؟.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والثوري، وغيرهم في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: شقوق.
وقال السدي: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: من خُروق.
وقال ابن عباس في رواية: {مِنْ فُطُورٍ} أي: من وُهِيّ وقال قتادة: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: هل ترى خَلَلا يا ابن آدم؟.
وقوله: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قال: مرتين. {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} قال ابن عباس: ذليلا؟ وقال مجاهد، وقتادة: صاغرًا.
{وَهُوَ حَسِيرٌ} قال ابن عباس: يعني: وهو كليل.
وقال مجاهد، وقتادة، والسدي: الحسير: المنقطع من الإعياء.
ومعنى الآية: إنك لو كررت البصر، مهما كررت، لانقلب إليك، أي: لرجع إليك البصر، {خَاسِئًا} عن أن يرى عيبًا أو خللا {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا.
ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} عاد الضمير في قوله: {وَجَعَلْنَاهَا} على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، والله أعلم.
وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي: جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى، كما قال: في أول الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6- 10].
قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.


{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}
يقول تعالى: {وَ} أعتدنا {لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: بئس المآل والمنقلب. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} قال ابن جرير: يعني الصياح.
{وَهِيَ تَفُورُ} قال الثوري: تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير.
وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].
وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، فقالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال الله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ}
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم» وفي حديث آخر: «لا يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة».


{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}
يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»، فذكر منهم: «رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله، إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره؟ قال: «كيف أنتم وربكم؟» قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: «ليس ذلكم النفاق».
لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه.
ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما خطر في القلوب.
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}؟ أي: ألا يعلم الخالق. وقيل: معناه ألا يعلم الله مخلوقه؟ والأول أولى، لقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أخبرني بكر بن عمرو، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول: إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا».
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي: حسن صحيح. فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق، مع توكلها على الله، عز وجل، وهو المسَخِّر المسير المسبب. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: المرجع يوم القيامة.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: {مَنَاكِبِهَا} أطرافها وفجاجها ونواحيها.
وقال ابن عباس وقتادة: {مَنَاكِبِهَا} الجبال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن بشير بن كعب: أنه قرأ هذه الآية: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فقال لأم ولد له: إن علمت {مَنَاكِبِهَا} فأنت عتيقة. فقالت: هي الجبال. فسأل أبا الدرداء فقال: هي الجبال.

1 | 2