سورة الفجر - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفجر)


        


{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله: {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]، وقيل: بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر: عشر ذي الحجة.
فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها.
فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك. وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهي عنه، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم {إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي؛ كقوله: {واليل إِذَا أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، {واليل إِذْا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، وقرئ {والوتر} بفتح الواو، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد، وفي الترة: الكسر وحده. وقرئ {الوتر} بفتح الواو وكسر التاء: رواها يونس عن أبي عمرو، وقرئ {والفجر} والوتر، ويسر: بالتنوين، وهو التنوين الذي يقع بدلاً من حرف الإطلاق.
وعن ابن عباس: وليال عشر، بالإضافة يريد: وليال أيام عشر. وياء {يَسْرِ} تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة، وقيل: معنى {يسري} يسري فيه {هَلْ فِي ذَلِكَ} أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي مقسم به {لِّذِى حِجْرٍ} يريد: هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر: العقل؛ لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سمى عقلا ونهية؛ لأنه يعقل وينهى. وحصاة: من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء: يقال: إنه لذو حجر، إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها؛ والمقسم عليه محذوف وهو (ليعذبن) يدل عليه قوله: {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13].


{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم، تسمية لهم باسم جدّهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مَجْداً تَلِيداً بَنَاهُ أَوَّلُهُ *** أَدْرَكَ عَاداً وَقَبْلَهَا إرَمَا
فإرم في قوله {بعاد إرَمَ} عطف بيان لعاد، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل: {إِرَمَ} بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير {بعاد إرم} على الإضافة وتقديره: بعاد أهل إرم، كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82]، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث.
وقرأ الحسن: {بعاد أرم}، مفتوحتين. وقرئ {بعاد إرم} بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ: {بورقكم} وقرئ {بعاد إرم ذات العماد} بإضافة إرم إلى ذات العماد. والإرم: العلم، يعني: بعاد أهل أعلام ذات العماد. و{ذَاتِ العماد} اسم المدينة وقرئ {بعاد إرمّ ذات العماد} أي جعل الله ذات العماد رميماً بدلاً من فعل ربك؛ وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ومنه قولهم: رجل معمد وعمدان: إذا كان طويلاً. وقيل: ذات البناء الرفيع، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين.
وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها، فبني إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة: وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة؛ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته؛ فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} مثل عاد {فِى البلاد} عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم، أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدنيا.
وقرأ ابن الزبير {لم يخلق ملثها}، أي: لم يخلق الله مثلها {جَابُواْ الصخر} قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً، كقوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} [الشعراء: 149] قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة.
قيل له: ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد، كما فعل بماشطة بنته وبآسية {الذين طَغَوْاْ} أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعاً على: هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط: إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطاً كثيرة، فأخذهم بسوط منها. المرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد (مفعال) من رصده. كالميقات من وقته. وهذامثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه.
وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد.
وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال: إنّ ربك لبالمرصاد يا فلان، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة، فالله درّه أيُّ أسد فرّاس كان بين ثوبيه، يدق الظلمة بإنكاره، ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.


{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)}
فإن قلت: بم اتصل قوله {فَأَمَّا الإنسان}؟ قلت: بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها.
فإن قلت: فكيف توازن قوله، فأما الإنسان، {إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} وقوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه} وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما، تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور. أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه؛ وذلك أن قوله {فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ} خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، فوجب أن يكون {فَيَقُولُ} الثاني خبر لمبتدأ واجب تقديره.
فإن قلت: كيف سمي كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت: لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. ونحوه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، فإن قلت: هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير فليس بإهانة له؛ لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركا للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول: أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
فإن قلت: فقد قال: {فَأَكْرَمَهُ} فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله: {رَبّى أَكْرَمَنِ} وذمّه عليه، كما أنكر قوله: {أَهَانَنِ} وذمّه عليه.
قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنه إنما أنكر قوله ربي أكرمن وذمّه عليه، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78]، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة ما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقَّوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
والثاني: أن ينساق الإنكار والذمّ إلى قوله: {رَبّى أَهَانَنِ} يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله: {فَأَكْرَمَهُ} وقرئ {فقدر} بالتخفيف والتشديد وأكرمن، وأهانن: بسكون النون في الوقف، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة.

1 | 2