سورة القصص - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


هذه السورة مكية، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان. نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله؛ وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجرداً من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى؛ ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلاً.
ومن ثم يقوم كيان السورة على قصة موسى وفرعون في البدء، وقصة قارون مع قومه قوم موسى في الختام.. الأولى تعرض قوة الحكم والسلطان. قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر؛ وفي مواجهتها موسى طفلاً رضيعاً لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية. وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم. ولكن قوة فرعون وجبروته، وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئاً؛ بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير، المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحدياً سافراً، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه!
والقصة الثانية تعرض قيمة المال، ومعها قيمة العلم. المال الذي يستخف القوم وقد خرج عليهم قارون في زينته، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه، ولا تستخفهم زينته؛ بل يتطلعون إلى ثواب الله، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد الله فتخسف به وبداره الأرض، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه؛ وتتدخل تدخلاً مباشراً سافراً كما تدخلت في أمر فرعون، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.
لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان؛ ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة، هذا خسف به وبداره، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حداً للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزاً والصلاح حسيراً؛ ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية، بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حد للشر والفساد.
وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص في سورة القصص ويفتح أبصارهم على آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة، وفي مصارع الغابرين تارة، وفي مشاهد القيامة تارة.. وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص، وتساوقها وتتناسق معها؛ وتؤكد سنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.
فساق الله إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة؛ وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار الله، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس؛ وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس! وساق لهم قصة قارون تقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى وتؤكدها.
وعقب على مقالتهم {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون}.. يذكرهم بأنه هو الذي آمنهم من الخوف فهو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن؛ وهو الذي يديم عليهم أمنهم، أو يسلبهم إياه؛ ومضى ينذرهم عاقبة البطر وعدم الشكر: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين} ويخوفهم عاقبة أمرهم بعد أن أعذر إليهم وأرسل فيهم رسولاً. وقد مضت سنة الله من قبل بإهلاك المكذبين بعد مجيء النذير: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} ثم يعرض عليهم مشهدهم يوم القيامة حين يتخلى عنهم الشركاء على رؤوس الأشهاد؛ فيبصرهم بعذاب الآخرة بعد أن حذرهم عذاب الدنيا؛ وبعد أن علمهم أين يكون الخوف وأين يكون الأمان.
وتنتهي السورة بوعد من الله لرسوله الكريم وهو مخرج من مكة مطارد من المشركين بأن الذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه، لا بد رادّه إلى بلده، ناصره على الشرك وأهله. وقد أنعم عليه بالرسالة ولم يكن يتطلع إليها؛ وسينعم عليه بالنصر والعودة إلى البلد الذي أخرجه منه المشركون. سيعود آمناً ظافراً مؤيداً. وفي قصص السورة ما يضمن هذا ويؤكده. فقد عاد موسى عليه السلام إلى البلد الذي خرج منه خائفاً طريداً.
عاد فأخرج معه بني إسرائيل واستنقذهم، وهلك فرعون وجنوده على أيدي موسى وقومه الناجين..
ويختم هذا الوعد ويختم السورة معه بالإيقاع الأخير:
{ولا تدع مع الله إلهاً آخر، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون} هذا هو موضوع السورة وجوها وظلالها العامة، فلنأخذ في تفصيل أشواطها الأربعة: قصة موسى. والتعقيب عليها. وقصة قارون. وهذا الوعد الأخير...
تبدأ السورة بالأحرف المقطعة:
{طا. سين. ميم.. تلك آيات الكتاب المبين}..
تبدأ السورة بهذه الأحرف للتنبيه إلى أنه من مثلها تتألف آيات الكتاب المبين، البعيدة الرتبة، المتباعدة المدى بالقياس لما يتألف عادة من هذه الأحرف، في لغة البشر الفانين:
{تلك آيات الكتاب المبين}..
فهذا الكتاب المبين ليس إذن من عمل البشر، وهم لا يستطيعونه؛ إنما هو الوحي الذي يتلوه الله على عبده، ويبدو فيه إعجاز صنعته، كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في الكبير والصغير:
{نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون}..
فإلى القوم المؤمنين يوجه هذا الكتاب؛ يربيهم به وينشئهم ويرسم لهم المنهاج، ويشق لهم الطريق. وهذا القصص المتلو في السورة، مقصود به أولئك المؤمنين، وهم به ينتفعون.
وهذه التلاوة المباشرة من الله، تلقي ظلال العناية والاهتمام بالمؤمنين؛ وتشعرهم بقيمتهم العظيمة ومنزلتهم العالية الرفيعة. وكيف؟ والله ذو الجلال يتلو على رسوله الكتاب من أجلهم، ولهم؛ بصفتهم هذه التي تؤهلهم لتلك العناية الكريمة: {لقوم يؤمنون}.
وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ. نبأ موسى وفرعون. يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة حلقة ميلاده ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها. ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى، والظروف القاسية التي ولد فيها؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون.. ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية. وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته؛ وكانت لكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه.
ولقد كنت قصة موسى عليه السلام تبدأ غالباً في السور الأخرى من حلقة الرسالة لا من حلقة الميلاد حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية. فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود؛ إنما المقصود أن الشرّ حين يمتحض يحمل سبب هلاكه في ذاته؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين.
فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية للنفوس، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه، وتتعاون في بناء القلوب، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب.
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي: حلقة مولد موسى عليه السلام وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته. وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم، وما وقع فيها من قتل القبطي، وتآمر فرعون وملئه عليه، وهربه من مصر إلى أرض مدين، وزواجه فيها، وقضاء سنوات الخدمة بها. وحلقة النداء والتكليف بالرسالة. ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون. والعاقبة الأخيرة الغرق مختصرة سريعة.
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي. وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ: {ونرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة، قسمها إلى مشاهد؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية.
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد. والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد. وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة. وبين كل مشهد ومشهد، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد.
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث، والظرف الذي يجري فيه القصص، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث، والتي من أجلها يسوق هذا القصص.. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة. تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن:
{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}..
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث، وتنكشف اليد التي تجريها. وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها. وانكشاف هذه اليد، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها، متمش مع أبرز هدف لها.
ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء. وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب.
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده، فالتحديد التاريخي ليس هدفاً من أهداف القصة القرآنية؛ ولا يزيد في دلالتها شيئاً. ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف عليه السلام الذي استقدم أباه وإخوته. وأبوه يعقوب هو إسرائيل وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعباً كبيراً.
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية {علا في الأرض} وتكبر وتجبر، وجعل أهل مصر شيعاً، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعاً.
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطراً على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف، فقد يصبحون إلباً عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل، ليبادر بذبح الذكور، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى عليه السلام عند ولادته، كما وردت في هذه السورة:
{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. إنه كان من المفسدين}..
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون؛ ويقدر غير ما يقدر الطاغية. والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم، فينسون إرادة الله وتقديره؛ ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون. ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون.
والله يعلن هنا أرادته هو، ويكشف عن تقديره هو؛ ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلاً:
{ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيداً ولا تابعين؛ وأن يورثهم الأرض المباركة (التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح) وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين. وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما، وما يتخذون الحيطة دونه، وهم لا يشعرون!
هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها. يعلن واقع الحال، وما هو مقدر في المآل. ليقف القوتين وجهاً لوجه: قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير. وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس!
ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها. والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها، وما ستنتهي إليه، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها.
ومن ثم تنبض القصة بالحياة؛ وكأنها تعرض لأول مرة، على أنها رواية معروضة الفصول، لا حكاية غبرت في التاريخ. هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة؛ ولد والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه..
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.
هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف:
{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني}..
يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه {فألقيه في اليم}!!
{ولا تخافي ولا تحزني} إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار برداً وسلاماً، وتجعل البحر ملجأ ومناما.
اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
{إنا رادوه إليك}.. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. {وجاعلوه من المرسلين}.. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور برداً وسلاماً. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني:
{فالتقطه آل فرعون}..
أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟
وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟
نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفاً على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر.. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات!
ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية:
{ليكون لهم عدواً وحزناً}.
ليكون لهم عدواً يتحداهم وحزناً يدخل الهم على قلوبهم:
{إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين}..
ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجرداً من كل قوة، مجرداً من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب:
{وقالت امرأة فرعون: قرة عين لي ولك، لا تقتلوه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً؛ وهم لا يشعرون}..
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة.
ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!
{قرة عين لي ولك}..
وهو الذي تدفع به القدرة إليهم ليكون لهم فيما عدا المرأة عدواً وحزناً! {لا تقتلوه}..
وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده!
{عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً}..
وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلاً!
{وهم لا يشعرون}.
فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!
وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.
ذلك شأن موسى. فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟
{وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً. إن كادت لتبدي به. لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين. وقالت لأخته: قصيه}..
لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أُمٌ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: {فارغاً}.. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!
{إِن كادت لتبدي به}.. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلي. أنا ألقيت به في اليم اتباعاً لهاتف غريب!
{لولا أن ربطنا على قلبها}.. وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.
{لتكون من المؤمنين}.. المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه.
ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!
{وقالت لأخته: قصيه}.. اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حياً، أو أكلته


مضت قصة موسى عليه السلام بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها؛ ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة؛ ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشاهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر؛ بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان؛ وما كان حاضر أحداثها، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك، {فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}..
{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر. وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا؛ ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا؛ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم، فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثلما أوتي موسى! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحران: تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون. قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه. إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}..
والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتاً مع موسى عليه السلام بعد أجل محدد.. ثلاثين ليلة، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة (على ما ذكر في سورة الأعراف) وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً لهذا الميقات، حتى يعلم نبأه المفصل، كما ورد في القرآن الكريم. وإن بينه وبين هذا الحادث لقروناً من الناس أي أجيالاً متطاولة: {ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر}. فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم.
ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين، ومقام موسى عليه السلام بها وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان مقيماً في أهل مدين، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه: {ولكنا كنا مرسلين} بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.
كذلك صوَّر القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} وما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم النداء، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوهم إليه، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل، منذ أبيهم إسماعيل: {لعلهم يتذكرون}..
فهي رحمة الله بالقوم، وهي حجته كذلك عليهم، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب فأراد الله أن يقطع حجتهم، وأن يعذر إليهم، وأن يقفهم أمام نفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان:
{ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم، فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، فنتبع آياتك، ونكون من المؤمنين!}..
كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه:
{فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثلما أوتي موسى! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحران تظاهرا، وقالوا: إنا بكل كافرون}..
وهكذا لم يذعنوا للحق، واستمسكوا بالتعلات الباطلة: {قالوا: لولا أوتي مثلما أوتي موسى} إما من الخوارق المادية، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة، وفيها التوراة كاملة.
ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم، ولا مخلصين في اعتراضهم: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟} ولقد كان في الجزيرة يهود، وكان معهم التوراة، فلم يؤمن لهم العرب، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة. ولقد علموا أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه الحق، وأنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب؛ فلم يذعنوا لهذا كله، وادعوا أن التوراة سحر، وأن القرآن سحر، وأنهما من أجل هذا يتطابقان، ويصدق أحدهما الآخر:
{قالوا: سحران تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون}!
فهو المراء إذن واللجاجة، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين، ولا ضعف الدليل.
ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم: إن لم يكن يعجبكم القرآن، ولم تكن تعجبكم التوراة؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه:
{قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه. إن كنتم صادقين}!
وهذه نهاية الإنصاف، وغاية المطاولة بالحجة، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر، الذي لا يستند إلى دليل:
{فإن لم يستجيبوا لك، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين}..
إن الحق في هذا القرآن لبين؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. وإنهما لطريقان لا ثالث لهما: إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق. ولا حجة من غموض في العقيدة، أو ضعف في الحجة، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.
{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}..
وهكذا جزما وقطعا. كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها.. إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين. متجنون لا حجة لهم ولا معذرة، متبعون للهوى، معرضون عن الحق الواضح:
{ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟}..
وهم في هذا ظالمون باغون:
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين}..
إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن، ولم يحيطوا علماً بهذا الدين. فما هو إلا أن يصل إليهم، ويعرض عليهم، حتى تقوم الحجة، وينقطع الجدل، وتسقط المعذرة. فهو بذاته واضح واضح، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم، وعرضه عليهم، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل..
{ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}..
وحين تنتهي هذه الجولة، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية. تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم:
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون؛ وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرأون بالحسنة السيئة، ومما رزقناهم ينفقون؛ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، سلام عليكم، لا نبتغي الجاهلين}.
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا؛ ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون... إلخ}..
وروى محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام، في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال؟ ما نعلم ركباً أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.
قال: ويقال: إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال والله أعلم: إن فيهم نزلت هذه الآيات: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون.. إلخ}.
قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنه والآيات اللاتي في سورة المائدة: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً...} إلى قوله {فاكتبنا مع الشاهدين} وأياً من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع، يعلمونه ولا ينكرونه. كي يقفهم وجهاً لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن، وتطمئن إليه، وترى فيه الحق، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب. ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء؛ وتحتمل في سبيل الحق الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء.
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}..
وهذه إحدى الآيات على صحته، فالكتاب كله من عند الله، فهو متطابق، من أوتي أوله عرف الحق في آخره، فاطمأن له، وآمن به، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.
{وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به. إنه الحق من ربنا.
إنا كنا من قبله مسلمين}...
فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين، وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب. {إنه الحق من ربنا}.. {إنا كنا من قبله مسلمين}. والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين.
هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه:
{أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}..
الصبر على الإسلام الخالص. إسلام القلب والوجه. ومغالبة الهوى والشهوة. والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة. أولئك يؤتون أجرهم مرتين، جزاء على ذلك الصبر، وهو عسير على النفوس، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف. وهؤلاء صبروا عليها جميعاً، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية، وكما يقع دائماً للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان:
{ويدرأون بالحسنة السيئة}..
وهذا هو الصبر كذلك. وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية. إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله. درجة السماحة الراضية. التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.
{ومما رزقناهم ينفقون}..
وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان. فهما من منبع واحد: منبع الاستعلاء على شهوة النفس، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض. الأولى في النفس، والثانية في المال. وكثيراً ما يردان متلازمين في القرآن.
وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة:
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلام عليكم. لا نبتغي الجاهلين}..
واللغو فارغ الحديث، الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه. وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زاداً جديداً، ولا معرفة مفيدة. وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء: أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب.
والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذاك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء. فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره:
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}..
ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله، ولا يدخلون معهم في جدل حوله، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو؛ إنما يتركونهم في موادعة وسلام.
{وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلام عليكم}..
هكذا في أدب، وفي دعاء بالخير، وفي رغبة في الهداية.. مع عدم الرغبة في المشاركة:
{لا نبتغي الجاهلين}..
ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!
إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها.
تفيض بالترفع عن اللغو. كما تفيض بالسماحة والود. وترسم لمن يريد أن يتأدب الله طريقه واضحاً لا لبس فيه. فلا مشاركة للجهال، ولا مخاصمة لهم، ولا موجدة عليهم، ولا ضيق بهم. إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.
هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن. ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن؛ ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام. فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليهدي من يحب. إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان..
{إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. وهو أعلم بالمهتدين}..
ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه وينصره، ويقف دونه في وجه قريش، ويحميه حتى يبلغ دعوته، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب. ولكنه إنما يفعل ذلك كله حباً لابن أخيه، وحمية وإباء ونخوة. فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فلم يكتب الله له هذا، لما يعلمه سبحانه من أمره..
قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}. وأنزل في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}... (أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري).
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عماه. قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. لا أقولها إلا لأقر بها عينك. ونزل قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب. وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب.
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذاً بصرامة هذا الدين واستقامته. فهذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه، لا يكتب الله له الإيمان، على شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حب رسول الله له أن يؤمن. ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة، ولم يقصد إلى العقيدة. وقد علم الله هذا منه، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجوه. فأخرج هذا الأمر أمر الهداية من حصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله خاصاً بإرادته سبحانه وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ. وما على الداعين بعده إلا النصيحة. والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو الضلال.
والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول صلى الله عليه وسلم معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة، التي تعظم الكعبة، وتدين لسدنتها، وتعظم أصنامها، فتتخطفهم تلك القبائل، أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل. فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي، ومن حاضرهم الذي يشهدونه، بعدما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون. ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقية ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات. ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله.
{وقالوا: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا. أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون.
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون؟ أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟}..
إنها النظرة السطحية القريبة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار:{وقالوا: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}.. فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهماً وليس قولاً يقال لطمأنة القلوب. إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة.
إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معاً برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض تصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}. فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم.
فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعاً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:
{أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا؟}..
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
{ولكن أكثرهم لا يعلمون}..
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله.
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقاً، وأن يأمنوا التخطف حقاً، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها:
{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين}..
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؛ فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية.. {لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً}. وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها. وتروي قصة البطر بالنعمة؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحداً، ولم يرثها بعدهم أحد {وكنا نحن الوارثين}.
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولاً. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:
{وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}..
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزاً تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أم القرى العربية. فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}.. يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله:
{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها. وما عند الله خير وأبقى. أفلا تعقلون؟}.
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده؛ ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده.
إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو كمل، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار. إنه كله {متاع الحياة الدنيا وزينتها}.. {وما عند الله خير وأبقى} خير في طبيعته وأبقى في مدته.
{أفلا تعقلون؟}.. والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار:
{أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟}..
فهذه صفحة من وعده الله وعداً حسناً فوجده في الآخرة حقاً وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضاراً للحساب. والتعبير يوحي بالإكراه {من المحضرين} الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد!
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون. ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن. وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار.
وعندما يصل بهم إلى الشاطئ الآخر يجول بهم جولة أخرى في مشهد من مشاهد القيامة، يصور مغبة ما هم فيه من الشرك والغواية:
{ويوم يناديهم فيقول: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ قال الذين حق عليهم القول: ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا، تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون. وقيل: ادعوا شركاءكم. فدعوهم فلو يستجيبوا لهم، ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون}. {ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون. فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً، فعسى أن يكون من المفلحين}..
والسؤال الأول للتوبيخ والتأنيب:
{أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟}..
والله يعلم أن لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء، وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئاً، ولا يستطيعون إليهم سبيلاً. ولكنه الخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد.
ومن ثم لا يجيب المسؤولون عن السؤال، فليس المقصود به هو الجواب! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم، وصدهم عن هدى الله، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم، فيقولون:
{ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا؛ تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون}!
ربنا إننا لم نغوهم قسراً، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم؛ إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واخيتار، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار.
{تبرأنا إليك} من جريمة إغوائهم. {ما كانوا إيانا يعبدون} إنما كانوا يعبدون أصناماً وأوثاناً وخلقاً من خلقك، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة، ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة!
عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها. مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله:
{وقيل: ادعوا شركاءكم}..
ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم! والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين:
{فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}...
ولم يكن منتظراً غير ذاك، ولكنه الإذلال والإعنات!
{ورأوا العذاب}..
رأوه في هذا الحوار. ورأوه ماثلاً وراءه. فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب.
وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب: وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون:
{لو أنهم كانوا يهتدون}..
ثم يعود بهم إلى ذلك المشهد المكروب:
{ويوم يناديهم فيقول، ماذا أجبتم المرسلين؟}..
وإن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين. ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل. وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت. ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول:
{فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون}.
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة. وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم، وهم لا يعلمون شيئاً عن أي شيء! ولا يملكون سؤالاً ولا جواباً. وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!
{فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين}..
وهذه هي الصفحة المقابلة. ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحاً، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح. ولمن شاء أن يختار. وفي الوقت فسحة للاختيار!
ثم يرد أمرهم وأمر كل شيء إلى إرادة الله واختياره؛ فهو الذي يخلق كل شيء، ويعلم كل شيء، وإليه مرد الأمر كله في الأولى والآخرة، وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا وله الرجعة والمآب. وما يملكون أن يختاروا لأنفسهم ولا لغيرهم، فالله يخلق ما يشاء ويختار:
{وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون}..
وهذا التعقيب يجيء بعد حكاية قولهم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} وبعد استعراض موقفهم يوم الحساب على الشرك والغواية.. يجيء لتقرير أنهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ولتقرير وحدانية الله ورد الأمر كله إليه في النهاية.
{وربك يخلق ما يشاء ويختار. ما كان لهم الخيرة}..
إنها الحقيقة التي كثيراً ما ينساها الناس، أو ينسون بعض جوانبها. إن الله يخلق ما يشاء؛ لا يملك أحد أن يقترح عليه شيئاً ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئاً، ولا أن يعدل أو يبدل في خلقه شيئاً. وإنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال والتكاليف والمقامات؛ ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصاً ولا حادثاً ولا حركة ولا قولاً ولا فعلاً.. {ما كان لهم الخيرة} لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، ومرد الأمر كله إلى الله في الصغير والكبير..
هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئاً يحل بهم، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم. فليسوا هم الذين يختارون، إنما الله هو الذي يختار.
وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم. ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير والاختيار بالرضى والتسليم والقبول. فإن عليهم ما في وسعهم والأمر بعد ذلك لله.
ولقد كان المشركون يشركون مع الله آلهة مدعاة؛ والله وحده هو الخالق المختار لا شريك له في خلقه ولا في اختياره..
{سبحان الله وتعالى عما يشركون}..
{وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}..
فهو مجازيهم بما يعلم من أمرهم، مختار لهم ما هم له أهل، من هدى أو ضلال.
{وهو الله لا إله إلا هو}.. فلا شريك له في خلق ولا اختيار.
{له الحمد في الأولى والآخرة}.. على اختياره، وعلى نعمائه، وعلى حكمته وتدبيره، وعلى عدله ورحمته، وهو وحده المختص بالحمد والثناء.
{وله الحكم}.. يقضي في عباده بقضائه، لا راد له ولا مبدل لحكمه.
{وإليه ترجعون}.. فيقضي بينكم قضاءه الأخير...
وهكذا يطوقهم بالشعور بقدرة الله وتفرد إرادته في هذا الوجود واطلاعه على سرهم وعلانتيهم فلا تخفى عليه منهم خافية؛ وإليه مرجعهم فلا تشرد منهم شاردة. فكيف يشركون بالله بعد هذا وهم في قبضته لا يفلتون؟
ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم، واختياره لحياتهم ومعاشهم؛ فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين. ظاهرتي الليل والنهار، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار:
{قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون؟ قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ أفلا تبصرون؟ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون}..
والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى.
ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلاً. ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادراً. ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار، أو التعطل والبوار، أو الملل والهمود.
والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة؛ وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبداً أو النهار أبداً، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك. وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان.
{قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة. من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون؟}..
والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلاً في أيام الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب! فكيف بهم لو فقدوا الضياء. ولو دام عليهم الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار!
{قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة. من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ أفلا تبصرون؟}..
والناس يستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار. ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف. ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار. والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار. فكيف بالناس لو ظل النهار سرمداً إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار إن دام عليها النهار!
ألا إن كل شيء بقدر. وكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون بتدبير. وكل شيء عنده بمقدار:
{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}..
فالليل سكينة وقرار، والنهار نشاط وعمل، والمتجه فيه إلى فضل الله. فما يعطي الناس شيئاً إلا من فضله {ولعلكم تشكرون} ما يسره الله لكم من نعمة ومن رحمة، وما دبره لكم واختاره من توالي الليل والنهار، ومن كل سنن الحياة التي لم تختاروها، ولكن اختارها الله عن رحمة وعن علم وعن حكمة تغفلون عنها لطول الإلف والتكرار.
ويختم هذه الجولات بمشهد سريع من مشاهد القيامة يسألهم فيه سؤال استنكار عما زعموا من شركاء. ويقفهم وجهاً لوجه أمام أباطيلهم المدعاة، حيث تتذاوب وتتهاوى في موقف السؤال والحساب:
{ويوم يناديهم فيقول: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا: هاتوا برهانكم. فعلموا أن الحق لله، وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
وتصوير يوم النداء، وما فيه من سؤال عن الشركاء، قد سبق في جولة ماضية. فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا.


مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه. والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها؛ إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول: إنه كان ابن عم لموسى عليه السلام وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون، فخسفت به الأرض..
ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئاً ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها..
{إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم؛ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. إذ قال له قومه: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين. قال: إنما أوتيته على علم عندي}..
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها {قارون} وتحدد قومه {قوم موسى} وتقرر مسلكه مع قومه، وهو مسلك البغي {فبغى عليهم} وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء:
{وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}..
ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس.
لقد كان قارون من قوم موسى، فآتاه الله مالاً كثيراً، يصور كثرته بأنه كنوز والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال.. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلاً يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال.
حق الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب.
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي، ورجعه إلى النهج القويم، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب:
{إذ قال له قومه: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض. إن الله لا يحب المفسدين}.
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة.
{لا تفرح}.. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.. لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال؛ وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران. لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه؛ ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد..
{إن الله لا يحب الفرحين}.. فهم يردونه بذلك إلى الله، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين، المتطاولين بسلطانه على الناس.
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا}.. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفاً، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس؛ وليعلموا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها. فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.
{وأحسن كما أحسن الله إليك}.. فهذا المال هبة من الله وإحسان. فليقابل بالإحسان فيه. إحسان التقبل وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.
{ولا تبغ الفساد في الأرض}.. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة. والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال.
{إن الله لا يحب المفسدين}.. كما أنه لا يحب الفرحين.
كذلك قال له قومه: فكان رده جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد:
{قال: إنما أوتيته على علم عندي}!
إنما أوتيت هذا المال استحقاقاً على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله. فما لكم تملون عليَّ طريقة خاصة في التصرف فيه، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي الخاص؟
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء.
وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حساباً، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجاً معيناً للتصرف في الملكية الفردية كما يفرض منهجاً لتحصيلها وتنميتها وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، ورقابتها على طرق تحصيله، وطرق تنميته. وطرق إنفاقه والاستمتاع به. وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، رداً على قولته الفاجرة المغرورة:
{أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}.
فإن كان ذا قوة وذا مال، فقد أهلك الله من قبله أجيالاً كانت أشد منه قوة وأكثر مالاً. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!
{ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}!
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم، وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظاً عظيماً يتشهاه المحرومون.
ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين، في ثقة وفي يقين:
{فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يلقاها إلا الصابرون}.
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله. والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:
{قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم}..
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدينا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع. وهم أعلى نفساً، وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً. ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد. وهؤلاء هم {الذين أوتوا العلم}. العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:
{وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يلقاها إلا الصابرون}.
ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون.. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل يد القدرة لتضع حداً للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطماً. ويجيء المشهد الثالث حاسماً فاصلاً:
{فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين}..
هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة: {فخسفنا به وبداره الأرض} فابتلعته وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقاً.

1 | 2