سورة النجم - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}
{والنجم إِذَا هوى} قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي ومجاهد برواية ابن أبي نجيح: يعني والثريّا إذا سقطت وغابت، والعرب تسمّي الثريّا نجماً، وإن كانت في العدد نجوماً.
قال أبو بكر محمد بن الحسن الدربندي: هي سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة، وواحد منها خفي، يختبر الناس به أبصارهم، ومنه قول العرب إذا طلع النجم عشاءً: ابتغى الراعي كساءً وعن مجاهد أيضاً: يعني نجوم السماء كلها حتى تغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع، كقول الراعي:
فباتت تعدّ النجم في مستحيره *** سريع بأيدي الآكلين جمودها
وسمّي الكوكب نجماً لطلوعه، وكلّ طالع نجم، ويقال: نجمَ السر والقرب والندب إذا طلع.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنّه الرجم من النجوم، يعني ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع، وقال الضحاك: يعني القرآن إذا نزل ثلاث آيات وأربع وسورة، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، وهي رواية الأعمش عن مجاهد وحيان عن الكلبي، والعرب تسمّي التفريق تنجيماً والمفرق نجوماً ومنه نجوم الدَّيْن.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي قال: حدّثني أبو حمزة الثمالي {والنجم إِذَا هوى} قال: يقال: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وقال الأخفش هي النبت، ومنه قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وهويّه: سقوطه على الأرض، لأنه ما ليس له ساق، وقال جعفر الصادق: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج.
فالهويّ: النزول والسقوط، يقال: هوى يهوى هويّاً: مضى يمضي مضيّاً، قال زهير:
يشج بها الأماعز وهي تهوي *** هوي الدلو أسلمها الرشاء
وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا: كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال: الأبتر محمد فلأوذينّه في ابنته فأتاه فقال: يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك» قال: وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة.
فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة، وأخذه فخدشه، فقال: قتلني ومات مكانه.
فقال في ذلك حسان بن ثابت:
سائل بني الأصغر إنْ جئتهم *** ما كان أنباءُ أبي واسع
لا وسّع الله له قبره *** بل ضيّق الله على القاطع
رمى رسول الله من بينهم *** دون قريش رمية القاذع
واستوجب الدعوة منه بما *** بُيّن للنّاظر والسامع
فسلّط الله به كلبه *** يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه *** وفد عليهم سمة الهاجع
فالتقم الرأس بيافوخه *** والنحر منه قفرة الجائع
ثم علا بعدُ بأسنانه *** منعفراً وسط دم ناقع
قد كان هذا لكمُ عبرة *** للسيّد المتبوع والتابع
من يرجعِ العامَ إلى أهله *** فما أكيل السبع بالراجع
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} محمد {وَمَا غوى} وهذا جواب القسم.
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي بالهوى يعاقب بين عن وبين الباء، فيقيم أحدهما مكان الآخر.
{إِنْ هُوَ} ما ينطقه في الديّن {إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} إليه.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} وهو جبريل.
{ذُو مِرَّةٍ} قوة وشدّة، ورجل ممرّ أي قوي، قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه رجل مرير
وأصله من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه قول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ».
قال الكلبي: وكانت شدّته أنّه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وكانت شدّته أيضاً أنّه أبصر إبليس وهو يكلّم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه في أقصى جبل بالهند، وكانت شدّته أيضاً صيحته بثمود فأصبحوا جاثمين خامدين، وكانت شدّته أيضاً هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف، وقال قطرب: يقول العرب لكل حرك الرأي حصف العقل: ذو مرة، قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّة *** عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله.
وقال ابن عباس: ذو مِرّة، أي ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خَلق طويل حسن.
{فاستوى} يعني جبريل {وَهُوَ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون: استوى هو وفلان، ما يقولون: استوى وفلان، وأنشد الفرّاء:
ألم تر أنّ النبع يصلب عوده *** ولا يستوي والخروع المتقصف
والمعنى: لا يستوي هو والخروع.
ونظير هذه الآية قوله سبحانه: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ} [النمل: 67] فعطف بالآباء على الكنى في {كُنَّا} من غير إظهار نحن، ومعنى الآية: استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج {بالأفق الأعلى} وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء، وقيل: استويا في القوة والصعود إلى السماء، وقيل: استويا في العلم بالوحي، وقال بعضهم: معنى الآية: استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علّم محمداً، عن سعيد بن المسيب، وقيل: فاستوى أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها، وذلك أنه كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي يُجبِلَ عليها، وأراه نفسه مرّتين: مرة في الأرض، ومرّة في السماء فأمّا في الأرض ففي الأُفق الأعلى، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه.
يدل عليه قوله سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} [التكوير: 23]، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاّ محمد المصطفى صلوات الله عليه.
{ثُمَّ دَنَا فتدلى} اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم: معناها ثم دنا جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فتدلّى فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي وهوى عليه {فَكَانَ} منه {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} أي: بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع.
قال أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ثم تدلّى فدنا؛ لأن التدلّي: الدنوّ، ولكنه سامع حسن؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ، والدنو يدل على التدلّي، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي، وقال آخرون: معناه ثم دنا الرب سبحانه من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلّى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وأصل التدلىّ: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب، قال لبيد:
فتدلّيت عليه قافلا *** وعلى الأرض غيابات الطفل
وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس.
وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي، أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا الربيع قال: حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة، ثم علا به بما لا يعلمه إلاّ الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه ما شاء، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية، لا بالمكان والمسافة والنقلة، كقوله سبحانه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقال بعضهم: معناه: ثم دنا جبريل من ربّه عزّوجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وهذا قول مجاهد، يدلّ عليه ما روي في الحديث: «إنه أقرب الملائكة من جبرائيل إلى الله سبحانه».
وقال الضحاك: ثم دنا محمد من ربّه عز وجل فتدلّى فأهوى للسجود، فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وقيل: ثم دنا محمد من ساق العرش فتدلّى، أي: جاور الحجب والسرادقات، لا نقلة مكان، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل.
ومعنى قوله: {قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء، ونظيره من الكلام زير وزار. قال صلى الله عليه وسلم: «لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدينا وما فيها».
وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس، وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد صلى الله عليه وسلم عند الوحي كقرب قاب قوسين.
وقال أهل المعاني: هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة، وأصله أنّ الحليفَين والمحبَّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما والصفا بينهما يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه.
وقيل: هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر ذراعين، والقوس: الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض أهل الحجاز. {أَوْ أدنى} بل أقرب.
وقال بعض: إنّما قال: {أَوْ أدنى}؛ لأنه لم يردْ أن يجعل لذلك حدّاً محصوراً.
وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال: كيف أصف لكم مقاماً انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل، ولم يكن إلاّ محمد وربّه؟ وقال الكسائي: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أراد قوساً واحداً كقول الشاعر:
ومَهْمَهَيْنِ قَذَقَيْنِ مَرْتَيْنْ *** قطعته بالسّمْتِ لا بالسّمْتَيْنْ
أراد مهمهاً واحداً.
وقال بعض أهل المعاني: معنى قوله: {فتدلّى} فتدلّل من الدلال كقولهم: تظني بمعنى تظنن وأملى وأملل بمعنى واحد.
{فأوحى} يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى {إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} محمد صلى الله عليه وسلم {مَآ أوحى} قال الحسن والربيع وابن زيد: معناه فأوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربّه، قال سعيد: أوحى إليه {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} [الضحى: 6] إلى قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأُمم حتى تدخلها أُمّتك، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال: أوحى إليه سرّاً بسرّ من سرّ في سرّ وفي ذلك يقول القائل:
بين المحبين سر ليس يفشيه *** قول ولا قلم للخلق يحكيه
سرُّ يمازجه أنس يقابله *** نور تحيّر في بحر من التِّيه
{مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} قرأ الحسن وأبو جعفر والحجدري وقتادة {كذّب} بتشديد الذال، أي: ما كذّب قلب محمد ما رآى بعينه تلك الليلة، بل صدّقه وحقّقه، وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ما كذب فؤاد محمد محمداً الذي رآى بل صدّقه، ومجاز الآية: ما كذب الفؤاد فيما رأى، فأسقط الصفة، كقول الشاعر:
لو كنت صادقة الذي حدثتني *** لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي: في التي حدّثتني، وقال بندار بن الحسن: الفؤاد وعاء القلب فيما ارتاب الفؤاد فيما أرى الأصل وهو القلب.
واختلفوا في الذي رآه. فقال قوم: رأى جبريل، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال آخرون: هو الله سبحانه، ثم اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصرهُ في فؤاده، فرآه في فؤاده ولم يره بعينه، وقال قوم: بل رآه بعينه.
ذكر من قال: إنّه رآه بعينه أخبرني الحسن بن الحسين قال: حدّثنا الفضل بن الفضل، قال: حدّثنا أبو يعلى محمد بن زهير الإبلي، قال: حدّثنا بن نحويه، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبدالرزاق، قال: حدّثنا ابن التيمي عن المبرك بن فضالة، قال: كان الحسن يحلف بالله عز وجل لقد رأى محمد ربّه.
وانبأني عقيل بن محمد قال: أخبرنا المعافي بن زكريا قال: حدّثنا محمد بن جرير قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عمّن سمع ابن عباس يقول: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} قال: رأى محمد ربّه.
وبإسناده عن ابن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال: حدّثنا عيسى بن عبيد سمعت عكرمة وقد سئل: هل رأى محمد ربّه؟ فقال: نعم، قد رأى ربّه.
وبه عن ابن حميد قال: حدّثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} قال: رأى ربّه عز وجل.
ذكر من قال: لم يره.
أخبرنا أبو عبيد الله الحسين بن محمد الحافظ بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا موسى ابن محمد بن علي، قال: حدّثنا إبراهيم بن زهير، قال: حدّثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدّثنا موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال: قال بعض أصحاب رسول الله: يا رسول الله، أرأيت ربّك؟ قال: «رأيته مرّتين، بفؤادي ولم أره بعيني» ثم تلا هذه الآية {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} ومثله روي عن ابن الحنفية عن أبيه، وأبو العالية عن ابن عباس.
وأخبرني الحسن، قال: حدّثنا أبو القاسم عن بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي، قال: حدّثنا جدي لأمي محمد بن عبدالله بن مرزوق، قال: حدّثنا عفان بن مسلم قال: حدّثنا همان بن عبد الله بن شفيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، قال: وعما كنت تسأله؟ قلت: كنت أسأله: هل رأى ربّه عز وجل؟ قال: فإني قد سألته فقال: «قد رأيت نوراً، أنى أراه؟».
وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: «رأيت نوراً».
، ومثله روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس.
وقد ورد في هذا الباب حديث جامع وهو ما أخبرني الحسين بن الحسن، قال: حدّثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه، قال: حدّثنا سلمة بن عبدالرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة عن مجالد عن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحرث قال: اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس: أمّا نحن بنو هاشم فنقول: إنّ محمداً رأى ربّه مرتين، وقال ابن عباس يحبّون أن تكون الخِلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد. قال: فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله سبحانه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليه السلام، فكلّمه موسى ورآه محمد.
قال مجالد: وقال الشعبي: فأخبرني مسروق أنّه قال لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربّه تعالى قط؟، قالت: إنك لتقول قولاً، إنّه ليقف منه شعري، قال: قلت: رويداً فقرأت عليها: {والنجم إِذَا هوى} حتى {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى}. فقالت: رويداً، أين يُذهب بك؟ إنّما رأى جبريل في صورته. من حدّثك أن محمداً رأى ربّه فقد كذب، والله عز وجل يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103]، ومن حدّثك أنّه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، والله سبحانه يقول: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] الآية، ومن حدّثك أنّ محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد كذب، والله عز وجلّ يقول: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67] الآية.
قال عبدالرزاق: فذكرت هذا الحديث لعمر، فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس.
{أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى} أي: رأى.
قرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة ومسروق والنخعي وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب {أَفَتُمَارُونَهُ} بفتح الباء من غير ألف على معنى أفتجحدونه، واختاره أبو عبيد، قال: لأنهم لم يماروه وإنّما يجحدونه، يقول العرب: مريت الرجل حقّه إذا جحدته. قال الشاعر:
لئن هجرتَ أخا صدق ومكرمة *** لقد مريتَ أخاً ما كان يمريكا
أي جحدته.
وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مسرف {أَفَتُمَارُونَهُ} بضم التاء بلا ألف، أي تريبونه وتشككونه، وقرأ الباقون {أَفَتُمَارُونَهُ} بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه، وهو اختيار أبي حاتم، وفي الحديث: «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر».


{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} مرة أخرى، فسمّاها نزلة على الاستعارة، وذلك أنّ جبريل رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ُعلى صورته التي خلق عليها مرتين: مرة بالأُفق الأعلى في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء وهو الاختيار، لأنه قرن الرؤية بالمكان فقال: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى}، ولأنه قال: {نَزْلَةً أخرى} وتقديرها: ولقد رآه نازلا نزلة أُخرى، ووصف الله سبحانه بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال؛ ولأنه قال: {نَزْلَةً أخرى} ولم يروَ في الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم رأى ربّه عزّوجل قبل ليلة المعراج فيراه تلك الليلة مرة أُخرى، يدل عليها ما أخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير عن محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبدالوهاب الثقفي. قال: حدّثنا داود بن عامر عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنّ محمداً رآى ربّه فقد أعظم الفرية على الله.
قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أُم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، أرأيت قول الله سبحانه {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} [التكوير: 23]. قالت: إنّما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادّاً أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. قالت: وأنا أوّل من سأل النبي عن هذه الآية فقال: «هو جبريل». {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} {عند} صلة من قوله: {رَآهُ} والسدرة: شجرة النبق، وقيل لها سدرة المنتهى؛ لأنه إليها ينتهي علم كل عالم.
وقال هلال بن سياف: سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلاّ الله سبحانه.
وقال ابن مسعود: سمّيت بذلك؛ لأنّه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها، وقيل: لأنّه ينتهي إليها ما عرج من أرواح المؤمنين، وقيل: لأنّه ينتهي إليها كل من مات على سنّة رسول الله ومنهاجه.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال:لمّا أُسري بالنبي انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن إلى قوله: مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاماً لا يقطعها، والورقة منها مغطّية الأُمة كلها.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا بن شيبة، قال: حدّثنا التنوخي قال: حدّثنا عبيد بن يعيش، قال: حدّثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال:
سمعت النبي يذكر سدرة المنتهى قال: «يسير الراكب في ظلّ الفنن منها مائة عام، ويستظلّ في الفنن منها مائة راكب. فيها فراش من ذهب، كأنّ ثمارها القلال».
وقال مقاتل: هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، تحمل الحليّ والحلل والثمار من جميع الألوان، ولو أنّ رجلا ركب حقّةً فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى.
{عِندَهَا جَنَّةُ المأوى * إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} قال ابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الحسن: غشيها نور ربّ العزة فاستنارت، وقيل: الملائكة، ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبّح الله عزّ وجل»، وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال: لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة، قال: فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر.
قال: فكلّمه عند ذلك وقال له: سل.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فغشيها رفرف من طير خضر».
قال السدي: من الطيور فوقها، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنّها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، وإذا ينعها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فلمّا غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتاً وزمرداً حتى ما يستطيع أحد يصفها، عندها جنة المأوى».
قال ابن عباس: هي يمين العرش، وهي منزلة الشهداء، نظيره {فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى} [السجدة: 19] وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أبوعبدالله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني. قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي، قال: حدّثنا ميمون بن الأصبع، قال: حدّثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري، قال: حدّثنا عبدالله بن أبي قيس، قال سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ هذه الآية {عِندَهَا جَنَّةُ} بالهاء {المأوى} يعني جنّة المبيت، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدّثني أبو صدقة قال: حدّثنا أبو الأسباط قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ {جَنَّةُ المأوى} وقال مجاهد: يريد أجنّه، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو حاتم: وهي قراءة علي وأنس يعني ستره، وقال الأخفش: أدركه.
{مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} أي: ما جاور ما أمر به، ولا مال عمّا قصد له.
{لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} أي الآية الكبرى.
قال ابن مسعود: رآى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدّ الأُفق، وقال الضحاك: سدرة المنتهى، وقال عبدالرَّحْمن بن يزيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات، وقيل: المعراج، وما أُري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه. دليله قوله سبحانه {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1].
{أَفَرَأَيْتُمُ اللات} قراءة العامة بتخفيف التاء، وهي من الله ألحقت بها التاء فاثبت. كما قيل: عمر للذكر، ثم قيل: للانثى عمرة، وكما قيل عباس وعباسة، وكذلك سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله {اللات}، ومن العزيز {العزّى}.
قال قتادة: أمّا اللات فكانت بالطائف. ابن زيد: اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح اللات بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلتّ السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى السدي عن أبي صالح أنّه كان بالطائف، وكان يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السويق، فلمّا مات عبدوه.
وقال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منهالسمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها حيساً فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له: صرمة بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلتّ به سيوفهم، فلمّا مات الرجل اخذت ثقيف الصخرة إلى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات.
{والعزى} اختلفوا فيها فقال مجاهد: هي شجرة لغطفان يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، ويقال: إن خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد قطعتها، فقال: «ما رأيت؟»، قال: لم أر شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم: «ما قطعت». فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثّ أصلها، فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: «تلك العزى ولن تعبد أبداً».
وقال الضحاك: وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنّه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى بطن نخلة وقال لقومه: إنّ لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم، ولهم اله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة، فوضع الذي من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال: هذا رُبّكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما، وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف.
{وَمَنَاةَ} قرأ ابن كثير بالمد، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة *** على الشنئ فيما بيننا ابن تميم
والباقون بالقصر.
قال قتادة: هي حجارة كانت تعبد. ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة، وقيل: إن اشتقاقه من ناءَ النجم ينوء نوءاً، وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور: 29] و{شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 62] ونحوهما، وما كان منها مكتوباً بالهاء فالوقف عليه بالهاء، وقال بعضهم: الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء، نحو {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف: 98] و{شَجَرَةٌ تَخْرُجُ} وما كان مضافاً فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للأضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء.
وأما قوله سبحانه {الثالثة الأخرى} قال: العرب لا تقول للثالثة أُخرى وأنّما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنّما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ولم يقل: أُخَر، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة، ومعنى الآية: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله.
{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز. الباقون بغير همز، وقال ابن عباس وقتادة: يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربّكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم. مجاهد ومقاتل: عوجاً. الحسن: غير معتدلة. ابن سيرين: غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث. الضحاك: ناقصة. سفيان منقوصة. ابن زيد: مخالفة.
قال الكسائي: يقال فيه: ضاز يضيز ضيزاً. ضاز يضوز ضوزاً. ضاز يضاز ضأزاً إذا ظلم ونقص. قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم *** إذ يجعلون الرأس كالذَّنَبِ
وأنشد الأخفش:
فإن تَنأَ عنا ننتقصْك وإن تغبْ *** فسهمك مضئوز وأنفك راغم
وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء؛ لأنها صفة من الصفات، والصفات لا تكون إلاّ فُعلى بضم الفاء، نحو: حُبلى وأُنثى ويُسرى، أو فَعلى بفتح الفاء نحو: غَضبى وسَكرى وعَطشى، وليس في كلام العرب فعِلى بكسر الفاء في النعوت، إنّما يكون في الأسماء نحو: دفرى، وذكرى وشعرى.
قال المؤرخ: كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واواً وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلّة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، والأصل بوض مثل: حمر وصفر، وأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
{إِنْ هِيَ} يعني هذه الأوثان {إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ} قرأ العامة بالياء، وقرأ عيسى بالتاء {إِلاَّ الظن} في قولهم: إنّها آلهة وإنّها شفعاؤهم {وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} لبيان أنّها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاّ لله الواحد القهار.


{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}
{أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} اشتهى، وهم الكفار وزعموا أن الأصنام تشفع لهم عند الله، يعني: أتظنون أنّ لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام، ليس كما ظنوا أو تمنوا، بل لله الآخرة والأُولى، يعني الدنيا، يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء، لا ما تمنّى الانسان واشتهى، وهذا كقوله: {أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] أي لا إله مع الله، وقال ابن زيد: إنْ كان محمد تمنّى شيئاً فأعطاه الله ذلك فلا تنكروه.
{فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} يعطي من يشاء ما يشاء، ويحرم من يشاء ما يشاء.
{وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات} ممن يعبدونهم هؤلاء الكفار ويزعمون أنهم بنات الله ويرجون شفاعتهم عند الله. {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} قال الاخفش: الملك موحّد ومعناه الجمع، وهو مثل قوله: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى}.
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ} أي كتسمية أو بتسمية {الأنثى * وَمَا لَهُم} وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله سبحانه، تعالى الله عن افترائهم {بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق} أي من العذاب {شَيْئاً} نظيره {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} [الحجر: 8]. يعني أنها لا تشفع لهم، وأن ظنهم لا ينقذهم من العذاب.
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} يعني القرآن، وقيل: الإيمان، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} قال الفرّاء: وذلك حين قالوا: إنهم بنات اللّه، تعالى اللّه عن افترائهم وازرى بهم بعد ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى * وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى * الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} اختلفوا في معنى {إِلاَّ} فقال قوم: هو استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلاّ ان يلم بالفاحشة ثم يتوب وتقع الوقعة ثم ينتهي، وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن وأبي صالح، ورواية عطاء عن ابن عباس قال: هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللّهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك لا ألمّا
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم: ما دون الشرك.
قال آخرون: هو استثناء منقطع مجازه: لكن اللمم، ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كانوا بالأمس يعملون معنا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه، وروى الوالبي عن ابن عباس، وقال بعضهم: هو صغار الذنوب مثل النظرة والغمزة والقُبلة، وهو من ألمّ بالشيء إذا لم يتعمق فيه ولم يلزمه، وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، ورواية طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق أو يكذبه، فإنْ تقدّم بفرجه كان زانياً وإلاّ فهو اللمم».
وقال ابن الزبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو ما بين الحدّين: حدّ الدنيا وعذاب الآخرة، وهي رواية العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس، وقال الكلبي: اللمم على وجهين، كل ذنب لم يذكر عليه حدّاً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلمّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه، وقال مقاتل: اللمم ما بين الحدّين من الذنوب. نزلت في نبهان التمار وقد مضت القصة في سورة آل عمران، وقال عطاء بن أبي رياح: اللمم عباده النفس الحين بن الحين، وقال سعيد بن المسيب: هو ما لمّ على القلب، اي حظر، وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شرّ فهو لمم.
ودليل هذا التأويل الخبر المروي «إنّ للشيطان لمّة، وللملك لمّة، فلمّة الشيطان الوسوسة، ولمّة الملك الإلهام» وقال الحسين بن الفضل: اللمم: النظرة من غير تعمد، وهو مغفور، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب، وقال الفرّاء: اللمم: المتقارب من صغار الذنوب، وأصل اللمم والإلمام هو ما يعمله الانسان المرة بعد المرة، والحين بعد الحين ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه. يقال: ألممتُ به إذا زرته وانصرفت، المام الخيال، قال الاعشى:
ألمّ خيال من قتيلة بعدما *** وهى حبلها من حبلنا فتصرّما
وقال آخر:
أنى ألمّ بك الخيال يطيف *** ومطافه لك ذكرة وشغوف
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} لا يتعاظمه ذنب، نظيره {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبدالسلام الأصفهاني قال: حدّثنا محمد بن عاصم، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب عن عمرو بن مرة عن أبي وائل قال: رأى أبو مسيرة عمرو بن شرحبيل، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله في المنام قال: رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب وكانا ممن قتل مع معاوية فقلت فأين عمار وأصحابه؟ فقالوا: أمامك، قلت: وقد قتل بعضهم بعضاً؟: إنهم لقوا الله سبحانه فوجدوه واسع المغفرة.
قال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثنتي عشر ألف بنت.
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي خلق أباكم من التراب {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جَنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمّي جنيناً لاجتنانه أي استتاره.
روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت اليهود إذا هلك لهم صديق قالوا: هو صديق. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «كذبوا ما من نسمة يخلقها الله سبحانه في بطن أمها إلاّ شقي أو سعيد» فأنزل الله سبحانه {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ}.
{فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} قال ابن عباس: لا تمدحوها. مجاهد وزيد بن أسلم: فلا تبرِّئوها، وقال الكلبي ومقاتل: كان أُناس يعملون أعمالا خبيثة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا. فأنزل الله سبحانه هذه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب».
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} الشرك فآمن، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يعني عمل حسنة وارعوى عن سيئة، وقال الحسن: أخلص العمل لله.

1 | 2