سورة يوسف - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


هذا الدرس هو المقدمة، ثم الحلقة الأولى من القصة، وتتألف من ستة مشاهد، وتبدأ من رؤيا يوسف إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه، ووصوله إلى مصر.. وسنواجه النصوص الواردة فيه مباشرة، بعد ذلك التقديم السابق للسورة، وفيه غناء:
{الر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}..
ألف. لام. را... {تلك آيات الكتاب المبين}..
هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم. هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية. آيات الكتاب المبين. ولقد نزله الله كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية المعروفة:
{لعلكم تعقلون}..
وتدركون أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون بشراً، فلا بد عقلاً أن يكون القرآن وحيا. والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة.
ولما كان جسم هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب، على وجه التخصيص:
{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن}..
فبإيحائنا هذا القرآن إليك قصصنا عليك هذا القصص وهو أحسن القصص وهو جزء من القرآن الموحى به.
{وإن كنت من قبله لمن الغافلين}..
فقد كنت أحد الأميين في قومك، الذين لا يتجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها القرآن، ومنها هذا القصص الكامل الدقيق.
هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة..
ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه:
{إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت، إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين. قال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك، فيكيدوا لك كيداً. إن الشيطان للإنسان عدو مبين. وكذلك يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم}..
كان يوسف صبياً أو غلاماً؛ وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان؛ وأقرب ما يراه غلام حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها. ولكن يوسف رآها ساجدة له، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيماً. والسياق يروي عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة:
{إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر}..
ثم يعيد لفظ رأى:
{رأيتهم لي ساجدين}.
لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأناً عظيماً لهذا الغلام.
لم يفصح هو عنه، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك. ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها. أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب. ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير غير الشقيق فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمراً يسوؤه:
{قال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً}..
ثم عللَّ هذا بقوله:
{إن الشيطان للإنسان عدو مبين}..
ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض، ويزين لهم الخطيئة والشر.
ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن، يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة؛ بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه، وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون. فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم. فقال له:
{وكذلك يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم}..
واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له، وإتمام نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق (والجد يقال له أب).. هذا طبيعي. ولكن الذي يستوقف النظر قوله:
{ويعلمك من تأويل الأحاديث}..
والتأويل هو معرفة المآل. فما الأحاديث؟. أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه، منذ أوائلها. وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة، وجاء التعقيب:
{إن ربك عليم حكيم}..
مناسباً لهذا في جو الحكمة والتعليم؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد؟
كلاهما جائز، وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب.
وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة.
إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد. ملزمون بهذا أولاً من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر. وثانياً من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده.. لأنه موجود بالفعل!..
والسبب الأول يكفي.. ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت..
فما هي طبيعة الرؤيا؟
تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي.
وهذا يمثل جانباً من الأحلام. ولكنه لا يمثلها كلها. (وفرويد) ذاته على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته يقرر أن هناك أحلاماً تنبؤية.
فما طبيعة هذه الأحلام التنبؤية؟
وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أوعدم معرفته لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها. إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب، وبعض سنن الله في هذا الوجود.
ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو.. إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل، أو الحاضر المحجوب. وأن ما نسميه ماضياً أو مستقبلاً إنما يحجبه عنا عامل الزمان، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان. وأن حاسةً ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صور مبهمة، ليست علماً ولكنها استشفاف، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس، وفي الرؤى لبعضهم، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان، أو هما معاً في بعض الأحيان. وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئاً عن حقيقة الزمان. كما أن حقيقة المكان ذاتها وهي ما يسمى بالمادة ليست معلومة لنا على وجه التحقيق: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}!
على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا.
ويسدل السياق الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر: مشهد إخوة يوسف يتآمرون، مع حركة تنيبه لأهمية ما سيكون:
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة. إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين. قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}..
لقد كان في قصة يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقلب عن الآيات ويسأل ويهتم. وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام. لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور وراءه من أحداث وحركات. فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما يدبرون.
ترى حدثهم يوسف عن رؤياه كما يقول كتاب العهد القديم؟ إن السياق هنا يفيد أن لا. فهم يتحدثون عن إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم. أخيه الشقيق. ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم، ولكانت أدعى إلى تلهج ألسنتهم بالحقد عليه. فما خافه يعقوب لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له.
ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة، لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، والتي تمهد لها ظروف حياته، وواقع أسرته، ومجيئه لأبيه على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر. كما كان الحال مع يوسف وأخيه، وإخوته من أمهات.
{إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة}..
أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع..
{إن أبانا لفي ضلال مبين}..
إذ يؤثر غلاماً وصبياً صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين!
ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان، فيختل تقديرهم للوقائع، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة، وتهون أحداث ضخام. تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعاً عن نفسه، وهو لهم أخ. وهم أبناء نبي وإن لم يكونوا هم أنبياء يهون هذا. وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله:
{اقتلوا يوسف. او اطرحوه ارضاً}..
وهما قريب من قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغالب إلى الموت.. ولماذا؟
{يخل لكم وجه أبيكم}..
فلا يحجبه يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خالياً من حبه، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها:
{وتكونوا من بعده قوماً صالحين}!..
هكذا ينزغ الشيطان، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلاً جاهلاً غير ذاكر؛ حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفاً قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان!
ولكن ضميراً واحداً فيهم، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلاً يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم، ولكنه لا يقتل يوسف، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك. إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيداً:
{قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب، يلتقطه بعض السيارة. إن كنتم فاعلين}..
ونحس من قوله:
{إن كنتم فاعلين}..
روح التشكيك والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إيقاع الأذى بيوسف. وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم؛ ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه.. نفهم هذا من المشهد التالي في السياق.
فها هم أولاء عند أبيهم، يراودنه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وها هم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف. فلنشهد ولنستمع لما يدور:
{قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف؟ وإنا له لناصحون؛ أرسله معنا غدا يرتعْ ويلعبْ، وإنا له لحافظون. قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون}..
والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم..
{يا أبانا}..
بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة.
{مالك لا تأمنا على يوسف؟}..
سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر؛ ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف. فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة!
{مالك لا تأمنا على يوسف؟ وإنا له لناصحون}..
قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء وكاد المريب أن يقول خذوني فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب..
{أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون}..
زيادة في التوكيد، وتصويراً لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة، مما ينشط والده لإرساله معهم كما يريدون.
ورداً على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي بطريق غير مباشر أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب:
{قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}..
{إني ليحزنني أن تذهبوا به}..
إنني لا أطيق فراقه.. ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها. أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة.
{وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}..
ولا بد أنهم وجدوا فيها عذراً كانوا يبحثون عنه، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب!
واختاروا أسلوباً من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه:
{قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة، إنا إذن لخاسرون}..
لئن غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء، فلا نصلح لشيء أبداً!
وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج.
ليتحقق قدر الله وتتم القصة كا تقتضي مشيئته!
والآن لقد ذهبوا به، وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء. والله سبحانه يلقي في روع الغلام أنها محنة وتنتهي، وأنه سيعيش وسيذكّر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون أنه هو:
{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب. وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}..
فقد استقر أمرهم جميعاً على أن يجعلوه في غيابة الجب، حيث يغيب فيه عنهم. وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع، والموت منه قريب، ولا منقذ له ولا مغيث. وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعة أنه ناج، وأنه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع، وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير.
وندع يوسف في محنته في غيابة الجب، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه، حتى يأذن الله بالفرج. ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع:
{وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب. وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب. قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون}..
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصاباً ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلاً على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب..
فعلوا هذا.
{وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب}..
ويحسون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن يقول خذوني، فيقولون:
{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}..
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول.
وأدرك يعقوب من دلائل الحال، ومن نداء قلبه، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما. وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، ويصفون له حالاً لم تكن. فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمراً منكراً وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملاً متجملاً لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعيناً بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب:
{قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً.
فصبر جميل. والله المستعان على ما تصفون}.
ثم لنعد سريعاً إلى يوسف في الجب، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة:
{وجاءت سيارة، فأرسلوا واردهم، فأدلى دلوه قال: يا بشرى. هذا غلام. وأسروه بضاعة، والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين}..
لقد كان الجب على طريق القوافل، التي تبحث عن الماء في مظانه، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة، ويكون في بعض الأحيان جافاً كذلك:
{وجاءت سيارة}..
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة...
{فأرسلوا واردهم}..
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيراً بمواقعه..
{فأدلى دلوه}..
لينظر الماء أو ليملأ الدلو ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظاً بالمفاجأة القصصية للقارئ والسامع:
{قال: يا بشرى! هذا غلام!}..
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل، وحال يوسف، وكيف ابتهج للنجاة، ليتحدث عن مصيره مع القافلة:
{وأسروه بضاعة}..
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقاً. ولما لم يكن رقيقاً فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار. ثم باعوه بثمن قليل:
{وشروه بثمن بخس دراهم معدودة}.. وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد، وفي الكثير منها بالوزن..
{وكانوا فيه من الزاهدين}..
لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه..
وكانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.


الحلقة الثانية من حلقات القصة، وقد وصل يوسف إلى مصر، وبيع بيع الرقيق؛ ولكن الذي اشتراه توسم فيه الخير والخير يتوسم في الوجوه الصباح، وبخاصة حين تصاحبها السجايا الملاح فإذا هو يوصي به امرأته خيراً، وهنا يبدأ أول خيط في تحقيق الرؤيا.
ولكن محنة أخرى من نوع آخر كانت تنتظر يوسف حين يبلغ أشده، وقد أوتي حكماً وعلماً يستقبل بهما هذه المحنة الجارفة التي لا يقف لها إلا من رحم الله. إنها محنة التعرض للغواية في جو القصور، وفي جو ما يسمونه الطبقة الراقية وما يغشاها من استهتار وفجور.. ويخرج يوسف منها سليماً معافى في خلقه وفي دينه، ولكن بعد أن يخالط المحنة ويصلاها..
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته: أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
إن السياق لا يكشف لنا حتى الآن عمن اشتراه، وسنعلم بعد شوط في القصة أنه عزيز مصر (قيل: إنه كبير وزرائها) ولكنا نعلم منذ اللحظة أن يوسف قد وصل إلى مكان آمن، وأن المحنة قد انتهت بسلام، وأنه مقبل بعد هذا على خير:
{أكرمي مثواه}..
والمثوى مكان الثويّ والمبيت والإقامة، والمقصود بإكرام مثواه إكرامه، ولكن التعبير أعمق، لأنه يجعل الإكرام لا لشخصه فحسب، ولكن لمكان إقامته.. وهي مبالغة في الإكرام. في مقابل مثواه في الجب وما حوله من مخاوف وآلام!
ويكشف الرجل لامرأته عما يتوسمه في الغلام من خير، وما يتطلع إليه فيه من أمل:
{عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً}..
ولعلهما لم يكن لهما أولاد كما تذكر بعض الروايات. ومن ثم تطلع الرجل أن يتخذاه ولداً إذا صدقت فراسته، وتحققت مخايل نجابته وطيبته مع وسامته.
وهنا يقف السياق لينبه إلى أن هذا التدبير من الله، وبه وبمثله قدر ليوسف التمكين في الأرض وها قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته ويشير إلى أنه ماض في الطريق ليعلمه الله من تأويل الأحاديث على الوجهين اللذين ذكرناهما من قبل ويعقب السياق على هذا الابتداء في تمكين يوسف بما يدل عليه من قدرة الله غالبه، لا تقف في طريقها قوة، وأنه مالك أمره ومسيطر عليه فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل:
{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث. والله غالب على أمره}..
وها هو ذا يوسف أراد له إخوته أمراً، وأراد له الله أمراً، ولما كان الله غالباً على أمره ومسيطراً فقد نفذ أمره، أما إخوة يوسف فلا يملكون أمرهم فأفلت من أيديهم وخرج على ما أرادوا:
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
لا يعلمون أن سنة الله ماضية وأن أمره هو الذي يكون.
ويمضي السياق ليقرر أن ما شاء الله ليوسف، وقال عنه:
{ولنعلمه من تأويل الأحاديث}..
قد تحقق حين بلغ أشده:
{ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً. وكذلك نجزي المحسنين}..
فقد أوتي صحة الحكم على الأمور، وأوتي علماً بمصائر الأحاديث أو بتأويل الرؤيا، أو بما هو أعم، من العلم بالحياة وأحوالها، فاللفظ عام ويشمل الكثير. وكان ذلك جزاء إحسانه. إحسانه في الاعتقاد وإحسانه في السلوك:
{وكذلك نجزي المحسنين}..
وعنذئذ تجيئه المحنة الثانية في حياته، وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى. تجيئه وقد أوتي صحة الحكم وأوتي العلم رحمة من الله ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه.
والآن نشهد ذلك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير:
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! قال: معاذ الله. إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر، وألفيا سيدها لدى الباب. قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؟ إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: هي راودتني عن نفسي. وشهد شاهد من أهلها. إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين؛ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن. إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك، إنك كنت من الخاطئين}..
إن السياق لم يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه؛ فلننظر في هذا الأمر من باب التقدير.
لقد كان يوسف غلاماً عندما التقطته السيارة وباعته في مصر. أي إنه كان حوالي الرابعة عشرة تنقص ولا تزيد. فهذه في السن التي يطلق فيها لفظ الغلام، وبعدها يسمى فتى فشاباً فرجلاً.. وهي السن التي يجوز فيها أن يقول يعقوب: {وأخاف أن يأكله الذئب}.. وفي هذا الوقت كانت هي زوجة، وكانت وزوجها لم يرزقا أولاداً كما يبدو من قوله: {أو نتخذه ولداً}.. فهذا الخاطر.. خاطر التبني.. لا يرد على النفس عادة إلا حين لا يكون هناك ولد؛ ويكون هناك يأس أو شبه يأس من الولد. فلا بد أن تكون قد مضت على زواجهما فترة، يعلمان فيها أن لا ولد لهما. وعلى كل حال فالمتوقع عن رئيس وزراء مصر ألا تقل سنه عن أربعين سنة، وأن تكون سن زوجه حينئذ حوالي الثلاثين.
ونتوقع كذلك أن تكون سنها أربعين سنة عندما يكون يوسف في الخامسة والعشرين أو حواليها.
وهي السن التي نرجح أن الحادثة وقعت فيها.. نرجحه لأن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها كانت مكتملة جريئة، مالكة لكيدها، متهالكة كذلك على فتاها. ونرجحه من كلمة النسوة فيما بعد.. {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه}.. وإن كانت كلمة فتى تقال بمعنى عبد، ولكنها لا تقال إلا ولها حقيقة من مدلولها من سن يوسف. وهو ما ترجحه شواهد الحال.
نبحث هذا البحث، لنصل منه إلى نتيجة معينة. لنقول: إن التجربة التي مر بها يوسف أو المحنة لم تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق. إنما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جو القصور، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف:
{يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}.
وكفى..!
والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فيفتتن به، ويصرحن، فتصرح المرأة:
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين}..
فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة. هي بيئة الطبقة المترفة دائماً. ويوسف كان فيها مولى وتربى فيها في سن الفتنة.. فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيراً أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب. وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل. وهي كانت متهالكة.
والآن نواجه النصوص:
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك!}..
وإذن فقد كانت المراودة في هذه المرة مكشوفة، وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير.. وحركة تغليق الأبواب لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة، وقد وصلت المرأة إلى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة، ونداء الجسد الأخير:
{وقالت: هيت لك!}.
هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة. إنما تكون في الدعوة الأخيرة. وقد لا تكون أبداً إذا لم تضطر إليها المرأة اضطراراً. والفتى يعيش معها وفتوته تتكامل، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج، فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة.
{قال: معاذ الله. إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون}.
{معاذ الله}..
أعيذ نفسي بالله أن أفعل.
{إنه ربي أحسن مثواي}..
وأكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن.
{إنه لا يفلح الظالمون}.. الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه.
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته:
{وقالت: هيت لك}.
{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}!
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعاً شبقاً، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضاً على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن أي نعم من القرآن! تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره.. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع!
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس، ثم تجلى له برهان ربه فترك. وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة، وهم هو برد الاعتداء؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر.. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما..
الذي خطر لي أن قوله تعالى:
{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}..
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة.. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك.
فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً.
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي.
{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين}..
{واستبقا الباب}..
فهو قد آثر التخلص بعد أن استفاق.. وهي عدت خلفه لتمسك به، وهي ما تزال في هياجها الحيواني.
{وقدت قميصه من دبر}..
نتيجة جذبها له لترده عن الباب..
وتقع المفاجأة:
{وألفيا سيدها لدى الباب}..
وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضراً على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب. إنها تتهم الفتى:
{قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؟}..
ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه، فتشير بالعقاب المأمون.
{إلا أن يسجن أو عذاب أليم}!
ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل:
{قال: هي راودتني عن نفسي}!
وهنا يذكر السياق أن أحد أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع:
{وشهد شاهد من أهلها: إن كان قميصه قُدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قُدّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين}..
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه؟ هل كان مع زوجها (سيدها بتعبير أهل مصر) وشهد الواقعة؟ أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر، كما يقع في مثل هذه الأحوال أن يستدعي الرجل كبيراً من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم!
هذا وذلك جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئاً. وقد سمي قوله هذا شهادة، لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين ولكل منها ومن يوسف قول سميت فتواه هذه شهادة، لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه.. فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق.. وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها وكذبه، فهي السيدة وهو فتى، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول! والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة.
{فلما رأى قميصه قدّ من دُبر}..
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت، وهي التي دبرت الاتهام.. وهنا تبدو لنا صورة من الطبقة الراقية في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة.
رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية؛ وميل إلى كتمانها عن المجتمع، وهذا هو المهم كله:
{قال: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}!
هكذا. إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم.. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق. والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم!
والتفاتة إلى يوسف البرئ:
{يوسف أعرض عن هذا}..
فأهملْه ولا تُعِرْه اهتماماً ولا تتحدث به.. وهذا هو المهم.. محافظة على الظواهر!
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه:
{واستغفري لذنبك. إنك من الخاطئين}..
إنها الطبقة الأرستقراطية، من رجال الحاشية، في كل جاهلية. قريب من قريب!
ويسدل الستار على المشهد وما فيه.. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشئ منها معرضاً للنزوة الحيوانية الجاهرة، ولا مستنقعاً للوحل الجنسي المقبوح!
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور! ولكن للقصور جدراناً، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستوراً. وبخاصة في الوسط الأرستقراطي، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات:
{وقال نسوة في المدينة: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه. قد شغفها حباً. إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر أي كبير وزرائها ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة:
{امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه}..
ثم بيان لحالها معه:
{قد شغفها حباً}..
فهي مفتونة به، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق:
{إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهي السيدة الكبيرة زوجة الكبير، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟!
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن:
{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكيناً، وقالت: اخرج عليهن.
فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هذا بشراً. إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لُمْتُنَّني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}..
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكيناً تستعملها في الطعام ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأواً بعيداً، وأن الترف في القصور كان عظيماً. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف:
{وقالت: اخرج عليهن}..
{فلما رأينه أكبرنه}..
بهتن لطلعته، ودهشن.
{وقطعن أيديهن}..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
{وقلن حاش لله!}..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيراً عن الدهشة بصنع الله..
{ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}..
وهذه التعبيرات دليل كما قلنا في تقديم السورة على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى:
{قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه}..
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب!
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}..
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها! ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأساً من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء:
{ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}!
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.
ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار؛ فإذا هو يناجي ربه:
{قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.
ولم يقل: ما تدعوني إليه. فهن جميعاً كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات.. وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه، ويدعو الله أن ينقذه منه:
{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.
وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيداً من عناية الله وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
{فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم}..
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثراً منه. أو بهما جميعاً.
{إنه هو السميع العليم} الذي يسمع ويعلم، يسمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة.


وهذه هي الحلقة الثالثة والمحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف؛ فكل ما بعدها رخاء، وابتلاء لصبره على الرخاء، بعد ابتلاء صبره على الشدة. والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة. والسجن للبريء المظلوم أقسى، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى.
وفي فترة المحنة هذه تتجلى نعمة الله على يوسف، بما وهبه من علم لدني بتعبير الرؤيا وبعض الغيب القريب الذي تبدو أوائله فيعرف تأويله. ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيراً بإعلان براءته الكاملة إعلاناً رسمياً بحضرة الملك، وظهور مواهبه التي تؤهله لما هو مكنون له في عالم الغيب من مكانة مرموقة وثقة مطلقة، وسلطان عظيم.
{ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}..
وهكذا جو القصور، وجو الحكم المطلق، وجو الأوساط الأرستقراطية، وجو الجاهلية! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حباً، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقاً، ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه، والمرأة تعلن في مجتمع النساء دون حياء أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، وإما أن يلقى السجن والصغار، فيختار السجن على ما يؤمر به!.
بعد هذا كله، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين!
ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشاراً في طبقات الشعب الأخرى.. وهنا لا بد أن تحفظ سمعة البيوتات! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من الوسط الراقي! قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية!
{ودخل معه السجن فتيان}..
سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص..
ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن، وما ظهر من صلاحه وإحسانه، فوجه إليه الأنظار، وجعله موضع ثقة المساجين، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية، فغضب عليهم في نزوة عارضة، فألقي بهم في السجن.. يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك:
{قال أحدهما: إني أراني أعصر خمراً؛ وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله، إنا نراك من المحسنين}..
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة؛ فكونه سجيناً لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أرباباً يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين!
ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علماً لدنياً خاصاً، جزاء على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء.
هو وآباؤه من قبله.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه:
{قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي. إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء. ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون}..
ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف.. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها..
{قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه، إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي}..
بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى. وهذا فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى وقوله: {ذلكما مما علمني ربي} تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه.
{إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون}..
مشيراً بهذا إلى القوم الذي ربي فيهم، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم. والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل.
وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر كما قلنا من قبل أن الإيمان بالآخرة كان عنصراً من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعاً؛ منذ فجر البشرية الأول؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة بجملتها متأخراً.. لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخراً فعلاً، ولكنه كان دائماً عنصراً أصيلاً في الرسالات السماوية الصحيحة..
ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه:
{واتبعت ملة آبائي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء}..
فهي ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئاً قط.
والهداية إلى التوحيد فضل من الله على المهتدين، وهو فضل في متناول الناس جميعاً لو اتجهوا إليه وأرادوه. ففي فطرتهم أصوله وهواتفه، وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله، وفي رسالات الرسل بيانه وتقريره. ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه:
{ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون}..
مدخل لطيف.. وخطوة خطوة في حذر ولين.. ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر، ويفصح عن عقيدته ودعوته إفصاحاً كاملاً، ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، وفساد ذلك الواقع النكد الذي يعيشون فيه.. بعد ذلك التمهيد الطويل:
{يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة. كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً عنيفاً..
{يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟}..
إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة. وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنما يعرضها قضية موضوعية:
{أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟}..
وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزاً شديداً.. إن الفطرة تعرف لها إلهاً واحداً ففيم إذن تعدد الأرباب؟.. إن الذي يستحق أن يكون رباً يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار. ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعاً لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس. وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا.. إن الرب لا بد أن يكون إلهاً يملك أمر هذا الكون ويسيره. ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله رباً للناس يقهرهم بحكمه، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره!
والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب كالشأن في كل الأرباب إلا الله وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم.. فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته؛ أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها، ومن حرصها على ذواتها وبقائها، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أو من بعيد؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثئ نفختها الخادعة!
والله الواحد القهار في غنى عن العالمين؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة وفق منهجه فيعدّ لهم هذا كله عبادة.
وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم، لإصلاح حياتهم وواقعهم.. وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين! {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد} ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد!
ثم يخطو يوسف عليه السلام خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية:
{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}..
إن هذه الأرباب سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله ليست من الربوبية في شيء، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار؛ الذي يخلق ويقهر كل العباد.. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء، ويخلعون عليها صفات، ويعطونها خصائص؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان.. والله لم يجعل لها سطاناً ولم ينزل بها من سلطان..
وهنا يضرب يوسف عليه السلام ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين: لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة.. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون العبادة!
{إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب. أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده!
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعاً لله في أولى خصائص ألوهيته سبحانه فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري؛ أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة.
ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه.. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان..
ويوسف عليه السلام يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول:
{أمر ألا تعبدوا إلا إياه}.
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى {العبادة} التي يخص بها الله وحده..
إن معنى عبد في اللغة: دان، وخضع، وذل.. ولم يكن معناه في الإصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر.. إنما كان هو معناه اللغوي نفسه.. فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه. إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان المقصود به هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه؛ ولم يجعلها لأحد من خلقه..
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم. فالعبادة أي الدينونة لا تقوم إذا كان الحكم لغيره.. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به الدينونة.
ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله حكماً معلوماً من الدين بالضرورة لأنها تخرجه من عبادة الله وحده.. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعاً. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه.. فكلهم سواء في ميزان الله.
ويقرر يوسف عليه السلام أن اختصاص الله سبحانه بالحكم تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة هو وحده الدين القيم:
{ذلك الدين القيم}..
وهو تعبير يفيد القصر.
فلا دين قيماً سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة.
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
وكونهم {لا يعلمون} لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئاً لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه.. فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين، لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنهم على هذا الدين! ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شيء فرع عن العلم به.. وهذا منطق العقل والواقع.. بل منطق البداهة الواضح.
لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة؛ كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً..
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعياً أخص خصائص الألوهية، وهو الربوبية. أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه. وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه- ولو لم يقله بلسانه- فالعمل دليل أقوى من القول.
إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس. فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة. بل هي مدلول العبادة.
وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه، مرتبطاً في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن. ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس، ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقاً به:
{يا صاحبي السجن، أما أحدكما فيسقي ربه خمراً، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه}..
ولم يعين من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفاً وتحرجاً من المواجهة بالشر والسوء. ولكنه أكد لهما الأمر واثقاً من العلم الذي وهبه الله له:
{قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}..
وانتهى فهو كائن كما قضاه الله.
وأحب يوسف السجين البريء، الذي أمر الملك بسجنه دون تحر ودون بحث، إلا ما نقله إليه بعض حاشية من وشاية لعلهم صوروا له فيها حادث امرأة العزيز وحادث النسوة تصويراً مقلوباً، كما يقع عادة في مثل هذه الأوساط.. أحب يوسف أن يبلغ أمره إلى الملك ليفحص عن الأمر:
{وقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك}..
اذكر حالي ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين وتخضع لحكمه، فهو بهذا ربك. فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع.. وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي. ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولاً كالفراعنة، ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة. ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية.
وهنا يسقط السياق أن التأويل قد تحقق، وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف. ويترك هنا فجوة، نعرف منها أن هذا كله قد كان. ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلاً لم ينفذ الوصية، ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف، ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر وملهياتها وقد عاد إليها، فنسي يوسف وأمره كله..
{فأنساه الشيطان ذكر ربه}..
{فلبث في السجن بضع سنين}..
والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف. وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. وكان هذا من اصطفائه وإكرامه.
إن عباد الله المخلصين ينبغي أن يخلصوا له سبحانه، وأن يدعوا له وحده قيادهم، ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم. وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحباً وشوقاً.. فيتم عليهم فضله بهذا كله..
والآن نحن في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات:
{وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}..
طلب الملك تأويل رؤياه. فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها، أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم. وصرف الحديث عنه! فقالوا: إنها {أضغاث أحلام} أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل. {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}.. إذا كانت أضغاثاً مختلطة لا تشير إلى شيء!
والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث: رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك. وطلب تأويلها في كل مرة، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر كما أسلفنا وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال. فنكمل حديث رؤيا الملك الآن!
هنا تذكر أحد صاحبيه في السجن، الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه، وذكر يوسف في دوامة القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب.. هنا تذكر الرجل الذي أوّلَ له رؤياه ورؤيا صاحبه، فتحقق التأويل:
{وقال الذي نجا منها وادكّر بعد أمة: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون}!
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.. ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه:
{يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون}.
والساقي يلقب يوسف بالصدّيق، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل..
{أفتنا في سبع بقرات سمان...}..
ونقل الفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنه يطلب تأويلها، فكان دقيقاً في نقلها، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولاً، وليجيء تأويلها ملاصقاً في السياق لذكرها.
ولكن كلام يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه. وهذا أكمل:
{قال: تزرعون سبع سنين دأباً}..
أي: متوالية متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
{فما حصدتم فذروه في سنبله}..
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
{إلا قليلاً مما تأكلون}..
فجردوه من سنابله، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد}..
لا زرع فيهن.
{يأكلن ما قدمتم لهن}..
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها!
{إلا قليلاً مما تحصنون}..
أي إلا قليلاً مما تحفظونه وتصونونه من التهامها!
{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}..
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب. تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمراً، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتاً..
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف. فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخيّ رغيد.
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركاً فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة. ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف، وأمره أن يأتوه به:
{وقال الملك: ائتوني به}..
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولاً تنفيذياً مكلفاً بمثل هذا الشأن. نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحاً في موقفه، وتعلن براءته على الأشهاد من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.
لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلاً ولا عجولاً!
إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد..
{قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم}
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيراً بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلاً، ولا يخذل طويلاً.
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة {رب} بمدلوها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه..
ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه:
{قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟}..
والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقرراً الاتهام، ومشيراً إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:
{ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟}.
ومن هذا نعلم شيئاً مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير؛ ما قالته النسوة ليوسف وما لَمّحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائماً هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!
وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:
{قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء}!
وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولومن مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء في صراحة:
{قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق. أنا راودته عن نفسه. وإنه لمن الصادقين}..
الآن حصحص الحق وظهر ظهوراً واضحاً لا يحتمل الخفاء:
{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}.
وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد؛ وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:
{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:
{أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين}.
شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟
يشي السياق بحافز آخر، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية. أن يحترمها تقديراً لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:
{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}..
ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:
{وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:
{وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم}..
إنها امرأة أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه!
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة، التي لم تسق لمجرد الفن، إنما سيقت للعبرة والعظة. وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسماً رشيقاً رفيقاً شفيفاً. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام، وتسير الحياة بيوسف رخاء، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة. وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله.

1 | 2